شهيد يوم عرفة

ملتقى الإيمان

الله أكبر .. الله أكبر .. انطلقت مع أول تباشير الفجر .. سمعها بقلبه هذه المرة .. بل بكل جوارحه .. أخذ يستمتع بها .. ما أعظمه من نداء .. استشعره بكل خلجة من خلجات نفسه .. وكأنه يسمع الأذان لأول مرة .. سعادة ما بعدها سعادة .. شعر بها وهو يخطو خطواته نحو المسجد .. أخذ يصغي السمع .. سكون .. لا يسمع سوى وقع خطواته بالظلام .. وكأنها ضربات مدفع تتوالى .. أحسَّ أن كل خطوة يخطوها يحفر بها شيئاً في ذاكرته .. هو فقط يعلم أنه لن يسمعها ثانية ...

دخل المسجد .. صلى ركعتين تحية المسجد .. وجلس يسبّح الله وينتظر الإقامة .. ودون أن يدري شرد بفكره .. وراح يتذكر صديقه الذي طالما سار معه بنفس الطريق إلى المسجد .. وأخذ يسترجع تلك الأيام الجميلة التي قضاها بصحبة صديقه وأخيه ورفيق دربه .... جهاد .. صداقةٌ متينة تلك التي كانت تربطهما .. كان هناك توافق كبير بينهما .. كم حيّرت صداقتهما بل أخوتهما زملاءهم بالمدرسة .. فكل العلاقات كانت تنتهي ولم يلحظ أحد لعلاقتهما نهاية .. بل كانت تزداد قوةً وارتباطاً.. لم يدرك هؤلاء أنهما استمدا قوة هذه العلاقة من الله عز وجل .. فقد تلاقيا على محبة الله وتعاهدا على طاعته .. فربطت بينهما هذه الأخوة الدائمة .. ليس فقط في الدنيا .. بل في الآخرة .. حيث سيستظلون بظل الله يوم لا ظل إلا ظله عز وجل .. فهما المتحابان في الله .. شعر بغصة حين تذكر ذلك اليوم الذي اتفقا فيه على الذهاب لحدود القرية بعد انتهاء الدراسة ليشاركوا رفاقهم في إلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة على الأعداء .. لأنه تذكر يوم سقط صديقه شهيداً في ذلك اليوم الشديد .. أحسَّ يومها أنه بسقوطه أخذ معه جزءاً منه لم يعد .. وها قد مر عام وهو يشعر بفقدان هذا الجزء منه .. جزء من روحه أو من جسمه .. هو لا يدري ولكنه يعلم أنه لا يستطيع العيش بدونه .. استيقظ من شروده على صوت المؤذن يقيم الصلاة .. اصطف مع القلة القليلة من الرجال ..... الخاشعين .. الذين لم يتثاقلوا عن صلاة الفجر بالمسجد .. ولم يشدّهم دفء الفراش إلى متابعة النوم وترك الصلاة جماعة .. شاركهم الصلاة والتسبيح .. وكان آخر من خرج من المسجد .. وسار في طريقه إلى البيت .. هو وحده فقط يعلم أنه لن يسير في هذا الطريق ثانية ..

صديقنا أحمد .. شاب في الثالثة والعشرين من عمره .. ليس ككل الشباب .. لم يكن الهم الذي يحمله الزواج وتكوين بيت وأسرة .. بل حمل هم وطن ضُيع .. وطن استُبيحت حرمته ومقدساته .. أحمد .. سمع يوماً بقلبه لا بأذنيه أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الجنة .. فباع .. باع نفسه لله لأن الثمن غالٍ .. والربح أكيد .. ثم هو يملك رأس المال .. عاد لبيته يحث الخطى ليباشر تجارته التي لن تبور .. اغتسل وتطيب وارتدى قميصه وبنطاله .. ولم ينسَ أن يضع مصحفه الصغير في جيب قميصه .. وفوق ظهره حمل حقيبة ً أخفاها ليلاً تحت سريره .. حمل فيها عشرة كيلو غرامات من المتفجرات .. خرج من غرفته .. فإذا به يسمع صوت أمه بالمطبخ تعدّ طعام الإفطار والشاي لوالده وإخوته .. اقترب منها .. ونظر إليها مليّاً ثم قبّلها وقال: ادعي لي يا أمي اليوم لدي صفقة تجارية إن ربحت أفوز فوزاً كبيراً .. فقالت أمه وهي ترنو إليه بنظرة ملؤها الحنان : الله يوفقك يا أحمد يا ابني ويرضى عليك في الدنيا والآخرة .. فقال لها: هذا هو زادي اليوم يا أمي , السلام عليكم .. فنادته: ألن تتناول إفطارك يا ابني ؟.. فأجاب: يا أمي اليوم هو يوم عرفة وأنا ولله الحمد صائم .. ثم خرج مسرعاً .. ركب دراجته النارية وانطلق مسرعاً فعلا صوتها ثم ما لبث أن بدأ يختفي الصوت شيئاً فشيئاً مع ابتعاد أحمد وغيابه عن الأعين .. في تمام الساعة الثامنة صباحاً جلست أم أحمد أمام التلفاز تستمع لنشرة الأخبار وهي تحمل صينية فيها القليل من العدس .. وكان الخبر : في عملية تفجير قُتل أربعة من الصهاينة وأُصيب أكثر من ستين جريحاً وتشير الأنباء أن شاباً في العشرين من عمره تقريباً شوهد وهو يدخل منطقة نتانيا على دراجة نارية ويحمل فوق ظهره حقيبة يُعتقد أنها تحتوي على ما يزيد عن عشرة كيلو غرام من المتفجرات قد فجّرها قرب إشارة ضوئية وسط حشد كبير من السيارات وقد استشهد ولم تُعرف هويته ..

قالت أم أحمد وهي تسمع النبأ (ولم تعرف هوية الشاب) : إنا لله وإنا إليه راجعون , تسلم إيدك يا ابني والله يصبّر أمك
0
409

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️