صديقتـي... مذكـراتـي العـزيـزة...

الأدب النبطي والفصيح

عندمـا اشـترتـه منـذ أكثـر مـن عشـرة أعـوام..
لـم يكـن أكثـر مـن مجـرد دفتـر ملـون أعجبـت بـه وهـي فتـاة فـي الثانيـة عشـرة...
كـان جميـلاً... ملفتـاً للنظـر فـي تلـك الواجهـة المليئـة بالأشـياء الجميلـة...
غلافـه اللامـع... صـورة البجعـات البيضـاء فـي تلـك البحيـرة... وقـت الغـروب...
ذلـك القفـل الذهبـي الـذي يزيـن طرفـه الأيسـر... مفاتيحـه الصغيـرة...
لـم تسـتطع أن تبعـد عينيهـا عنـه...
اشـترته... احتفظـت بـه فـي علبتـه المزركشـة...
كلمـا قـررت أن تكتـب عليـه... تجـد أن مـا سـتكتبه لا يسـتحق أن يكتـب علـى صفحاتـه...

ومـرت الأيـام... وبقيـت تلـك الصفحـات الملونـة كمـا هـي... فارغـة...
مضـى أكثـر مـن عـام... منـذ أن وضعتـه فـي تلـك الخزانـة...
غـاب عـن ذاكرتهـا طـوال ذلـك الوقـت... إلـى أن...
عـادت فـي ذلـك اليـوم مـن مدرسـتها... كانـت تشـعر بالضيـق...
أرادت أن تتحـدث مـع أحـد... أي أحـد...
لـم يكـن هنـاك أحـد فـي المنـزل... كانـت عيناهـا تجـولان فـي كـل مكـان...
تبحثـان عـن أحـد مـا... عـن شـيء مـا... شـيء...
كـان مـا يـزال هنـاك... فـي تلـك الخزانـة... لـم تعـرف كيـف تذكرتـه مـن جديـد...
أخرجتـه مـن العلبـة... لا يـزال محتفظـاً بذلـك البريـق... فتحـت قفلـه الذهبـي...
أمسـكت بالقلـم... وللمـرة الأولـى... رسـمت أول حـرف علـى تلـك الصفحـة الملونـة...
لـم تبالـي بخطهـا... بلـون القلـم... بعـدد الأسـطر...
كانـت تكتـب وحسـب...
كتبـت عـن تلـك المشـكلة التـي حدثـت بينهـا وبيـن أعـز صديقاتهـا...
كتبـت كـم تشـعر بالضيـق لذلـك...
لـم تكـن تكتـب أحـداث قصـة... كانـت تتحـدث... وكانـت صفحاتهـا تسـتمع...
صوتهـا الخافـت... لـم يكـن يسـمعه سـوى قلمهـا... والسـطور...

وفجـأة توقفـت... نظـرت إلـى السـاعة... لـم تصـدق عينيهـا...
إنهـا تجلـس إلـى ذلـك الدفتـر منـذ أكثـر مـن سـاعتين...
نظـرت إلـى الصفحـات... كانـت قـد كتبـت أكثـر مـن عشـر صفحـات...
ابتسـمت... كانـت تحـس براحـة وسـعادة لا توصفـان...
للمـرة الأولـى تتمكـن مـن الكـلام إلـى أحـد مـا بهـذه الطريقـة...
بهـذه الجـرأة... بهـذه الصراحـة...
عـادت إلـى السـطر الأول... أخـذت تقـرأ مـا كتبـت...
كلمـات كثيـرة... جمـل كثيـرة... لـم تكـن منمقـة... لـم تكـن مرتبـة...
كانـت كالخواطـر... مجـرد أفكـار مبعثـرة... وحدهـا هـي قـادرة علـى فهمهـا...
أحسـت بقـدوم والدتهـا... أعـادت إغـلاق القفـل... أرجعـت الدفتـر إلـى حيـث كـان...
لكنهـا هـذه المـرة احتفظـت بالمفاتيـح فـي حقيبتهـا...

مضـى علـى ذلـك بضعـة أيـام... وعـادت الميـاه إلـى مجاريهـا مـع صديقتهـا...
كانـت فـي غايـة السـعادة... عـادت إلـى المنـزل مسـرعة...
اتجهـت إلـى تلـك الخزانـة... أخرجـت دفترهـا الملـون وبـدأت بالكتابـة...
كتبـت تحدثـه عـن سـحابة الصيـف تلـك التـي مـرت عليهـا مـع صديقتهـا...
أرادت أن يشـاركها سـعادتها كمـا شـاركها حزنهـا مـن قبـل...
بعدهـا... عـاد الدفتـر إلـى مكانـه...
لكنهـا لـم تهجـره طويـلاً هـذه المـرة... لأنـه بـات ذلـك الصديـق الصامـت...
صديقهـا الـذي تعـود إليـه كلمـا شـعرت بالحـزن... بالفـرح... بالألـم... بـأي شـيء...
كانـت تصـب علـى صفحاتـه كـل مـا تريـد...
كـل مـا تسـتطيع أن تقولـه... أو لا تسـتطيع أن تقولـه...
حفـظ أسـرارها... أحلامهـا... أفكارهـا... أحزانهـا... وكثيـراً مـن دموعهـا...

وكبـرت... أيـام كثيـرة مضـت...
لـم تعـد كلماتهـا مبعثـرة... تغيـرت... كبـرت معهـا...
كانـت كلمـا بـدأت بالكتابـة... كتبـت تخاطبـه... مذكراتـي العزيـزة...
حتـى أنهـا كانـت تعتـذر منهـا إذا تأخـرت عليهـا يومـاً...
اسـتمرت هـذه الصداقـة أكثـر مـن تسـع سـنوات... إلـى أن...
خرجـت فـي ذلـك اليـوم مسـرعة...
لـم تنتبـه إلـى حمالـة مفاتيحهـا الصغيـرة التـي بقيـت معلقـة إلـى تلـك الخزانـة...
لـم يخطـر فـي بالهـا أن خطأهـا هـذا سـيكلفها الكثيـر...
ارتاحـت كثيـراً عندمـا عـادت إلـى المنـزل لتجـد أن مفاتيحهـا موجـودة هنـاك...
كانـت تخشـى أن تكـون قـد فقدتهـا فـي مكـان مـا...

لكـن... فـي المسـاء... دخلـت عليهـا والدتهـا... طلبـت أن تتحـدث إليهـا قليـلاً...
كـان وقـع كـلامهـا كالصاعقـة... مـاذا...؟؟ لمـاذا...؟؟ كيـف...؟؟
وكأنهـا فـي دوامـة... أسـرارها... أفكارهـا... مذكراتهـا العزيـزة...
كـل شـيء... لـم يعـد ملكهـا وحدهـا...
نظـرات العتـاب فـي عينـي والدتهـا كانـت واضحـة كوضـوح تلـك الدمـوع فـي عينيهـا...
أنهـت أمهـا كلامهـا... لكـن قبـل أن تخـرج...

حبيبتـي... عليـك أن تتخلصـي مـن دفتـرك هـذا...
إن مـا كتـب فيـه لا يجـب أن يقـرأه أحـد... تخلصـي منـه بسـرعة...
لا يجـب أن تنقـل الأفكـار بهـذه الصراحـة علـى الـورق...

ولكـن... أمـي..... آخـر مـا نطقـت بـه قبـل أن تغادرهـا والدتهـا...

كانـت ليلـة قاسـية... بـاردة... لـم تعـرف بعدهـا للراحـة طعـم...
اقتربـت مـن دفترهـا الحبيـب...
راحـت تقلـب صفحاتـه الممتلئـة... مـرت علـى كثيـر مـن ذكرياتهـا...

إنـه ذلـك اليـوم الـذي حصلـت فيـه علـى الشـهادة الإعداديـة...
آه... فـي هـذا اليـوم كنـت مريضـة...
هـذه السـطور تتحـدث عـن البحـر... كنـت مـع عائلتـي هنـاك لبضعـة أيـام...
وهـذا... وهنـا... واليـوم... و...

قلبـت صفحاتـه كلهـا... قصـص وأحـداث كثيـرة...
لحظـات سـعادة... حـزن... فشـل... أحاسـيـس ومشـاعر... خلـف تلـك السـطور...
والآن... مــاذا...؟؟؟ مـاذا سـتفعل...؟؟؟
قـررت أن تتناسـى مـا حـدث... ظنـت أن الوقـت كفيـل بـأن ينسـي والدتهـا مـا قـرأت...
لكـن هـذا لـم يحـدث... طلبهـا كـان يتكـرر وبإلحـاح... يومـاً بعـد يـوم...
لـم تعـد تسـتطيع التهـرب أكثـر... كـان القـرار صعبـاً... قاسـياً...
لكنـه كـان محتمـاً...
أخرجـت دفترهـا فـي ذلـك اليـوم... خطـت علـى صفحتـه الأخيـر...

صديقتـي... مذكراتـي العزيـزة...
أشـكرك... علـى صبـرك... لأنـك كنـت موجـودة لأجلـي...
سـأودعك اليـوم... وأعـرف أننـي لـن ألقـاك ثانيـة...

نظـرت إلـى والدتهـا التـي كانـت تنتظرهـا...
نظـرت بعينيهـا الدامعتيـن إلـى تلـك الصفحـات...
قـرأت مـا كتـب علـى الغـلاف... مذكـرات جميلـة...
حقـاً كانـت كذلـك... ومزقـت الصفحـة تلـو الصفحـة... تلـو الصفحـة...

كانـت تعـرف أنهـا لا تمـزق تلـك الأوراق فحسـب...
كانـت تعـرف أنهـا تمـزق جـزءً منهـا...
أمسـكت تلـك الأوراق الممزقـة... المبللـة بدموعهـا...
ألقـت بهـا إلـى تلـك النـار لتلتهمهـا... وتلتهـم معهـا قلبهـا...
لقـد أحرقـت شـيئاً مـن نفسـها... مـن عمرهـا...

ومـا ذهـب لـن يعـود...
لقـد كانـت هـذه النهايـة...

*********************************
4
1K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

بحور 217
بحور 217
لو كنت مكان هذه الأم لسعدت لأن ابنتي لديها هذه الصديقة ...

الكتابة تغني الفتاة أحيانا عن التحدث مع كل من راح وجاء ..

خصوصا أنها لا تملك الخبرة الكافية لاختيار الصديقات المؤتمنات ...

وما الذي ينمع من تسجيل الأفكار بصراحة ؟؟

على العكس هذه الشجاعة قد تساعد النفس أن تتخلص من عيوبها وتتواجه مع أخطائها ...


قلمك جميل أيتها الوردة القرمزية ...

دعي واحتنا تكون منذ اليوم صديقتك ....

:26:
الوردة القرمزية
مشـرفـتنا العـزيـزة بحــور...

معـك حـق يـا أختـاه...
الكتابـة تغـنـي عـن الكثيـر... ولا تسـاعـد النفـس فحسـب...
بـل تسـاعـد عـلـى بنـاء الشـخصية وتنميـة الكثيـر مـن المشـاعـر والأحاسـيـس...
لكـن بالمقابـل... ربمـا ليـس عـلينـا لـوم تلـك الأم...
خوفهـا عـلـى ابنتهـا... دون التفكيـر بالأمـور التـي ذكرتهـا...
هـو مـا دفعهـا لذلـك... وربمـا لغـيـر ذلـك...
لا شـيء يمنـع يـا صديقـتـي مـن تسـجيل الأفكـار بصراحـة... لكـن...

أشـكرك يـا بحــور عـلـى مـرورك... نـورت صفحتـي...
وشـهادتـك بحـق قلمـي وسـام لا تسـتحقه مشـاركتي المتواضعـة...
وسـتكون دعـوتـك حافـزاً لـي عـلـى محاولـة الكتابـة دائمـاً...
جــزاك الله خيــراً...
نــــور
نــــور
وردتنا القرمزية
ربما قد أصبحت اليوم صداقة أزرار الحاسوب هي من تغنينا عن ذلك الدفتر الصغير الملون الجميل
ذكرتني بدفاتري الكثيرة
وكم كنت أحتفظ بها و أحزن كثيرا إن انتهت أوراقه فهي بالنسبة لي شهادة وفاة له
عندما كنت أقرأ خاطرتك ظننت لوهلة أنني أنا التي تكتب
والنهاية كانت نفس نهايتك
ولكن نزلولا عند رغبتي الشخصية
ومع ذلك
مازال لدي من الدفاتر القديمة آثار أحتفظ بها
تذكرني بأيام جميلة و أسعد بتذكرها مهما كانت سعيدة
نتمنى كما قالت بحور أن تجعلي الواحة صديقك البديل
فقلمك يستحق أن يقرأ له
لاعدمناك غاليتنا
الوردة القرمزية
صديقـتـي نــــور...

لا شـك أن لصـوت أزرار الحاسـب وقـع مميـز...
لكنـه لا ينسـي عـبـق الـورق... إنـه لـه عـشـق خـاص... لا يمحـى...

شـهادة الوفـاة التـي كتبتهـا أنـت عـدة مـرات يـا نــور...
كتبـت فـي خاطرتـي مـرة واحـدة...
كتبـت بمـرارة وأسـى...
لأنهـا لـم تكتـب باسم تلـك الصفحـات فحسـب...
بـل كتبـت باسـم أحاسـيـس ومشـاعـر...
كتبـت باسـم سـنين وأيـام ولحظـات...

ليـت بطلـة خاطرتـي أبقـت شـيئاً مـن تلـك الصفحـات القديمـة مثلـك...
لكـن النهايـة كانـت كمـا كتبـت... ومـا عـاد يغـيرهـا شـيء...

أشـكرك يـا نــور عـلـى كلماتـك وتشـجيعـك لـي...
جــزاك الله كــل خيــر....