صارت معي
بدأ الطبيب بكتابة التقرير ووصف العلاج للمريض قبل أن يرى وجهه ، وبعد أسئلة قليلة لا يمكن تسميتها إلا "رفع عتب " وقع هذه الوريقة المسماة "روشيتة" ليقدم بذلك تصريحاً سهلاً لدخول المزيد من الأدوية لجسد ذلك المريض قوي البنيان الذي لا يشكو سوى من ألم في ظهره .... دون أن يعلم أن هذا المخلوق "غير الطبيب" يدرك أن تشخيصه خاطئ منذ البداية لكنه لا يملك سوى أن يصدق الشهادات المعلقة لتشهد "بالحبر" أن هذا الطبيب ماهر ومتخصص .
(هذا التشخيص رقم ثلاثة ولا أربعة ) تبادر هذا السؤال الساخر إلى ذهن المريض قبل أن يردف قائلاً بصوت خافت : ( أهو تضخم بالقلب أم روماتيزم أم شد عضلي أم ماذا ؟! هل ألمي فزورة يحاولون حلها ، إنها ثلاثة تشخيصات وثلاث مجموعات من الأدوية ) كان هذا ما همس به المريض فلم يجد سوى سوى نظرات ضيق وتأفف من الطبيب ......
مرت الأيام ....توقف المريض عن أخذ الأدوية التي أصرت زوجته على شرائها ... بدأ يفقد قوته ... وانهارت صحته .... حتى منّ الله عليه بطبيب يعلم ما يفعل ... صورة أشعة عادية أكدت أن هناك ورماً ...وكان القرار (سيخضع لعملية جراحية لاستئصال الورم ثم لعلاج كيميائي ) ...
كنت وقتها متخبططة في حالة ذهول تام .... سرطان ...لا مستحيل ... وعندما أفقت قررت معرفة المزيد من الأطباء مما يسهل علي البحث عن هذا المرض وطرق علاجه ..... لكن محاولاتي باءت بالفشل لكنها نجحت في تحويل جميع نظرات ممرضات المستشفى إلى شلالات من الإشفاق والألم لحالي .... ما هذا ؟! أنا لا أحب هذه النظرات ... لقد أخطأت إذ أطلقت العنان لدمعة انسابت ببطء على خدي .... فكما يقال : الخبر اللي بفلوس بكره ببلاش بتلقاه ... من عامل تنظيف مر على غرفة العمليات علمت حالة والدي ... يبدو أنه لم يكن يعلم بعد أنني ابنته ، كان يكلم أحد الأشخاص على الهاتف واصفاً حالة المريض تارة وخبرته الطبية التي اكتسبها أثناء عمله تارة أخرى ..... ( من كتر ما بيشوف الواحد صار بينفع ينحط دكتور ) بل ويقسم أنه يملك خبرة ومهارة أكثر من الكثير من أطباء المستشفى ..!!!
لم أملك الوقت لأطفئ لهيب صدري بعبراتي المختنقة التي تتقافز داخل عيني راجية الخروج ...فقد وصلت أمام غرفة والدي ... دخلت عنده وقد رسمت ابتسامة على شفتي فلم أحسن رسمها ، عانقته ، تمنيت أن أضع رأسي على صدره لكنني لم أقو ، خفت أن تخونني دموعي .... نظر إلي بعينيه الحانيتين الصافيتين اللتين طالما كانتا كذلك وقال : ( الله يرضى عليكي ... يا ريت أشوفك دكتورة شاطرة زي الدكتور فؤاد ....ياااااه أشوفك بالروب الأبيض ) قلت له : ( وشو عرفك إني رح أكون شاطرة زيه ، مش يمكن أطلع زي اللي شخصوك قبله ؟!) فقال لي وعلى شفتيه ابتسامة ذات مغزى : ( الإنسان بيتعلم من المخلص كيف يكون مخلص ، ومن المهمل كيف ما يكون مهمل ... صح ؟) .... كان هذا آخر عهدي بكلمات أبي الغالي رحمه الله وأسكنه فسيح جناته ... لكن هذه النصيحة الغالية باتت منهجي في دراستي للطب .... منهجي وإرثي اللذان لن أتخلى عنهما ما حييت .....
الحمد لله على كل حال ، وأحمد الله أن اللحظات الأخيرة لوالدي الغالي كانت بالصلاة والاستغفار والنطق بالشهادتين فخاتمته كانت حسنة .... رحمك الله يا أحب وأغلى الناس على قلبي ، وسقاك من حوض نبيك الكريم وبيديه الطاهرتين المشرفتين شربة ماء لا تظمأ بعدها أبدا

LovelySoma @lovelysoma
عضوة نشيطة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

هديل!!
•
بوركتِ أختي ووفقكِ في حياتك ِوغفر لوالدكِ

الصفحة الأخيرة