قبل أن يُبعَث النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم كان العالم كلـّه في هرج ومرج، فهذا يقتل ذاك بغير نفس أو فساد في الأرض، وهذا يغتصب عرض ذاك لا لشيء إلا ليهلك الحرث والنسل، وهناك من كان يسلب مال الآخرين دون وجه حقّ إلا لأنـّه الأقوى في زمانه. ولم تكن هناك مقاييس أو معايير يُستـنـَد إليها للتحكيم أو المُقاضاة، فكانت جميع القضايا تـُسجّل وتدوّن ضدّ (مجهول!)، مع أنّ الفاعل قائم ماثل أمام الجميع، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق دون أيّ خجل أو وَجل.
نعم... هكذا كان يعيش أناس ما قبل الإسلام، والحقّ يُـقال أنّه لم يكن بين هؤلاء وبين الأقوام البشريّة التي عاشت في فترة ما قبل التأريخ، أيّ فرق يُذكر، أللهمّ إلا في المأكل والملبس – وهذا فرض لا تأكيد.
وبعد أن بُعِث النبيّ صلى الله عليه وسلم نبياً، وعرف القاصي والداني حقيقة قوله، ومنطق مقالته، تجمّعت كلّ قوى الشرّ لإطفاء النور الذي أبى الله سبحانه إلا ليتمّه على الناس كافة، ومنهم بالطبع القتلة والمُفسدين في الأرض والهاتكين الأعراض والمُهلكين للنسل والحرث والسالبين لأموال الغير، والكثيرين ممّن كانوا بحاجة إلى ذلك النور ليُبصروا به ما قد كان خفي عليهم من قبل، ولكي لا يكون للناس على الله (أيّة) حجّة.
فدخل الإسلام آنذاك مَن دخل، وأحجمَ عنه مَن لم يُدرك القول ولا كان ممّن استطاع فهم المنطق. ولمـّا توفي النبيّ( صلى الله عليه وسلم )، وظنّ البعض أنّ هذه الوفاة كفيلة بإسدال الستار على الفصل الأخير من مسرحية تراجيديّة، قلبت موازين كلّ شيء رأساً على عقِب، وتأمّلوا خيراً – بزعمهم – في أن يعود كلّ شيء إلى نصابه من جديد! دعونا نسمّي هذه الفئة بالفئة الأولى.
وشعر البعض الآخر بحريّـته وإطلاق سراحه من القيود التي كان الإسلام قد فرضها عليه – بزعمه أيضاً – فتنفـّس الصعداء، وأحسّ بزوال ثقل كبير وهمّ كان جاثماً على صدره! فرجع يمارس ما كان يمارسه قبل إسلامه (الكاذب طبعاً)؛ وهذه هي الفئة الثانية.
وهناك فئة أخرى لم تشعر، لا بقدوم الإسلام أو قائده، ولا برحيله وذهابه، فبقي على حاله، لم يحرّك ساكناً، ولم يُدرك – أو ربما لم يشأ أن يُدرك – ما يحيط به من التطورات وما سيؤول إليه أمر هذا الدين؛ فلنعتبره من أصحاب الفئة الثالثة. أمّا الفئة الرابعة، فكانت أشدّ ذكاءاً، وأسرع بديهة، حيث أحسّت بقيمة هذا الدين، وعاقبته الزاهرة، وأنّه – أي هذا الدين – سيسود يوماً ما على العالم كلـّه، فقالت: كيف نتركه ولا نبالي به، وهو كنزنا الدفين، ومستقبلنا المشرق؟ أقول: أن نرى شخصاً – أيّ شخص – يدّعي أنّه مسلم، وأنّه يحترم المسلمين، وأنّه بارّ بهم، أمين عليهم وعلى أرواحهم وأموالهم، وكلّ ما يملكون، فهذا شيء لا ريب يُفرحنا، ويغيظ أعدائنا، ويقوّي ويوحّد صفوفنا. أليس كذلك؟ لكن، أن نعلم بعد حين، أنّ هذا المسلم الذي يدّعي احترامه للمسلمين، ويقول بأنّه بارّ وأمين، وأنّه إنّما يعمل لخير الأمّة، مستنداً إلى سلطان مكين وكتاب منير، أقول، أن نعلم أنّ هذا الرجل إنّما كان – ولا يزال – يستغلّ الدين الحنيف لتنفيذ مآربه، وتمشية أموره هو، لا أمور إخوانه المسلمين، وأنّه يرفع شعار الدّين ليهدم به ذلك الدّين، فهذا أمرٌ لا محالة قد دبّر بليل! وببساطة أكبر، إذا رأيتَ شخصاً ما يتأرجح ويميل بجسمه ذات اليمين وذات الشمال في زاوية من الطريق، ولا يقدر على الوقوف على قدميه إلا بصعوبة، وإذا تحدّثتَ إليه لم تفهم منه سوى ألفاظ غريبة وعجيبة لا يستطيع نطقها بالسهولة التي ينطقها الشخص السويّ، وإذا اقتربتَ منه أكثر، رأيتَ فمه تفوح منه رائحة المسكر والخمر، فستعلم فوراً أنّ هذا الشخص هو مَن يُسمّى بالـ(سكـّير).
وإذا شاهدتَ امرأة تمشي بدلال على غير استحياء، وهي نصف عارية، تعلك وتدندن، وقد تلوّن وجهها بألوان «قوس قزح»، فلن يلومك أحد إذا ما قلتَ: إنـّما هذه بغي! وإذا تعاملتَ مع أحدهم ودخلتَ معه في (تجارة حاضرة) أو تداينتَ معه بدَيْن أو غير ذلك، فأكلَ مالكَ، وأنكر حقكَ، وسلخ جلدكَ، وولـّى مُدبراً عنك، غير آبه بكَ ولا بما سيحدث لك، فهذا هو (آكل الحرام) بعينه.
وإذا حدث أن ائتمنتَ شخصاً ما على عرضكَ ومالك، لكنـّه لم يراع فيك المروءة، ولا اتقى الله فيك، ولا ارقبَ فيك إلا ولا ذمّة، فهذا خائن، سواء أكان قريباً أو غريباً. أليس كذلك؟ هوّن عليكَ... فليس هذا هو المهمّ... نعم... لأنّ الأهمّ هو أن تعلم بأنّ (السكـّير) و(البغي) و(آكل الحرام) و(الخائن)، وغيرهم ممّن نراهم كلّ يوم، ونتعامل معهم بثقة وإيمان وإخلاص؛ الأهمّ هو أن تعلم بأنّ كلّ أولئك هم ((مسلمون)) – أو هكذا تعرّفهم بطاقاتهم الشخصيّة على الأقلّ. ألا يحزّ ذلك في نفسك؟ فلو كانوا غير مسلمين لهانَ الأمر، ولكن أن يكونوا مسلمين، فهذه هي الطامّة الكبرى. إذ كيفَ ستزجره إذا لم يزدجر هو من ذات نفسه، أم كيف ستنهره إذا لم يتمكن دينه وعقيدته من فعل ذلك، أم كيف ستجادله وهو قادر على دحض حججك بآيات قرآنية، وأحاديث نبويّة، ومواعظ وحكم فلسفيّة؟ لا شكّ في أنـّك أنتَ الخاسر، بل وسترى الناس – وخاصة الجهلة منهم – يلومونكَ على الإعتراض على مَن هو أكبر منكَ إمّا سنـّاً أو رتبة أو مكانة اجتماعية، أو... إنـّها لمشكلة عويصة حقاً – وأيّة مشكلة. وأيّة مشكلة هي أكبر من أن ترى أخاك، المحسوب عليك، المسلم الصائم المصليّ، الذي لا تفارق السبحة يده ليل نهار، والذي تحسبه ذخراً لكَ في دنياك وآخرتك، وتذهب مكانه إلى جبهات القتال لتمنع عنه وعن عياله وماله كلّ أذىً وشرّ؛ أيّة مشكلة هي أكبر من أن ترى هذا الشخص وهو يأكل مالك في أوّل النهار، ويخونك في وسطه، ويسكر في آخره؟ إنّ العدوّ الذي ذهبتَ لتقاتله إنـّما هو موجود في عـُقر دارك، يسكن بين ظهرانيك. إنـّه هو الذي سمحتَ له بالدخول إلى بيتك دون استئذان، وهو الذي آمنته من كلّ خوف ليعيش بسلام واطمئنان، وهو الذي إذا رآك ابتسمَ، وإذا اجتزته وخلا عضّ عليك الأنامل من الغيظ! وهو الذي يلحّ عليك بطلب خدمة منه، فإذا طلبتها منه مالَ عنك وانصرَف! إنّ الصّدع موجود في جدارك، والهدمُ سيبدأ أعماله في بيتك، فلا حاجة بك إلى البحث في الخارج. بصراحة... إنّ مجتمعنا الإسلاميّ الذي ربينا فيه، وما زلنا نعيش ضمن محيطه – نحن وآباؤنا وأبناؤنا وأقاربنا وأصدقاؤنا وذوونا – ينقسم إلى قسميْن:
(١): المنافقون
(٢): المتطرفون؛
فالقسم الأوّل متلبّس بلباس الدّين، ومن الصعوبة بمكان معرفته، وإذا عرفته، اتحدّاك أن تواجهه! والقسم الثاني فقدَ كلّ ثـقة بينه وبين زمانه ومكانه، واتحدّاكَ (أيضاً) في أن تـُرجع له تلك الثقة. والآن لنتساءل: هل اختلف مجتمع القرن الحادي والعشرين (ولو بشيء يسير) عن مجتمع الفئة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة؟ الجواب: نعم، لأنّ الفئات المذكورة لم تكن تمتلك وسائل تقنية حديثة في الإحتيال والدّجل والمكر، أمّا (مجتمع القرن الحادي والعشرين) فيمتلك كلّ تلك الوسائل مع ((تحديثاتها - updates)) اليوميّة، أمّا مصدر تلك الوسائل، فيقول أصحابها أنّها (القرآن) و(السنّة)... قاتلهم الله. فلم يعد لدينا شيء اسمه (العصبية الجاهليّة) بل (العصبيّة الإسلاميّة)، ولم يعد لدينا شيء يُسمّى بـ (المكر الجاهليّ) بل يُسمّى في الوقت الحاضر بـ (المكر الإسلاميّ) ولم يعد هناك وجود لشيء اسمه (الحرام الحرام) ولا (الحلال الحلال) بل نقول عنه اليوم (الحرام الحلال) و( الحلال الحرام)...! نعم، فالعالم كلـّه يتقدّم، فلماذا نحرم أنفسنا – نحن المسلمين – من هذه النعمة؟ ألسنا ببشر كغيرنا من البشر؟ أم هل يريدنا الآخرون أن نصدّق ما يقولوه عنـّا زوراً وبهتاناً بالـ(ذئاب بشريّة)؟ ولنكن (ذئاباً بشريّة)، فنحن لم نؤذ أحد – بل لن نجرؤ على ذلك – إلا أبناء جلدتنا ومَن هم على ديننا ومذهبنا وإخواننا في العقيدة. وهذا شأن ((داخليّ)) و((مسألة عائليّة)) خاصة جداً، يمكننا حلـّها بسرعة، فلمَ العجلة؟ العجلة من الشيطان! «قل انتظروا، إنـّا منتظرون».
****
شبكة مشكاة الإسلامية
حاشجيات @hashgyat
عضوة فعالة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
جـــزاكـِ الله خيـــر
لم اقرا الموضـوع باكملــه لضيق و قتــي:26: