ورده الجوري @ordh_algory
فريق الإدارة والمحتوى
{شــــرح ثـــــــلاثـ الاصولـ /فضيلة الشيخ محمد العثيمين ..!! ✿❀
.
بسم الله الرحمن الرحيم
♥♥
بسم(1) الله(2)
(1) ابتدأ المؤلف رحمه الله كتابه بالبسملة اقتداء بكتاب الله عز وجل مبدوء بالبسملة ،
واتباعاً لحديث "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر"
(1) واقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه يبدأ كتبه بالبسملة.
الجار والمجرور متعلق بمحذوف فعل مؤخر مناسب للمقام تقديره بسم الله أكتب أو أصنف.
وقدرناه فعلاً لأن الأصل في العمل الأفعال.
وقدرناه مؤخراً لفائدتين:
الأولى: التبرك بالبداءة باسم الله سبحانه وتعالى.
الثانية: إفادة الحصر لأن تقديم المتعلق يفيد الحصر.
وقدرناه مناسباً لأنه أدل على المراد فلو قلنا مثلاً عندما نريد أن نقرأ كتاباً
بسم الله نبتدئ ما يدري بماذا نبتدئ ؟ لكن بسم الله أقرأ يكون أدل على المراد الذي أبتدئ به.
(2) الله: علم على الباري جل وعلا وهو الاسم الذي تتبعه جميع الأسماء حتى إنه في قوله تعالى:
})الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا
فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)
(إبراهيم:1-2)
الرحمن(1) الرحيم(2) أعلم (3)
لا نقول إن لفظ الجلالة "الله" صفة بل نقول هي عطف بيان لئلا يكون لفظ الجلالة
تابعاً تبعية النعت للمنعوت.
(1) الرحمن: اسم من الأسماء المختصة بالله عز وجل لا يطلق على غيره
والرحمن معناه المتصف بالرحمة الواسعة.
(2) الرحيم: يطلق على الله عز وجل وعلى غيره ، ومعناه ذو الرحمة الواصلة ،
فالرحمن ذو الرحمة الواسعة، والرحيم ذو الرحمة الواصلة فإذا جمعا صار المراد بالرحيم
الموصل رحمته إلى من يشاء من عباده كما قال الله تعالى:
(يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) (العنكبوت:21)
(3) العلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً.
ومراتب الإدراك ست :
الأولى: العلم وهو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً.
الثانية: الجهل البسيط وهو عدم الإدراك بالكلية.
الثالثة: الجهل المركب وهو إدراك الشيء على وجه يخالف ما هو عليه.
الرابعة: الوهم وهو إدراك الشيء مع احتمال ضد راجح.
الخامسة: الشك وهو إدراك الشيء مع احتمال مساو.
السادسة: الظن وهو إدراك الشيء مع احتمال ضد مرجوح.
والعلم ينقسم إلى قسمين: ضروري ونظري.
اعلم رحمك الله(1) أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل (2) ؛
الأولى: العلم وهو : معرفة الله(3)
..✿.
52
3K
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
..✿.
(1) الصبر حبس النفس على طاعة الله ، وحبسها عن معصية الله
وحبسها عن التسخط من أقدار الله فيحبس النفس عن التسخط
والتضجر والملل، ويكون دائماً نشيطاً في الدعوة إلى دين الله
وإن أوذي ، لأن أذية الداعين إلى الخير من طبيعة البشر
إلا من هدى الله قال الله تعالى: لنبيه صلى الله عليه وسلم
(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا)
(الأنعام:الآية34)
وكلما قويت الأذية قرب النصر ، وليس النصر مختصاً
بأن ينصر الإنسان في حياته ويرى أثر دعوته قد تحقق
بل النصر يكون ولو بعد موته بأن يجعل الله في قلوب الخلق
قبولاً لما دعا إليه وأخذاً به وتمسكاً به فإن هذا يعتبر نصراً
لهذا الداعية وإن كان ميتاً ، فعلى الداعية أن يكون صابراً
على دعوته مستمراً فيها. صابراً على ما يدعو إليه
من دين الله عز وجل صابراً على ما يعترض دعوته .
صابراً على ما يعترضه هو من الأذى ،
وها هم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أوذوا بالقول
وبالفعل قال الله تعالى
(كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)
(الذاريات:52) .
وقال عز وجل(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً)
(الفرقان:31)
ولكن على الداعية أن يقابل ذلك بالصبر وأنظر إلى قول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) (الإنسان:23)
كان من المنتظر أن يقال فاشكر نعمة ربك ولكنه عز وجل
قال(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ)(الإنسان:الآية24)
وفي هذا إشارة إن كل من قام بهذا القرآن فلابد أن يناله ما يناله
مما يحتاج إلى صبر ، وانظر إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم
حين ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:
والدليل على قوله تعالى: } و العصر * إن الإنسان لفي خسر *
إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر { (1)
"اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" (5)
فعلى الداعية أن يكون صابراً محتسباً .
والصبر ثلاثة أقسام:
1- صبر على طاعة الله.
2- صبر عن محارم الله.
3- صبر على أقدار الله التي يجريها إما مما لا كسب للعباد فيه،
وإما مما يجريه الله على أيدي بعض العباد من الإيذاء والاعتداء.
(1) قوله والدليل أي على هذه المراتب الأربع
قوله تعالى(وَالْعَصْرِ) (العصر:1)
أقسم الله عز وجل في هذه السورة بالعصر الذي هو الدهر
وهو محل الحوادث من خير وشر ، فأقسم الله عز وجل
به على أن الإنسان كل الإنسان في خسر إلا من اتصف
بهذه الصفات الأربع: الإيمان ، والعمل الصالح ،
والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- : جهاد النفس أربع مراتب:
إحداها : أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها
ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به.
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه.
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق
ويتحمل ذلك كله لله، فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين" .
فالله عز وجل أقسم في هذه السورة بالعصر
على أن كل إنسان فهو في خيبة وخسر مهما كثر ماله
وولده وعظم قدره وشرفه إلا من جمع هذه الأوصاف الأربعة:
أحدها: الإيمان ويشمل كل ما يقرب إلى الله تعالى
من اعتقاد صحيح وعلم نافع
الثاني: العمل الصالح وهو كل قول أو فعل يقرب إلى الله
بأن يكون فاعله لله مخلصاً ولمحمد صلى الله عليه وسلم متبعاً.
الثالث: التواصي بالحق وهو التواصي على فعل الخير
والحث عليه والترغيب فيه.
الرابع: التواصي بالصبر بأن يوصي بعضهم بعضاً بالصبر
على فعل أوامر الله تعالى، وترك محارم الله ، وتحمل أقدار الله.
والتواصي بالحق والتواصي بالصبر يتضمنان الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر اللذين بهما قوام الأمة وصلاحها
ونصرها وحصول الشرف والفضيلة لها
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )
(آل عمران:الآية110).
قال الشافعي -رحمه الله تعالى (1) _:
" لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم" (2)
وقال البخاري -رحمه الله (3) -: "باب العلم قبل القول والعمل" .
والدليل قوله تعالى
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)(محمد:الآية19) ،
فبدأ بالعلم قبل القول والعمل(4).
(1) الشافعي هو أبو عبد الله محمد بن إدريس
بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي ،
ولد في غزة سنة 150 هـ وتوفي بمصر سنة 204 هـ
وهو أحد الأئمة الأربعة على الجميع رحمة الله تعالى:
(2) مراده رحمه الله أن هذه السورة كافية للخلق في الحث على التمسك بدين الله بالإيمان ،
والعمل الصالح ، والدعوة إلى الله،
والصبر على ذلك، وليس مراده أن هذه السورة كافية
للخلق في جميع الشريعة.
وقوله : "لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم"
لأن العاقل البصير إذا سمع هذه السورة أو قرأها
فلا بد أن يسعى إلى تخليص نفسه من الخسران
وذلك باتصافه بهذه الصفات الأربع: الإيمان،
والعمل الصالح ، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر .
(3) البخاري هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل
بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، ولد ببخارى
في شوال سنة أربعة وتسعين ومائة ونشأ يتيماً في حجر والدته
وتوفي رحمه الله في خرتنك بلدة على فرسخين من سمرقند
ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين.
(4) أستدل البخاري رحمه الله بهذه الآية على
وجوب البداءة بالعلم قبل القول والعمل وهذا دليل
أثري يدل على أن الإنسان يعلم أولاً ثم يعمل ثانياً ،
وهناك دليل عقلي نظري يدل على أن العلم قبل القول
والعمل وذلك لأن القول أو العمل لا يكون صحيحاً مقبولاً
حتى يكون على وفق الشريعة ، ولا يمكن أن يعلم الإنسان
أن عمله على وفق الشريعة إلا بالعلم،
ولكن هناك أشياء يعلمها الإنسان بفطرته كالعلم بأن الله إله واحد
فإن هذا قد فطر عليه العبد ولهذا لا يحتاج إلى عناء كبير
في التعلم ، أما المسائل الجزئية المنتشرة فهي التي تحتاج
إلى تعلم وتكريس جهود.
أعلم رحمك الله : أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم ثلاث هذه المسائل والعمل بهن،
الأولى : أن الله خلقنا(1)
(1) ودليل ذلك أعني أن الله خلقنا سمعي وعقلي :
أما السمعي فكثير ومنه قوله عز وجل
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً
وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) (الأنعام:2)
وقوله(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ )(الأعراف:الآية11) الآية
وقوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ)
(الحجر:26)
وقوله (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ)
(الروم:20)
وقوله(خَلَقَ الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) (الرحمن:14)
(اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ )(الزمر:الآية62)
وقوله(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات:96)
وقوله (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)
إلى غير ذلك من الآيات. أما الدليل العقلي على أن الله
خلقنا فقد جاءت الإشارة إليه في قوله تعالى
(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور:35)
فإن الإنسان لم يخلق نفسه لأنه قبل وجوده عدم والعدم
ليس بشيء وما ليس بشيء لا يوجد شيئاً ،
ولم يخلقه أبوه ولا أمه ولا أحد من الخلق،
ولم يكن ليأتي صدفة بدون موجد؛ لأن كل حادث
لا بد له من محدث ؛ ولأن وجود هذه المخلوقات
على هذا النظام البديع والتناسق المتآلف يمنع منعاً
باتاً أن يكون صدفة. إذ الموجود صدفة ليس على نظام
في أصل وجوده فكيف يكون منتظماً حال بقائه وتطوره
فتعين بهذا أن يكون الخالق هو الله وحده فلا خالق
ولا آمر إلا الله، قال الله تعالى(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ )
(الأعراف:الآية54)
ورزقنا (1)
ولم يعلم أن أحداً من الخلق أنكر ربوبية الله سبحانه وتعالى
إلا على وجه المكابرة كما حصل من فرعون ،
وعندما سمع جبير بن مطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقرأ سورة الطور فبلغ قوله تعالى
(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ *
أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ *
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ)
(الطور:35- 37)
وكان جبير بن مطعم يومئذ مشركاً فقال:
"كاد قلبي أن يطير وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي"(6).
(1) أدلة هذه المسألة كثيرة من الكتاب والسنة والعقل
أما الكتاب : فقال الله تعالى
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات:58)
وقال تعالى(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ )
(سـبأ:الآية24)
وقوله(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ
وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ
مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ)
(يونس:31)
والآيات في هذا كثيرة.
وأما السنة : فمنها قوله صلى الله عليه وسلم في الجنين
يبعث إليه ملك فيؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله ،
وعمله وشقي أم سعيد. (7)وأما الدليل العقلي على أن الله
رزقنا فلأننا لا نعيش إلا على طعام وشراب، والطعام والشراب
خلقه الله عز وجل كما قال الله تعالى
(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ *
لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ*
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ
أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ
أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) (الواقعة:63-70)
ولم يتركنا هملاً (1) بل أرسل إلينا رسولاً (2)
..✿.
(1) الصبر حبس النفس على طاعة الله ، وحبسها عن معصية الله
وحبسها عن التسخط من أقدار الله فيحبس النفس عن التسخط
والتضجر والملل، ويكون دائماً نشيطاً في الدعوة إلى دين الله
وإن أوذي ، لأن أذية الداعين إلى الخير من طبيعة البشر
إلا من هدى الله قال الله تعالى: لنبيه صلى الله عليه وسلم
(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا)
(الأنعام:الآية34)
وكلما قويت الأذية قرب النصر ، وليس النصر مختصاً
بأن ينصر الإنسان في حياته ويرى أثر دعوته قد تحقق
بل النصر يكون ولو بعد موته بأن يجعل الله في قلوب الخلق
قبولاً لما دعا إليه وأخذاً به وتمسكاً به فإن هذا يعتبر نصراً
لهذا الداعية وإن كان ميتاً ، فعلى الداعية أن يكون صابراً
على دعوته مستمراً فيها. صابراً على ما يدعو إليه
من دين الله عز وجل صابراً على ما يعترض دعوته .
صابراً على ما يعترضه هو من الأذى ،
وها هم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أوذوا بالقول
وبالفعل قال الله تعالى
(كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)
(الذاريات:52) .
وقال عز وجل(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً)
(الفرقان:31)
ولكن على الداعية أن يقابل ذلك بالصبر وأنظر إلى قول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) (الإنسان:23)
كان من المنتظر أن يقال فاشكر نعمة ربك ولكنه عز وجل
قال(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ)(الإنسان:الآية24)
وفي هذا إشارة إن كل من قام بهذا القرآن فلابد أن يناله ما يناله
مما يحتاج إلى صبر ، وانظر إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم
حين ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:
والدليل على قوله تعالى: } و العصر * إن الإنسان لفي خسر *
إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر { (1)
"اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" (5)
فعلى الداعية أن يكون صابراً محتسباً .
والصبر ثلاثة أقسام:
1- صبر على طاعة الله.
2- صبر عن محارم الله.
3- صبر على أقدار الله التي يجريها إما مما لا كسب للعباد فيه،
وإما مما يجريه الله على أيدي بعض العباد من الإيذاء والاعتداء.
(1) قوله والدليل أي على هذه المراتب الأربع
قوله تعالى(وَالْعَصْرِ) (العصر:1)
أقسم الله عز وجل في هذه السورة بالعصر الذي هو الدهر
وهو محل الحوادث من خير وشر ، فأقسم الله عز وجل
به على أن الإنسان كل الإنسان في خسر إلا من اتصف
بهذه الصفات الأربع: الإيمان ، والعمل الصالح ،
والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- : جهاد النفس أربع مراتب:
إحداها : أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها
ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به.
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه.
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق
ويتحمل ذلك كله لله، فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين" .
فالله عز وجل أقسم في هذه السورة بالعصر
على أن كل إنسان فهو في خيبة وخسر مهما كثر ماله
وولده وعظم قدره وشرفه إلا من جمع هذه الأوصاف الأربعة:
أحدها: الإيمان ويشمل كل ما يقرب إلى الله تعالى
من اعتقاد صحيح وعلم نافع
الثاني: العمل الصالح وهو كل قول أو فعل يقرب إلى الله
بأن يكون فاعله لله مخلصاً ولمحمد صلى الله عليه وسلم متبعاً.
الثالث: التواصي بالحق وهو التواصي على فعل الخير
والحث عليه والترغيب فيه.
الرابع: التواصي بالصبر بأن يوصي بعضهم بعضاً بالصبر
على فعل أوامر الله تعالى، وترك محارم الله ، وتحمل أقدار الله.
والتواصي بالحق والتواصي بالصبر يتضمنان الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر اللذين بهما قوام الأمة وصلاحها
ونصرها وحصول الشرف والفضيلة لها
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )
(آل عمران:الآية110).
قال الشافعي -رحمه الله تعالى (1) _:
" لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم" (2)
وقال البخاري -رحمه الله (3) -: "باب العلم قبل القول والعمل" .
والدليل قوله تعالى
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)(محمد:الآية19) ،
فبدأ بالعلم قبل القول والعمل(4).
(1) الشافعي هو أبو عبد الله محمد بن إدريس
بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي ،
ولد في غزة سنة 150 هـ وتوفي بمصر سنة 204 هـ
وهو أحد الأئمة الأربعة على الجميع رحمة الله تعالى:
(2) مراده رحمه الله أن هذه السورة كافية للخلق في الحث على التمسك بدين الله بالإيمان ،
والعمل الصالح ، والدعوة إلى الله،
والصبر على ذلك، وليس مراده أن هذه السورة كافية
للخلق في جميع الشريعة.
وقوله : "لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم"
لأن العاقل البصير إذا سمع هذه السورة أو قرأها
فلا بد أن يسعى إلى تخليص نفسه من الخسران
وذلك باتصافه بهذه الصفات الأربع: الإيمان،
والعمل الصالح ، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر .
(3) البخاري هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل
بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، ولد ببخارى
في شوال سنة أربعة وتسعين ومائة ونشأ يتيماً في حجر والدته
وتوفي رحمه الله في خرتنك بلدة على فرسخين من سمرقند
ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين.
(4) أستدل البخاري رحمه الله بهذه الآية على
وجوب البداءة بالعلم قبل القول والعمل وهذا دليل
أثري يدل على أن الإنسان يعلم أولاً ثم يعمل ثانياً ،
وهناك دليل عقلي نظري يدل على أن العلم قبل القول
والعمل وذلك لأن القول أو العمل لا يكون صحيحاً مقبولاً
حتى يكون على وفق الشريعة ، ولا يمكن أن يعلم الإنسان
أن عمله على وفق الشريعة إلا بالعلم،
ولكن هناك أشياء يعلمها الإنسان بفطرته كالعلم بأن الله إله واحد
فإن هذا قد فطر عليه العبد ولهذا لا يحتاج إلى عناء كبير
في التعلم ، أما المسائل الجزئية المنتشرة فهي التي تحتاج
إلى تعلم وتكريس جهود.
أعلم رحمك الله : أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم ثلاث هذه المسائل والعمل بهن،
الأولى : أن الله خلقنا(1)
(1) ودليل ذلك أعني أن الله خلقنا سمعي وعقلي :
أما السمعي فكثير ومنه قوله عز وجل
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً
وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) (الأنعام:2)
وقوله(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ )(الأعراف:الآية11) الآية
وقوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ)
(الحجر:26)
وقوله (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ)
(الروم:20)
وقوله(خَلَقَ الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) (الرحمن:14)
(اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ )(الزمر:الآية62)
وقوله(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات:96)
وقوله (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)
إلى غير ذلك من الآيات. أما الدليل العقلي على أن الله
خلقنا فقد جاءت الإشارة إليه في قوله تعالى
(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور:35)
فإن الإنسان لم يخلق نفسه لأنه قبل وجوده عدم والعدم
ليس بشيء وما ليس بشيء لا يوجد شيئاً ،
ولم يخلقه أبوه ولا أمه ولا أحد من الخلق،
ولم يكن ليأتي صدفة بدون موجد؛ لأن كل حادث
لا بد له من محدث ؛ ولأن وجود هذه المخلوقات
على هذا النظام البديع والتناسق المتآلف يمنع منعاً
باتاً أن يكون صدفة. إذ الموجود صدفة ليس على نظام
في أصل وجوده فكيف يكون منتظماً حال بقائه وتطوره
فتعين بهذا أن يكون الخالق هو الله وحده فلا خالق
ولا آمر إلا الله، قال الله تعالى(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ )
(الأعراف:الآية54)
ورزقنا (1)
ولم يعلم أن أحداً من الخلق أنكر ربوبية الله سبحانه وتعالى
إلا على وجه المكابرة كما حصل من فرعون ،
وعندما سمع جبير بن مطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقرأ سورة الطور فبلغ قوله تعالى
(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ *
أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ *
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ)
(الطور:35- 37)
وكان جبير بن مطعم يومئذ مشركاً فقال:
"كاد قلبي أن يطير وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي"(6).
(1) أدلة هذه المسألة كثيرة من الكتاب والسنة والعقل
أما الكتاب : فقال الله تعالى
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات:58)
وقال تعالى(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ )
(سـبأ:الآية24)
وقوله(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ
وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ
مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ)
(يونس:31)
والآيات في هذا كثيرة.
وأما السنة : فمنها قوله صلى الله عليه وسلم في الجنين
يبعث إليه ملك فيؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله ،
وعمله وشقي أم سعيد. (7)وأما الدليل العقلي على أن الله
رزقنا فلأننا لا نعيش إلا على طعام وشراب، والطعام والشراب
خلقه الله عز وجل كما قال الله تعالى
(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ *
لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ*
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ
أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ
أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) (الواقعة:63-70)
ولم يتركنا هملاً (1) بل أرسل إلينا رسولاً (2)
..✿.
..✿.
ففي هذه الآيات بيان أن رزقنا طعاماً وشراباً من عند الله عز وجل.
(1) هذا هو الواقع الذي تدل عليه الأدلة السمعية والعقلية:
أما السمعية فمنها قوله تعالى
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ )
(المؤمنون: 115-116)
وقوله (أَيَحْسَبُ الإنسان أَنْ يُتْرَكَ سُدىً *
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى*ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى*
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى*أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)
(القيامة:36-40)
وأما العقل : فلأن وجود هذه البشرية لتحيا ثم تتمتع
كما تتمتع الأنعام ثم تموت إلى غير بعث ولا حساب
أمر لا يليق بحكمة الله عز وجل بل هو عبث محض ،
ولا يمكن أن يخلق الله هذه الخليقة ويرسل إليها الرسل
ويبيح لنا دماء المعارضين المخالفين للرسل عليهم الصلاة والسلام
ثم تكون النتيجة لا شيء ،
هذا مستحيل على حكمة الله عز وجل.
(2) أي أن الله عز وجل أرسل إلينا معشر هذه الأمة
أمة محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً يتلو علينا آيات ربنا
ويزكينا ، ويعلمنا الكتاب والحكمة ، كما أرسل إلى من قبلنا
قال الله تبارك وتعالى(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)(فاطر:الآية24)
ولا بد أن يرسل الله الرسل إلى الخلق لتقوم عليهم الحجة
وليعبدوا الله بما يحبه ويرضاه
قال الله تبارك وتعالى(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ
وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ
وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً *وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ
وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً *
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً)
(النساء:163-165)
فمن أطاعه دخل الجنة(1)
ولا يمكن أن نعبد الله بما يرضاه إلا عن طريق الرسل
عليهم الصلاة والسلام لأنهم هم الذين بينوا لنا
ما يحبه الله ويرضاه ، وما يقربنا إليه عز وجل فبذلك
كان من حكمة الله أن أرسل إلى الخلق رسلاً مبشرين
ومنذرين الدليل قوله تعالى(إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً
عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً*فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ
فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً) (المزمل:15-16)
(1) هذا حق مستفاد من قوله تعالى(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ*
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ
وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:132-133)
ومن قوله تعالى(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
(النساء:الآية13)
ومن قوله تعالى(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ
وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (النور:52)
وقوله (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (النساء:69)
وقوله(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)
(الأحزاب:الآية71) والآيات في ذلك كثيرة
ومن عصاه دخل النار (1)
والدليل قوله تعالى(إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ
كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً *
فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً)
(المزمل:15-16)
الثانية: (2) أن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد
في عبادته لا ملك مقرب ، ولا نبي مرسل.
والدليل قوله تعالى(وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً)
(الجـن:18).
ومن قوله صلى الله عليه وسلم
"كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"
فقيل : ومن يأبى يا رسول الله؟
قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني دخل النار"(8)
رواه البخاري.
(1) هذا أيضاً حق مستفاد من قوله تعالى
(وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً
فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (النساء:14)
وقوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)
(الأحزاب: الآية36)
وقوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً)
(الجـن: الآية23)
ومن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق:
"ومن عصاني دخل النار".
(2) أي المسألة الثانية مما يجب علينا علمه
أن الله سبحانه وتعالى لا يرضى أن يشرك معه
في عبادته أحد، بل هو وحده المستحق للعبادة
ودليل ذلك ما ذكره المؤلف رحمه الله في قوله تعالى:
(وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً) (الجـن:18)
فنهى الله تعالى أن يدعو الإنسان مع الله أحداً،
الثالثة(1) أن من أطاع الرسول ووحّد الله لا يجوز له موالاة
من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب ،
والدليل على قوله تعالى:
والله لا ينهى عن شيء إلا وهو لا يرضاه سبحانه
وتعالى وقال الله عز وجل (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ
وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ )
(الزمر: الآية7)،
وقال تعالى(فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)(التوبة:الآية96)
فالكفر والشرك والقضاء عليهما
لا يرضاه الله سبحانه وتعالى بل إنما أرسل الرسل
وأنزل الكتب لمحاربة قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ )
(الأنفال:الآية39)
وإذا كان الله لا يرضى بالكفر والشرك فإن الواجب
على المؤمن أن لا يرضى بهما ،
لأن المؤمن رضاه وغضبه تبع رضا الله وغضبه ،
فيغض لما يغضب الله ويرضى بما يرضاه الله عز وجل ،
وكذلك إذا كان الله لا يرضى الكفر ولا الشرك
فإنه لا يليق بمؤمن أن يرضى بهما. والشرك أمره خطير
قال الله عز وجل
(إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)
(النساء:الآية48)
وقال تعالى(إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)(المائدة:الآية72)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم
"من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ،
ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار" (9)
(1) أي المسألة الثالثة مما يجب علينا علمه الولاء والبراء
والولاء والبراء
(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ
أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
(المجادلة:22)
أصل عظيم جاءت فيه النصوص الكثيرة قال الله عز وجل
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً )
(آل عمران:الآية118)
وقال تعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)
(المائدة:51)
وقال سبحانه وتعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
(المائدة:57)
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ
وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ*)
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ
وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا
وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ
فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)
(التوبة:23-24)
وقال عز وجل(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)
(الأحزاب:21)
وقوله تعالى(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ
وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ
وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ
لِأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ
رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة:4)
( كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً
حتى تؤمنوا بالله وحده) {سورة الممتحنة، الآية: 4} .
ولأن موالاة من حاد الله ومداراته تدل على أن ما في
قلب الإنسان من الإيمان بالله ورسوله ضعيف ؛
لأنه ليس من العقل أن يحب الإنسان شيئاً هو عدو لمحبوبه ،
وموالاة الكفار تكون بمناصرتهم ومعاونتهم على
ما هم عليه من الكفر والضلال ، وموادتهم تكون بفعل الأسباب
التي تكون بها مودتهم فتجده يوادهم أي يطلب ودهم بكل طريق،
وهذا لا شك ينافي الإيمان كله أو كماله ،
فالواجب على المؤمن معاداة من حاد الله ورسوله
ولو كان أقرب قريب إليه، وبغضه والبعد عنه ولكن هذا
لا يمنع نصيحته ودعوته للحق.
أعلم (1) أرشدك الله (2) لطاعته (3) : أن الحنيفية (4) ملة (5) إبراهيم (6) :
أن تعبد الله وحده (7) مخلصاً له الدين (8)
(1) تقدم الكلام على العلم فلا حاجة إلى إعادته هنا.
(2) الرشد : الاستقامة على طريق الحق.
(3) الطاعة: موافقة المراد فعلاً للمأمور وتركاً للمحظور .
(4) الحنيفية: هي الملة المائلة عن الشرك ،
المبينة على الإخلاص لله عز وجل .
(5) أي طريقه الديني الذي يسير عليه ؛ عليه الصلاة والسلام.
(6) إبراهيم هو خليل الرحمن قال عز وجل
(وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً)(النساء:الآية125)
هو أبو الأنبياء وقد تكرر ذكر منهجه في مواضع كثيرة للاقتداء به.
(7) قوله "أن تعبد الله" هذه خبر "أن" في قول
"أن الحنيفية" والعبادة بمفهومها العام هي
"التذلل لله محبة وتعظيماً بفعل أوامره
واجتناب نواهيه على الوجه الذي جاءت به شرائعه".
أما المفهوم الخاص للعبادة-
يعني تفصيلها- فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"العبادة أسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال،
والأعمال الظاهرة والباطنة كالخوف ، والخشية ،
والتوكل والصلاة والزكاة ، والصيام
وغير ذلك من شرائع الإسلام.
(8) الإخلاص هو التنقية والمراد به أن يقصد المرء
بعبادته وجه الله عز وجل والوصول إلى دار كرامته
بحيث لا يعبد معه غيره لا ملكاً مقرباً ولا نبياً
وبذلك (1) أمر الله جميع الناس وخلقهم
لها كما قال الله تعالى(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)
(الذاريات:56)
ومعنى يعبدون يوحدون(2)
مرسلاً قال الله تعالى (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:123).
وقال الله تعالى(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ
إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ
فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ*
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ*
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى
لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(البقرة:130-132)
(1) أي بالحنيفية وهي عبادة الله مخلصاً له
الدين أمر الله جميع الناس وخلقهم لها ،
كما قال الله تعالى
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ
لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:25)
وبين الله عز وجل في كتابه أن الخلق إنما خلقوا
لهذا فقال تعالى(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)
(الذاريات:56).
(2) يعني التوحيد من معنى العبادة و إلا فقد سبق لك
معنى العبادة وعلى أي شيء تطلق وأنها أعم من مجرد التوحيد.
وأعلم أن العبادة نوعان:
عبادة كونية وهي الخضوع لأمر الله تعالى
الكوني وهذه شاملة لجميع الخلق لا يخرج عنها أحد
لقوله تعالى(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (مريم:93)
فهي شاملة للمؤمن والكافر،
وأعظم ما أمر الله به التوحيد وهو : إفراد الله بالعبادة (1)
و البر والفاجر .
والثاني : عبادة شرعية وهي الخضوع لأمر الله تعالى
الشرعي وهذه خاصة بمن أطاع الله تعالى واتبع
ما جاءت به الرسل مثل قوله تعالى(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ
عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً)
(الفرقان:63).
فالنوع الأول لا يحمد عليه الإنسان لأنه بغير فعله
لكن قد يحمد على ما يحصل منه من شكر عند
الرخاء وصبر على البلاء بخلاف النوع الثاني فإنه يحمد عليه.
(1) التوحيد لغة مصدر وحد يوحد ، أي جعل
الشيء واحداً وهذا لا يتحقق إلا بنفي وإثبات ،
نفي الحكم عما سوى الموحد وإثباته له فمثلاً نقول:
إنه لا يتم للإنسان التوحيد حتى يشهد أن لا إله إلا الله
فينفي الألوهية عما سوى الله تعالى ويثبتها لله وحده.
وفي الاصطلاح عرفه المؤلف بقوله:
"التوحيد هو إفراد الله بالعبادة"
أي أن تعبد الله وحده لا تشرك به شيئاً، لا تشرك به نبياً مرسلاً ،
ولا ملكاً مقرباً ولا رئيساً ولا ملكاً ولا أحداً من الخلق ،
بل تفرده وحده بالعبادة محبة وتعظيماً ، ورغبة ورهبة،
ومراد الشيخ رحمه الله التوحيد الذي بعثت الرسل
لتحقيقه لأنه هو الذي حصل به الإخلال من أقوامهم.
وهناك تعريف أعم للتوحيد وهو:
"إفراد الله سبحانه وتعالى بما يختص به" .
وأنواع التوحيد ثلاثة:
الأول: توحيد الربوبية وهو "إفراد الله سبحانه
وتعالى بالخلق، والملك والتدبير" قال الله عز وجل
(اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ )(الزمر:الآية62)
وقال تعالى (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) (فاطر:الآية3)
وقال تعالى(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الملك:1).
وقال تعالى : ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)
(الأعراف:الآية54).
الثاني: توحيد الألوهية وهو
"إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة بأن لا يتخذ
الإنسان مع الله أحداً يعبده ويتقرب إليه
كما يعبد الله تعالى ويتقرب إليه".
الثالث: توحيد الأسماء والصفات وهو
"إفراد الله سبحانه وتعالى بما سمى به نفسه
ووصف به نفسه في كتابه ، أو على لسان
رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك بإثبات ما أثبته ،
ونفي ما نفاه من غير تحريف ، ولا تعطيل ،
ومن غير تكييف، ولا تمثيل".
ومراد المؤلف هنا توحيد الألوهية وهو الذي ضل
فيه المشركون الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم
واستباح دماءهم وأموالهم وأرضهم وديارهم وسبى
نساءهم وذريتهم، ، وأكثر ما يعالج الرسل أقوامهم
على هذا النوع من التوحيد.
قال تعالى(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ)
(النحل:الآية36).
فالعبادة لا تصح إلا لله عز وجل،
ومن أخل بهذا التوحيد فهو مشرك كافر
وإن أقر بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات ،
فلو فرض أن رجلاً يقرّ إقراراً كاملاً بتوحيد الربوبية والأسماء
والصفات ولكنه يذهب إلى القبر فيعبد صاحبه
أو ينذر له قرباناً يتقرب به إليه فإنه
وأعظم ما نهى عنه الشرك .
وهو : دعوة غيره معه والدليل قوله تعالى
(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً )(النساء:الآية36).
..✿.
ففي هذه الآيات بيان أن رزقنا طعاماً وشراباً من عند الله عز وجل.
(1) هذا هو الواقع الذي تدل عليه الأدلة السمعية والعقلية:
أما السمعية فمنها قوله تعالى
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ )
(المؤمنون: 115-116)
وقوله (أَيَحْسَبُ الإنسان أَنْ يُتْرَكَ سُدىً *
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى*ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى*
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى*أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)
(القيامة:36-40)
وأما العقل : فلأن وجود هذه البشرية لتحيا ثم تتمتع
كما تتمتع الأنعام ثم تموت إلى غير بعث ولا حساب
أمر لا يليق بحكمة الله عز وجل بل هو عبث محض ،
ولا يمكن أن يخلق الله هذه الخليقة ويرسل إليها الرسل
ويبيح لنا دماء المعارضين المخالفين للرسل عليهم الصلاة والسلام
ثم تكون النتيجة لا شيء ،
هذا مستحيل على حكمة الله عز وجل.
(2) أي أن الله عز وجل أرسل إلينا معشر هذه الأمة
أمة محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً يتلو علينا آيات ربنا
ويزكينا ، ويعلمنا الكتاب والحكمة ، كما أرسل إلى من قبلنا
قال الله تبارك وتعالى(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)(فاطر:الآية24)
ولا بد أن يرسل الله الرسل إلى الخلق لتقوم عليهم الحجة
وليعبدوا الله بما يحبه ويرضاه
قال الله تبارك وتعالى(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ
وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ
وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً *وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ
وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً *
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً)
(النساء:163-165)
فمن أطاعه دخل الجنة(1)
ولا يمكن أن نعبد الله بما يرضاه إلا عن طريق الرسل
عليهم الصلاة والسلام لأنهم هم الذين بينوا لنا
ما يحبه الله ويرضاه ، وما يقربنا إليه عز وجل فبذلك
كان من حكمة الله أن أرسل إلى الخلق رسلاً مبشرين
ومنذرين الدليل قوله تعالى(إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً
عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً*فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ
فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً) (المزمل:15-16)
(1) هذا حق مستفاد من قوله تعالى(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ*
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ
وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:132-133)
ومن قوله تعالى(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
(النساء:الآية13)
ومن قوله تعالى(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ
وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (النور:52)
وقوله (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (النساء:69)
وقوله(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)
(الأحزاب:الآية71) والآيات في ذلك كثيرة
ومن عصاه دخل النار (1)
والدليل قوله تعالى(إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ
كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً *
فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً)
(المزمل:15-16)
الثانية: (2) أن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد
في عبادته لا ملك مقرب ، ولا نبي مرسل.
والدليل قوله تعالى(وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً)
(الجـن:18).
ومن قوله صلى الله عليه وسلم
"كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"
فقيل : ومن يأبى يا رسول الله؟
قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني دخل النار"(8)
رواه البخاري.
(1) هذا أيضاً حق مستفاد من قوله تعالى
(وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً
فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (النساء:14)
وقوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)
(الأحزاب: الآية36)
وقوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً)
(الجـن: الآية23)
ومن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق:
"ومن عصاني دخل النار".
(2) أي المسألة الثانية مما يجب علينا علمه
أن الله سبحانه وتعالى لا يرضى أن يشرك معه
في عبادته أحد، بل هو وحده المستحق للعبادة
ودليل ذلك ما ذكره المؤلف رحمه الله في قوله تعالى:
(وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً) (الجـن:18)
فنهى الله تعالى أن يدعو الإنسان مع الله أحداً،
الثالثة(1) أن من أطاع الرسول ووحّد الله لا يجوز له موالاة
من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب ،
والدليل على قوله تعالى:
والله لا ينهى عن شيء إلا وهو لا يرضاه سبحانه
وتعالى وقال الله عز وجل (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ
وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ )
(الزمر: الآية7)،
وقال تعالى(فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)(التوبة:الآية96)
فالكفر والشرك والقضاء عليهما
لا يرضاه الله سبحانه وتعالى بل إنما أرسل الرسل
وأنزل الكتب لمحاربة قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ )
(الأنفال:الآية39)
وإذا كان الله لا يرضى بالكفر والشرك فإن الواجب
على المؤمن أن لا يرضى بهما ،
لأن المؤمن رضاه وغضبه تبع رضا الله وغضبه ،
فيغض لما يغضب الله ويرضى بما يرضاه الله عز وجل ،
وكذلك إذا كان الله لا يرضى الكفر ولا الشرك
فإنه لا يليق بمؤمن أن يرضى بهما. والشرك أمره خطير
قال الله عز وجل
(إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)
(النساء:الآية48)
وقال تعالى(إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)(المائدة:الآية72)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم
"من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ،
ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار" (9)
(1) أي المسألة الثالثة مما يجب علينا علمه الولاء والبراء
والولاء والبراء
(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ
أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
(المجادلة:22)
أصل عظيم جاءت فيه النصوص الكثيرة قال الله عز وجل
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً )
(آل عمران:الآية118)
وقال تعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)
(المائدة:51)
وقال سبحانه وتعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
(المائدة:57)
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ
وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ*)
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ
وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا
وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ
فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)
(التوبة:23-24)
وقال عز وجل(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)
(الأحزاب:21)
وقوله تعالى(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ
وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ
وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ
لِأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ
رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة:4)
( كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً
حتى تؤمنوا بالله وحده) {سورة الممتحنة، الآية: 4} .
ولأن موالاة من حاد الله ومداراته تدل على أن ما في
قلب الإنسان من الإيمان بالله ورسوله ضعيف ؛
لأنه ليس من العقل أن يحب الإنسان شيئاً هو عدو لمحبوبه ،
وموالاة الكفار تكون بمناصرتهم ومعاونتهم على
ما هم عليه من الكفر والضلال ، وموادتهم تكون بفعل الأسباب
التي تكون بها مودتهم فتجده يوادهم أي يطلب ودهم بكل طريق،
وهذا لا شك ينافي الإيمان كله أو كماله ،
فالواجب على المؤمن معاداة من حاد الله ورسوله
ولو كان أقرب قريب إليه، وبغضه والبعد عنه ولكن هذا
لا يمنع نصيحته ودعوته للحق.
أعلم (1) أرشدك الله (2) لطاعته (3) : أن الحنيفية (4) ملة (5) إبراهيم (6) :
أن تعبد الله وحده (7) مخلصاً له الدين (8)
(1) تقدم الكلام على العلم فلا حاجة إلى إعادته هنا.
(2) الرشد : الاستقامة على طريق الحق.
(3) الطاعة: موافقة المراد فعلاً للمأمور وتركاً للمحظور .
(4) الحنيفية: هي الملة المائلة عن الشرك ،
المبينة على الإخلاص لله عز وجل .
(5) أي طريقه الديني الذي يسير عليه ؛ عليه الصلاة والسلام.
(6) إبراهيم هو خليل الرحمن قال عز وجل
(وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً)(النساء:الآية125)
هو أبو الأنبياء وقد تكرر ذكر منهجه في مواضع كثيرة للاقتداء به.
(7) قوله "أن تعبد الله" هذه خبر "أن" في قول
"أن الحنيفية" والعبادة بمفهومها العام هي
"التذلل لله محبة وتعظيماً بفعل أوامره
واجتناب نواهيه على الوجه الذي جاءت به شرائعه".
أما المفهوم الخاص للعبادة-
يعني تفصيلها- فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"العبادة أسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال،
والأعمال الظاهرة والباطنة كالخوف ، والخشية ،
والتوكل والصلاة والزكاة ، والصيام
وغير ذلك من شرائع الإسلام.
(8) الإخلاص هو التنقية والمراد به أن يقصد المرء
بعبادته وجه الله عز وجل والوصول إلى دار كرامته
بحيث لا يعبد معه غيره لا ملكاً مقرباً ولا نبياً
وبذلك (1) أمر الله جميع الناس وخلقهم
لها كما قال الله تعالى(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)
(الذاريات:56)
ومعنى يعبدون يوحدون(2)
مرسلاً قال الله تعالى (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:123).
وقال الله تعالى(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ
إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ
فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ*
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ*
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى
لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(البقرة:130-132)
(1) أي بالحنيفية وهي عبادة الله مخلصاً له
الدين أمر الله جميع الناس وخلقهم لها ،
كما قال الله تعالى
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ
لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:25)
وبين الله عز وجل في كتابه أن الخلق إنما خلقوا
لهذا فقال تعالى(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)
(الذاريات:56).
(2) يعني التوحيد من معنى العبادة و إلا فقد سبق لك
معنى العبادة وعلى أي شيء تطلق وأنها أعم من مجرد التوحيد.
وأعلم أن العبادة نوعان:
عبادة كونية وهي الخضوع لأمر الله تعالى
الكوني وهذه شاملة لجميع الخلق لا يخرج عنها أحد
لقوله تعالى(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (مريم:93)
فهي شاملة للمؤمن والكافر،
وأعظم ما أمر الله به التوحيد وهو : إفراد الله بالعبادة (1)
و البر والفاجر .
والثاني : عبادة شرعية وهي الخضوع لأمر الله تعالى
الشرعي وهذه خاصة بمن أطاع الله تعالى واتبع
ما جاءت به الرسل مثل قوله تعالى(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ
عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً)
(الفرقان:63).
فالنوع الأول لا يحمد عليه الإنسان لأنه بغير فعله
لكن قد يحمد على ما يحصل منه من شكر عند
الرخاء وصبر على البلاء بخلاف النوع الثاني فإنه يحمد عليه.
(1) التوحيد لغة مصدر وحد يوحد ، أي جعل
الشيء واحداً وهذا لا يتحقق إلا بنفي وإثبات ،
نفي الحكم عما سوى الموحد وإثباته له فمثلاً نقول:
إنه لا يتم للإنسان التوحيد حتى يشهد أن لا إله إلا الله
فينفي الألوهية عما سوى الله تعالى ويثبتها لله وحده.
وفي الاصطلاح عرفه المؤلف بقوله:
"التوحيد هو إفراد الله بالعبادة"
أي أن تعبد الله وحده لا تشرك به شيئاً، لا تشرك به نبياً مرسلاً ،
ولا ملكاً مقرباً ولا رئيساً ولا ملكاً ولا أحداً من الخلق ،
بل تفرده وحده بالعبادة محبة وتعظيماً ، ورغبة ورهبة،
ومراد الشيخ رحمه الله التوحيد الذي بعثت الرسل
لتحقيقه لأنه هو الذي حصل به الإخلال من أقوامهم.
وهناك تعريف أعم للتوحيد وهو:
"إفراد الله سبحانه وتعالى بما يختص به" .
وأنواع التوحيد ثلاثة:
الأول: توحيد الربوبية وهو "إفراد الله سبحانه
وتعالى بالخلق، والملك والتدبير" قال الله عز وجل
(اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ )(الزمر:الآية62)
وقال تعالى (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) (فاطر:الآية3)
وقال تعالى(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الملك:1).
وقال تعالى : ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)
(الأعراف:الآية54).
الثاني: توحيد الألوهية وهو
"إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة بأن لا يتخذ
الإنسان مع الله أحداً يعبده ويتقرب إليه
كما يعبد الله تعالى ويتقرب إليه".
الثالث: توحيد الأسماء والصفات وهو
"إفراد الله سبحانه وتعالى بما سمى به نفسه
ووصف به نفسه في كتابه ، أو على لسان
رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك بإثبات ما أثبته ،
ونفي ما نفاه من غير تحريف ، ولا تعطيل ،
ومن غير تكييف، ولا تمثيل".
ومراد المؤلف هنا توحيد الألوهية وهو الذي ضل
فيه المشركون الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم
واستباح دماءهم وأموالهم وأرضهم وديارهم وسبى
نساءهم وذريتهم، ، وأكثر ما يعالج الرسل أقوامهم
على هذا النوع من التوحيد.
قال تعالى(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ)
(النحل:الآية36).
فالعبادة لا تصح إلا لله عز وجل،
ومن أخل بهذا التوحيد فهو مشرك كافر
وإن أقر بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات ،
فلو فرض أن رجلاً يقرّ إقراراً كاملاً بتوحيد الربوبية والأسماء
والصفات ولكنه يذهب إلى القبر فيعبد صاحبه
أو ينذر له قرباناً يتقرب به إليه فإنه
وأعظم ما نهى عنه الشرك .
وهو : دعوة غيره معه والدليل قوله تعالى
(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً )(النساء:الآية36).
..✿.
..✿.
مشرك كافر خالد في النار قال الله تعالى:
(إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ
وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)
(المائدة:الآية72)
وإنما كان التوحيد أعظم ما أمر الله لأنه الأصل
الذي ينبني عليه الدين كله، ولهذا بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم
في الدعوة إلى الله، وأمر من أرسله للدعوة أن يبدأ به.
(1) أعظم ما نهى الله عنه الشرك وذلك لأن أعظم الحقوق
هو حق الله عز وجل فإذا فرط فيه الإنسان فقد فرط
في أعظم الحقوق وهو توحيد الله عز وجل
قال الله تعالى(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(لقمان:الآية13)
وقال تعالى(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً)
(النساء:الآية48)
وقال عز وجل (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً)
(النساء:الآية116)
وقال تعالى
(إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أنصار)
(المائدة:الآية72)
وقال تعالى(إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ )(النساء:الآية48)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
"أعظم الذنب أن تجعل لله نداً وهو خلقك"(10) .
وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم
عن جابر، رضي الله عنه:
"من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة
ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار" (11)
فإذا قبل لك: ما الأصول(1) الثلاثة التي يجب على الإنسان
وقال النبي صلى الله عليه وسلم
"من مات وهو يدعوا من دون الله نداً دخل النار(12)
رواه البخاري واستدل المؤلف رحمه الله تعالى
لأمر الله تعالى بالعبادة ونهيه عن الشرك بقوله عز وجل
(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً )(النساء:الآية36)
فأمر الله سبحانه وتعالى بعبادته ونهى عن الشرك به،
وهذا يتضمن إثبات العبادة له وحده فمن لم يعبد الله
فهو كافر مستكبر ، ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو كافر مشرك
ومن عبد الله وحده فهو مسلم مخلص.
والشرك نوعان : شرك أكبر ، وشرك أصغر.
فالنوع الأول: الشرك الأكبر وهو كل شرك أطلقه الشارع
وكان متضمناً لخروج الإنسان عن دينه.
النوع الثاني: الشرك الأصغر وهو كل عمل قولي
أو فعلي أطلق عليه الشرع وصف الشرك ولكنه لا يخرج عن الملة.
وعلى الإنسان الحذر من الشرك أكبره وأصغره
فقد قال تعالى(إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (النساء:الآية48)
(1)الأصول جمع أصل ، وهو ما يبنى عليه غيره ،
ومن ذلك أصل الجدار وهو أساسه ، وأصل الشجرة
الذي يتفرغ منه الأغصان ، قال الله تعالى
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ
أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) (إبراهيم:24).
معرفتها (1) ؟ فقل : معرفة العبد ربه (2)
وهذه الأصول الثلاثة يشير بها المصنف رحمه
إلى الأصول التي يسأل عنها الإنسان في قبره :
ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟
(2)أورد المؤلف رحمه الله تعالى هذه المسألة بصيغة
السؤال وذلك من أجل أن ينتبه الإنسان لها ؛
لأنها مسألة عظيمة وأصول كبيرة ؛ وإنما قال:
إن هذه هي الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان
معرفتها لأنها هي الأصول التي يسأل عنها المرء في قبره
إذا دفن وتولى عنه أصحابه أتاه ملكان فأقعداه فسألاه
من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
فأما المؤمن فيقول: ربي الله ، وديني الإسلام ،
ونبيي محمد، وأما المرتاب أو المنافق فيقول هاه ؛
هاه لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
(2) معرفة الله تكون بأسباب:
منها النظر والتفكر في مخلوقاته عز وجل فإن ذلك
يؤدي إلى معرفته ومعرفة عظيم سلطانه وتمام قدرته ،
وحكمته ، ورحمته قال الله تعالى
(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ )(الأعراف:الآية185)
وقال عز وجل(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)(سـبأ:الآية46)
وقال تعالى(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ) (آل عمران:190)
وقال عز وجل(وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)(يونس:الآية6)
وقال سبحانه وتعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَ
ا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ
الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْكُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ
وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)
(البقرة:164)
ودينه (1).
ومن أسباب معرفة العبد ربه النظر في آياته الشرعية
وهي الوحي الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام
فينظر في هذه الآيات وما فيها من المصالح العظيمه التي
لا تقوم حياة الخلق في الدنيا ولا في الآخرة إلا بها ،
فإذا نظر فيها وتأملها وما اشتملت عليه من العلم
والحكمة ووجد انتظامها وموافقتها لمصالح العباد
عرف بذلك ربه عز وجل كما قال الله عز وجل
(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء:82).
ومنها ما يلقي الله عز وجل في قلب المؤمن
من معرفة الله سبحانه وتعالى حتى كأنه يرى ربه رأي العين
قال النبي عليه الصلاة والسلام ، حين سأله جبريل
ما الإحسان ؟ قال : "أن تعبد الله كأنك تراه ،
فإن لم تكن تراه فإنه يراك".(13)
(1) أي معرفة الأصل الثاني وهو دينه الذي كلف العمل به
وما تضمنه من الحكمة والرحمة ومصالح الخلق،
ودرء المفاسد عنها ، ودين الإسلام من تأمله
حق التأمل تأملاً مبيناً على الكتاب والسنة عرف أنه دين الحق،
وأنه الدين الذي لا تقوم مصالح الخلق إلا به ،
ولا ينبغي أن نقيس الإسلام بما عليه المسلمون اليوم،
فإن المسلمين قد فرطوا في أشياء كثيرة وارتكبوا
ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم (1)
فإذا قيل لك :ربك(2) ؟
فقل : ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه(3)
محاذير عظيمة حتى كأن العائش بينهم في بعض
البلاد الإسلامية يعيش في جو غير إسلامي.
والدين الإسلامي -بحمد الله تعالى- متضمن لجميع المصالح
التي تضمنتها الأديان السابقة متميز عليها بكونه صالحاً لكل
زمان ومكان وأمة ، ومعنى كونه صالحاً لكل زمان
ومكان وأمة : أن التمسك به لا ينافي مصالح الأمة
في أي زمان ومكان وأمة ، فدين الإسلام يأمر
بكل عمل صالح وينهى عن كل عمل سيء
فهو يأمر بكل خلق فاضل ، وينهى عن كل خلق سافل.
(1) هذا هو الأصل الثالث وهو معرفة الإنسان
نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ،
وتحصل بدراسة حياة النبي صلى الله عليه وسلم
وما كان عليه من العبادة ، والأخلاق ، والدعوة إلى الله عز وجل ،
والجهاد في سبيله وغير ذلك من جوانب حياته
عليه الصلاة والسلام ، ولهذا ينبغي لكل إنسان يريد
أن يزداد معرفة بنبيه وإيماناً به أن يطالع من سيرته
ما تيسر في حربه وسلمه ، وشدته ورخائه وجميع
أحواله نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتبعين
لرسوله صلى الله عليه وسلم ، باطناً وظاهراً ،
وأن يتوفانا على ذلك إنه وليه والقادر عليه.
(2) أي من هو ربك الذي خلقك ، وأمدك ، وأعدك ، ورزقك .
(3) التربية هي عبارة عن الرعاية التي يكون بها تقويم المربى ، ويشعر
وهو معبودي ليس لي معبود سواه (1)
والدليل قوله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (2) (الفاتحة:2)
وكل ما سوى الله عالم
كلام المؤلف رحمه الله أن الرب مأخوذ من التربية
لأنه قال: "الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه"
فكل العالمين قد رباهم الله بنعمه وأعدهم لما خلقوا له ،
وأمدهم برزقه قال الله تبارك وتعالى في محاورة موسى
وفرعون(قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى* قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ
خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طـه:49-50)
فكل أحد من العالمين قد رباه الله عز وجل بنعمه.
ونعم الله عز وجل على عباده كثيرة لا يمكن
حصرها قال الله تبارك وتعالى
(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا )(النحل:الآية18)
فالله هو الذي خلقك وأعدك ، وأمدك ورزقك فهو
وحده المستحق للعبادة .
(1)أي وهو الذي أعبده وأتذلل له خضوعاً ومحبة وتعظيماً ،
أفعل ما يأمرني به، وأترك ما ينهاني عنه ،
فليس لي أحد أعبده سوى الله عز وجل ، قال الله تبارك وتعالى
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ
أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:25)
وقال تعالى(وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة:5)
(2) أستدل المؤلف رحمه الله لكون الله سبحانه وتعالى
مربياً لجميع الخلق بقوله تعالى(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة:2)
يعني الوصف بالكمال والجلال والعظمة لله تعالى وحده.
(رب العالمين) أي مربيهم بالنعم وخالقهم ومالكهم ،
والمدبر لهم كما شاء عز وجل.
وأنا واحد من ذلك العالم (1) ،
فإذا قيل لك بم عرفت ربك (2) ؟
فقل بآياته ومخلوقاته (3) ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ،
ومن مخلوقاته السموات السبع والأرضون السبع ومن فيهن
وما بينهما (4) .
(1) العالم كله من سوى الله ، وسمو عالماً لأنهم علم
على خالقهم ومالكهم ومدبرهم ففي كل شيء
آية لله تدل على أنه واحد.
وأنا المجيب بهذا واحد من ذلك العالم ،
وإذا كان ربي وجب علي أن أعبده وحده.
(2) أي إذا قيل لك: بأي شيء عرفت الله عز وجل؟
فقل: عرفته بآياته ومخلوقاته.
(3) الآيات : جمع آية وهي العلامة على الشيء التي تدل عليه وتبينه.
وآيات الله تعالى نوعان : كونية وشرعية ،
فالكونية هي المخلوقات ، والشرعية هي الوحي
الذي أنزله الله على رسله ، وعلى هذا يكون قول
المؤلف رحمه الله "بآياته ومخلوقاته"
من باب عطف الخاص على العام إذا فسرنا
الآيات بأنها الآيات الكونية والشرعية.
أو من باب عطف المباين المغاير إذا خصصنا الآيات
بالآيات الشرعية وعلى كل فالله عز وجل يعرف بآياته الكونية وهي المخلوقات العظيمة وما فيها من عجائب الصنعة
وبالغ الحكمة، وكذلك يعرف بآياته الشرعية
وما فيها من العدل ، والاشتمال على المصالح ، ودفع المفاسد .
وفـي كـل شـيء لـه آيـة تــدل على أنــه واحــد
(4) كل هذه من آيات الله الدالة على كمال القدرة،
وكمال الحكمة ، وكمال الرحمة ، فالشمس آية
من آيات الله عز وجل لكونها تسير سيراً منتظماً
بديعاً منذ خلقها الله عز وجل وإلى أن يأذن الله تعالى
بخراب العالم، فهي تسير لمستقر لها كما قال تعالى
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (يّـس:38)
وهي من آيات الله تعالى بحجمها وآثارها ،
أما حجمها فعظيم كبير ، وأما آثارها فما يحصل منها
من المنافع للأجسام والأشجار والأنهار ،
والبحار وغير ذلك ، فإذا نظرنا إلى الشمس هذه
الآية العظيمة ما مدى البعد الذي بيننا وبينها مع ذلك
فإننا نجد حرارتها هذه الحرارة العظيمة ،
ثم انظر ماذا يحدث فيها من الإضاءة العظيمة
التي يحصل بها توفير أموال كثيرة على الناس فإن الناس
في النهار يستغنون عن كل إضاءة ويحصل بها
مصلحة كبيرة للناس من توفير أموالهم ويعد هذا
من الآيات التي لا ندرك إلا اليسير منها.
كذلك القمر من آيات الله عز وجل حيث قدره منازل
لكل ليلة منزلة (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (يّـس:39)
فهو يبدو صغيراً ثم يكبر رويداً رويداً حتى يكمل ثم يعود إلى النقص
وهو يشبه الإنسان حيث أنه يخلق من ضعف ثم لا يزال يترقى
من قوة إلى قوة حتى يعود إلى الضعف مرة أخرى
فتبارك الله أحسن الخالقين.
والدليل(1) قوله تعالى(وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (فصلت:37)
وقوله (2) تعالى:
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ
يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ
أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف:54).
(1) أي والدليل على أن الليل والنهار ، والشمس والقمر
من آيات الله عز وجل قوله تعالى
} ومن آياته الليل والنهار{ . . . . إلخ
أي من العلامات البينة المبينة لمدلولها الليل والنهار في
ذاتهما واختلافهما ، وما أودع الله فيهما من مصالح العباد
وتقلبات أحوالهم ، وكذلك الشمس والقمر في ذاتهما
وسيرهما وانتظامهما وما يحصل بذلك من مصالح العباد
ودفع مضارهم .
ثم نهى الله تعالى العباد أن يسجدوا للشمس أو القمر
وإن بلغا مبلغاً عظيماً في نفوسهم لأنهما لا يستحقان
العبادة لكونها مخلوقين ، وإنما المستحق
للعبادة هو الله تعالى الذي خلقهن.
(2) وقوله أي من الأدلة على أن الله خلق السموات والأرض
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)(الأعراف:الآية54)
وفيها من آيات الله:
أولاً : أن الله خلق هذه المخلوقات العظيمة
في ستة أيام ولو شاء لخلقها بلحظة ولكنه ربط
المسببات بأسبابها كما تقتضيه حكمته .
ثانياً : أنه استوى على العرش أي علا عليه علواً خاصاً
به كما يليق بجلاله وعظمته وهذا عنوان كمال الملك والسلطان.
ثالثاً : أنه يغشي الليل النهار أن يجعل الليل غشاء للنهار ،
أي غطاء له فهو كالثوب يسدل على ضوء النهار فيغطيه.
رابعاً : أنه جعل الشمس والقمر والنجوم مذللات بأمره
جل سلطانه يأمرهن بما يشاء لمصلحة العباد .
خامساً : عموم ملكه وتمام سلطانه حيث كان له الخلق والأمر لا لغيره.
سادساً : عموم ربوبيته للعالمين كلهم.
والرب هو المعبود (1) ، والدليل (2)
قوله تعالى: } يأيها الناس (3) أعبدوا ربكم الذي خلقكم (4)
والذين من قبلكم لعلكم تتقون. (5)
الذي(1) يشير المؤلف رحمه الله تعالى إلى قول الله عز وجل
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف:54)
فالرب هو المعبود أي هو الذي يستحق أن يعبد
أو هو الذي يعبد لاستحقاقه للعبادة ،
وليس المعنى أن كل من عبد فهو رب فالآلهة التي تعبد
من دون الله وأتخذها عبادها أرباباً من دون الله ليست أرباباً .
والرب هو الخالق المالك المدبر لجميع الأمور .
(2) أي الدليل على أن الرب هو المستحق للعبادة.
(3) النداء موجه لجميع الناس من بني آدم
أمرهم الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له.
فلا يجعلوا له أنداداً، ويبين أنه إنما استحق العبادة
لكونه هو الخالق وحده لا شريك له.
(4) قوله (الذي خلقكم) هذه صفة كاشفة تعلل
ما سبق أي اعبدوه لأنه ربكم الذي خلقكم فمن أجل
كونه الرب الخالق كان لزاماً عليكم أن تعبدوه ،
ولهذا نقول يلزم كل من أقر بربوبية الله أن يعبده وحده
وإلا كان متناقضاً.
(5) أي من أجل أن تحصلوا على التقوى ،
والتقوى هي اتخاذ وقاية من عذاب الله عز وجل
باتباع أوامره واجتناب نواهيه.
(جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً (1) وَالسَّمَاءَ بِنَاءً (2)
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً (3) فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ (4)
فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً (5) وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (6) (البقرة:21-22)
..✿.
مشرك كافر خالد في النار قال الله تعالى:
(إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ
وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)
(المائدة:الآية72)
وإنما كان التوحيد أعظم ما أمر الله لأنه الأصل
الذي ينبني عليه الدين كله، ولهذا بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم
في الدعوة إلى الله، وأمر من أرسله للدعوة أن يبدأ به.
(1) أعظم ما نهى الله عنه الشرك وذلك لأن أعظم الحقوق
هو حق الله عز وجل فإذا فرط فيه الإنسان فقد فرط
في أعظم الحقوق وهو توحيد الله عز وجل
قال الله تعالى(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(لقمان:الآية13)
وقال تعالى(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً)
(النساء:الآية48)
وقال عز وجل (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً)
(النساء:الآية116)
وقال تعالى
(إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أنصار)
(المائدة:الآية72)
وقال تعالى(إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ )(النساء:الآية48)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
"أعظم الذنب أن تجعل لله نداً وهو خلقك"(10) .
وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم
عن جابر، رضي الله عنه:
"من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة
ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار" (11)
فإذا قبل لك: ما الأصول(1) الثلاثة التي يجب على الإنسان
وقال النبي صلى الله عليه وسلم
"من مات وهو يدعوا من دون الله نداً دخل النار(12)
رواه البخاري واستدل المؤلف رحمه الله تعالى
لأمر الله تعالى بالعبادة ونهيه عن الشرك بقوله عز وجل
(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً )(النساء:الآية36)
فأمر الله سبحانه وتعالى بعبادته ونهى عن الشرك به،
وهذا يتضمن إثبات العبادة له وحده فمن لم يعبد الله
فهو كافر مستكبر ، ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو كافر مشرك
ومن عبد الله وحده فهو مسلم مخلص.
والشرك نوعان : شرك أكبر ، وشرك أصغر.
فالنوع الأول: الشرك الأكبر وهو كل شرك أطلقه الشارع
وكان متضمناً لخروج الإنسان عن دينه.
النوع الثاني: الشرك الأصغر وهو كل عمل قولي
أو فعلي أطلق عليه الشرع وصف الشرك ولكنه لا يخرج عن الملة.
وعلى الإنسان الحذر من الشرك أكبره وأصغره
فقد قال تعالى(إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (النساء:الآية48)
(1)الأصول جمع أصل ، وهو ما يبنى عليه غيره ،
ومن ذلك أصل الجدار وهو أساسه ، وأصل الشجرة
الذي يتفرغ منه الأغصان ، قال الله تعالى
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ
أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) (إبراهيم:24).
معرفتها (1) ؟ فقل : معرفة العبد ربه (2)
وهذه الأصول الثلاثة يشير بها المصنف رحمه
إلى الأصول التي يسأل عنها الإنسان في قبره :
ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟
(2)أورد المؤلف رحمه الله تعالى هذه المسألة بصيغة
السؤال وذلك من أجل أن ينتبه الإنسان لها ؛
لأنها مسألة عظيمة وأصول كبيرة ؛ وإنما قال:
إن هذه هي الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان
معرفتها لأنها هي الأصول التي يسأل عنها المرء في قبره
إذا دفن وتولى عنه أصحابه أتاه ملكان فأقعداه فسألاه
من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
فأما المؤمن فيقول: ربي الله ، وديني الإسلام ،
ونبيي محمد، وأما المرتاب أو المنافق فيقول هاه ؛
هاه لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
(2) معرفة الله تكون بأسباب:
منها النظر والتفكر في مخلوقاته عز وجل فإن ذلك
يؤدي إلى معرفته ومعرفة عظيم سلطانه وتمام قدرته ،
وحكمته ، ورحمته قال الله تعالى
(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ )(الأعراف:الآية185)
وقال عز وجل(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)(سـبأ:الآية46)
وقال تعالى(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ) (آل عمران:190)
وقال عز وجل(وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)(يونس:الآية6)
وقال سبحانه وتعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَ
ا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ
الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْكُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ
وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)
(البقرة:164)
ودينه (1).
ومن أسباب معرفة العبد ربه النظر في آياته الشرعية
وهي الوحي الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام
فينظر في هذه الآيات وما فيها من المصالح العظيمه التي
لا تقوم حياة الخلق في الدنيا ولا في الآخرة إلا بها ،
فإذا نظر فيها وتأملها وما اشتملت عليه من العلم
والحكمة ووجد انتظامها وموافقتها لمصالح العباد
عرف بذلك ربه عز وجل كما قال الله عز وجل
(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء:82).
ومنها ما يلقي الله عز وجل في قلب المؤمن
من معرفة الله سبحانه وتعالى حتى كأنه يرى ربه رأي العين
قال النبي عليه الصلاة والسلام ، حين سأله جبريل
ما الإحسان ؟ قال : "أن تعبد الله كأنك تراه ،
فإن لم تكن تراه فإنه يراك".(13)
(1) أي معرفة الأصل الثاني وهو دينه الذي كلف العمل به
وما تضمنه من الحكمة والرحمة ومصالح الخلق،
ودرء المفاسد عنها ، ودين الإسلام من تأمله
حق التأمل تأملاً مبيناً على الكتاب والسنة عرف أنه دين الحق،
وأنه الدين الذي لا تقوم مصالح الخلق إلا به ،
ولا ينبغي أن نقيس الإسلام بما عليه المسلمون اليوم،
فإن المسلمين قد فرطوا في أشياء كثيرة وارتكبوا
ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم (1)
فإذا قيل لك :ربك(2) ؟
فقل : ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه(3)
محاذير عظيمة حتى كأن العائش بينهم في بعض
البلاد الإسلامية يعيش في جو غير إسلامي.
والدين الإسلامي -بحمد الله تعالى- متضمن لجميع المصالح
التي تضمنتها الأديان السابقة متميز عليها بكونه صالحاً لكل
زمان ومكان وأمة ، ومعنى كونه صالحاً لكل زمان
ومكان وأمة : أن التمسك به لا ينافي مصالح الأمة
في أي زمان ومكان وأمة ، فدين الإسلام يأمر
بكل عمل صالح وينهى عن كل عمل سيء
فهو يأمر بكل خلق فاضل ، وينهى عن كل خلق سافل.
(1) هذا هو الأصل الثالث وهو معرفة الإنسان
نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ،
وتحصل بدراسة حياة النبي صلى الله عليه وسلم
وما كان عليه من العبادة ، والأخلاق ، والدعوة إلى الله عز وجل ،
والجهاد في سبيله وغير ذلك من جوانب حياته
عليه الصلاة والسلام ، ولهذا ينبغي لكل إنسان يريد
أن يزداد معرفة بنبيه وإيماناً به أن يطالع من سيرته
ما تيسر في حربه وسلمه ، وشدته ورخائه وجميع
أحواله نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتبعين
لرسوله صلى الله عليه وسلم ، باطناً وظاهراً ،
وأن يتوفانا على ذلك إنه وليه والقادر عليه.
(2) أي من هو ربك الذي خلقك ، وأمدك ، وأعدك ، ورزقك .
(3) التربية هي عبارة عن الرعاية التي يكون بها تقويم المربى ، ويشعر
وهو معبودي ليس لي معبود سواه (1)
والدليل قوله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (2) (الفاتحة:2)
وكل ما سوى الله عالم
كلام المؤلف رحمه الله أن الرب مأخوذ من التربية
لأنه قال: "الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه"
فكل العالمين قد رباهم الله بنعمه وأعدهم لما خلقوا له ،
وأمدهم برزقه قال الله تبارك وتعالى في محاورة موسى
وفرعون(قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى* قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ
خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طـه:49-50)
فكل أحد من العالمين قد رباه الله عز وجل بنعمه.
ونعم الله عز وجل على عباده كثيرة لا يمكن
حصرها قال الله تبارك وتعالى
(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا )(النحل:الآية18)
فالله هو الذي خلقك وأعدك ، وأمدك ورزقك فهو
وحده المستحق للعبادة .
(1)أي وهو الذي أعبده وأتذلل له خضوعاً ومحبة وتعظيماً ،
أفعل ما يأمرني به، وأترك ما ينهاني عنه ،
فليس لي أحد أعبده سوى الله عز وجل ، قال الله تبارك وتعالى
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ
أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:25)
وقال تعالى(وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة:5)
(2) أستدل المؤلف رحمه الله لكون الله سبحانه وتعالى
مربياً لجميع الخلق بقوله تعالى(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة:2)
يعني الوصف بالكمال والجلال والعظمة لله تعالى وحده.
(رب العالمين) أي مربيهم بالنعم وخالقهم ومالكهم ،
والمدبر لهم كما شاء عز وجل.
وأنا واحد من ذلك العالم (1) ،
فإذا قيل لك بم عرفت ربك (2) ؟
فقل بآياته ومخلوقاته (3) ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ،
ومن مخلوقاته السموات السبع والأرضون السبع ومن فيهن
وما بينهما (4) .
(1) العالم كله من سوى الله ، وسمو عالماً لأنهم علم
على خالقهم ومالكهم ومدبرهم ففي كل شيء
آية لله تدل على أنه واحد.
وأنا المجيب بهذا واحد من ذلك العالم ،
وإذا كان ربي وجب علي أن أعبده وحده.
(2) أي إذا قيل لك: بأي شيء عرفت الله عز وجل؟
فقل: عرفته بآياته ومخلوقاته.
(3) الآيات : جمع آية وهي العلامة على الشيء التي تدل عليه وتبينه.
وآيات الله تعالى نوعان : كونية وشرعية ،
فالكونية هي المخلوقات ، والشرعية هي الوحي
الذي أنزله الله على رسله ، وعلى هذا يكون قول
المؤلف رحمه الله "بآياته ومخلوقاته"
من باب عطف الخاص على العام إذا فسرنا
الآيات بأنها الآيات الكونية والشرعية.
أو من باب عطف المباين المغاير إذا خصصنا الآيات
بالآيات الشرعية وعلى كل فالله عز وجل يعرف بآياته الكونية وهي المخلوقات العظيمة وما فيها من عجائب الصنعة
وبالغ الحكمة، وكذلك يعرف بآياته الشرعية
وما فيها من العدل ، والاشتمال على المصالح ، ودفع المفاسد .
وفـي كـل شـيء لـه آيـة تــدل على أنــه واحــد
(4) كل هذه من آيات الله الدالة على كمال القدرة،
وكمال الحكمة ، وكمال الرحمة ، فالشمس آية
من آيات الله عز وجل لكونها تسير سيراً منتظماً
بديعاً منذ خلقها الله عز وجل وإلى أن يأذن الله تعالى
بخراب العالم، فهي تسير لمستقر لها كما قال تعالى
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (يّـس:38)
وهي من آيات الله تعالى بحجمها وآثارها ،
أما حجمها فعظيم كبير ، وأما آثارها فما يحصل منها
من المنافع للأجسام والأشجار والأنهار ،
والبحار وغير ذلك ، فإذا نظرنا إلى الشمس هذه
الآية العظيمة ما مدى البعد الذي بيننا وبينها مع ذلك
فإننا نجد حرارتها هذه الحرارة العظيمة ،
ثم انظر ماذا يحدث فيها من الإضاءة العظيمة
التي يحصل بها توفير أموال كثيرة على الناس فإن الناس
في النهار يستغنون عن كل إضاءة ويحصل بها
مصلحة كبيرة للناس من توفير أموالهم ويعد هذا
من الآيات التي لا ندرك إلا اليسير منها.
كذلك القمر من آيات الله عز وجل حيث قدره منازل
لكل ليلة منزلة (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (يّـس:39)
فهو يبدو صغيراً ثم يكبر رويداً رويداً حتى يكمل ثم يعود إلى النقص
وهو يشبه الإنسان حيث أنه يخلق من ضعف ثم لا يزال يترقى
من قوة إلى قوة حتى يعود إلى الضعف مرة أخرى
فتبارك الله أحسن الخالقين.
والدليل(1) قوله تعالى(وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (فصلت:37)
وقوله (2) تعالى:
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ
يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ
أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف:54).
(1) أي والدليل على أن الليل والنهار ، والشمس والقمر
من آيات الله عز وجل قوله تعالى
} ومن آياته الليل والنهار{ . . . . إلخ
أي من العلامات البينة المبينة لمدلولها الليل والنهار في
ذاتهما واختلافهما ، وما أودع الله فيهما من مصالح العباد
وتقلبات أحوالهم ، وكذلك الشمس والقمر في ذاتهما
وسيرهما وانتظامهما وما يحصل بذلك من مصالح العباد
ودفع مضارهم .
ثم نهى الله تعالى العباد أن يسجدوا للشمس أو القمر
وإن بلغا مبلغاً عظيماً في نفوسهم لأنهما لا يستحقان
العبادة لكونها مخلوقين ، وإنما المستحق
للعبادة هو الله تعالى الذي خلقهن.
(2) وقوله أي من الأدلة على أن الله خلق السموات والأرض
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)(الأعراف:الآية54)
وفيها من آيات الله:
أولاً : أن الله خلق هذه المخلوقات العظيمة
في ستة أيام ولو شاء لخلقها بلحظة ولكنه ربط
المسببات بأسبابها كما تقتضيه حكمته .
ثانياً : أنه استوى على العرش أي علا عليه علواً خاصاً
به كما يليق بجلاله وعظمته وهذا عنوان كمال الملك والسلطان.
ثالثاً : أنه يغشي الليل النهار أن يجعل الليل غشاء للنهار ،
أي غطاء له فهو كالثوب يسدل على ضوء النهار فيغطيه.
رابعاً : أنه جعل الشمس والقمر والنجوم مذللات بأمره
جل سلطانه يأمرهن بما يشاء لمصلحة العباد .
خامساً : عموم ملكه وتمام سلطانه حيث كان له الخلق والأمر لا لغيره.
سادساً : عموم ربوبيته للعالمين كلهم.
والرب هو المعبود (1) ، والدليل (2)
قوله تعالى: } يأيها الناس (3) أعبدوا ربكم الذي خلقكم (4)
والذين من قبلكم لعلكم تتقون. (5)
الذي(1) يشير المؤلف رحمه الله تعالى إلى قول الله عز وجل
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف:54)
فالرب هو المعبود أي هو الذي يستحق أن يعبد
أو هو الذي يعبد لاستحقاقه للعبادة ،
وليس المعنى أن كل من عبد فهو رب فالآلهة التي تعبد
من دون الله وأتخذها عبادها أرباباً من دون الله ليست أرباباً .
والرب هو الخالق المالك المدبر لجميع الأمور .
(2) أي الدليل على أن الرب هو المستحق للعبادة.
(3) النداء موجه لجميع الناس من بني آدم
أمرهم الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له.
فلا يجعلوا له أنداداً، ويبين أنه إنما استحق العبادة
لكونه هو الخالق وحده لا شريك له.
(4) قوله (الذي خلقكم) هذه صفة كاشفة تعلل
ما سبق أي اعبدوه لأنه ربكم الذي خلقكم فمن أجل
كونه الرب الخالق كان لزاماً عليكم أن تعبدوه ،
ولهذا نقول يلزم كل من أقر بربوبية الله أن يعبده وحده
وإلا كان متناقضاً.
(5) أي من أجل أن تحصلوا على التقوى ،
والتقوى هي اتخاذ وقاية من عذاب الله عز وجل
باتباع أوامره واجتناب نواهيه.
(جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً (1) وَالسَّمَاءَ بِنَاءً (2)
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً (3) فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ (4)
فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً (5) وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (6) (البقرة:21-22)
..✿.
..✿.
(1) أي جعلها فراشاً ومهاداً نستمتع فيها من غير مشقة
ولا تعب كما ينام الإنسان على فراشه.
(2) أي فوقنا لأن البناء يصير فوق السماء بناء
لأهل الأرض وهي سقف محفوظ كما قال الله تعالى
(وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ) (الأنبياء:32)
(3) أي أنزل من العلو من السحاب ماء طهوراً كما قال تعالى
(لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ)(النحل:الآية10) .
(4) أي عطاء لكم وفي آية أخرى
(مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ) (النازعـات:33)
(5) أي لا تجمعلوا لهذا الذي خلقكم ،
وخلق الذين من قبلكم ، وجعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء
وأنزل لكم من السماء ماء فأخرج به من الثمرات
رزقاً لكم لا تجعلوا له أنداداً تعبدونها كما تعبدون الله
أو تحبونها كما تحبون الله فإن ذلك غير لائق بكم
لا عقلاً ولا شرعاً.
(6) أي تعلمون أنه لا ند له وأنه بيده الخلق والرزق والتدبير
فلا تجعلوا له شريكاً في العبادة.
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى (1) _:
"الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة "
وأنواع العبادة التي أمر الله بها (2) :
مثل الإسلام، والإيمان،
(1) هو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر القرشي
الدمشقي الحافظ المشهور صاحب التفسير والتاريخ
من تلاميذ شيخ الإسلام بن تيمية توفي سنة أربع وسبعين وسبعمائة.
(2) لما بين المؤلف رحمه الله تعالى أن الواجب علينا
أن نعبد الله وحده لا شريك له ، بين فيما يأتي شيئاً
من أنواع العبادة فقال : وأنواع العبادة مثل الإسلام ،
والإيمان ، والإحسان.
وهذه الثلاثة الإسلام ، والإيمان ،
والإحسان هي الدين كما جاء ذلك فيما رواه مسلم
من حديث عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- قال:
"بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد
سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد
حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه
ووضع كفيه على فخذيه ، قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟
فقال؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام
أن تشهد أن لا إله إلا اله وأن محمداً رسول الله ،
وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ،
وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً . قال صدقت.
قال : فعجبنا له يسأله ويصدقه.
قال : فاخبرني عن الإيمان؟ قال أن تؤمن بالله ،
وملائكته، وكتبه، ورسله ، واليوم الآخر ،
وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت.
قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه
والإحسان؛ ومنه الدعاء ، والخوف ، والرجاء ،
والتوكل ، والرغبة ، والرهبة ، والخشوع ، والخشية ،
والإنابة ، والاستعانة ، والاستعاذة ، والاستغاثة ،
والذبح، والنذر ، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله
بها كلها لله تعالى (1) .
والدليل قوله تعالى(وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً)
(الجـن:18)
فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر ،
والدليل قوله تعالى
(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)
(المؤمنون:117)
فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
قال : فأخبرني عن الساعة؟
قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل.
قال فأخبرني عن إماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها ،
وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاه يتطاولون في البنيان،
ثم أنطلق فلبثت ملياً ثم قال لي ياعمر: أتدري من السائل؟
قلت الله ورسوله أعلم.
قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"(14)
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأشياء
هي الدين وذلك أنها متضمنة للدين كله.
(1) أي كل أنواع العبادة مما ذكر وغيره لله وحده
لا شريك له فلا يحل صرفها لغير الله تعالى:
(2) ذكر المؤلف رحمه الله تعالى جملة من أنواع العبادة
وذكر أن من صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر
واستدل بقوله تعالى: ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً)
وبقوله: ( ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما
حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون )
ووجه الدلالة من الآية الأولى أن الله تعالى
أخبر أن المساجد وهي مواضع السجود
أو أعضاء السجود لله ورتب على ذلك قوله:
( فلا تدعوا مع الله أحداً )
أي لا تعبدوا معه غيره فتسجدوا له ، ووجه الدلالة من الآية الثانية
بأن الله سبحانه وتعالى بين أن من يدعو مع الله إلها آخر
فإنه كافر لأنه قال : ( إنه لا يفلح الكافرون)
وفي قوله( لا برهان له به( إشارة إلى أنه لا يمكن
أن يكون برهان على تعدد الآلهة فهذه الصفة "
لا برهان له به " صفة كاشفة مبينة للأمر وليست صفة
مقيدة تخرج ما فيه برهان لأنه لا يمكن أن يكون برهان
على أن مع الله إلها آخر.
وفي الحديث: "الدعاء مخ العبادة" .
والدليل قوله تعالى(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)
(1) (غافر:60)
(1) هذا شروع من المؤلف رحمه الله تعالى
في أدلة أنواع العبادة
التي ذكرها في قوله: "وأنواع العبادة التي أمر الله
بها مثل الإسلام والإيمان والإحسان ومنه الدعاء . . " إلخ،
فبدأ رحمه الله بذكر الأدلة على الدعاء وسيأتي إن شاء الله
تفصيل أدلة الإسلام والإيمان والإحسان.
واستدل المؤلف رحمه الله بما يروى
عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
أنه قال : " الدعاء مخ العبادة (15)
واستدل كذلك بقوله تعالى:
(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:60)
فدلت الآية
ودليل الخوف قوله تعالى(فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (1) ،
(آل عمران:الآية175).
الكريمة على أن الدعاء من العبادة ولولا ذلك ما صح
أن يقال: ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون
جهنم داخرين ) فمن دعا غير الله عز وجل بشيء
لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك كافر سواء كان المدعو
حياً أو ميتاً . ومن دعا حياً بما يقدر عليه مثل
أن يقول يا فلان أطعمني ، يا فلان اسقني فلا شيء فيه ،
ومن دعا ميتاً أو غائباً بمثل هذا فإنه مشرك لأن الميت
أو الغائب لا يمكن أن يقوم بمثل هذا فدعاؤه إياه يدل
على أنه يعتقد أن له تصرفاً في الكون فيكون بذلك مشركاً.
واعلم أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة ودعاء عبادة.
فدعاء المسألة هو دعاء الطلب أي طلب الحاجات
وهو عبادة إذا كان من العبد لربه ، لأنه يتضمن
الافتقار إلى الله تعالى واللجوء إليه ،
واعتقاد أنه قادر كريم واسع الفضل والرحمة.
ويجوز إذا صدر من العبد لمثله من المخلوقين
إذا كان المدعو يعقل الدعاء ويقدر على الإجابة
كما سبق في قوله القائل يا فلان أطعمني.
وأما دعاء العبادة فأن يتعبد به للمدعو طلباً لثوابه
وخوفاً من عقابه وهذا لا يصح لغير الله وصرفه لغير الله
شرك أكبر مخرج عن الملة وعليه يقع الوعيد
في قوله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)
(غافر:الآية60) .
(1) الخوف هو الذعر وهو انفعال يحصل بتوقع
ما فيه هلاك أو ضرر أو أذى ، وقد نهى الله سبحانه وتعالى
عن خوف أولياء الشيطان وأمر بخوفه وحده.
ودليل الرجاء قوله تعالى(فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ
فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (1)
(الكهف:الآية110)
والخوف ثلاثة أنواع :
النوع الأولى: خوف طبيعي كخوف الإنسان من السبع
والنار والغرق وهذا لا يلام عليه العبد قال الله تعالى
عن موسى عليه الصلاة والسلام(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ )
(القصص:الآية18)
لكن إذا كان هذا الخوف كما
ذكر الشيخ رحمه الله سبباً لترك واجب أو فعل محرم كان حراماً ؛
لأن ما كان سبباً لترك واجب أو فعل محرم فهو حرام
ودليله قوله تعالى: (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
(آل عمران:الآية175) .
والخوف من الله تعالى يكون محموداً ،
ويكون غير محمود .
فالمحمود ما كانت غايته أن يحول بينك وبين معصية الله
بحيث يحملك على فعل الواجبات وترك المحرمات،
فإذا حصلت هذه الغاية سكن القلب واطمأن وغلب
عليه الفرح بنعمة الله، والرجاء لثوابه. وغير المحمود
ما يحمل العبد على اليأس من روح الله والقنوط وحينئذ
يتحسر العبد وينكمش وربما يتمادى في المعصية لقوة يأسه.
النوع الثاني: خوف العبادة أن يخاف أحداً يتعبد
بالخوف له فهذا لا يكون إلا لله تعالى.
وصرفه لغير الله تعالى شرك أكبر.
النوع الثالث: خوف السر كأن يخاف صاحب القبر ،
أو ولياً بعيداً عنه لا يؤثر فيه لكنه يخافه مخافة
سر فهذا أيضاً ذكره العلماء من الشرك.
(1) الرجاء طمع الإنسان في أمر قريب المنال،
وقد يكون في بعيد المنال
ودليل التوكل قوله تعالى(وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
(المائدة:الآية23) ،
وقال(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) (1) (الطلاق:الآية3).
تنزيلاً له منزلة القريب.
والرجاء المتضمن للذل والخضوع لا يكون إلا لله عز وجل
وصرفه لغير الله تعالى شرك إما اصغر ،
وإما أكبر بحسب ما يقوم بقلب الراجي .
وقد استدل المؤلف بقوله تعالى
(فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)
(الكهف:الآية110) .
واعلم أن الرجاء المحمود لا يكون إلا لمن عمل بطاعة الله
ورجا ثوابها، أو تاب من معصيته ورجا قبول توبته ،
فأما الرجاء بلا عمل فهو غرور وتمن مذموم.
(1) التوكل على الشيء الاعتماد عليه.
والتوكل على الله تعالى: الاعتماد على الله تعالى كفاية
وحسباً في جلب المنافع ودفع المضار وهو من تمام
الإيمان وعلاماته لقوله تعالى(وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدة:الآية23)
وإذا صدق العبد في اعتماده على الله تعالى كفاه الله تعالى
ما أهمه لقوله تعالى (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)
(الطلاق:الآية3)
أي كافيه ثم طمأن المتوكل بقوله(إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ )
(الطلاق:الآية3) .
فلا يعجزه شيء أراده.
وأعلم أن التوكل أنواع:
الأول: التوكل على الله تعالى وهو من تمام الإيمان
وعلامات صدقه
ودليل الرغبة (1) والرهبة -(2) والخشوع (3)
قوله تعالى: } إنهم كانوا يسارعون في الخيرات
ويدعوننا رغبا ورهباً وكانوا لنا خاشعين { (1)
{سورة الأنبياء، الآية: 90}.
ودليل الخشية قوله تعالى: } فلا تخشوهم واخشوني{
(2) {سورة البقرة، الآية: 150}
وهو واجب لا يتم الإيمان إلا به وسبق دليله.
الثاني: توكل السر بأن يعتمد على ميت في جلب منفعة ،
أو دفع مضرة فهذا شرك أكبر ؛ لأنه لا يقع إلا ممن
يعتقد أن لهذا الميت تصرفاً سرياً في الكون، ولا فر ق
بين أن يكون نبياً ، أو ولياً ، أو طاغوتاً عدوا لله تعالى.
الثالث: التوكل على الغير فيما يتصرف فيه الغير
مع الشعور بعلو مرتبته وانحطاط مرتبة المتوكل عنه مثل
أن يعتمد عليه في حصول المعاش ونحوه فهذا نوع من
الشرك الأصغر لقوة تعلق القلب به والاعتماد عليه.
أما لو اعتمد عليه على أنه سبب وأن الله تعالى
هو الذي قدر ذلك على يده فإن ذلك لا بأس به،
إذا كان للمتوكل عليه أثر صحيح في حصوله .
الرابع : التوكل على الغير فيما يتصرف فيه المتوكل
بحيث ينيب غيره في أمر تجوز فيه النيابة
فهذا لا بأس به بدلالة الكتاب، والسنة ، والإجماع
فقد قال يعقوب لبنيه (يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ)
(يوسف:الآية87)
ووكل النبي صلى الله عليه وسلم ،على الصدقة عمالاً وحفاظاً ،
ووكل في إثبات الحدود وإقامتها ، ووكل علي بن أبي طالب ر
ضي الله عنه في هديه في حجة الوداع أن يتصدق بجلودها
وجلالها ، وأن ينحر ما بقى من المئة بعد أن نحر
صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين.
وأما الإجماع على جواز ذلك فمعلوم من حيث الجملة.
(1) الرغبة : محبة الوصول إلى الشيء المحبوب.
(2) والرهبة: الخوف المثمر للهرب من المخوف فهي
خوف مقرون بعمل.
(3) الخشوع: الذل والتطامن لعظمة الله بحيث يستسلم
لقضائه الكوني والشرعي.
(1) في هذه الآية الكريمة وصف الله تعالى الخلص
من عباده بأنهم يدعون الله تعالى رغباً ورهباً مع الخشوع له،
والدعاء هنا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة ،
فهم يدعون الله رغبة فيما عنده وطمعاً في ثوابه مع خوفهم
من عقابه وآثار ذنوبهم ، والمؤمن ينبغي أن يسعى إلى الله تعالى
بين الخوف والرجاء، ويغلب الرجاء
في جانب الطاعة لينشط عليها ويؤمل قبولها ،
ويغلب الخوف إذا هم بالمعصية ليهرب منها وينجو من عقابها.
وقال بعض العلماء : يغلب جانب الرجاء في حال المرض
وجانب الخوف في حال الصحة؛ لأن المريض منكسر
ضعيف النفس وعسى أن يكون قد اقترب أجله فيموت
وهو يحسن الظن بالله عز وجل ، وفي حال الصحة
يكون نشيطاً مؤملاً طول البقاء فيحمله ذلك على الأشر
والبطر فيغلب جانب الخوف ليسلم من ذلك.
وقيل يكون رجاؤه وخوفه واحداً سواء لئلا يحمله
الرجاء على الأمن من مكر الله ، والخوف على اليأس
من رحمة الله تعالى وكلاهما قبيح مهلك لصاحبه .
(2) الخشية هي الخوف المبني على العلم بعظمة
من يخشاه وكمال سلطانه لقوله تعالى
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )(فاطر:الآية28)
أي العلماء بعظمته وكمال سلطانه فهي أخص من الخوف
ويتضح الفرق بينهما بالمثال فإذا خفت من شخص
لا تدري هل هو قادر عليك أم
ودليل الإنابة قوله تعالى
(وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) (1) (الزمر:الآية54).
لا فهذا خوف ، وإذا خفت من شخص تعلم أنه قادر
عليك فهذه خشية . ويقال في أقسام أحكام الخشية
ما يقال في أقسام أحكام الخوف.
(1) الإنابة الرجوع إلى الله تعالى بالقيام بطاعته
واجتناب معصيته وهي قريبة من معنى التوبة إلا أنها
أرق منها لما تشعر به من الاعتماد على الله واللجوء إليه
ولا تكون إلا لله تعالى ودليلها قوله تعالى
(وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ)(الزمر:الآية54).
والمراد بقوله تعالى: } وأسلموا له{ الإسلام الشرعي
وهو الاستسلام لأحكام الله الشرعية وذلك
أن الإسلام لله تعالى نوعان:
الأول: إسلام كوني وهو الاستسلام لحكمه الكوني
وهذا عام لكل من في السموات والأرض من مؤمن وكافر ،
وبر وفاجر لا يمكن لأحد أن يستكبر عنه
ودليله قوله تعالى(وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)(آل عمران:الآية83) .
الثاني: إسلام شرعي وهو الاستسلام لحكمه الشرعي
وهذا خاص بمن قام بطاعته من الرسل وأتباعهم بإحسان،
ودليله في القرآن كثير ومنه هذه الآية التي ذكرها المؤلف رحمه الله.
ودليل الاستعانة قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
(الفاتحة:5)وفي الحديث(16) " إذا استعنت فاستعن بالله"
(1) الاستعانة طلب العون وهي أنواع:
الأول: الاستعانة بالله وهي: الاستعانة المتضمنة
لكمال الذل من العبد لربه ، وتفويض الأمر إليه،
واعتقاد كفايته وهذه لا تكون إلا لله تعالى
ودليلها قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
ووجه الاختصاص أن الله تعالى قدم المعمول }إياك{
وقاعدة اللغة التي نزل بها القرآن أن تقديم ما حقه
التأخير يفيد الحصر والاختصاص،
وعلى هذا يكون صرف هذا النوع لغير الله تعالى
شركاً مخرجاً عن الملة.
الثاني: الاستعانة بالمخلوق على أمر يقدر عليه فهذه
على حسب المستعان عليه فإن كانت على بر فهي جائزة
للمستعين مشروعة للمعين لقوله تعالى(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)(المائدة:الآية2).
وإن كانت على إثم فهي حرام على المستعين والمعين
لقوله تعالى ( وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثم وَالْعُدْوَانِ )(المائدة:الآية2)
وإن كانت على مباح فهي جائزة للمستعين والمعين
لكن المعين قد يثاب على ذلك ثواب الإحسان إلى الغير
ومن ثم تكون في حقه مشروعة لقوله تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(البقرة:الآية195) .
الثالث: الاستعانة بمخلوق حي حاضر غير قادر فهذه لغو
لا طائل تحتها مثل أن يستعين بشخص ضعيف
على حمل شيء ثقيل.
ودليل الاستعاذة قوله تعالى(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) (الفلق:1).
، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (1) (الناس:1) .
الرابع: الاستعانة بالأموات مطلقاً أو بالأحياء على أمر غائب
لا يقدرون على مباشرته فهذا شرك لأنه لا يقع
إلا من شخص يعتقد أن لهؤلاء تصرفاً خفيا في الكون.
الخامس: الاستعانة بالأعمال والأحوال المحبوبة إلى الله تعالى
وهذه مشروعة بأمر الله تعالى في قوله(اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)
(البقرة:الآية153).
وقد استدل المؤلف رحمه الله تعالى للنوع الأول
بقوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5)
وقوله صلى الله عليه وسلم : "إذا استعنت فاستعن بالله".
(1) الاستعاذة : طلب الإعاذة،والإعاذة الحماية
من مكروه فالمستعيذ محتم بمن استعاذ به
ومعتصم به والاستعاذة أنواع:
الأول: الاستعاذة بالله تعالى وهي المتضمنة لكمال الافتقار إليه
والاعتصام به واعتقاد كفايته وتمام حمايته من كل شيء
حاضر أو مستقبل ، صغير أو كبير ، بشر أو غير بشر
ودليلها قوله تعالى(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ* مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)
(الفلق:2)إلى آخر السورة وقوله تعالى
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ*مَلِكِ النَّاسِ* إِلَهِ النَّاسِ*مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ)
(الناس:1-4) إلى آخر السورة.
الثاني: الاستعاذة بصفة من صفاته ككلامه وعظمته
وعزته ونحو ذلك ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :
"أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" (17)
وقوله : "أعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي"(18)
وقوله: في دعاء الألم
"أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" (19)،
وقوله: " أعوذ برضاك من سخطك" (20)،
وقوله صلى الله عليه وسلم حين نزل
قوله تعالى(قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ )(الأنعام:الآية65)
فقال: "أعوذ بوجهك"(21)
الثالث: الاستعاذة بالأموات أو الأحياء غير الحاضرين القادرين على العوذ فهذا شرك
ومنه قوله تعالى(وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإْنسِ يَعُوذُونَ
بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً) (الجـن:6)
الرابع: الاستعاذة بما يمكن العوذ به من المخلوقين من البشر
أو الأماكن أو غيرها فهذا جائز
ودليله قوله صلى الله عليه وسلم في ذكر الفتن :
"من تشرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذبه" (22)
متفق عليه وقد بين صلى الله عليه وسلم هذا الملجأ والمعاذ
بقوله: "فمن كان له إبل فليلحق بإبله" الحديث رواه مسلم،
وفي صحيحه أيضاً عن جابر رضي الله عنه أن امرأة
من بني مخزوم سرقت فأتي
ودليل الاستغاثة قوله تعالى(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ) (1)
(الأنفال:الآية9) .
..✿.
(1) أي جعلها فراشاً ومهاداً نستمتع فيها من غير مشقة
ولا تعب كما ينام الإنسان على فراشه.
(2) أي فوقنا لأن البناء يصير فوق السماء بناء
لأهل الأرض وهي سقف محفوظ كما قال الله تعالى
(وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ) (الأنبياء:32)
(3) أي أنزل من العلو من السحاب ماء طهوراً كما قال تعالى
(لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ)(النحل:الآية10) .
(4) أي عطاء لكم وفي آية أخرى
(مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ) (النازعـات:33)
(5) أي لا تجمعلوا لهذا الذي خلقكم ،
وخلق الذين من قبلكم ، وجعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء
وأنزل لكم من السماء ماء فأخرج به من الثمرات
رزقاً لكم لا تجعلوا له أنداداً تعبدونها كما تعبدون الله
أو تحبونها كما تحبون الله فإن ذلك غير لائق بكم
لا عقلاً ولا شرعاً.
(6) أي تعلمون أنه لا ند له وأنه بيده الخلق والرزق والتدبير
فلا تجعلوا له شريكاً في العبادة.
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى (1) _:
"الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة "
وأنواع العبادة التي أمر الله بها (2) :
مثل الإسلام، والإيمان،
(1) هو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر القرشي
الدمشقي الحافظ المشهور صاحب التفسير والتاريخ
من تلاميذ شيخ الإسلام بن تيمية توفي سنة أربع وسبعين وسبعمائة.
(2) لما بين المؤلف رحمه الله تعالى أن الواجب علينا
أن نعبد الله وحده لا شريك له ، بين فيما يأتي شيئاً
من أنواع العبادة فقال : وأنواع العبادة مثل الإسلام ،
والإيمان ، والإحسان.
وهذه الثلاثة الإسلام ، والإيمان ،
والإحسان هي الدين كما جاء ذلك فيما رواه مسلم
من حديث عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- قال:
"بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد
سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد
حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه
ووضع كفيه على فخذيه ، قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟
فقال؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام
أن تشهد أن لا إله إلا اله وأن محمداً رسول الله ،
وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ،
وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً . قال صدقت.
قال : فعجبنا له يسأله ويصدقه.
قال : فاخبرني عن الإيمان؟ قال أن تؤمن بالله ،
وملائكته، وكتبه، ورسله ، واليوم الآخر ،
وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت.
قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه
والإحسان؛ ومنه الدعاء ، والخوف ، والرجاء ،
والتوكل ، والرغبة ، والرهبة ، والخشوع ، والخشية ،
والإنابة ، والاستعانة ، والاستعاذة ، والاستغاثة ،
والذبح، والنذر ، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله
بها كلها لله تعالى (1) .
والدليل قوله تعالى(وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً)
(الجـن:18)
فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر ،
والدليل قوله تعالى
(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)
(المؤمنون:117)
فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
قال : فأخبرني عن الساعة؟
قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل.
قال فأخبرني عن إماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها ،
وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاه يتطاولون في البنيان،
ثم أنطلق فلبثت ملياً ثم قال لي ياعمر: أتدري من السائل؟
قلت الله ورسوله أعلم.
قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"(14)
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأشياء
هي الدين وذلك أنها متضمنة للدين كله.
(1) أي كل أنواع العبادة مما ذكر وغيره لله وحده
لا شريك له فلا يحل صرفها لغير الله تعالى:
(2) ذكر المؤلف رحمه الله تعالى جملة من أنواع العبادة
وذكر أن من صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر
واستدل بقوله تعالى: ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً)
وبقوله: ( ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما
حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون )
ووجه الدلالة من الآية الأولى أن الله تعالى
أخبر أن المساجد وهي مواضع السجود
أو أعضاء السجود لله ورتب على ذلك قوله:
( فلا تدعوا مع الله أحداً )
أي لا تعبدوا معه غيره فتسجدوا له ، ووجه الدلالة من الآية الثانية
بأن الله سبحانه وتعالى بين أن من يدعو مع الله إلها آخر
فإنه كافر لأنه قال : ( إنه لا يفلح الكافرون)
وفي قوله( لا برهان له به( إشارة إلى أنه لا يمكن
أن يكون برهان على تعدد الآلهة فهذه الصفة "
لا برهان له به " صفة كاشفة مبينة للأمر وليست صفة
مقيدة تخرج ما فيه برهان لأنه لا يمكن أن يكون برهان
على أن مع الله إلها آخر.
وفي الحديث: "الدعاء مخ العبادة" .
والدليل قوله تعالى(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)
(1) (غافر:60)
(1) هذا شروع من المؤلف رحمه الله تعالى
في أدلة أنواع العبادة
التي ذكرها في قوله: "وأنواع العبادة التي أمر الله
بها مثل الإسلام والإيمان والإحسان ومنه الدعاء . . " إلخ،
فبدأ رحمه الله بذكر الأدلة على الدعاء وسيأتي إن شاء الله
تفصيل أدلة الإسلام والإيمان والإحسان.
واستدل المؤلف رحمه الله بما يروى
عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
أنه قال : " الدعاء مخ العبادة (15)
واستدل كذلك بقوله تعالى:
(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:60)
فدلت الآية
ودليل الخوف قوله تعالى(فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (1) ،
(آل عمران:الآية175).
الكريمة على أن الدعاء من العبادة ولولا ذلك ما صح
أن يقال: ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون
جهنم داخرين ) فمن دعا غير الله عز وجل بشيء
لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك كافر سواء كان المدعو
حياً أو ميتاً . ومن دعا حياً بما يقدر عليه مثل
أن يقول يا فلان أطعمني ، يا فلان اسقني فلا شيء فيه ،
ومن دعا ميتاً أو غائباً بمثل هذا فإنه مشرك لأن الميت
أو الغائب لا يمكن أن يقوم بمثل هذا فدعاؤه إياه يدل
على أنه يعتقد أن له تصرفاً في الكون فيكون بذلك مشركاً.
واعلم أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة ودعاء عبادة.
فدعاء المسألة هو دعاء الطلب أي طلب الحاجات
وهو عبادة إذا كان من العبد لربه ، لأنه يتضمن
الافتقار إلى الله تعالى واللجوء إليه ،
واعتقاد أنه قادر كريم واسع الفضل والرحمة.
ويجوز إذا صدر من العبد لمثله من المخلوقين
إذا كان المدعو يعقل الدعاء ويقدر على الإجابة
كما سبق في قوله القائل يا فلان أطعمني.
وأما دعاء العبادة فأن يتعبد به للمدعو طلباً لثوابه
وخوفاً من عقابه وهذا لا يصح لغير الله وصرفه لغير الله
شرك أكبر مخرج عن الملة وعليه يقع الوعيد
في قوله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)
(غافر:الآية60) .
(1) الخوف هو الذعر وهو انفعال يحصل بتوقع
ما فيه هلاك أو ضرر أو أذى ، وقد نهى الله سبحانه وتعالى
عن خوف أولياء الشيطان وأمر بخوفه وحده.
ودليل الرجاء قوله تعالى(فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ
فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (1)
(الكهف:الآية110)
والخوف ثلاثة أنواع :
النوع الأولى: خوف طبيعي كخوف الإنسان من السبع
والنار والغرق وهذا لا يلام عليه العبد قال الله تعالى
عن موسى عليه الصلاة والسلام(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ )
(القصص:الآية18)
لكن إذا كان هذا الخوف كما
ذكر الشيخ رحمه الله سبباً لترك واجب أو فعل محرم كان حراماً ؛
لأن ما كان سبباً لترك واجب أو فعل محرم فهو حرام
ودليله قوله تعالى: (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
(آل عمران:الآية175) .
والخوف من الله تعالى يكون محموداً ،
ويكون غير محمود .
فالمحمود ما كانت غايته أن يحول بينك وبين معصية الله
بحيث يحملك على فعل الواجبات وترك المحرمات،
فإذا حصلت هذه الغاية سكن القلب واطمأن وغلب
عليه الفرح بنعمة الله، والرجاء لثوابه. وغير المحمود
ما يحمل العبد على اليأس من روح الله والقنوط وحينئذ
يتحسر العبد وينكمش وربما يتمادى في المعصية لقوة يأسه.
النوع الثاني: خوف العبادة أن يخاف أحداً يتعبد
بالخوف له فهذا لا يكون إلا لله تعالى.
وصرفه لغير الله تعالى شرك أكبر.
النوع الثالث: خوف السر كأن يخاف صاحب القبر ،
أو ولياً بعيداً عنه لا يؤثر فيه لكنه يخافه مخافة
سر فهذا أيضاً ذكره العلماء من الشرك.
(1) الرجاء طمع الإنسان في أمر قريب المنال،
وقد يكون في بعيد المنال
ودليل التوكل قوله تعالى(وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
(المائدة:الآية23) ،
وقال(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) (1) (الطلاق:الآية3).
تنزيلاً له منزلة القريب.
والرجاء المتضمن للذل والخضوع لا يكون إلا لله عز وجل
وصرفه لغير الله تعالى شرك إما اصغر ،
وإما أكبر بحسب ما يقوم بقلب الراجي .
وقد استدل المؤلف بقوله تعالى
(فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)
(الكهف:الآية110) .
واعلم أن الرجاء المحمود لا يكون إلا لمن عمل بطاعة الله
ورجا ثوابها، أو تاب من معصيته ورجا قبول توبته ،
فأما الرجاء بلا عمل فهو غرور وتمن مذموم.
(1) التوكل على الشيء الاعتماد عليه.
والتوكل على الله تعالى: الاعتماد على الله تعالى كفاية
وحسباً في جلب المنافع ودفع المضار وهو من تمام
الإيمان وعلاماته لقوله تعالى(وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدة:الآية23)
وإذا صدق العبد في اعتماده على الله تعالى كفاه الله تعالى
ما أهمه لقوله تعالى (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)
(الطلاق:الآية3)
أي كافيه ثم طمأن المتوكل بقوله(إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ )
(الطلاق:الآية3) .
فلا يعجزه شيء أراده.
وأعلم أن التوكل أنواع:
الأول: التوكل على الله تعالى وهو من تمام الإيمان
وعلامات صدقه
ودليل الرغبة (1) والرهبة -(2) والخشوع (3)
قوله تعالى: } إنهم كانوا يسارعون في الخيرات
ويدعوننا رغبا ورهباً وكانوا لنا خاشعين { (1)
{سورة الأنبياء، الآية: 90}.
ودليل الخشية قوله تعالى: } فلا تخشوهم واخشوني{
(2) {سورة البقرة، الآية: 150}
وهو واجب لا يتم الإيمان إلا به وسبق دليله.
الثاني: توكل السر بأن يعتمد على ميت في جلب منفعة ،
أو دفع مضرة فهذا شرك أكبر ؛ لأنه لا يقع إلا ممن
يعتقد أن لهذا الميت تصرفاً سرياً في الكون، ولا فر ق
بين أن يكون نبياً ، أو ولياً ، أو طاغوتاً عدوا لله تعالى.
الثالث: التوكل على الغير فيما يتصرف فيه الغير
مع الشعور بعلو مرتبته وانحطاط مرتبة المتوكل عنه مثل
أن يعتمد عليه في حصول المعاش ونحوه فهذا نوع من
الشرك الأصغر لقوة تعلق القلب به والاعتماد عليه.
أما لو اعتمد عليه على أنه سبب وأن الله تعالى
هو الذي قدر ذلك على يده فإن ذلك لا بأس به،
إذا كان للمتوكل عليه أثر صحيح في حصوله .
الرابع : التوكل على الغير فيما يتصرف فيه المتوكل
بحيث ينيب غيره في أمر تجوز فيه النيابة
فهذا لا بأس به بدلالة الكتاب، والسنة ، والإجماع
فقد قال يعقوب لبنيه (يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ)
(يوسف:الآية87)
ووكل النبي صلى الله عليه وسلم ،على الصدقة عمالاً وحفاظاً ،
ووكل في إثبات الحدود وإقامتها ، ووكل علي بن أبي طالب ر
ضي الله عنه في هديه في حجة الوداع أن يتصدق بجلودها
وجلالها ، وأن ينحر ما بقى من المئة بعد أن نحر
صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين.
وأما الإجماع على جواز ذلك فمعلوم من حيث الجملة.
(1) الرغبة : محبة الوصول إلى الشيء المحبوب.
(2) والرهبة: الخوف المثمر للهرب من المخوف فهي
خوف مقرون بعمل.
(3) الخشوع: الذل والتطامن لعظمة الله بحيث يستسلم
لقضائه الكوني والشرعي.
(1) في هذه الآية الكريمة وصف الله تعالى الخلص
من عباده بأنهم يدعون الله تعالى رغباً ورهباً مع الخشوع له،
والدعاء هنا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة ،
فهم يدعون الله رغبة فيما عنده وطمعاً في ثوابه مع خوفهم
من عقابه وآثار ذنوبهم ، والمؤمن ينبغي أن يسعى إلى الله تعالى
بين الخوف والرجاء، ويغلب الرجاء
في جانب الطاعة لينشط عليها ويؤمل قبولها ،
ويغلب الخوف إذا هم بالمعصية ليهرب منها وينجو من عقابها.
وقال بعض العلماء : يغلب جانب الرجاء في حال المرض
وجانب الخوف في حال الصحة؛ لأن المريض منكسر
ضعيف النفس وعسى أن يكون قد اقترب أجله فيموت
وهو يحسن الظن بالله عز وجل ، وفي حال الصحة
يكون نشيطاً مؤملاً طول البقاء فيحمله ذلك على الأشر
والبطر فيغلب جانب الخوف ليسلم من ذلك.
وقيل يكون رجاؤه وخوفه واحداً سواء لئلا يحمله
الرجاء على الأمن من مكر الله ، والخوف على اليأس
من رحمة الله تعالى وكلاهما قبيح مهلك لصاحبه .
(2) الخشية هي الخوف المبني على العلم بعظمة
من يخشاه وكمال سلطانه لقوله تعالى
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )(فاطر:الآية28)
أي العلماء بعظمته وكمال سلطانه فهي أخص من الخوف
ويتضح الفرق بينهما بالمثال فإذا خفت من شخص
لا تدري هل هو قادر عليك أم
ودليل الإنابة قوله تعالى
(وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) (1) (الزمر:الآية54).
لا فهذا خوف ، وإذا خفت من شخص تعلم أنه قادر
عليك فهذه خشية . ويقال في أقسام أحكام الخشية
ما يقال في أقسام أحكام الخوف.
(1) الإنابة الرجوع إلى الله تعالى بالقيام بطاعته
واجتناب معصيته وهي قريبة من معنى التوبة إلا أنها
أرق منها لما تشعر به من الاعتماد على الله واللجوء إليه
ولا تكون إلا لله تعالى ودليلها قوله تعالى
(وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ)(الزمر:الآية54).
والمراد بقوله تعالى: } وأسلموا له{ الإسلام الشرعي
وهو الاستسلام لأحكام الله الشرعية وذلك
أن الإسلام لله تعالى نوعان:
الأول: إسلام كوني وهو الاستسلام لحكمه الكوني
وهذا عام لكل من في السموات والأرض من مؤمن وكافر ،
وبر وفاجر لا يمكن لأحد أن يستكبر عنه
ودليله قوله تعالى(وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)(آل عمران:الآية83) .
الثاني: إسلام شرعي وهو الاستسلام لحكمه الشرعي
وهذا خاص بمن قام بطاعته من الرسل وأتباعهم بإحسان،
ودليله في القرآن كثير ومنه هذه الآية التي ذكرها المؤلف رحمه الله.
ودليل الاستعانة قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
(الفاتحة:5)وفي الحديث(16) " إذا استعنت فاستعن بالله"
(1) الاستعانة طلب العون وهي أنواع:
الأول: الاستعانة بالله وهي: الاستعانة المتضمنة
لكمال الذل من العبد لربه ، وتفويض الأمر إليه،
واعتقاد كفايته وهذه لا تكون إلا لله تعالى
ودليلها قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
ووجه الاختصاص أن الله تعالى قدم المعمول }إياك{
وقاعدة اللغة التي نزل بها القرآن أن تقديم ما حقه
التأخير يفيد الحصر والاختصاص،
وعلى هذا يكون صرف هذا النوع لغير الله تعالى
شركاً مخرجاً عن الملة.
الثاني: الاستعانة بالمخلوق على أمر يقدر عليه فهذه
على حسب المستعان عليه فإن كانت على بر فهي جائزة
للمستعين مشروعة للمعين لقوله تعالى(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)(المائدة:الآية2).
وإن كانت على إثم فهي حرام على المستعين والمعين
لقوله تعالى ( وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثم وَالْعُدْوَانِ )(المائدة:الآية2)
وإن كانت على مباح فهي جائزة للمستعين والمعين
لكن المعين قد يثاب على ذلك ثواب الإحسان إلى الغير
ومن ثم تكون في حقه مشروعة لقوله تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(البقرة:الآية195) .
الثالث: الاستعانة بمخلوق حي حاضر غير قادر فهذه لغو
لا طائل تحتها مثل أن يستعين بشخص ضعيف
على حمل شيء ثقيل.
ودليل الاستعاذة قوله تعالى(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) (الفلق:1).
، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (1) (الناس:1) .
الرابع: الاستعانة بالأموات مطلقاً أو بالأحياء على أمر غائب
لا يقدرون على مباشرته فهذا شرك لأنه لا يقع
إلا من شخص يعتقد أن لهؤلاء تصرفاً خفيا في الكون.
الخامس: الاستعانة بالأعمال والأحوال المحبوبة إلى الله تعالى
وهذه مشروعة بأمر الله تعالى في قوله(اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)
(البقرة:الآية153).
وقد استدل المؤلف رحمه الله تعالى للنوع الأول
بقوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5)
وقوله صلى الله عليه وسلم : "إذا استعنت فاستعن بالله".
(1) الاستعاذة : طلب الإعاذة،والإعاذة الحماية
من مكروه فالمستعيذ محتم بمن استعاذ به
ومعتصم به والاستعاذة أنواع:
الأول: الاستعاذة بالله تعالى وهي المتضمنة لكمال الافتقار إليه
والاعتصام به واعتقاد كفايته وتمام حمايته من كل شيء
حاضر أو مستقبل ، صغير أو كبير ، بشر أو غير بشر
ودليلها قوله تعالى(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ* مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)
(الفلق:2)إلى آخر السورة وقوله تعالى
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ*مَلِكِ النَّاسِ* إِلَهِ النَّاسِ*مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ)
(الناس:1-4) إلى آخر السورة.
الثاني: الاستعاذة بصفة من صفاته ككلامه وعظمته
وعزته ونحو ذلك ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :
"أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" (17)
وقوله : "أعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي"(18)
وقوله: في دعاء الألم
"أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" (19)،
وقوله: " أعوذ برضاك من سخطك" (20)،
وقوله صلى الله عليه وسلم حين نزل
قوله تعالى(قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ )(الأنعام:الآية65)
فقال: "أعوذ بوجهك"(21)
الثالث: الاستعاذة بالأموات أو الأحياء غير الحاضرين القادرين على العوذ فهذا شرك
ومنه قوله تعالى(وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإْنسِ يَعُوذُونَ
بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً) (الجـن:6)
الرابع: الاستعاذة بما يمكن العوذ به من المخلوقين من البشر
أو الأماكن أو غيرها فهذا جائز
ودليله قوله صلى الله عليه وسلم في ذكر الفتن :
"من تشرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذبه" (22)
متفق عليه وقد بين صلى الله عليه وسلم هذا الملجأ والمعاذ
بقوله: "فمن كان له إبل فليلحق بإبله" الحديث رواه مسلم،
وفي صحيحه أيضاً عن جابر رضي الله عنه أن امرأة
من بني مخزوم سرقت فأتي
ودليل الاستغاثة قوله تعالى(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ) (1)
(الأنفال:الآية9) .
..✿.
الصفحة الأخيرة
فالضروري ما يكون إدراك المعلوم فيه ضرورياً
بحيث يضطر إليه من غير نظر ولا استدلال كالعلم بأن النار حارة مثلاً.
والنظري ما يحتاج إلى نظر واستدلال كالعلم بوجوب النية في الوضوء.
(1) رحمك الله أفاض عليك من رحمته التي تحصل بها
على مطلوبك وتنجو من محذورك ، فالمعنى غفر الله لك ما مضى
من ذنوبك ، ووفقك وعصمك فيما يستقبل منها هذا
إذا أفردت الرحمة أما إذا قرنت بالمغفرة فالمغفرة
لما مضى من الذنوب، والرحمة والتوفيق للخير
والسلامة من الذنوب في المستقبل.
وصنيع المؤلف رحمه الله تعالى يدل على عنايته وشفقته
بالمخاطب وقصد الخير له.
(2) هذه المسائل التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى
تشمل الدين كله فهي جديرة بالعناية لعظم نفعها.
(3) أي معرفة الله عز وجل بالقلب معرفة تستلزم
قبول ما شرعه والإذعان والانقياد له، وتحكيم شريعته
التي جاء بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ،
ويتعرف العبد على ربه بالنظر في الآيات الشرعية
في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
والنظر في الآيات الكونية التي هي المخلوقات ، فإن الإنسان كلما نظر في تلك الآيات
ازداد علماً بخالقه ومعبوده قال الله عز وجل
(وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ *وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)
(الذاريات:20-21)
ومعرفة نبيه (1) ومعرفة دين الإسلام(2)
(1) أي معرفة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم المعرفة
التي تستلزم قبول ما جاء به من الهدى ودين الحق،
وتصديقه فيما أخبر، وامتثال أمره فيما أمر ، واجتناب
ما نهى عنه وزجر، وتحكيم شريعته والرضا بحكمه
قال الله عز وجل
(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)
(النساء:65) .
وقال تعالى(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
(النور:51)
. وقال تعالى (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)
(النساء:الآية59)
وقال عز وجل
(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ
أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
(النور:الآية63)
قال الإمام أحمد رحمه الله: "أتدري ما الفتنة؟
الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه
شيء من الزيغ فيهلك".
(2) قوله معرفة دين الإسلام: الإسلام بالمعنى العام
هو التعبد لله بما شرع منذ أن أرسل الله الرسل إلى
أن تقوم الساعة كما ذكر عز وجل ذلك في آيات كثيرة
تدل على أن الشرائع السابقة كلها إسلام لله عز وجل
قال الله تعالى عن إبراهيم
(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ
وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)
(البقرة:12)
والإسلام بالمعنى الخاص بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم
يختص بما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم
لأن ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم نسخ
جميع الأديان السابقة فصار من أتبعه مسلماً ومن خالفه ليس بمسلم ،
فأتباع الرسل مسلمون في زمن رسلهم ،
بالأدلة(1)
فاليهود مسلمون في زمن موسى صلى الله عليه وسلم
والنصارى مسلمون في زمن عيسى صلى الله عليه وسلم ،
وأما حين بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم
فكفروا به فليسوا بمسلمين.
وهذا الدين الإسلامي هو الدين المقبول عند الله النافع
لصاحبه قال الله عز وجل
(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام )
(آل عمران:الآية19)
وقال(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
(آل عمران:85)
وهذا الإسلام هو الإسلام الذي امتن به على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ،
قال الله تعالى
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً )
(المائدة:الآية3)
(1) قوله: بالأدلة جمع دليل وهو ما يرشد إلى المطلوب ،
والأدلة على معرفة ذلك سمعية ، وعقلية ،
فالسمعية ما ثبت بالوحي وهو الكتاب والسنة،
والعقلية ما ثبت بالنظر والتأمل ، وقد أكثر الله عز وجل
من ذكر هذا النوع في كتابه فكم من آية قال الله فيها
ومن آياته كذا وكذا وهكذا يكون سياق الأدلة العقلية
الدالة على الله تعالى.
وأما معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بالأدلة السمعية
فمثل قوله تعالى(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ)
(الفتح:الآية29) الآية.
وقوله (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل)
(آل عمران:الآية144).
بالأدلة العقلية بالنظر والتأمل فيما أتى به من الآيات
البينات التي أعظمها كتاب الله عز وجل المشتمل
على الأخبار الصادقة النافعة والأحكام المصلحة العادلة،
وما جرى على يديه من خوارق العادات ، وما أخبر به من أمور الغيب
التي لا تصدر إلا عن وحي والتي صدقها ما وقع منها.
الثانية العمل به (1) الثالثة: الدعوة إليه(2)
(1) قوله العمل به أي العمل بما تقتضيه هذه المعرفة
من الإيمان بالله والقيام بطاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه من العبادات الخاصة ،
والعبادات المتعدية، فالعبادات الخاصة مثل الصلاة ،
والصوم ، والحج ، والعبادات المتعدية كالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله وما أشبه ذلك.
والعمل في الحقيقة هو ثمرة العلم ، فمن عمل بلا علم
فقد شابه النصارى، ومن علم ولم يعمل فقد شابه اليهود.
(2)أي الدعوة إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من شريعة الله تعالى على مراتبها الثلاث
أو الأربع التي ذكرها الله عز وجل
في قوله (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ )
(النحل:الآية125)
والرابعة قوله(وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ )
(العنكبوت:الآية46).
ولا بد لهذه الدعوة من علم بشريعة الله عز وجل
حتى تكون الدعوة عن علم وبصيرة .
لقوله تعالى
(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
(يوسف:108) .
والبصيرة تكون فيما يدعو إليه بأن يكون الداعية عالماً
بالحكم الشرعي، وفي كيفية الدعوة، وفي حال المدعو.
ومجالات الدعوة كثيرة منها: الدعوة إلى الله تعالى بالخطابة ، وإلقاء المحاضرات،
ومنها الدعوة إلى الله بالمقالات ، ومنها الدعوة إلى الله بحلقات العلم ،
ومنها الدعوة إلى الله بالتأليف ونشر الدين عن طريق التأليف.
ومنها الدعوة إلى الله في المجالس الخاصة
فإذا جلس الإنسان في مجلس في دعوة مثلاً
فهذا مجال للدعوة إلى الله عز وجل ولكن ينبغي أن تكون
على وجه لا ملل فيه ولا إثقال، ويحصل هذا
بأن يعرض الداعية مسألة علمية على الجالسين
ثم تبتدئ المناقشة ومعلوم أن المناقشة والسؤال
والجواب له دور كبير في فهم ما أنزل الله على رسوله وتفهيمه،
وقد يكون أكثر فعالية من إلقاء خطبة
أو محاضرة إلقاء مرسلاً كما هو معلوم.
والدعوة إلى الله عز وجل هي وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام
وطريقة من تبعهم بإحسان، فإذا عرف الإنسان معبوده ،
ونبيه ، ودينه ومنَّ الله عليه بالتوفيق لذلك فإن عليه السعي
في إنقاذ إخوانه بدعوتهم إلى الله عز وجل وليبشر بالخير
، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبى طالب رضي الله عنه
يوم خيبر: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ،
وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه ،
فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من حمر النعم"(2)
متفق على صحته.
ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم :
"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه
لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ،
ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه
لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً"(3).
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم أيضاً:
"من دل على خير فله مثل أجر فاعله(4).
الرابعة: الصبر على الأذى فيه (1)
..✿.