يخلق شخصية ضعيفة ويتسبب في الاضطرابات الجنسية
ضرب الأبناء.. يعالج موقفا ويحطم حياة
إعداد: رضوى فرغلي
وسط حيرة وانفعال كبيرين اشتكى لي الأب سلوك ابنه اللامبالي، وقال: «ابني لا يتأثر بأي من أشكال العقاب التي جربتها معه، بل يفعل الخطأ ثم يأتي إلي ويقول بابا اضربني لقد فعلت شيئا خطأ!».
اللامبالاة.. واحدة من سلوكيات عدة يواجه بها الأبناء ضرب الآباء لهم، وعدم التوصل إلى حل مشترك للأزمات الحياتية المتوالية بينهما. ولكي نعرف لماذا يتأزم الموقف وتصل العلاقة بين الطرفين (الآباء والأبناء) إلى طريق مسدود، علينا أن نتوقف امام أسئلة تطرح نفسها بقوة: ما الذي يضطر الأبوين إلى اتخاذ الضرب وسيلة لتربية أبنائهم؟ وما خطورته النفسية على الأبناء؟ وما الطرق الأكثر أمانا تربويا ونفسيا للتعامل معهم؟
منذ الولادة، وهذا الكائن البريء (الطفل) المراقب بصمت للعالم بأماكنه وأحداثه وشخوصه.. يسعى لتلبية احتياجاته الأساسية التي تضمن له البقاء، وإذا تأخر ذلك عن موعده يبدأ الطفل بالاحتجاج وإعلان وجوده الذي لا يقبل النقاش، ويأتي البكاء كأول حيلة يلجأ إليها لتلبية رغباته، ومع مرور الوقت ينجح في العثور على حيل أكثر لكسب أكبر مساحة إشباع لاحتياجاته ورغباته المختلفة، وهنا يبدأ صراعه مع العالم الخارجي، خصوصا الأسرة باعتبارها النواة الأولى للمجتمع، وإذا لم يكن الأبوان يملكان المهارة التربوية والحكمة في إدارة تلك المواقف اليومية، والموازنة بين رغبات الطفل وكيفية إشباعها بطرق سليمة، فسيجد الآباء أنفسهم في مأزق تربوي ونفسي كبير.
البعض لديه مفهوم خاطئ عن الأبوة أو الأمومة، بأنها تعني التصرف في الابن كيف نشاء كأنه أحد الأشياء التي نمتلكها في الحياة، وفرض وصاية شديدة القسوة عليه تخول لنا ضربه أو حبسه وأحيانا يصل الأمر إلى كيه بالنار كنوع من العقاب والردع الأسري. ويلقى هذا المفهوم رواجا وقابلية أكثر بين الأسر غير المتعلمة والفقيرة، وإن كان ذلك موجودا أيضا في غيرها ولكن بنسب أقل. ويتضرر البنات أكثر من الأولاد من الضرب أو الإيذاء الجسدي نظرا للاعتقاد بأنها تحتاج للشدة في التربية أكثر من الولد الذي غالبا لا يعيبه شيء.
قد يفهم البعض أنني ضد الشدة أو الحزم في تربية الأبناء، لكنني ضد تلك الوسائل غير الآدمية في التعامل معهم والتي تضرهم نفسيا واجتماعيا وجنسيا أكثر مما تنفعهم، وهي نابعة من جهل تربوي أكثر منه وسائل علمية مدروسة تجعل الآباء يعرفون متى يكون العقاب وأين وكيف، والضرب تحديدا؟ فهناك مناطق جسدية يحذر العلماء من الضرب عليها مثل الوجه والمؤخرة، كما يوجد مواقف لا يجب أن نعرض أبناءنا فيها للخجل الاجتماعي والإحساس بالخزي خصوصا في وجود آخرين. إن معظم الآباء والأمهات يفتقدون فلسفة العقاب، وكأنه سلوك بلا هدف أو تصور مسبق.. سلوك عدواني أكثر منه تأديبي.
9 أسباب تجعل الطفل على حافة الخطر
1-تلعب ضغوط الحياة والعمل دورا مهما في انفعال الأبوين وعصبيتهما الزائدة، وعدم تحملهما لعناد الأطفال وسلوكياتهم الخاطئة، وبالتالي الى لجوئهما للضرب كحل سريع ومؤلم لعقاب الأبناء. فالأب يعود من العمل مرهقا ولا يحتمل شكوى الأم أو تذمر الأبناء بعضهم من بعض.. والأم كذلك لا يمكنها السيطرة على أبنائها بالمناقشة والإقناع أو العقاب المعنوي، فتكون النتيجة حفلة عقاب أو بالأحرى حفلة تعذيب.
2-الخلافات الزوجية وغضب أحد الشريكين من الآخر، فالطرف الضعيف لا يمكنه رد الإساءة لشريكه أو التنفيس عن غضبه بطريقة مباشرة، فيلجأ لإزاحة Displacement هذا الغضب والعدوان على الأطفال كنوع من الانتقام من الذات والآخر، ويكون الضرب هنا غير مبرر منطقيا، وغير مساوٍ لسلوك الطفل الخاطئ، وإنما مجرد تفريغ شحنة سلبية ضلت طريقها داخل الأبوين أو أحدهما الذي يظل مستنفَرا وهجوميا حتى ينتهي الخلاف الأصلي.
3-افتقار الأهل إلى الطرق التربوية السليمة، فبعض الأسر تربي أبناءها بالأساليب المتوارثة والخبرات المكتسبة من الآخرين دون فرز لهذه الأساليب وهل هي مناسبة لأطفالهم أم لا؟ فكل طفل يحتاج لطريقة تعامل مختلفة عن الآخر بناء على تكوينه النفسي والعاطفي، وما يصلح مع طفل ليس بالضرورة يتماشى مع الآخر.. وهذا ما نطلق عليه التربية بالمصادفة، أو التربية العشوائية، أي التي لا تستند إلى منهج تربوي أو توعية نفسية سليمة.
4-قد يلجأ أحد الأبوين إلى الضرب كوسيلة عقاب كنوع من التوحد مع أب قاس، فحين يتربى هذا الأب بطريقة قاسية تعتمد على الضرب والإيذاء الجسدي، يلجأ هو أيضا إلى تطبيق المنهج العقابي نفسه مع أبنائه، وكأنه ينتقم لنفسه لاشعوريا، ويثبت أنه قوي وأنه صبر على عقاب أسرته في حال ضعفه أما الآن فهو قادر على إنزال العقاب ذاته وربما أشد على الآخرين حتى وإن كانوا أولاده.
5-يعتقد أغلب الآباء أن العنف وفرض السيطرة على الأبناء وتخويفهم، هي طرق فعالة في حفظ علاقة متينة مع أبنائهم، والبقاء على هيبتهم ووقارهم أمامهم، ويتفاخر الكثيرون بأن أولادهم لا يستطيعون الكلام أو الشغب أو التحرك من أماكنهم في حال وجودهم. فإذا فقد السيطرة الكاملة على أبنائه، خشي انهيار صورته الوقورة داخلهم.
6-إن عدم الاستقرار المادي والاجتماعي والمهني يجعل الآباء فاقدي الثقة بأنفسهم، وقدرتهم على تأمين متطلبات المعيشة، وتطاردهم صورة مشوهة عن ذواتهم، فمثلا نجد الشخص فاقد السلطة والصلاحية في عمله والمقهور من رئيسه، غالبا ما يكون حريصا على قهر أولاده، كأنه يلقي بإحباطه عليهم ويعوض صورته المهزوزة في العمل بصورة أخرى متصلبة ومستبدة في المنزل.
7-ربما يعاني الأب (أو الأم) مرضا نفسيا يجعله سريع الاستثارة وقليل التحمل لمشكلاتهم ومتاعبهم اليومية، الأمر الذي يجعله دائما يتسرع بقرار الضرب والتخلص من الموقف من أقصر الطرق، وهؤلاء الآباء غالبا ما يشعرون بالذنب الشديد بعد إيذائهم لأبنائهم لدرجة أنهم قد ينخرطون في البكاء، لكن في الوقت نفسه يعودون مرة أخرى للتصرف ذاته من دون اكتراث للنتائج.
8-عدم تفهم الآباء طبيعة المرحلة العمرية التي يمر بها الطفل، وبالتالي يعجزون عن التواصل معهم بطرق أخرى غير العنف، فمثلا في السن من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات يكون الطفل عنيدا ومشاكسا ويميل إلى عدم طاعة الأوامر كنوع من لفت الانتباه واكتشاف قوة الرفض داخله، كما أنه في مرحلة المراهقة يحاول فرض رأيه بالقوة، وكسب أكبر مساحة ممكنة من الاستقلالية ولو بسلوكيات خاطئة. هنا لا يجدي الضرب أو التحدي، إنما اللين والذكاء في التعامل وتفويت فرصة التصادم معه مباشرة.
9-إن الصورة المثالية التي يرسمها الآباء في أذهانهم عن الأبناء قد تؤدي بهم إلى الاصطدام كثيرا، فالأب (أو الأم) يتخيل دائما أن واجب الابن هو الطاعة العمياء واتباع تعليماته وأوامره وألا يحيد عن رأيه ومشورته ويمشي في الحياة كما يرسم له. هذه الصورة النرجسية لا تدع للأب مجالا لأن يفهم أن أبناءنا مختلفون عنا وأننا مجرد حماة ورعاة لهم ولمصلحتهم، لكنهم لن يكونوا مطابقين حرفيا لتلك الصورة التي تعبر فقط عن أحلامنا المفقودة من دون اعتبار لقدراتهم واختيارهم ورغباتهم. هنا يكون الصدام عنيفا، والضرب وسيلة لهدم ذلك الجسد الذي لم يحقق رغبتنا فيه.
العلماء يحذرون: الضرب على المؤخرة خطر!
قد يحل الضرب موقفا آنياً، لكنه يترك أثراً سلبياً عميقاً على شخصية الطفل سواء في الوقت الراهن أو مستقبلاً. تختلف نتائج العنف البدني على الأطفال باختلاف عوامل عدة، منها التكوين النفسي، والعاطفي، ودرجة حساسية الطفل، ودرجة مساندة أحد المحيطين به، وقدرته على تجاوز الموقف. فقد يؤثر الضرب في طفل بشكل مختلف أو مغاير عن طفل آخر، لكن في أغلب الأحوال تكون النتائج غير مُرضية وتحتاج إلى جهود كبيرة ومتضافرة لتجاوزها.
يخلق العقاب البدني أطفالا ضعاف الشخصية، مضطربي الانفعال، لا يمكنهم التصرف في المواقف الحاسمة أو التي تتطلب قرارات لأنهم يشعرون بقلة الثقة بالنفس، وأنهم دائما معرضون للعقاب إذا أخطأوا، فيمتنعوا عن حل المشكلة أو اتخاذ القرار حتى وإن كان صحيحا تجنبا للعقاب، ونلاحظ أنهم يلتفتون حولهم كثيرا، أو ينظرون إلى الآباء قبل إبداء أي رأي، فهم دائما يحتاجون إلى أوصياء عليهم مهما كبروا.
إن الضرب على مناطق جسدية بعينها يكون له تأثير أكثر سلبية من باقي مناطق الجسم، مثل الوجه، الذي يعتبر أول شيء نتعرف به على الآخرين، فإذا تعرض للإهانة، شعر الطفل بإهدار كرامته، والإحساس بالخزي، لذا فهؤلاء الأطفال يكثر بينهم الخجل الاجتماعي وعدم القدرة على مواجهة الآخرين، وغالبا ما يمشون أو يتحدثون ونظراتهم في الأرض، أو كما يقولون "عينهم مكسورة".
كما يشير موراي شتراوس في دراسته التي أجراها على 14 ألف طالب ثانوي في 32 دولة، إلى أن 10% من الذكور و12% من الإناث الذين يتعرضون للضرب على مؤخراتهم يصبحون فيما بعد أزواجا مازوخيين جنسياً، أي يشعرون بالإثارة حين ينزل بهم شركائهم العقاب البدني أثناء الممارسة الجنسية. وأحيانا، نتيجة لظروف ما ينقلب الأمر ليتحول هذا الشخص إلى زوج سادي، يجد اللذة في إنزال العقاب الجسدي بشريكه الجنسي. وبغض النظر عن نوع الانحراف، فالأمر يحتاج إلى مراجعة خوفاً على مستقبل أولادنا.
الإحساس الدائم بالذنب والتقصير، وكثرة الاعتذار والحرص على إرضاء الغير الناتج ليس عن الأدب أو حسن التربية وإنما عن الخوف اللاشعوري من الإيذاء أو الطرد من دائرة الحب.
إن الطفل كائن ذكي، فحين يدرك أن العقاب متكرر ولا يمكنه صده أو الدفاع عن نفسه، يلجأ إلى سلوك أكثر استفزازا وهو اللامبالاة وأحيانا طلب العقاب، كنوع من رد الفعل السلبي على الضرب وكأنه يقول للأب: أنت تستنفد طاقتك في لا شيء، فالضرب لا يجدي معي وإنما يتعبك أنت وحدك من دون فائدة. وهي حيلة دفاعية، حين يصل إليها الطفل يكون قد اتخذ قرارا بألا يتراجع عن سلوكه الخاطئ، وعلى الأبوين التمهل والتفكير في إعادة صياغة العلاقة.
تزداد اضطرابات السلوك بين الأطفال الذين يتعرضون للضرب مثل: التبول اللاإرادي، والمخاوف المرضية، والعناد، والصدام المستمر مع الآخرين، والصمت الاختياري، كردود فعل مختلفة على واقع مرفوض ولا يملكون القدرة على تغييره.
على عكس ما يتوقع الآباء، فإن الأبناء يختزنون في أذهانهم صورة مشوهة ومهزوزة وضعيفة عن الأب (أو الأم) الذي يلجأ للضرب كعلاج لموقف ما، فهم يدركون بالفطرة الضعف الذي يختبئ خلف قوة وهمية، ويقلل ذلك من احترامهم لأبويهم، ويكثر بينهم عقوق الوالدين، فليس هناك رصيد كاف من المحبة يمنعهم من ذلك.
من أكثر النتائج سلبية، هو توحد هؤلاء الأبناء المضروبين بآبائهم، ليتحولوا فيما بعد إلى آباء عدوانيين يتخذون الضرب وسيلة أساسية في التعامل مع أبنائهم، وكأنها دائرة مفرغة من العنف المجاني الذي لا يثمر إلا التشوه.
ضاعفوا رصيدكم من المحبة
لا أحد يزايد على حب الآباء لأبنائهم، لكن أحيانا من الحب ما قتل، وشوه، وأفسد.. فإذا كنا نتفق على أننا لا نريد إلا مصلحة أولادنا، وتحسين واقعهم، وتأمين مستقبلهم، علينا أن ندرك أن الذي يربطنا بأبنائنا علاقة متبادلة بين طرفين يجب فيها توفر الإشباع والرضا لهما معا، لا لطرف واحد على حساب الآخر.. علاقة قادرة على مضاعفة رصيدها من المحبة كل يوم، واكتساب مساحة مشتركة قوية، فالأبوان لديهما حب فطري لأبنائهما، أما الأبناء فكثير من حبهم لآبائهم هو حب مكتسب من حسن المعاملة والرعاية والاهتمام والتربية السليمة التي تنجح في توصيل معنى الحب والقيم النبيلة إلى الطفل.. من هنا، ربما تسهم النقاط التالية في خلق مساحة حميمية بين الآباء والأبناء.
إن التعبير عن مشاعر الحب لأطفالنا وعدم تشويهها بالعنف أو العدوان عليهم، حتى وإن زعمنا أننا نفعل ذلك لمصلحتهم، يعطينا الحق مستقبلا حين نكبر في السن، في أن نتوقع منهم رد الجميل وحسن العشرة والبر بنا، فالعلاقة تبادلية، وليست تسلطية، فإن كنا نملك الآن القدرة على عقابهم واستغلال ضعفهم، سيأتي يوم يكبرون فيه ويزدادون قوة، وقدرة على اتخاذ القرار، وقد يكون هذا القرار ليس في صالحنا كآباء.. فنحن لم نضع بذور الحب في قلوبهم حتى نجني زهور الرحمة.. إنما زرعنا شوكا سيجرح قلوبنا لتفيض أعيننا بدمع الندم بعد فوات الأوان.
تعتبر برامج التوعية التربوية والنفسية من الجوانب المهمة في علاج هذه الظاهرة، فقد نجد أبا حنونا وعطوفا، لكنه يجهل طريقة التعامل مع أبنائه ولا يعرف كيف يتصرف في المواقف المختلفة، فيلجأ إلى الأساليب التقليدية أو الى طريقته الخاصة في التفكير من دون الاعتماد على أسس علمية صحيحة.
من الجوانب المؤثرة في بعض الآباء المؤذيين جسديا لأبنائهم، هو الوازع الروحي، والتذكير بالجوانب الدينية التي ترفض الضرب المبرح للأبناء وتدعو إلى الرأفة بهم وتقدير ظروفهم بل ويحدد مراحل التربية بشكل دقيق ويلفت النظر إلى كيفية التعامل مع كل مرحلة بطريقة تناسبها.
من النضج أن نحل مشكلاتنا الزوجية والعائلية بطريقة حيادية بعيدا عن الأطفال، وعدم استخدامهم كأداة للضغط على الشريك، أو فرصة لتفريغ عدوان كامن لا علاقة لهم به.
محاولة التخلص من ضغوط الحياة والعمل، بالكلام مع صديق، أو الزوج، أو معالج، حتى لا تؤثر على العلاقة مع الأبناء، فنصبح كأننا نبني من جانب، ونهدم من دون مبرر من جانب آخر.
من المهم إذا وجد الآباء أنفسهم عاجزين عن التواصل مع أبنائهم، زيارة معالج نفسي متخصص يساعدهم على وضع أسس تربوية سليمة، خصوصا إذا كان الطفل يعاني أحد الاضطرابات السلوكية، كالسرقة، أو الكذب، أو التبول اللاإرادي، أو الخوف الشديد، أو العناد، أو رفض المدرسة، هنا يكون دور المعالج ضروريا لأن الأهل لا يمكنهم التعامل معه بمفردهم، وقد يزداد الأمر سوءا عند تدخلهم من دون خبرة أو وعي.
منقول من جريدة القبس الكويتية
اوطان @aotan
محررة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
ربة منزل محترفة
•
جزاك الله خير
الصفحة الأخيرة