ظاهرة الفضول والتدخل في شؤون الآخرين

الملتقى العام

إن ظاهرة ((الفضول و التطفل على حياة الغير )) من المشكلات الاجتماعية و الأخلاقية المزمنة و المنتشرة في أرجاء الوطن منذ القدم ,فهي مرتبطة بالوضع الأخلاقي والحضاري العام الذي يسود البلدان العربية التي تؤثر فينا ونؤثر فيها بصورة متبادلة حيث أن انتشار هذه الظاهرة دليل على الانحطاط الأخلاقي وانحدار المستوى الحضاري والثقافي , لأنها من أسوء العادات ومن أقبح الأفعال و التصرفات , ولطالما تضايق الناس منها و انزعجوا وتكدر مزاجهم , فالإنسان مهما علا شأنه أو صغر يحاول جاهدا كتم أسراره والمحافظة على خصوصياته وحماية شؤونه من تطفل الآخرين وتدخل الفضوليين ؛ وهذا بلا ريب حقٌ من حقوقه المشروعة التي كفلتها له الشرائع السماوية
والقوانين الوضعية ؛ فقد شرعت القوانين الصارمة في بعض دول العالم المتحضرة لمحاسبة المتطفلين وتعريضهم للمسآلة القانونية لأجل صيانة شؤون الناس وحماية حياتهم الخاصة من عبث المتطفلين وتدخل الفضوليين الذين يندفعون كالسيل الجارف الذي يحطم كل سدود الخصوصيات و أسوار الشؤون الشخصية كي ينتهكوها ويدخلوا حصونها ومن ثم يسحقوها بأقدامهم الهمجية ؛ فهؤلاء لهم رغباتٌ عجيبةٌ و دوافعٌ غريبةٌ تدفعهم قسرا لاقتحام حياة الآخرين واستطلاع أحوالهم واكتشاف أسرارهم ,فهذا النوع من الناس مصاب بداء الفضول وفايروس التطفل , وبالتالي أصبحت عقولهم لا تعي وأذهانهم لا تستوعب حقيقة هذه الصفة الأخلاقية الحقيرة والظاهرة الاجتماعية المنحطة ويتعاملون معها على أنها ظاهرة طبيعية وصفة غير مرضية ,دون ان يدركوا أنها اعتداء صارخٌ وانتهاك فاضحٌ لحريات الآخرين وحقوقهم ؛ فالفضولي عندما يكتشف أسرار الناس ويطلع على احوالهم الخاصة فأنه يتسبب في هدر كرامتهم وجرح شعورهم وتهديد حياتهم وأمنهم ؛ من هذا تعلم بأن شر الناس من تطفل على حياة الناس , فالمتطفلون تفكيرهم محدود ومنغلق و لا يشعرون بالقيم الأخلاقية المعاصرة ولا يستشعرون المبادئ الإنسانية الراقية ولا يتماشون مع التطور والتمدن والتقدم الحاصل في المسيرة البشرية الصاعدة ؛ فهم في واد والحضارة والرقي الأخلاقي في واد أخر, فهؤلاء لا يحترمون القيم الأخلاقية والمثل الإنسانية ويعتبرونها مجرد شعارات فارغة لاقيمة لها ولا وزن , ونظرتهم الشاذة هذه نابعة من جهلهم بالحقيقة الآتية : (( حريتنا ينبغي أن تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين , وان التعامل مع الغير له ضوابط شرعية و قانونية وأخلاقية يجب الالتزام و التقيد بها ؛ كي ينعم المجتمع بالسعادة والوئام والسلام )) 0

...............................................................................................
وقد عرف أهل اللغة الفضول بما يلي :
الفضول : ما لا فائدة فيه , يقال : هذا من فضول القول 0
والفضولي : هو الذي يتعرض لشؤون الغير ويتدخل فيما لا يعنيه 0
وفي اللهجة العامية المصرية يسمى ب (( الحشري ))
وعرفوا المتطفل بما يلي :
طفل الرجل و تطفل : صار طفيليا 0
والطفيلي : هو الذي يغشى الولائم والأعراس والمجالس العامة ونحوها من غير أن يدعى إليها 0
ويقال : انه منسوب إلى (( طفيل )) وهو رجلٌ من أهل الكوفة من بني عبدالله بن غطفان كان يأتي الأعراس والولائم ونحوها , ولا يقعد عن وليمة ولا يتخلف عن عرس ؛ فنسب إليه كل من يفعل فعله 0

.....................................................................................................................
مما سبق نتعرف على الفرق الشاسع بين الفضول وحب التطفل على حياة الآخرين وحب الاستطلاع بهدف التعلم وكشف الحقائق العلمية وتفحص الوقائع والأحداث الخارجية وفهم السلوك البشري فهما يختلفان اختلافا جذريا ? شتان بين الأمرين - فالبحث العلمي والدراسات النفسية والاجتماعية شيء والتطفل على حياة الآخرين والتدخل في شؤونهم التي لا تمت الينا بصلة ولا تعنينا البتة شيءٌ اخر0
إن احترام خصوصية الإنسان من أهم المبادئ الأخلاقية التي يجب الالتزام بها , اذ يعبر هذا الالتزام عن مدى تحضر الفرد ويعكس طبيعة قيمه في الحياة ويكشف عن مستوى البيئة التي خرج منها وتعلم فيها 0
الفضوليون يعطون لأنفسهم الحق في تتبع خطوات الناس ومعرفة أحوالهم والتدخل في شؤونهم وقد يمارسون تطفلهم المريض باسم الدين أو القرابة أو الجوار أو الصداقة أو الزمالة في الدراسة اوالعمل ...
بسبب هؤلاء التعساء أصبحت مجالسنا وتجمعاتنا عبارة عن فضول وتطفل وغيبة وبهتان وافتراء وهمز ولمز ... مما جعل المثقفين والمتحضرين والمهذبين يضيقون ذرعا بهذه الظاهرة الجهنمية ويشعرون بالحنق والجزع من تطفل هؤلاء مما دفع بعضهم إلى الهجرة إلى البلاد المتحضرة التي تختفي فيها هذه الظاهرة الاجتماعية السخيفة !! والباقون منهم يتجرعون العيش في هذا التجمعات الاجتماعية على مضض فهم كالقابض على جمرة من نار... ,خذ مثالا حيا يكشف لك عمق المأساة الاخلاقية والأزمة الاجتماعية التي نعيشها :

أمرآة طلقت و عزفت عن الزواج لأسباب هي أعلم بها من الناس ... انهالت عليها الأسئلة من كل حدب وصوب , حتى الصبيان سألوها ... و وصلها كمٌ هائلٌ من الرسائل و((المسجات )) على جهازها النقال ((الموبايل )) كلها تسأل عن سبب الطلاق ولماذا حدث في هذا الوقت ... فأصبحت تعاني الأمرين ألم الطلاق وعذاب الفضول والتطفل عليها ومضايقتها بالأسئلة التافهة والمحرجة ؛ مما دفعها إلى تغيير محل ولادتها وصباها والانتقال إلى منطقة أخرى علها ترتاح من تدخل الفضوليين في حياتها 0

....................................................................................................................
هؤلاء كالطفيليات التي تعتاش على الكائنات الحية الأخرى والتي تفتك بها ببطء وتشوه أجسامها , فهم يعيشون على التطفل والتدخل في شؤون الناس ويتنفسون الفضول والقيل والقال والغيبة ...
قيل والقال والفضول وذكر الناس بالسوء يمثل متعة ما بعدها متعة بالنسبة للئيم ؛ فالتطفل والفضول لدى هؤلاء الشاذين كالربيع للأصحاء الأسوياء يتنعمون بالغيبة والقيل والقال كما يتنعم ويلتذ الإنسان السوي السليم بأريج الزهور وعطر الياسمين وزخات المطرو نسيم رياح الشمال العليل في فصل الربيع 0

الفضولي يحاصر جاره وصديقه وقريبه و زميله ... بفضوله وتطفله وتدخله وأسئلته التي لا تنتهي ولا تقف عند حد معين ؛فحينما يخرج جاره برفقة عائلته لأمر ما , يأتي الفضولي إليه بسرعة البرق الخاطف ليسأله : (( راشده )) (( وين رايحين )) (( اين ذاهب )) (( أش عدكم طالعين هسه )) من دون مراعاة لخصوصية جاره أو احترام لشؤونه الخاصة ... أما عندما يشاهد الفضولي مناسبة ما في بيت جاره ويرى أصدقاء وأقرباء جاره يدخلون ويخرجون ... ؛ لا يصبر ولا يقدر على كبح جماح فضوله فيأتي مسرعا ليسأل جاره : (( شكو عدكم )) (( شنو المناسبة عدكم )) (( ليش ما عزمتنه ليش ما دعيتنه )) (( من صاحب هذه السيارة المرسيدس الواقفة امام بيتك ؟ )) مما يضطر الجار المسكين المبتلى إلى الإجابة عن هذه الأسئلة التافهة والسخيفة وتقديم كشف بكل نشاطاته ومناسباته العائلية والشخصية وتفاصيل حياته كي يسلم من إلحاحه وتطفله المقرف

...............................................................................................................
الكرم من أرقى المفاهيم ومن أفضل القيم ؛ الكريم رجلٌ جميلٌ , وأجمل ما فيه غض الطرف عن عورات الناس والتغافل عن عيوبهم وترك تتبعها ؛ إما اللئيم فهو الذي يتجسس على الناس وينشر أخبارهم ويذيع مساوئهم ويتكلم عن عيوبهم , إذ أن المعلومة عنده كالرصاصة يوجهها إلى صدور الناس المسالمين , بل إن الفضول والتدخل في شؤون الغير أشد فتكا من حر الرصاص وبطش السيوف , فما أكثر الهلكى بسبب الفضول والتدخل فيما لا يعنيهم , ولا عجب في ذلك إذ أن الفضول أس الشرور وجذر الأضرار ومفتاح المشاكل وأم الرذائل فكأن الفضول أصل والرذائل فروعٌ له , بل هو جوهر الرذيلة نفسها , وإنما يأتي في أشكال مختلفة ويتمثل في صور متنوعة 0
...................................................................................................................
لإنسان المتحضر في هذا العصر يريد العيش بسلام و وئام مع الآخرين , ويحب ممارسة أعماله وهواياته بهدوء ومن دون تدخل وتطفل الآخرين , إذ إن التطفل في الوقت الراهن يتسبب في عرقلة حياة الغير وتشويش برامجهم اليومية ,بعض الفضوليين يتطفلون بحجة النصيحة او السؤال عن أوضاع وأخبار زيد أو عمر وهي حجة واهية ولا تصلح مبررا لانتهاك خصوصيات الناس بل قد يكون العكس هو الصحيح فسؤاله عن غيره قد يكون نابعا من فضوله وتطفله بل حسده وحقده وغيرته لذا ورد في الأمثال العراقية العامية ما يؤكد ذلك : (( العدو ينشد أكثر من الصديق )) 0
.................................................................................................................
للفضول والتطفل والتدخل في شؤون الناس أسبابٌ كثيرةٌ منها
1- وقد يكون الدافع والسبب لمجرد التسلية وقضاء الوقت الفارغ بالقيل والقال وحب الاطلاع على أسرار وخصوصيات الغير ؛ لان أغلب المتطفلين والفضوليين هم من العاطلين والفاشلين الذين لا عمل لهم ولا هم سوى التسلي بذكر أخبار الناس والاستئناس بكشف فضائحهم وعوراتهم وخصوصياتهم 0
2- ومن اسباب الفضول والتطفل أيضا ؛ العيش في مجتمع عدائي يتصف ابنائه بالحالة النفسية السلبية , فكل شخص فيه يعيش هاجس الخوف من الاخر لذا تراه يبحث جاهدا عن عيوب وزلات وأخطاء الاخرين من أجل حماية نفسه من هجومهم و أخطارهم؛ فالقاعدة السارية في مثل هكذا مجتمعات : (( ان لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب )) .

...................................................................................................................
فهؤلاء الذين يكثرون من التدخل في شؤون الاخرين يتصفون بالخصائص النفسية التالية :
? لديهم دوافع لاشعورية (( أو مكبوتة )) كالحاجة الى الانتماء والتقدير الاجتماعي 0
- الشعور بالنقص والفشل في التعويض 0
- الرغبة اللاشعورية بالمنزلة والتفوق والسيطرة 0
- فرض حاجاتهم على الاخرين 0
- عدم قدرتهم على التمييز بين الأشياء التي تنتمي اليهم وما ينتمي للاخرين في المجتمع 0
- بالاضافة الى وجود مفهوم سالب للذات 0

............................................................................................................

سيداتي سادتي أتركوا الفضول , ولا تتطفلوا على حياة الآخرين ؛ لأنه يسبب الألم والحرج ويهتك خصوصيات الناس , احترموا الحياة الشخصية والخصوصية للإنسان , فاحترام الخصوصيات من أعظم المبادئ الأخلاقية والقيم الإنسانية , وهي مزية المثقفين وصفة المهذبين وشعار الناجحين والسعداء..

إذ أن للنصح والتوجيه حدود وآداب وأعراف ينبغي الالتزام بها وعدم تجاوزها وجعلها خلف الظهر ؛ فحينما نتجاوز تلك الحدود يصبح تدخلنا محرما لأننا اعتدينا على حرمة الصداقة ودخلنا مساحات في حياته الخاصة ليس من حقنا التعرف عليها , منتهكين قواعد الأدب والذوق , وقد جاء عن النبي (ص) ما يؤكد ذلك : (( طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس )) ؛ فالإنسان الناجح هو الذي يبدأ بتهذيب نفسه ونصحها ويهتم بشؤونه ويحل مشاكله ويشخص عيوبه اولا... , ابتعدوا عن التطفل وانبذوا الفضول لأنه يزعج الناس ويؤذيهم , لا تجعلوا الناس همكم الشاغل وتنسون أنفسكم وتغفلون عن مشاكلكم 0

أنا اعتقد اعتقادا لا ريب فيه أن الخطوة الأولى في سبيل النهوض والرقي , هجر هذه الصفات السيئة ومحاربة تلك الظواهر السلبية , ومن يخطو الخطوة الأولى ويضع الحجر الأول في بناء المجتمع السعيد , هو أفضل عامل وأشرف مواطن

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) حديث حسن رواه الترمذي وغيره



منقول
2
11K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

اساور من ذهب
اساور من ذهب
لو تقدري تغيري الالوان يكون افضل