بسم الله الرحمن الرحيم
من هنا مر تعب ولم يرحل الا بعدما ترك بصمات عمر تخطى الستين عاماً.
تعب لازال يضج بالذاكرة ويعصف في مشاعرهم ببعض المرارة واحياناً بجفاف الدموع.
والنتيجة واحدة.. عزلة ووحدة وشرود بعيد..
ربما قبعوا داخل بيوتهم زهداً في وصلهم القريب والجار وهمشوا من ذاكرة الحبيب..
ربما التمسوا جانب الطريق يرقبون ماراً يسأل عنهم,, يتحدث معهم,, يطمئن ولو بسؤال عابر عن احوالهم ويبتسم لهم.. ولذا لا تكاد تقترب منهم حتى يحتفوا بالحديث معك وكأنك حبيبهم المفقود وقريبهم الغائب ولا شيء في احاديثهم سوى الذكرى والرحلة الطويلة مع ذاك التعب.. ففي ذلك الشارع الملتهب برمضاء الظهيرة وجدته هناك يجلس متكئاً على وسادة اظنها كانت ذات قماش ابيض. قال وقد امتلأ بالفرح: الله يسعدك بهذه (الجية) يقصد الزيارة هكذا احتفى بي العم حامد عبدالله الشاطري وان كانت تلك الحفاوة لم تخل ُمن غصة تناثرت معها عبارات كثيرة: ابلغ يا ولدي التاسعة والستين من عمري قضيت ستين عاماً منها في كد وشقاء لم اذق فيها طعم الراحة وكل هذا من اجل لقمة عيش استر بها نفسي وهذا ما تمنيته وحققه الله لي,, حيث وفقني الله في بناء البيت وان كان (على قد الحال) لكنه منزلي ولا ارتاح الا فيه وبالرغم ان الله تعالى لم يكتب لي الذرية الا انه سخر لي رجلاً مثلك يسأل عني ويتفقد احوالي ولي من الجيران من لا ينام حتي يطمئن علي? قاطعته قائلاً:
- اذاً يا عم حامد لم ترزق بالابناء وتعيش في هذا العمر وحيداً? قال:
لقد تزوجت منذ كان عمري واحداً وثلاثين عاماً وماتت زوجتي تلك بعد ست سنوات ولم تنجب ثم تزوجت للمرة الثانية ولازالت معي حتى الآن وايضاً لم أُرزق منها بابن او ابنة فيما عدا طفلة لم تعش طويلاً حيث ماتت في اليوم الثاني من ولادتها,, ولم احزن فهذا قدري ونصيبي,, قلت:
الا تشعر الان وانت في هذه السن أنك بحاجة للرعاية والسهر على راحتك?
قال: يا ولدي الرعاية والعناية من الله (وخليني اسألك): هل كل من رزق ولو بعدد كبير من الاولاد (مرتاح)? وهل كل الابناء يهتمون بوالدهم ويسهرون على راحته? يا ولدي هناك الكثير ممن كان أبناؤه سبباً لتعاسته وعذابه في عمر كعمري الآن بل ما رأيك لو قلت لك انني اعرف اباً كان يتمنى الموت لكي يرتاح من معاملة ابنائه معه بل ان منهم من تخلص من والده ووالدته ورمى بهما عندما ضاق منهما في الاربطة او الشارع?
اما سمعت بقصص مثل هذه انا لم ارزق بالاولاد لكنني مرتاح تماماً مع (عجوزي) اتساعد انا وهي في العناية بانفسنا فنأكل ونشرب ونلبس مثل الناس والحمدلله,, شيء واحد (ينغص) حياتي ويؤلمني, وهو ان الناس لم تعد تجالسني وبعضهم لا ينظر لي نتيجة لكبر سني,, كما انه لم يعد (عند) الاطفال ذلك الاحترام والتقدير للكبير مثلما كنا نقدر ونحترم في مجالسنا او حتى في (مشينا) في الطريق فلا يمكن ابداً ان نتقدم في المشي على الرجل الاكبر سناً منا والرجل العجوز دائماً صاحب (الاولية) في كل شيء, في الشرب او الاكل او الجلوس وان اضطررنا لترك اماكنا من أجل (شايب) هذا الكلام لم يعد موجوداً لدى الاطفال, ليلة البارحة كنت أقف أمام فرن (التميس) جاء شاب لم يحترم سني ولم يحترم انني اقف هناك قبله ومن حقي ان آخذ (التميسة) قبله دون ادب واحترام التقط (قرص التميس) حالما اخرجها العامل من الفرن, ورفض طلب عامل الفرن باعطائي تلك التميسة قائلاً:
انه مستعجل?? هل هذه اخلاق وادب لم اجد سوى تحمل الوقوف وكل الموجودين يرون ان ساقي ترتعش ويرتعش معها كل جسمي يرون ذلك الا ذلك الشاب?? وهذا دليل على ان والديه لم يعلماه تلك الاخلاق التي كنا نحرص عليها في التعامل مع كبار السن ونعتبر المخالف لها (قليل ادب) نشهر به في كل مكان..
وانقطع الحديث حالما ارتفع صوت المؤذن ورفض العم حامد التحدث ولو بكلمة واحدة بعدما سمع التكبير قائلاً:
الآن لا كلام لي سوى التسبيح والتفرغ لاداء الصلاة فودعت الرجل بأمل الالتقاء به بعد اداء الفريضة لكنني عندما عدت لم اعثر عليه..
وبتلك اليدين المرتعشتين قال العم صالح ابراهم الشروان:
مع بداية العام بلغت واحداً وسبعين عاماً ولم اكن يا ولدي اتوقع ان اعيش كل هذا العمر وخصوصاً بعدما اصبت وانا في الخامسة والاربعين بمرض قيل لي بأنني لن اشفى منه ابداً وانني راحل ولن اعيش طويلاً!!
لكن ويعلم الله انني لم اصدق كلامهم هذا فانا اعلم وواثق ان الاعمار والشفاء بيد الله تعالى فما وصلت الخمسين عاماً حتى حقق الله لي الشفاء بعدما كنت طريح الفراش ولا استطيع المشي او مغادرة الفراش ولو اردت اكرمك الله (دورة المياه) اصبحت بين يوم وليلة أقضي شؤوني بنفسي وأذهب الى المسجد دون حاجتي لمعونة احد لكن اصبت بهذه الرعشة من حوالي سنتين.
قاطعته:
وأين الاولاد?
قال: ليس لي سوى ولد واحد وهو يعيش بعيداً عني بسبب ظروف عمله ويأتي من حين إلى آخر لزيارتي,,?
قلت: ولماذا لا تذهب وتعيش برفقته?
ابتسم وقال: لقد حاول كثيراً ولازال يحاول من أجل ان انتقل للعيش معه هناك لكن ياولدي انا مقتنع ان الرجل لا يجد الراحة ولا يشعر بها الا في بيته الذي عاش فيه كل السنين وبناه (طوبة طوبة) لقد (جربت) مرة واحدة تصدق انني لم اذق طعم النوم واصابني قلق ومن اليوم الثاني طلبت منه العودة بي الى بيتي:
قلت: طيب يا عم صالح ما الفائدة من الابناء اذا لم نجدهم في مثل هذا العمر? واحد وسبعين عاماً لم تترك لك من الجهد ما يمكنك من الاهتمام بأمورك والحاجة ماسة لابن يعينك?.
ابتسم بوقاره الجميل وقال:
الحمدلله لازال في صحتي ما يساعدني ولازلت قادراً مع ام ولدي وشريكة حياتي على (تدبير) امورنا. والولد لم يقصر ولكن ماذا يفعل اذا كانت لقمة عيشه وعيش اولاده تجبره على الابتعاد عني وعن امه هذه هي الحياة فقبل خمسين عاماً عندما كان عمري (حول العشرين) اذكر انني تركت قريتي ووالدي ووالدتي وتوجهت بعيداً عنهما اترزق الله واذكر ان والدي توفي وتم دفنه ولم أعلم بذلك الا بعدما عدت.. لكنني لم اتركهما عقوقاً أو زهداً فيهما وولدي الآن لم يتركني كذلك وانما الحياة اجبرته على ذلك. ويكفي انه في كل ليلة قبل ان ينام يتصل ليطمئن علي وعلى والدته?.
قلت:
كل ليلة ياعم صالح?.
قال:
والله كل ليلة لا ينام إلا بعدما يتصل, ولو لم نرد على اتصاله يركب أول طائرة ويأتي.
ففي شهر ذي القعدة من العام جاءت شركة وحفرت الشارع وتسببت في قطع اسلاك الهاتف عن بعض البيوت ومن ضمنها هاتف منزلي عندما اتصل ولم ارد عليه توجه الى المطار ولم يجد في ذلك الوقت طائرة متجهة الى جدة فأتى بسيارته وتحمل مشقة الطريق وفوجئت به بعد صلاة العصر هو واولاده عندي في البيت وكان مفجوعاً..
> الم تشعر قط يا عم صالح ان الرجل في مثل هذا العمر الجميع يبتعدون عنه ولا يسأل حتى عن صحته?
>> قال: أولاً نعمة الابناء نعمة كبيرة لا يمكن ان يقدرها الانسان الا عندما يصل الى هذا العمر فبعد كل هذه السنوات يا ولدي لم اخرج منها الا (بمكسبين) اولهما وفاء زوجتي هذه وحسن عشرتها معي والثانية هي ان الله رزقني بهذا الابن ويكفيني هذا?? فقد جعلني هذا في غنى عن اي احد من هؤلاء الناس الذين تغيرت احوالهم وصاروا غرباء وهم يعيشون بالقرب مني وبابي (يفتح) على بابهم, يمر علي احياناً بسبب المرض اسبوع او اسبوعان ولا اخرج من بيتي ولا استطيع الذهاب للمسجد ومع ذلك لا اذكر ان احداً منهم صغيراً او كبيراً طرق بابي وقال: سلامات يا عم صالح?? انا لا الومهم فالدنيا شغلتهم عن مثل هذه الامور لكنني اتألم لحالي لو لم ارزق بولد يتفقد احوالي ويسأل عني ماذا يكون وضعي على الاقل اشعر بالاطمئنان ان هناك من سوف يتولى تكفين جسمي عندما اموت?
لم اتمكن من مواصلة حديثي مع هذا الرجل ولم يستطع هو التقاط عباراته الثكلى في جوفه بعدما ترقرقت عيناه بعد تلك العبارة فودعته قائلاً: امدك الله يا عم صالح بالصحة والعمر المديد..
قال زميلي منصور المصور:
انت دائماً هكذا? المشوارمعك لا يأتي إلا بالحزن!! لم أرد عليه بالرغم انه كان ينتظر مني جواباً فقد تسببت دموع العم صالح لي في شرود ذهني وتذكرت ابي!!!
لم استطع مواصلة الركض في هذا الموضوع وخصوصاً بعدما شعرت ايضاً بحالة زميلي المكتئبة فقررت تأجيل ذلك الركض للغد لعلي اتجاوز بعضاً من آلام الموقف..
في صباح اليوم التالي تعمدت حمل (الكاميرا) والقيام بمهمة التصوير والرصد,, ولا أدري لم تركت زميلي المصور منتظراً حسب الموعد وزهدت في مرافقته لي?? لا أدري ربما حاجتي للانفراد بكل تلك المشاعر التي اتوقع أنا تماثل مشاعر العم صالح?? لا ادري غير اني ظللت اجوب بسيارتي تلك الازقة والاحياء البسيطة لعلي اجد من يسمح لي بتنقيب ذاكرة الزمن في سنوات عمر تجاوز الستين??
مضت ساعة ونصف ولازلت ارى تلك الشوارع تسجل غياب المواطن بحضور مكثف لعمالة وافدة??
اينما التفِتُ إلى الطرق او المحلات او حتى تلك الابواب التي تفتح اثناء عبوري لم تختلف لكن حالما انعطفت في احد (الازقة) الضيقة رأيته يمشي كطفل يتعلم للتو خطوته الأولى للاعتماد على قدميه!!
لِمَ يا عم تخرج من بيتك وانت بهذا الحال,, اين الابناء?
توقف قليلاً ثم انتحى جانباً وجلس بعدما وجد ان ساقيه لم تسعفاه حتى على الوقوف, رمقني بتلك النظرة المنطفئة عبر عدسات نظارة ينوء بحملها ذلك الوجه المتعب!
هم بالنهوض وبالرغم انني ساعدته في ذلك الا انه لم يرد علي, وواصل سيره الطويل كطول مساحة ذلك الصمت العميق في صدره!!
الشاب يحيى سعيد عصفور قال:
هذا العم شجاع منيع الحربي يملك ثلاثة محلات تجارية لكنه يعيش وحيداً بعد وفاة زوجته وأولاده الأربعة في حادث, ومن يومها صار (أبكمَ) ولا يستطيع الكلام وهو الذي كان (فاكهة) المكان وكان الجميع يحبون الجلوس معه أما الآن مأما الآن فلولا (ام عبدالله) وزوجها المجاوران لبيته -بعد الله- لرأيته في أسوأ حال فهما يعطفان عليه وزوج أم عبدالله بالذات يعتني به ويتعامل معه وكأنه والده
اما العم فارس علي ناصر العمري (72) عاماً فقد باغتته وهو يبلل رأسه ببعض الماء امام محله التجاري قلت:
لعلك لم تجد من يحمل عنك عبء الجلوس هنا ويبقيك مرتاحاً بعد هذا العمر في منزلك??
وكعادة الصدور الجميلة والطيبة قال:
لا والله وبفضل منه لدي من يحملني (على كفوف الراحة) ثلاثة اولاد بارك الله لي فيهم ولا يبتغون من هذه الدنيا الا رضاي لكنني ما تعودت الجلوس بلا عمل وصدقني يا ابني مثلما يعامل الانسان والديه يعامله أبناؤه في كبر سنه?? اسمع دائماً عمن يتنكر له اولاده فلا استغرب أبداً واقول لو كان وفياً وباراً بوالديه لما وجد مثل هذه المعاملة من أولاده فلا تصدق ان كبار السن مثلي لا احد يهتم بهم? لا ثم لا, فالأولاد نعمة وهم الود لنا في الكبر وانا لا اذكر ابداً انني قصرت في حق والدي فقد كنت لا اخرج الا بعد ان طلب منهما الرضا والدعاء وكنت اقبل أيديهما صباحاً ومساء واجتهدت في إرضائهما ولله الحمد والآن ارى ثمرة ذلك البر,, فاولادي الثلاثة بارك الله فيهم يتعاملون معي بمثل ذلك وهم من حرصهم على ان يكونوا جميعاً بجواري وبجوار والدتهم يسكنون معنا ويجتهدون ليل نهار على ألا نحمل هماً او نعاني من اي شيء, ولا ينام احدهم الا بعدما يطمئن عليّ وعلى والدته أننا في احسن حال وبنفس الصورة يتحدث علي حسين زيد عوامي (64) عاماً قائلاً: بعدما وضع (عكازه) جانباً:
ليس صحيحاً ان الانسان اذا كبر في العمر يتخطاه الناس والابناء, فالحمدلله لدي من الاقارب من يتواصل معي ولدي من الابناء من يسعى لكل ما يريحني ويجتهد من اجلي, بل اصبحت محل اهتمام اكثر بعد ان تعرضت عام 1407هـ لحادث مروري في طريق الجنوب لم تظهر اثار ذلك الحادث الا بعد اثني عشر عاماً فقبل ستة اشهر شعرت ببعض (التنميل) في اصابعي وبعد الكشف اتضح ان هناك انزلاقاً في فقرات الرقبة ونصحت باجراء عملية, استمعت الى نصيحتهم واجريت العملية فكان ان اصبت بشلل رباعي كان خفيفاً في الجزء الايمن وشديداً في الجانب الايسر لكن بوقفة اولادي معي ومساعدتهم لي بعد الله ومعالجتي عن طريق التمارين الطبيعية استعدت قدرتي على الحركة, ولا اذكر انني رأيت منهم غير العناية والرعاية والاهتمام بي ولذا لم أعان من اي هم في حياتي عدا هماً واحداً لم يكن بأيديهم وهو حزني الشديد على وفاة صديق عزيز على قلبي ومع ذلك ظلوا حولي يواسونني ويخففون من احزاني على ذلك الصديق? وبالرغم ان لقمة العيش اجبرت احدهم على العيش بعيداً الا ان الاخر لازال يعيش معي في نفس المنزل وحتى ولدي البعيد يواصلني للاطمئنان علي. احمد الله على ذلك فلولا وجودهم معي وعنايتهم بي بعد الله لما تجاوزت معاناتي واختتم العم علي كلامه بحكمة رائعة قال فيها:
الاولاد غرس نجني ثماره الطيبة في الكبر متى ما تعهدناه بالرعاية في الصغر.
حسين حجاجي (جدة)
جريدة عكاظ

أثبـــاج @athbag
عضوة شرف عالم حواء
هذا الموضوع مغلق.

إشراق 55
•
اختى أثير .. نقل موفق بارك الله فيك ( الكبار يرعون الأبناء في صغرهم ومن بر الأبناء لللأباء رعايتهم عند الشيخوخة والكبر ورضى الله من رضى الوالدين ).

الصفحة الأخيرة