عام مضى وعام دنا

الملتقى العام

عام مضى وعام دنا

بقلم فضيلة الشيخ/ عبد الباري بن عواض الثبيتي

إن هذه الشمس التي تطلع كل يوم من مشرقها، وتغرب في مغربها تحمل أعظم العبر، فطلوعها ثم غيابها إيذان بأن هذه الدنيا ليست دار قرار، وإنما هي دار طلوع وزوال.

انظر إلى هده الشهور، تهل فيها الأهلة صغيرة كما يولد الأطفال، ثم تنمو رويداً، كما تنمو الأجسام، حتى إذا تكامل نموها،أخذت في النقص والاضمحلال، وهكذا عمر الإنسان، تتجدد الأعوام عاماً بعد عام، فإذا دخل العام الجديد، نظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد، ثم تمر به الأيام سراعاً، فينصرم العام كلمح البصر، فإذا هو في آخر العام، وهذا عمر الإنسان يتطلع إلى آخره تطلع البعيد، فإذا به قد هجم عليه الموت!

يؤمل الإنسان بطول العمر، ويتسلى بالأماني، فإذا بحبل الأماني قد انصرم، إننا في هذه الأيام نودع عاماً ماضياً شهيداً، ونستقبل عاماً مقبلاً حديداً، فليت شعري ماذا أودعنا في عامنا الماضي؟ وماذا نستقبل به العام الجديد؟

قال أبو الدرداء رضي الله عنه ((يا ابن آدم إنما أنت أيام، فإذا ذهب منك يوم ذهب بعضك )).

وقال أبو حاتم رحمه الله تعالى ((عجباً لقوم يعملون لدار يرحلون عنها كل يوم مرحلة، ويدعون أن يعملوا لدار يرحلون إليها كل يوم مرحلة))

كيف يفرح من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره؟

كيف يفرح من عمره يقوده إلى أجله، وحياته تقوده إلى موته ؟

قال ابن عباس رضي الله عنهما ((كيف نفرح والموت من ورائنا، والقبور أمامنا، والقيامة موعدنا، وعلى جهنم طريقنا، وبين يدي ربنا موقفنا؟ )).

لقد ضربت الدنيا في قلوبنا بسهم، ونصبت في قلوبنا رايات، ليلنا ونهارنا في حديث عن الدنيا، كم نربح ؟ وكم نجمع؟

إن ضرب موعد للدنيا بادرنا إليه مبكرين، وأقمنا عند بابه فرحين، ولا يبقى للآخرة في قلوبنا إلا ركن ضيق، وذكر قصير.

انظر إذا رفع الأذان، كم ترى من المسرين والمسرعين، وفي الطرقات ترى الكثرة من الناس تسير بعجلة للدنيا، لقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمر، بوصية أغلى من الدرر، تصحح منظور المسلم في هذه الحياة الدنيا حيث قال ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل )) رواه البخاري

وعلى هذا فعابر السبيل يتقلل من الدنيا، يقصر الآمال، ويستكثر من زاد الإيمان، حديثه تلاوة آيات الله، وهمه المسابقة إلى الخيرات، فاليوم الذي مضى لا يعود، ولهذا يقول معاذ جبل رضي الله عنه وهو على فراش الموت (( اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا، ولا طول المكث فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل، وظمأ الهواجر في الحر الشديد، لمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر))

عابر السبيل لا يدنس نقاء النهار لآثامه، ولا يقصر الليل! بغفلته ومنامه إن دعي إلى الطاعة أجاب، وإن نودي إلى الصلاة لبى على قدم الاستعداد أبدا، في غدوه ورواحه، وحديثه وكلامه، إنه يعلم أن من أمضى يوما من عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه، فقد عق يومه، وظلم نفسه

أن تزاحم الأشغال لكسب العيش كل يوم حال بين العبد وبين الخلوة مع نفسه والحديث إليها، فهو في حالة من الجري الدائم للحصول على المزيد، في سباق مع الدنيا، ونهم لشهواتها، وحرص على رصيد هائل من أموالها، فنقصت مدخراته من الآخرة.

قال سعيد بن مسعود رحمه الله تعالى ((إذا رأيت العبد تزداد دنياه وتنقص آخرته، وهو لذلك راض، فذلك المغبون الذي يلعب بوجهه وهو لا يشعر)).

قال محمد بن واسع ((إذا رأيت في الجنة رجلاً يبكي ألست تعجب من بكائه؟ قيل: بلى، قال فالذي يضحك في الدنيا ولا يدري إلى ماذا يصير هو أعجب منه ))

حاسب نفسك لتعرف رصيدك من الخير والشر، ومدخراتك من الأعمال الصالحة، هذه وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه ((حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا)).

المحاسبة تكشف لك عن خبايا نفسك، وتظهر عيوبها، فيسهل عليك علاجها قبل فوات أوانها.

قال مالك بن دينار رحمه الله ((رحم الله عبداً قال لنفسه ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها ،ثم خطمها ، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل وكان لها قائداً))

ولا تقولن لشيء من سيئاتك هو حقير، فلعله عند الله نخلة وعندك نقير.

إن المحاسبة التي لا يتعدى أثرها دمع العين وحزن القلب، دون صلاح وإصلاح، محاسبة ميتة، ونتيجة قاصرة.

المحاسبة المثمرة، تلك التي تولد ندماً على المعصية، وتحولاً إلى الخير

إننا نتساءل:

- عن حقوق الله هل وفيتها؟ وحقوق العباد هل أديتها؟

- ما حالك مع الصلاة؟ هل تؤديها مع الجماعة بشروطها وأركانها وواجباتها بخشوع ؟ هل تسكب من خشية الله الدموع؟ فإن النار لا تدخلها عين بكت من خشية الله.

- هل ما زلت مصراً على هجر صلاتي الفجر والعصر مع الجماعة ؟ تلك صفات المنافقين، ومن فاتته صلاة العصر حبط عمله، كما ثبت ذلك عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

- أما زلت غافلاً عن تلاوة كتاب الله، وقد كنت مقبلاً عليه في شهر رمضان ؟، {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} .

- النوافل والمستحبات لم تفرط فيها؟وهي علامة الإيمان،وطريق محبة الرحمن،وقد ورد في الحديث القدسي ((وما يزال عبدتي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي تمشي بها، وأن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه )) رواه البخاري.

- ما الذي أهمك في عامك الماضي وأقض مضجعك لقمة تأكلها، ولباس تلبسه، متعة عابرة ولذة عاجلة، مال تقتنيه وتجمعه؟ أم كان همك أن تحيا لله سالكاً سبل مرضاته وجناته؟

- ما الذي آلمك في أيامك الماضية؟، منصب لم تستطع تحصيله، ودنيا لم تبلغ مناك فيها، أم أن دعوة الله تختلج في نفسك، فإذا علا منارها، وارتفع لواؤها، خفق القلب فرحاً، وتهادت النفس سروراً، وإذا أصابتها العواصف والأرزاء دمعت العين وحزنت النفس وجأر اللسان، يشكو إلى رب العباد أحوال العباد.

- هل كنت في الماضي زارعاً للخير، تغرس بكلماتك الفضائل، وتنشر العطر بأفعالك ؟ أم كنت تغرس الشر والأذى، وتنصب الألغام في طريق إخوانك ؟‍‍‍‍‍‍‍‍!

ذلك ماض لا حيلة لرجعه، فما مضى لا يعود، وإن كنت تملك محو ذنوبه وسيئاته بالتوبة والاستغفار، أما عامك الجديد فها هو مقبل عليك.

- ابدأ عامك الجديد بهمة عالية، وعزيمة وقادة، مقدماً حقوق سيدك وإلهك ومولاك، وحقه أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر.

- أد حقوق والديك بالرعاية والعطف والحنان، وحقوق زوجك وأبنائك بترسيخ الإيمان وعدم الإهمال، تذكر أقاربك وجيرانك، ولا تطرد المحتاجين من الأرامل واليتامى والمساكين.

- أد حقوق الخدم والعمال قبل أن يجف عرقهم، وأحذر ظلمهم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.

- مع بداية العام الجديد جاهد نفسك في تحقيق أعلى مراتب العبادة وهو الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تن تراه فإنه يراك

بمثل هذه الإحساس والشعور يصبح المؤمن ويمسي مراقباً لربه، محاسباً لنفسه، فلا يظلم، ولا يعتدي، ولا يأكل حقوق الآخرين، ولا يبغي الفساد في الأرض.

وأنت ترى زوال الأيام، وانقضاء الأعمار وذهاب الخلان، ذكر نفسك بحقيقة الدنيا التي تهفو إليها النفوس، ذكرها بأن أيامها زائلة، وزهرتها ذاوية، وزيلتها فانية، ومسراتها لا تدوم، ذكرها بالنعيم المقيم، في جنات الخلود { أكلها دائم وظلها }.

إنك في العام الجديد لا تدري ما يستجد لك فيه من أحوال مع تقلبات الليل والنهار، فخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك، ومن غناك لفقرك، ومن شبابك لهرمك هاهـو العام الجديد قد أقبل، فاستثمر أيامه ولياليه، قال تعالى:{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إله هو الغفور الرحيم}



مجلة الدعوة - العدد 1735 - 24 ذو الحجة 1420 هـ - 30مارس 2000م
0
811

هذا الموضوع مغلق.

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️