شـــــكوى إلى الســــــــــماء ــ قصة لوالدى

الأدب النبطي والفصيح



شــــــكوى إلى الســـــــماء


قصة محمود البــــدوى

ذهبت " نعيمة " إلى قسم البوليس لأول مرة فى حياتها .. وكانت قد قطعت المسافة من بيتها إلى القسم مشيا على الأقدام ، وهى تحمل طفلها الصغير ، فى جو خانق بالحرارة والغبار ..

ودخلت باب القسم خائفة تتوجس .. وكانت هناك حركة مستمرة فى الداخل وصياح وأناس يضربون على أقفيتهم ووجوههم ، وعربة واقفة على الباب وحولها جنود مسلحون ..

وكان بالعربة امرأتان وخمسة رجال وبعض الغلمان ، وكانوا سيرحلون جميعا إلى السجن العمومى .. وعندما وقع نظر نعيمة على المرأتين وحولهما الحراس ارتجفت ، وتخيلت أنها ستلقى نفس المصير .

وكانت قد تلقت فى الصباح ورقة صغيرة من شيخ الحارة بدعوتها إلى القسم .. وكانت هذه الورقة بيدها وهى داخلة ، وأمسكت بها كشىء ثمين تعتز به ، ثم قدمتها لأحد العساكر فأشار بيده فى غلظة دون أن يقرأ الورقة إلى باب على اليمين ..

فدخلت ووجدت نفسها أمام رجل بدين فى رتبة جاويش عابس الوجه ، مغبر السحنة ، وكان يجلس إلى مكتب صغير قد تبعثرت عليه الأوراق وأمامه نفر من الناس واقفون فى استكانة وقلق ، وكان يتحدث مع شخص من هؤلاء بصوت عال خشن .. فلم يلق باله إلى نعيمة وهى منزوية بجوار المكتب ذليلة منكسرة ..

ولاحظ وجودها ، فنظر إليها نظرة سريعة ثم نكس رأسه على الأوراق ، ولما فرغ من التحقيق وصرف الواقفين أمامه ، سألها بصوت ارتجفت له :
ـ نعم .. فيه حاجة ؟
فقدمت له الورقة بيد ترتعش دون أن تنبس
ـ أنت الست نعيمة ؟ .. تفضلى ..
وغير من لهجته وخشونته وقدم لها كرسيا .
وجلست ونظرها على الأوراق التى يقلبها بين يديه
ـ ما الذى تريدينه فى هذه الشكوى ..؟
ـ اما النقود .. أو الحبس .. ما دام طلقنى .. أنا مسكينة وليس لى فى الدنيا غير ربنا ..
ـ وكيف نعثر عليه ؟.. أنت تعرفين أنه مجرم ، مرة فى الإسكندرية ، ومرة فى الإسماعيلية ..
ـ انه الآن فى بيته .. اصنع معروفا .. أنا مسكينة ..
ـ حاضر .. سأساعدك .. هاتى الختم ..
وأخذ يكتب شيئا كان قد أعده فى ذهنه .. ولذلك كتب سريعا .. وتناول منها الختم وختم ..
وقال :
ـ اتفضلى .. انتهينا ..
وانصرفت وهى تدعو له ..

***

وكانت تنتظر شيئا سريعا عاجلا ينقذها من محنتها ويخفف عنها بلوى فقرها .. ولكن مضى أسبوع وشهر .. وشهر آخر ولم تتلق شيئا .

فعادت إلى شيخ الحارة .. وإلى مركز البوليس .. وإلى من تقابله من الموظفين فى المحافظة وكانوا جميعا يهزون أكتافهم ويقولون لها :
ـ الورق مشى من عندنا ..

وأخيرا عثرت على الأوراق فى ركن فى المحافظة .. وسألها الموظف :
ـ ما الذى تريدينه .. لقد تنازلت عن حقك قبل زوجك .. تنازلت عن النفقة وعن كل شىء .. اليس هذا ختمك ..؟!
ـ أنا .. أنا ..؟
وكادت المسكينة تجن .

لقد استغل الجاويش فى القسم فرصة جهلها وبساطتها وكتب هذا التنازل بعد أن اتفق مع زوجها على هذا ..

وأخذ بها الغيظ والحنق كل مأخذ .. وخرجت إلى الطريق شاردة بائسة .

وقالوا لها اكتبى عريضة للمحافظ .. وللمأمور .. فكتبت .. وكتبت فى كل يوم ، كانت تكتب مظلمة ، وكانت تنتظر الرد والخلاص من محنتها ، ولكن لم يرد عليها أحد ، ولم يسأل عنها انسان .

وضاقت بها سبل العيش ، وكادت تموت هى وطفلها جوعا .

وكانت تمضى الليل وهى تبكى وتنتفض من البرد ، ومن الجوع ، ومن الخوف .. الخوف من المجهول ، ومن البشر ، ومن كل ما يخبئه لها القدر .

وكان الجوع يمزق أحشاءها .. وكانت تبيع كل ما تملك لتطعم طفلها الصغير ، فلما نفد كل ما عندها ولم يعد هناك شىء تبيعه طار عقلها من الفزع لمجرد تصورها أن الطفل سيموت جوعا .

ووقع بالفعل ما كانت تخشاه .. فقد مضى يوم كامل على الطفل ولم يأكل فى خلاله شيئا .. وكان يعوى وأحشاؤه تتمزق من الصباح .. وأخيرا رحمه الله ونام بعد منتصف الليل ، وظلت هى ساهرة بجواره تفكر وتدبر .. حتى أصبحت وهى أتعس مخلوقة على ظهر الأرض ، ووجدت أنها لو ظلت فى البيت دقيقة بعد ذلك ستجن من القلق والأفكار السوداء ، فتركت الطفل نائما ..

وخرجت فى بكرة الصبح ، ومشت فى الشوارع الساكنة حتى اقتربت من ميدان السيدة .. ولازت بالمسجد .. ورأت أناسا يخرجون من المسجد بعد الصلاة .. ونساء واقفات على الباب وحول الجدار .. وأيديهن ممدودة .. ورأت النقود توضع فى هذه الأيدى الممدودة فى صمت وهدوء وفى غفلة من الناس المشغولين بشئون معاشهم فى هذه المدينة الكبيرة .

ومر برأسها خاطر فى مثل خطف البرق .. ماذا لو غطت وجهها ومدت يدها وأخذت قرشا من انسان لتطعم به طفلها الذى سيموت اليوم حتما ان لم يطعم .. قرش واحد ليس إلا ..

وترقرت فى عينيها الدموع واحتبست أنفاسها واشتدت ضربات قلبها .. وبحركة لاشعورية مدت يدها .. وخيل اليها أنها ظلت دهرا كاملا ويدها هكذا ممدودة للناس .. وخيم سكون مطبق قطع صلتها بالوجود كله .. بالناس وبالضجيج الصاخب الذى أخذ يعج به الميدان ..

وغامت عيناها وجف حلقها .. وأخيرا سمعت صوتا آتيا من بعيد ..
ـ يظهر أنك مسكينة يا بنتى ..
ورفعت وجهها ووجدت رجلا يلبس حلة أنيقة وينظر إليها طويلا
ـ لماذا تستجدين ..؟
ـ لأطعم طفلى ..
ـ تعال يا بنتى .. اشتغلى عندى .. وأنا أكفيك هذا السؤال .. ونظرت إليه طويلا ولم تنبس ..

وأخذ الرجل يطيل إليها النظر فى اشتهاء الذئب لحم فريسته .. ثم قال :
ـ أنت خائفة .. أنا متزوج وعندى أولاد تعالى أريك الست فى البيت

ومـع هذا رفضت .. فمضى فى سبيله دون أن يعطيها شيئا ..

***

وقضت وقتا طويلا بجوار المسجد وهى تمد يدها ولا أحد يعطيها أى شىء .. وكان كل من يراها من الشبان والرجال ينظر إليها فى اشتهاء دون أن يعطيها مليما واحدا .. وكثير منهم كان يغازلها بكلام مفضوح ..

وطلب منها رجل قصير يمسك بيده حقيبة مكتظة بالأوراق ويضـع على عينيه منظارا أسود أن ترافقه إلى بيته !
فودت لو تبصق على وجهه ..

ورجعت إلى البيت وهى تجر أذيال الخيبة وقد جف ريقها .. ولما وقع نظرها على الطفل وهو راقد على حشية فى الغرفة دون حراك ودون حس جرت إليه وضمته إلى صدرها .. ولما شعرت بأنفاسه الرقيقة وأدركت أنه لايزال حيا .. عاودتها عبراتها .. بكت بكاء الفرح .. فلا شىء فى الوجود يتعادل وطفلها هذا !..

وقبلته وضمته إليها فى حنان .. ونام فى حضنها إلى الصباح ..

***

وخرجت مبكرة والطفل على صدرها .. ومضت فى الشوارع تستجدى وانقضى النهار كله .. دون أن تعطى .. ودون أن تأكل شيئا .. وكانت ترى الناس يمرون أمامها وتتساءل :
أهؤلاء بشر حقا ..؟
كانت تود أن تفعل أى شىء لتأكل وتطعم طفلها .

انهارت أعصابها وتخاذلت وبلغ منها الجوع منتهاه ، كانت تود أن تسرق وترتكب الفحشاء فى سبيل لقمة .

ومضى اليوم كله وهى جائعة .. ورجعت إلى البيت تندب حظها ولم تنم إلا غرارا .

وفى الصباح خرجت تحمل طفلها .. وتجر رجليها متخاذلة شاردة .. وفى منعطف الطريق قابلها رجل متأنق .. فغطت وجهها ومدت إليه يدها فنظر إليها قائلا :
ـ أنت مسكينة وجائعة .. تعالى اشتغلى عندى ..
ـ وهذا يا سيدى ..
واشارت إلى طفلها ..
ـ معك ..

ومشت معه إلى بيته .. وقدمها إلى زوجته وسرت بها الزوجة كثيرا لأنها كانت تبحث من مدة طويلة عن خادمة .. وبعد يومين أودعت الطفل فى ملجأ قريب بناء على مشورة السيد .

وكانت تعمل فى نشاط وسرعة .. ومضت الأيام فى أسعد حال ..

وحدث أن مات والد الست .. وكان من أعيان المنيا .. فسافروا إلى هناك على عجل ..

وعاد الزوج بعد ثلاثة أيام ومعه نعيمة ليباشر عمله وترك زوجته فى جنازة والدها .. وأصبحت نعيمة تدير شئون البيت فى غياب ستها .

ومرت الأيام وطال غياب الزوجة لنزاعها مع أخوتها على الميراث ..

وأخذ الزوج يتلطف فى حديثه مع " نعيمة " ويغازلها وهى تجهل ما يرمى إليه .. ثم كاشفها عن حبه لها وهيامه بها فصدته .. فما زال وراءها يغريها ويطاردها كالذئب ، ويهددها بالطرد حتى ضعفت .. واستجابت لرغبته الدنيئة ..

***

وفى صباح يوم الجمعة ذهبت إلى الملجأ كعادتها لترى طفلها .. فعلمت أنه مات بالأمس ..

فرجعت باكية .. وفكرت فى خطيئتها فى الليلة الماضية .. وقرنت الخطيئة بموت الطفل .
=================================
نشرت القصة فى مجموعة " عذارى الليل " لمحمود البدوى فبراير 1956
=================================
3
622

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

حلا الشرق
حلا الشرق
هي رائعة أخرى من روائع والدك يا ليلى....
أحيي فيك روح الولاء لوالدك أولا...
وأهنئك بهذه الكنوز الهادفه التي تكرمينا بها ثانيا...
وأخيرا..مشوارك جميل ولكنه صعب...

وفقك الله..
دمعة الطيف
دمعة الطيف
قصه راائعه تستحق بجداره
تحيه احترام لهذا الادب الرفيع
بارك الله جهودك لتتحفينا بهذه الروااائع
ووفقك الله لمسعاك
ليلى محمود البدوى
شكرا لكما وبارك الله فيكما