صور مشرقة من أدب الإمام أحمد بن حنبل وحسن صحابته مع الناس
الحمد لله المحمود على كل حال، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله الكريم محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه.
أما بعد، أيها الأخ الطيب المفضال ـ لا زلت من الله في رحمة وهداية وتسديد ـ:
فهذه وريقات قليلة العدد، جميلة النفع، بهيجة المُحَيَّا، وارفة الظلال، قد دمجتها صوراً مضيئة من حسن أدب وتعامل وصحابة الإمام حقاً وشيخ الإسلام صدقاً أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الذُّهلي الشيباني ـ رحمه الله ـ مع الناس من أهل ورفاق وتلاميذ وأجراء وغيرهم.
وهو ـ والله ـ أهل أن تُعرف سيرته، ويُحيى ذكره، وتُشهر صفاته، ويُقتدى به في سمته وخلقه وأدبه.
ونحن إن لم ندرك زمنه وصُحبته، فقد أدركنا سيرته، نقلها لنا العدول الثقات، فعسانا ننتفع، والله المعين وحده.
وقد قال القاضي أبو يعلى الحنبلي ـ رحمه الله ـ في كتابه "طبقات الحنابلة"(1/346):
قال عبد الله: سمعت مُهنا يقول: (( صحبت أبا عبد الله فتعلمت منه العلم والأدب )).
وقال الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ في "سير أعلام النبلاء"(10/ 316 ترجمة:78):
عن الحسين بن إسماعيل عن أبيه، قال: (( كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون نحو خمس مئة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الادب والسمت )).
وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي ـ رحمه الله ـ في كتابه "الآداب الشرعية والمنح المرعية"(2/9):
وقال أبو الحسين أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله ببن يزيد المُنادى: سمعت جدي يقول: (( كان أبو عبد الله من أحيا الناس، وأكرمهم نفساً، وأحسنهم عشرة وأدباً، كثير الاطراق والغض، ومعرضاً عن القبيح واللغو، لا يُسمع منه إلا المذاكرة بالحديث والرجال والطُرق وذِكر الصالحين والزهاد، في وقار وسكون، ولفظ حسن، وإذا لقيه إنسان، بشَّ به، وأقبل عليه، وكان يتواضع للشيوخ تواضعاً شديداً، وكانوا يكرمونه ويعظمونه ويحبونه )).
وقال أيضاً(2/6):
قال إبراهيم الحربي: (( كان أحمد بن حنبل كأنه رجل قد وُفِّق للأدب، وسُدِّد بالحِلم، ومُلئ بالعلم )).
فدونك هذه الصور لعلك تسعد وترشد:
الصورة الأولى / تقديمه لمن هو أصغر منه سناً عند الخروج من المسجد.
قال الإمام أبو داود السجستاني ـ رحمه الله ـ في "مسائله"(ص:377 رقم:1824):
(( رأيت أحمد جاءه ابن لمصعب الزبيري، فأراد أحمد أن يخرج من المسجد، فقال لابن مصعب: تقدَّم، فأبى وحلف ابن مصعب، فتقدَّم أبو عبد الله بين يديه في المشي )).
الصورة الثانية / عفوه عمن وقع فيه أو شارك في أذيته بشرط أن لا يعود لمثل ذلك.
قال الإمام إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري ـ رحمه الله ـ في "مسائله"(ص:427 رقم:1961):
(( كنت مع أبي عبد الله في المسجد الجامع، فصلينا ثم رجعنا، فقعد فاستراح، وأنا معه، فجاءه رجل كأنه محموم، فقال: يا أبا عبد الله إني كنت شارب مُسكر، فتكلمت فيك بشيء، فاجعلني في حِلٍّ.
فقال أبو عبد الله: أنت في حِل إن لم تعد.
قال: قلت له: يا أبا عبد الله لم قلت له، لعله يعود؟.
قال: ألم ترى إلى ما قلت له: إن لم تعد، فقد اشترطت عليه.
ثم قال: ما أحسن الشرط، إذا اراد أن يعود فلا يعود إن كان له دِين )).
وقال الحافظ أبو نعيم الأصفهاني ـ رحمه الله ـ في كتابه "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء"(9/ 185 رقم/13628):
حدثنا الحسين بن محمد حدثنا عبد الله بن محمد بن زياد بن هانئ قال: (( كنت عند أحمد بن حنبل، فقال له رجل: يا أبا عبد الله قد اغتبتك فاجعلني في حِل، قال: أنت في حِل إن لم تعد، فقلت له: أتجعله في حِل يا أبا عبد الله وقد اغتابك، قال: ألم ترني اشترطت عليه )).
وقال القاضي صالح بن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ في "سيرة الإمام أحمد"(ص:126):
(( وجاء رجل فقال: تلطف لي بالأذن عليه فإني قد حضرت ضربه يوم الدَّار، وأُريد أن أستحله، فقلت له: فأمسك، فلم أزل به حتَّى قال: أدخله، فأدخلته فقام بين يديه وجعل يبكي، وقال: يا أبا عبد الله أنا كنت مِمَّن حضر ضربك يوم الدَّار، وقد أتيتُك، فإن أحببت القصاص فأنا بين يديك، وإن رأيت أن تُحِلَّني فعلت، فقال: على أن لا تعود لمثل ذلك، قال: نعم، قال: إني جعلتك في حِل، فخرج يبكي، وبكى من حضر من الناس )).
الصورة الثالثة / معاملته لمن أهداه بالمثل، فأهداه بأكثر، واختار وقت الليل والظلام لإرسال الهدية.
قال الإمام إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري ـ رحمه الله ـ في "مسائله"(ص:428 رقم:1969):
(( وأهدى له مرة إنسان شيئاً ما يساوي ثلاثة دراهم، فأعطاني ديناراً، وقال: اذهب فاشتر بعشرة دراهم سُكَّراً، وبسبعة دراهم تمر بَرْنِي، واذهب به إليه، ففعلت، فقال: اذهب به في الليل )).
وقال الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم ـ رحمه الله ـ في كتابه "الجرح والتعديل"(1/303):
حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل قال: (( أهدى إلى أبي رجل ولد له مولود خوان فالوذج، فكافأه بسكر ودراهم صالحة )).
الصورة الرابعة / توقفه عن المشي حين رأى امرأتين وطريقه كان بينهما حتى يجوزا.
قال الإمام إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري ـ رحمه الله ـ في "مسائله"(ص:428 رقم:1970):
(( ورأيت أبا عبد الله إذا لقي امرتين في الطريق، وكان طريقه بينهما، وقف ولم يمر حتى تجوزا )).
الصورة الخامسة / جلوسه مع أصحابه وتلامذته كثيراً، واستئذانه منهم أحياناً إذا قام من المجلس.
قال الإمام أبو داود السجستاني ـ رحمه الله ـ في "مسائله"(ص:374 رقم:1812):
(( ورأيت أحمد كنا نقعد إليه كثيراً، فيقوم ولا يستأذنَّا، وربما استأذنَّا )).
الصورة السادسة / تعليمه لمن قام له حين دخل عليهم في المسجد بأن فعلهم هذا مكروه.
قال الإمام إسحاق بن إبراهيم بن هاني النيسابوري ـ رحمه الله ـ في "مسائله"(ص:429 رقم:1979):
(( خرج أبو عبد الله على قوم في المسجد فقاموا له، فقال: لا تقوموا لأحد، فإنه مكروه )).
الصورة السابعة / متابعته لمن يقومون له بعمل في أمر الصلاة إذا دخل وقتها، وتأكده من صلاتهم.
قال الإمام إسحاق بن إبراهيم بن هاني النيسابوري ـ رحمه الله ـ في "مسائله"(ص:433 رقم:2008):
(( استعمل أبو عبد الله قوماً من الكسَّاحين، يمسحون له كنيفاً، فلما كان وقت الظهر، وقف على رأس المخرج، فقال: اخرجوا من المخرج وتوضؤوا وصلوا، فلم يدعهم حتى خرجوا واغتسلوا وصلوا )).
الصورة الثامنة / حلمه وصبره على من آذاه.
قال العلامة ابن مفلح الحنبلي ـ رحمه الله ـ في كتابه "الآداب الشرعية والمنح المرعية"(2/6):
قال إبراهيم الحربي: (( كان أحمد بن حنبل كأنه رجل قد وُفِّق للأدب، وسُدِّد بالحِلم، ومُلئ بالعلم، أتاه رجل يوماً فقال: عندك كتاب زندقة، فسكت ساعة، ثم قال: إنما يَحْرز المؤمن قبره )).
وقال الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ في كتابه "سير أعلام النبلاء"(11/ 220-221 ترجمة: 78):
ـ قال ـ الخلال: حدثنا محمد بن الحسين، أن أبا بكر المرُّوذي حدثهم في آداب أبي عبد الله، قال: (( كان أبو عبد الله لا يجهل، وإن جُهل عليه حلم واحتمل، ويقول: يكفي الله، ولم يكن بالحقود ولا العجول، كثير التواضع، حسن الخلق، دائم البشر، لين الجانب، ليس بفظ، وكان يحب في الله، ويبغض في الله، وإذا كان في أمر من الدين، اشتد له غضبه، وكان يحتمل الاذى من الجيران )).
الصورة التاسعة / إيهامه أهله بالشبع حتى لا يحسوا بجوعه مع أنه لم يأكل منذ أيام.
قال الحافظ إسماعيل بن محمد الأصبهاني الملقب بقوَّام السنة ـ رحمه الله ـ في كتابه "سير السلف الصالحين"(3/ 1058):
وقال إدريس الحدَّاد: (( ما رأيت أحمد قط إلا مصلياً أو يقرأ في المصحف أو يقرأ في كتاب، وما رأيته في شيء من أمر الدنيا، وقيل ربما اشتد به فبقي اليوم واليومين والثلاثة لا يأكل، فإذا رأى أهله شرب الماء يوهمهم أنه شبعان )).
الصورة العاشرة / جميل عشرته مع إخوانه ورفاقه في طلب العلم ومذاكرته.
قال الحافظ أبو نعيم الأصفهاني ـ رحمه الله ـ في كتابه "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء"(9/ 192 رقم:13656):
حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت عباس بن محمد الدوري يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: (( ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، صحبناه خمسين سنة فما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الصلاح والخير )).
الصورة الحادية عشرة / إقباله واحتماله لمن كان من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من غيرهم.
قال الحافظ الخطيب البغدادي ـ رحمه الله ـ في "تاريخ بغداد"(6/ 544 ترجمة رقم:3018):
أخبرني الحسن بن محمد الخلال قال: حدثنا عبد الله بن عثمان الصفار قال: حدثنا أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم بن آزر الفقه قال: حدثني أبي، قال: (( حضرت أحمد بن حنبل، وسأله رجل عما جرى بين عليٍّ ومعاوية، فأعرض عنه، فقيل له: يا أبا عبد الله هو رجل من بني هاشم، فأقبل عليه فقال: اقرأ { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } )).
الصورة الثانية عشرة / موقفه من السُّنّي الذي أخطأ في حقه وتكلم عليه، ورجوعه على نفسه.
قال القاضي أبو يعلى الحنبلي ـ رحمه الله ـ في كتابه "طبقات الحنابلة"(1/ 195-196 ترجمة:261):
وقال أبو محمد فوزان: (( جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال: له نكتب عن محمد بن منصور الطُوسي؟ فقال: إذا لم تكتب عن محمد بن منصور فعمن يكون ذلك ـ مرارًا ـ فقال له الرجل: إنه يتكلم فيك، فقال أحمد: رجل صالح ابتلى فينا فما نعمل؟ )).
وقال العلامة يوسف بن عبد الهادي المعروف بابن المبرد ـ رحمه الله ـ في كتابه "بحر الدم فيمن تكلم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذم"(ص143-144 رقم:945):
محمد بن منصور أبو جعفر الطوسي: أثنى عليه أحمد، وقال المرُّوذي: سألت أبا عبد الله عن محمد بن منصور الطوسي، فقال: (( لا أعلم إلا خيراً، صاحب صلاة )).
وقال أبو داود: (( جاء رجل إلى أحمد فقال: أنكتب عن محمد بن منصور الطوسي؟ فقال: إذا لم تكتب عن محمد بن منصور الطوسي فعمن؟ يقول ذلك مراراً، ثم قال له الرجل: إنه يتكلم فيك، فقال أحمد: رجل صالح...فما يعمل )).اهـ
وقال الإمام أبو بكر المرُّوذي ـ رحمه الله ـ في كتاب "الورع"(ص:184 رقم:618) في شأن الإمام أحمد:
(( وذُكِر له رجل، فقال: ما أعلم إلا خيراً، قيل له: قولك فيه خلاف قوله فيك، فتبسم، وقال: ما أعلم إلا خيراً، هو أعلم وما يقول، تريد أن أقول ما لا أعلم، وقال: رحم الله سالماً، زَحَمَتْ راحلته راحلة رجل، فقال الرجل لسالم: أراك شيخ سوء، قال: ما أبعدت )).
الصورة الثالثة عشرة / حسن خطابه وإجابته لتلامذته إذا سألوه.
قال الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ في كتابه "سير أعلام النبلاء"(10/ 218 ترجمة:78):
(( قال الميموني: كثيراً ما كنت أسأل أبا عبد الله عن الشيء فيقول: لبَّيْك لبَّيْك )).
الصورة الرابعة عشرة / عدم مفاجأته أهله وضربه برجله وتنحنحه إذا دخل بيته ليعلموا به.
قال الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ في كتابه "سير أعلام النبلاء"(10/318 ترجمة:78):
ـ قال ـ الخُطَبي: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: (( كان أبي إذا أتى البيت من المسجد، ضرب برجله حتى يسمعوا صوت نعله، وربما تنحنح ليعلموا به )).
الصورة الخامسة عشرة والأخيرة / حسن عشرته مع زوجته حيث لم يختلفا في كلمة سنين كثيرة.
قال الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ في كتابه "سير أعلام النبلاء"(10/318 ترجمة:78):
قال الخلال: سمعت المرُّوذي: (( سمعت أبا عبد الله ذكر أهله، فترحم عليها، وقال: مكثنا عشرين سنة، ما اختلفنا في كلمة، وما علمنا أحمد تزوج ثالثة )).
جمعه ورتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.
قال الخطيب في تاريخ بغداد :
(( وقال عمر بن عثمان : سمعت إبراهيم بن سعيد الجوهري يقول : دخلت على أحمد بن حنبل ، أسلم عليه ، فمددت يدي إليه فصافحني ، فلما أن خرجت . قال : ما أحسن أدب هذا الفتى ، لو أنكب علينا كنا نحتاج أن نقوم )). .
وفي الآداب الشرعية لابن مفلح :
( قال الشيخ تقي الدين : فأبو بكر والقاضي ومن تبعهما فرقوا بين القيام لأهل الدين وغيرهم فاستحبوه لطائفة وكرهوه لأخرى ، والتفريق في مثل هذا بالصفات فيه نظر .
قال : وأما أحمد فمنع منه مطلقا لغير الوالدين فإن النبي صلى الله عليه وسلم سيد الأئمة ولم يكونوا يقومون له فاستحباب ذلك للإمام العادل مطلقا خطأ
وقصة ابن أبي ذئب مع المنصور تقتضي ذلك وما أراد أبو عبد الله والله أعلم إلا لغير القادم من سفر فإنه قد نص على أن القادم من السفر إذا أتاه إخوانه فقام إليهم وعانقهم فلا بأس به .
وحديث سعد يخرج على هذا وسائر الأحاديث فإن القادم يتلقى لكن هذا قام فعانقهم ، والمعانقة لا تكون إلا بالقيام ،
وأما الحاضر في المصر الذي قد طالت غيبته والذي ليس من عادته المجيء إليه فمحل نظر .
فأما الحاضر الذي يتكرر مجيئه في الأيام كإمام المسجد ،
أو السلطان في مجلسه ، أو العالم في مقعده فاستحباب القيام له خطأ بل المنصوص عن أبي عبد الله هو الصواب ، هذا كلامه )) .
~ كـنــوووزة ~ @knoooz_2
عضوة شرف في عالم حواء
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
وجعل الله طرح القيم في موازين حسناتك