_عتبة الباب_
وضعت قدمها على عتبة الباب , ونظرت بعينين دامعتين إلى كل السيارات أمام البيت . هذه السيارات التي أتت جميعا لتأخذها إلى حياة أخرى في حفل زفاف يُقال له حفل زفافها . كانت واقفة تتأمل من فتحة نقابها الجموع بنظرات بؤس لا توصف . أطرقت رأسها حزنا فإذا بعينيها تقع على العتبة التي وضعت عليها قدميها . كانت ذات العتبة التي وضعت عليها قدميها قبل ثمانية عشر عاما حين كانت في السادسة من عمرها . لن تنسى ذلك اليوم الحزين الذي أتى فيه خالها ليخرج أمها مما هي فيه من الجحيم . الأم المسكينة لم ترحل إلا بعد أن طرقت أبواب كل الحلول , فلم يُجد شيئا , فنفد صبرها وقررت الذهاب دون عودة . لازالت هدى تذكر معاناة أمها مع أبيها المدمن والمروج في آن واحد . بل إنها ومع صغر سنها في ذاك الحين , لازالت تذكر المأساة بكل تفاصيلها . لازالت تذكر أنواع الضرب الذي كانت تجده أمها من والدها , وتذكر كل الشتائم و الإهانات التي لم تتوقف حتى ذلك اليوم الذي قام فيه هذا الأب القاسي بحبس زوجته في الحمام ليلا , وتركها حبيسة حتى اليوم التالي . لازالت هدى تذكر صبر أمها وكيف كانت تتعجب منها أنها لم تستنجد بهم ولم تصرخ أبدا طوال مكثها في الحمام . لكن هذا التعجب زال عنها عندما علمت من الحياة مدى حنان قلب الأم , فأيقنت أن أمها كانت تُكتّم صرخات قلبها رفقا بمشاعر بُنياتها الصغار , تلك المشاعر التي لم يرع والدهم حرمة لبراءتها .
لازالت هدى تذكر ذلك الانتصار الذي حققته حينما استطاعت سرقة مفتاح الحمام من غرفة والدها عند خروجه ظهرا لملاقاة أحد مروجي المخدرات ممن يتبادل معهم البضائع . كانت هدى ترتعد خوفا وهي تفتح الباب لأمها الحبيسة . لم تزل هدى تذكر منظر أمها لحظة خروجها مسرعة نحو نافذة المطبخ حيث بدأت تنادي جارتهم التي اعتادت أن تتحدث معها من هذه النافذة . تذكر هدى جيدا حديث أمها مع الجارة وهي تستجديها كي تتصل بأهلها , فكما قالت " لم يبق لها مكان تجلس فيه " . عادت الأم مسرعة إلى الحمام وأمرت ابنتها أن تغلق الباب وتعيد المفتاح على عجل قبل أن يكتشف والدها الأمر . لازالت هدى تشعر باحتضانة أمها لها قبل أن تغلق الباب ولازالت تسمع صوت أمها وهي تجهش بالبكاء . كان هذا هو الانتصار الذي حققته هدى والذي كانت تندم أحيانا عليه لأنه أفقدها لؤلؤة قلبها , فلم تكد تمر سويعات قليلة حتى وصل خال هدى ومعه مجموعة من سيارات الشرطة . ورغم رتبته العالية في الأمن غير أنه لم يستطع إخراج أخته إلا بعد محاولات ونقاشات طويلة . حينها قام الأب بإخراج هدى وأُختاها لكي يروا أمهم وهي تتركهم مع سيارات الشرطة . كان هذا الأب الذي تجرد من كل معاني الأبوة يريد أن يثير عطفها على بناتها حتى تبقى معه . كانت الشمس قد دنت من الغروب والأم تمشي نحو سيارة أخيها بخطى بطيئة مثقلة بالوجد على بُنياتها . أصوات أجهزة سيارات الشرطة والبلاغات التي تردهم تملأ المكان , وهدى وأختها الكبرى والصغرى واقفات على عتبة الباب يرقبون الموقف بأعين بريئة قد اغرورقت بالدموع . ومنذ تلك اللحظة وتلك الوقفة على تلك العتبة لم ترَ هدى ولا أختيها أمهم , و بدأوا بعدها المعاناة ولكن وحيدات .
كانت هدى الأكثر معاناة بين أخواتها لأنها الأذكى والأكثر جرأة على الاعتراض أحيانا على الظلم والذل . وهاهي اليوم ورغم كثرة مقاوماتها للظلم تُزف رغما عنها إلى صديق لأبيها مروج كما زُفت أختها التي تكبرها رغما عنها إلى مروج أيضا . هاهي هدى تقف على ذات العتبة التي وقفت عليها من قبل وودعت أمها بنظراتها , واليوم تقف عليها لتودع حياة شقاء وتستقبل المجهول . كان المنظر مشابها لذاك , فالشمس قاربت هي أيضا على الرحيل وأمام الباب سيارات عديدة . طال وقوف هدى على العتبة , وهي مطرقة تستعيد الذكريات , فاقتربت منها أختها التي تصغرها والتي كانت تقف بجانبها وربتت على كتفها وهمست في أذنها " أرجوك يا أختي لا نريد مزيد مشاكل مع أبي " . رفعت هدى رأسها وحولت بصرها من العتبة إلى المشهد الذي أمامها , ثم رمقت عينا أختها الباكية من فتحة النقاب , ثم جالت ببصرها في السماء وأغمضت عيناها وسقطت على عتبة الباب .
بــقلمي ســـــارة العبدالله