قال جرير:
لولا الحياء لهاجنى استعبار ***ولزرت قبرك والحبيب يزار
أما أنا فقلت: لا حياء .. يافاطمة
من هي فاطمة...؟! إنها روح بريئة في حواصل طير.. أراها في كل زهرة مقطوفة... ومع كل غروب شمس.
كنتُ وكانت وكان بيت صغير.. بنيناه لبنة لبنة.. وبسمة بسمة.. حتى صدحت بين جدرانه.. بابا.. ماما.. يطلقها (زياد) آخذاً من أمه براءتها وضحكتها، ومن أبيه شوقه وحبه.. هي حياة بدأت وفيها ثمانية أعياد ويوم حزين.. يومٌ أخذ الكثير من كبرياء الرجل وغروره.. أبقاه وحيداً يتجرع عذابات: (بابا)، أين (ماما)؟ وما درى هذا الصغير عن الكأس التي انكسرت والسد الذي انهدم والشمعة التي انطفأت.. تكسّرت كل لوحاتي ولم يبق إلا لوحة سريالية رسمت فيه ملامح الراحلة بلون أبيض، وسدتها دفء قلبي وكفأت عليها ذكرى من رقصات الطفلة البريئة.
اليوم.. لا أذكره بتاريخه؛ بل بلونه الشاحب..سأعرفه موسوماً بالسواد من بين أيامي البيض.. وهل غابت شعرة سوداء في بياض السنين؟! اليوم أنام وحيداً في عش كان بالأمس يشاركني فيه بقية قلبي. اليوم.. ألتحف بلحاف قد لا أرى طرفه ومعه بقية من عطرها وأنفاسها.. و(زياد) سادر في أحلامه ولعبته، يشبّه (لعبته) بأمه الراحلة وما درى أن أباه مدفون بألمه.
استذكر هذه الكلمة -التي لم أعِ وقعها وألمها إلا في هذا اليوم-.. (المتوفى امرأة.. الله أكبر). ورددتُ معه "الله أكبر"، وردّد الناس "الله أكبر"، وكلها في قلبي "الله أكبر" صمتوا وما دروا أن قلبي ممدّدٌ بجانب اللفافة السوداء..
آه.. إنها رحلة العمر والحب.. تتدثر بالسواد.. هانت بعدها المصائب.. فتحتُ عينيّ فرأيتها ساكنة هادئة كسكون الليالي البدرية.. حملها الرجال وكنت يوماً ما فارسها وذائد النظرات الزائغة عنها.. لكني الآن ضعيف خائر القوى، أتوكأ على كتف حبيب أثقلته همومي..
الليلة.. ليلتها الأولى هناك.. هناك حيث يرقد الراحلون، ولكل واحد ألف حكاية وحكاية، ولكل واحد عالمه المهيب.
حبيبتي ناديتها.. كانت تجيبني.. وكانت تحفة البيت وأنسه.. تملؤه صوتاً وأدباً... أما اليوم؛ فكل شيء هادئ .. السماء ساكنة.. الليل مخيف..(زياد) شاحب وكأن عصافيره أخبرته برحيل قلبه.
دخلت هذا العالم المملوء بالموتى بين جدران أربعة؛ فاخترت لها مكاناً قصيّاً.. وكيف أقصيها من قلبي؟!.. هنا يا حبيبة عمري ترقدين.. نزلتُ لهذه الحفرة الصغيرة ودموعي تسبقني.. فوسعت لها جنبات القبر ، وهل ضاق بها قلب؟!..
آه.. إنها سنة الحياة.. أهيل عليها التراب وأدفن معها المتناقضات.. بالأمس كنت أزيل التراب عن أطراف ثوبها، و اليوم أهيل عليها التراب!!. إنها بقية من هوان الإنسان.. يدفن طبيعته وحبَّه....وسدتها اللحد ووضعت في كفها الناعم آخر رسالة بعثتها على جوالي....
( محتاج لك في درب مقوى ظلامه***يا شمعتي لا كثرت أيامي السود
ما اقدر على بعدك ولا أقوى خصامك***لا غبت أحس بدنيتي شئ مفقود)
يا لعذابات السنين!!
حبيبتي هذه ليلتي وهذه ليلتك الأولى.. حدثيني عن عالمك.. عن هذه الحفرة عن الصمت المهيب.. حدثيني.. وأنت تسمعين قرع نعالهم يغادرون.. أما أنا فبقيتُ أحدثك حديث المساء وعن (زياد).. رحلوا وبقيت أناجيك، وأهديك حلوى المساء.. بقيت أحدثك طويلاً طويلاً.. وأنت صامتة لا تجيبين، عندها خلعت حذائي وغادرت.. كيف أدوس أرضاً فيها بضعة مني؟.. إنها المتناقضات!!
حدثيني.. هل ستغيبين طويلاً؟.. ماذا سأقول لـ(زياد) إذا سألني عنك؟.. لستِ لعبة ليلهى بغيرك.. كنتِ ملجأه وعشه -بعد الله-.. ماذا أفعل يا حبيبتي بفستانك الأبيض الذي أبقيتِه ذكرى لحبنا الأول؟... ماذا أفعل بعصافير الصباح وشموع المساء؟.. هل أبقيها مشتعلة، أم أن حياتي توقفت هنا؟.. عطرك.. ثيابك.. أوراقك.. صورك.. مصحفك.. وبقايا صوتك.. كلها شواهد تقتات من قلبي الجريح.. هل تدري يا غاليتي لماذا اخترت لكِ المكان القصي؟ لكي أرقد يوماً بجانبك ولو كنا صامتين... ...........
-إهداء لرفيقة الدرب زوجتي -أدام الله ظلها- فهي أولى الناس أن تقرأ هذا الحب.
-أليست كارثة ألا نقرأ الصدق الذي كُتبَ فينا؟!..
منقول
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

الصفحة الأخيرة
اختي الحبيبة:
كلمات يعجز القلم عن وصف جمالها
وتحمل بين طياتها الكثير من المعاني السامية
وجزاك الله خيرا على النقل
وجعلة في موازين اعمالك