أكد معالي وزير العدل الشيخ الدكتور محمد العيسى أن جامعة الملك عبدالله بن عبدالعزيز للعلوم والتقنية، تمثل منعطفاً مهماً، ونقطة تحول تاريخية، لم تكن ميلاد لحظة، بل هاجس أمة، اختزلها القدر في عزيمة رجل، لتضاف في سجل الخالدين بعد أن تكونت في ربع قرن من الفكر والتدبر، والتأسيس والصياغة، يحفزها ماض إسلامي يعتز بإرثه، وصروحه، وأثره وتأثيره، عز عليه غياب مجده العلمي، وحضوره الفكري، قروناً تطاول عهدها، واندرست معالمها، وكان لتصميمه، وإرادة الخير للعالمين معنى آخر، تغيرت فيه المعادلة، فصار بفضل الله عليه، وعلى وطنه، وأمته، والعالم بأسره نعم الخلف في الزمن الصعب.
وأضاف لقد تعلمنا من سنة الله في خلقه أنه لا ثبات إلا للحقائق، مصداقاً لقوله سبحانه: «فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال»، وإرادة الخير لا تستثني أحداً «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، و«في كل كبد رطبة أجر»، و«لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم»، ولا يكون هذا بالانكفاء والتوجس، بل بالصبر والعمل على بصيرة من حقائق العلم، وتجليات الفكر المستنير، التي تنطق بسلامة الهوية، وعظمة المنهج، وعالمية الرسالة.
لقد خطى خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - يحفظه الله - خطوات موفقة في سبيل إعادة إرثنا التليد؛ ليكون في مستوى الحضور والريادة، مستذكراً منجزات قاماتنا الكبرى، وحلقات وصلنا، وتواصلنا مع العالم أجمع، في شهود حضاري وتألق علمي، على حين فترة من الانقطاع والفتور.
ولم يغب عن هذه الأمة الإرادة القوية وهي تتألق بعزمها وتصميمها، واثقة بربها؛ لخدمة الوطن، والأمة، والإنسانية أن مشاريع النجاح الكبرى، لا تكون بحجم أصحابها، ما دامت مهددة لا متاعب فيها؛ ليتم تتويج النجاح، بتجاوز متاعبه، مقروناً بتحقيق حلمه الكبير.
أما الاجتهادات الأخرى سواء بأوهامها أو تجاوزاتها، فإنها تحال بكل ثقة على مقاصد الدين، ووضوح نصوصه، ورحابة ساحته، فهي الكفيلة بتجاوزها دون الدخول معها في سجال أو نقاش، لكونها من أيسر وأعبر المحطات التي تمر بها النجاحات.
ولقد سمعنا جميعاً عن التوجس من الاختلاط، بحجة تطبيق مفاهيم الإسلام في صيانة المرأة، وحراسة فضيلتها، وعفافها، فكان من الأسف الخلط في هذا: «الاختلاط»، وهو ما لا يعرف في قاموس الشريعة الإسلامية إلا في أحكام محدودة - كمباحث الزكاة - المنبتة الصلة عن معنى هذا المصطلح الوافد، ليشمل في الطروحات المتأخرة ببدعة مصطلحية لا تعرف في مدونات أهل العلم، في سياق تداخل مصطلحها المحدث بمصطلح الخلوة المحرمة التي لا تجيزها فطرة أي مسلم له كرامة وشيمة، فضلاً عن احترامه لأحكام شريعته التي صانت الأعراض، ووضعت السياج المنيع، لأي سبيل قد تخترق هذه المُسلَّمة الإسلامية المتفق عليها.
لقد حرم مفهوم الاختلاط المحدث، ونعى (من حيث يعلم أو لا يعلم) على مشاهد في السيرة النبوية، وسيرة الخلافة الراشدة، وسلف أمتنا الصالح، ومن لازمة التعقب على المشرع، يقول المولى جل وعلا: «ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون».
وفرق بين لقاء تجمعه الحشمة والعفة على رؤوس الأشهاد، متوخياً التحفظ من أي طريق قد تفضي للمحظور الشرعي (كالخضوع في القول، والتبرج، والزينة، والتساهل في التحفظ، وغض البصر، واحتكاك أي منهما بالآخر)، وبين لقاء على غير هذا الهدي الإسلامي المبارك.
وبضوابط الشريعة سار ركب المجتمع المسلم، في صور حية نشهدها كل يوم في شعائرنا: كالصلاة والحج والعمرة، وكذا معاملات الناس بيعاً وشراء، حيث دعيت المرأة للشهادة «واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء»، وكيف تكون شهادة المرأة على البيوع كما أراد الله، وهذا المصطلح المحدث (الاختلاط) بين أظهرنا خالطاً بينه، وبين مفهوم الخلوة المحرمة.
إننا - بفضل الله - لا نقل غيرة على محارم الله، ولا على تقديرنا لأبعاد الفساد الأخلاقي الذي ينافي مقاصد العلم والمعرفة، ويفسد المجتمعات، لكننا أمام شريعة غراء فهمت عن أحوال الناس مقصادهم وما تصلح به أمورهم، فوضعت قواعد وحواجز فحرمت أموراً، وأجازت أخرى، بضوابط لا تفضي للمحرم، وتلك شريعة الكمال التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها تنزيل من حكيم حميد، وتحذير نصوصها من الخلوة المحرمة، والتبرج أمام الأجانب أو لبس الزينة، أو الخضوع في القول، وأمرها بغض البصر، شاهد على أن المرأة تحضر المجامع، وتكلم الرجال بقدر الحاجة، ولو لم تكن كذلك لما كان لهذه النصوص معنى، ومن غار على الحرمات فوق غيرة الشرع، دخل في حيز الوسوسة، وسوء الظن بالناس، والتعقب على الشريعة.
وفي هذا السياق ما ثبت في الصحيحين عن أم الفضل بنت الحارث - رضي الله عنها - «إن أناساً تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن، وهو واقف على بعيره، فشرب»، وذكر شراح الحديث بأن هذا أصل في المناظرة في العلم بين الرجال والنساء.
ومن ذلك ما ثبت في الصحيح عن سهل بن سعد، قال: «دعا أبو أسيد الساعدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت امرأته يومئذ خادمهم، وهي العروس، قال سهل: أتدرون ما سقت رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ أنقعت له تمرات من الليل، فلما أكل سقته». وفي رواية: «فما صنع لهم طعاماً، ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد»، وذكر أهل العلم في شرح هذا الحديث: جواز خدمة المرأة لزوجها ومن يدعوه عند الأمن من الفتنة، ومراعاة ما يجب عليها من الستر، وجواز استخدام الرجل امرأته في مثل ذلك، قلت: وقد كان هذا شائعاً في القديم في مجتمعاتنا، يحفه نهج سلفنا الصالح في البراءة، والحشمة، والتحفظ، على فطرة الإسلام، وطيب النيات والمقاصد.
ومن نماذج الاختلاط اجتماع النساء في الجهاد، حيث يضطلعن بنقل الماء إلى المجاهدين ومداواة جرحاهم، وهذا سائغ شرعاً، وإن أفضى إلى مخالطة النساء للرجال، لما يتولد عن هذه الأعمال من تحقيق المصالح الشرعية، يشهد لهذا ما روته الربيع بنت معوذ - رضي الله عنها - قالت: «كنا نغزو مع النبي - صلى الله عليه ولسم - فنسقي القوم، ونخدمهم، ونرد القتلى إلى المدينة». وفي رواية: «كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نسقي، نداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة
ومن اجتماع المرأة بالرجل للمصلحة الشرعية، اجتماع الرجال بالنساء لوعظهن وتعليمهن، ففي الصحيح عن ابن عباس قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عيد، فصلى ركعتين لم يصل قبل ولا بعد، ثم مال على النساء ومعه بلال، فوعظهن وأمرهن أن يتصدقن».
أننا لا نجد فرقاً بين جمع عام مشمول بحسن المقصد وسمو الهدف، يجتمع - على نبل غايته ورحابة فنائه - الرجال والنساء، يحفهم السمت المنوه عنه، وبين جمع آخر بين الرجال والنساء على مقصد تعبدي نجده تحديداً في طوافهم سوياً، بالبيت العتيق، وسعيهم بين الصفا والمروة، ورميهم الجمار على صعيد واحد، تتجلى في جمعهم المبارك آداب الإسلام الرفيعة، وكل هذا مشمول بالمدلول اللغوي والمصطلح المحدث للاختلاط فهل نمنعه؟، أو نغالي في التوجس ونقول: ينظم ذلك، فساعة للرجال وساعة للنساء؛ لأن الزمن تغير، وأصبح يفضي إلى شر، وأن من الأشرار من رصد في مواطن العبادة وهو يتعاطى المنكر مستغلاً هذه الشعائر المختلطة، إن أفق الإسلام أسمى من هذا كله، وأكثر احتياطاً وتحفظاً وغيرة على محارم الله، وقد أبقى مشهده على مر الزمان يقف أعظم شاهد على أن مصطلح الاختلاط دخيل على قاموس الشرع.
ولو عممنا قاعدة الاختلاط لمنعنا من اجتماع الرجال والنساء في الأسواق والأماكن العامة، فلا ترى المرأة وحولها رجل، لدخول ذلك في معنى الاختلاط المحدث!!.
وكلام فقهاء الإسلام في هذا واضح ومبسوط في مدوناتهم، لا نطيل بذكره، ويهمنا أن نشير إلى أن دين الله أولى من يحتاط له، وأن تحريم الحلال كتحليل الحرام. والعجب من أناس احتاطوا تحت ذريعة سد الذرائع في أمور لم يجر الاحتياط لها في شعائر الإسلام، فناقضوا مشروعهم ونعوا على أنفسهم.
ولا شك أن شيوع مصطلح الاختلاط بدل الخلوة غير الشرعية من الجناية العمدية على المصطلحات الشرعية، وتحميل نصوصها ما لا تحتمل، بل زاد الأمر حيث اكتسى هذا المصطلح الغريب حصانة منتحلة، في حين خالفته نصوص الشرع ونقضت مفهومه، على ما سبق الاستدلال به.
وكثيراً ما يحتج المستدركون على شريعة الله بالآراء والمصطلحات، بتغير الزمان وفساد الأحوال، وأن الأحكام يجب أن تتغير تبعاً لذلك، ونحن إذ نقر بهذه القاعدة الرحبة، فإننا لا نوافق على إيرادها هنا البتة؛ لتغليب حسن الظن بالناس، ما دام شعار العفة والابتعاد عن الفتنة ومواطن الريبة هو السائد في السمت العام، فضلاً عما يلزمه منه من منع الرجال والنساء من أداء شعائر الدين على ما جرت به عادة أهل الإسلام.
ولا يخفى ما يلاحظ من التساهل في قبول بعض المصطلحات الوافدة وإلحاقها بشرع الله، وليس لها من حجة سوى ما ساد من قول، وراج من مصطلح، وكان حرياً أن تعرض على نصوص الشريعة فما وافقها أخذ به، وما خالفها ترك، كما هي قاعدة الشرع، حتى لا نقع في المخالفة والبدعة.
نعود بعد هذا إلى الصرح الكبير الذي شيده خادم الحرمين الشريفين ليكون معلماً بارزاً في تاريخ الأمة، وإحياء لعصور الازدهار في ذاكرتنا الإسلامية، بما قدمه من منظومة ذات رؤية وهدف، تتوخى تقديم مشروع يبقى في ذاكرة التاريخ خيراً للوطن والأمة والإنسانية، أكدت ذلك مضامين الخطاب الملكي الكريم القاضي ب****ئها؛ حيث قال - يحفظه الله - في استهلالة موفقة:
(قال الله تعالى في كتابه الكريم «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون». إن هذا المبدأ العظيم يعلي شأن مكان العلم؛ باعتباره الوسيلة الأسمى لنشر نوره ويحث الناس جميعاً على اكتساب العلم والمعرفة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «خير الناس أنفعهم للناس»، لذلك فإن أعظم
الأعمال هو ما دام نفعه للأجيال القادمة، ومن هنا كان الوقف عنصراً جوهرياً في بناء الحضارة الإسلامية، ورغبة مني في إحياء ونشر فضيلة العلم العظيمة التي ميزت العالمين العربي والإسلامي في العصور الأولى، فقد رأيت أن أؤسس جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية على ساحل البحر الأحمر في المملكة العربية السعودية، وستمثل الجامعة، باعتبارها «بيتاً جديداً للحكمة»، منارة للسلام والأمل والوفاق، وستعمل لخدمة أبناء المملكة، ولنفع جميع شعوب العالم؛ عملاً بأحكام ديننا الحنيف؛ حيث يبين لنا القرآن العظيم أن الله تعالى خلق بني آدم من أجل أن يتعارفوا «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا»، وإنني أرغب أن تصبح هذه الجامعة الجديدة واحدة من مؤسسات العالم الكبرى للبحوث؛ وأن نعلم أجيال المستقبل من العلماء والمهندسين والتقنيين وتدربهم، وأن تعزز المشاركة والتعاون مع غيرها من جامعات البحوث الكبرى ومؤسسات القطاع الخاص على أساس الجدارة والتميز» أه.
وكان التفاعل الكبير مع هذا التوجه الميمون على مستوى الطموح والتطلعات، ترجمة باختصار كتاب سمو ولي العهد في سياق تهنئة تفيض شعوراً وتقديراً للمنجز الكبير، قال فيه - يحفظه الله -: «لقد عرفتك شغوفاً بالوطن، مخلصاً للعقيدة، وفياً للأمة، محباً للإنسانية، وحريصاًعلى العلم وأهله، فسخرت يا سيدي ما تملك من مال وجهد ومكانة للتوفيق بين الحضارات، ولنشر قيم العدل والتسامح، وعملت على تقديم الحوار سبيلاً لحل النزاعات وتبديد الخلافات وفتح قنوات التعاون الحضاري بين الأمم والشعوب، فعرفكم العالم قائداً ملهماً، وسياسياً حكيماً، داعياً للسلام، مبشراً بالخير، عطوفاً على الفقراء، وحريصاً على العلماء، تفيضون إنسانية ورحمة، فأتت هذه الجامعة رمزاً لتلك الجهود، وثمرة نقطفها اليوم، بعد أن ولدت حلماً، وتربت فكرة، وتجسدت مشروعاً، رعيتموه لبنة لبنة، وخطوة خطوة، إيماناً منكم بأهمية وأفضلية العلم، كما في قوله تعالى:«قل هل يستوي الذين يعملون والذين لا يعلمون، إنما يتذكر أولو الألباب»، وقد جاءت هذه الجامعة لتجسد رغبة منكم في أحياء ما صلح به أول هذه الأمة وساد، لتستوي اليوم شامخة بدعمكم، تعمل لخدمة شعب المملكة، وتنهل منها شعوب العالم، يجتمعون في رحابها، يربط بينهم رحم العلم، ويجمعهم الأمل، مصداقاً لقوله تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)أه.
على هذه الأسس المباركة والنوايا الطيبة اعتلى بناء هذا الصرح الشامخ، وستمضي قافلته - بإذن الله - على ما أراد الله لها، ليكسب الوطن رهان الكبير، ويسير مسدداً - بعون الله - إلى خير دنياه وأخراه.
ولا نختلف أنه ما أعاق تقدم الأمة من شيء مثلما أعاقته التوجسات والأوهام، ولا يخفى أن الفوات العلمي، وغياب معاني النصوص، واحتكار الصواب، وتلقف السائد، دون عرضه على محك النصوص، جناية على الشريعة، والأمة.
لقد حقق الإسلام عالميته بشمول نصوصه، وأفق علمائه، وعزم رجاله، وكان ذلك في قرون سالفة، تسعى إرادة الخير لتجديد عهدها وتبوئها ما يليق بها من مكانة، في سياق المصالح العليا لإعادة مجد الأمة، أجزل لخادم الحرمين الشريفين مثوبة هذه الصدقة الجارية، وجعلها في ميزان حسناته، ووصلاً في عمره، وصلة لعمله.
وكلنا نستذكر أن الدولة في عهد التأسيس احتوت نماذج سجلها التاريخ، وما كان لها أن تتجاوزها لولا ما تتمتع به من أصالة في فكرها الإسلامي الواعي، في فصول متتالية، من أبرزها التحفظ على تعليم المرأة، وتحريم وسائل الاتصال والإعلام الحديثة، ذاكرتنا لا تنسى المواقف المتسرعة من تقنية الاتصال البرقي، وأثير الإعلام وغيرها، كثير، وما ظلم الإسلام مثلما ظلم بالافتراء عليه، وتعظم الفرية عندما تستعار له بعض المفاهيم الوافدة والتصورات القاصرة، على أنها من دين الله وما هي من دين الله، ويزيد الأمانة علة عندما تترسخ هذه المفاهيم على مر السنين ويشتد عودها، وتعالجها النفس من الداخل على أنها دين تدين الله به، في حين لا تعدو كونها عادة وسلوكاً سائداً أكسبه الوقت القرار في النفوس، يلوح في الأفق كالفجر الكاذب لا يجليه إلا ضياء الصبح.
إننا لنحمد الله أن فضيلتنا التي تأسس عليها كيان الدولة، وأشرق بها جبينها، لم تنتهك يوماً في المشهد العام = دون رصد وجزاء - حتى تنتهك في محفل العلم والمعرفة، إن من مسلمات الإسلام أن الحق لا يعرف بالرجال، وميزانه شرع الله، في نصوص مضيئة أوضح من محيا النهار، محجتها بيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وليست العصمة إلا لأنبياء الله فيما يبلغونه عن ربهم جل وعلا، وكل سيحاسب على قوله وفعله، ودين الله لا يخاطر به، ولا يزايد عليه، والفضيلة عرض وكرامة، تأصلت في الوجدان والكيان، والحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، وجعلنا خير أمة أخرجت للناس، نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، على هدى وبصيرة، وبالله التوفيق
منقول

الشتاء3 @alshtaaa3
كبيرة محررات
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

الركاده زينه
•
نحن قوم اعزنا الله بالاسلام فمهما ابتغينا العزة في غيره اذلنا الله


كحيله.
•
وهذا نص الرد على العيسى
نص رد الشيخ عبدالعزيز بن مرزوق الطريفي:
التاريخ :6/11/1430 هـ
إلى وزير العدل .. " وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا" !
بسم الله الرحمن الرحيم ..
فقد قرأت ما نَشره وزير العدل "د . محمد العيسى" - وفقه الله - في "صحيفة الرياض" في حوار مطول، وعلمت أنه بُشّر بمقال الدكتور في "بعض المواقع العلمانية والليبرالية" قبل نّشره بنحو يومين، ولم أهتم بالرّحِم بين المقال واليد المبشرة به، قدر الاهتمام بالعدل الموضوع، والعهد المأخوذ على أهل العلم أن يبينوا الحق للناس .
لم أجد جديداً في مقالة الدكتور، بل هي من العمومات والنصوص المطلقة، وكنت أظنه قبل قراءة المقال على حال من سعة الاطلاع غير تلك الحال، فمسألة "الاختلاط" بالمفهوم الذي يُدعى إليه ليست مسألةً بالغة من الخفاء واللطف حداً يدق عن فطنة العالم ويزيد عن تبصره، فالعالم المتشبع بالاطلاع على علل الشريعة ومقاصدها، يفرق بين مقامات النصوص والأخبار، ويُدرك أن منها مقام حكاية عينٍ ونقل إجمال، ومنها مقام تقرير وتعليم وتحقيق، فيَرد نصوص الشريعة إلى موردها اللائق، وأما غيره فتتجاذبه المتعارضات مجاذبةً تقوده حينها الشهوة الخفية إلى ما لا يريده الله، وتُعميه عما سواه .
ومن المُسلم عقلاً أن من المجازفة الاحتجاج بما ورد في أحد أوصاف الموصوف في سياق الجواز، على وصفٍ آخر له انفرد حُكمه بنص، وإذا وُصف الموصوف بجميعها، لم يكن إفراده بوصف واحدٍ منها دليلا على مساواة ذلك الوصف لبقيتها، وبمثل هذا الاحتجاج والفَهم ظهرت البدع في أصول الدين المقتضية البيان عند نزول الوحي أكثر من الفروع، وُحجج الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة، والمرجئة في إخراج العمل من الإيمان، هي من هذا النوع من الاستدلال، ناشئة عن عدم إحاطة بموارد النصوص، والغفلة عن غرضها، وكيف لو ملك الخائض في الاختلاط نصاً صريحاً من الوحي، كما يملك الخوارج كقوله صلى الله عليه وسلم في "الصحيحين": "قتال – المسلم - كفر" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" فكان بين يديه نحو "الاختلاط جائز بين الجنسين"، ماذا سَيُبقي من رأي سائغ لمن خالفه، كيف وهو متجرد من ذلك كله، فصفة العالم العدل الجمع والتحرير بأوضح حُجة وأسهل سبيل، فلا يكون ممن خفيت عليه أشياء، وحضره شيء، فيَضل ويُضل .
ومن كوامن النفس، وبواطنها الخفية إذا اندفعت بقوّة بلا تجرّد إلى تقرير مسألة أو دفع حُجة قوية، الإغضاء عن نقض ما تقرره النفس من وجوه أخرى، فكفار قريش يعترضون على محمدٍ كونه: (بشراً مثلهم) فقالوا: (ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذا لخاسرون) بينما لم تلفت نفوسهم إلى إلههم "الحجر"، فرضي المشركون بالإله الحجر، وردوا نبوة النبي لأنه بشر ! لأن النفس منشغلة في صد محمد، والطعن في نبوته، على أي وجه كان، منصرفةً عن طلب الحق، كَحال من يُفتّش في كُتب السنة ليَقفَ على نَصٍ مُشتبه، ويَضع أُصبعيه في أُذنيه عن سماع دِرَّة عُمر على رؤوس الرجال وهو يُفرِّقهم عن النساء، كما رواه الفاكهي في "تاريخ مكة" وهذا النحو ليس من طرائق أهل العدل والعلم والإيمان.
ومع العلم أن الناس يتفاوتون في الخطاب، فمنهم من لا يقتنع إلا بالدليل والحجة، وإذا ذُكّر تذكر، ومنهم مماذق لا يرعوي إلا بالجدل، ومنهم مكابر معاند لا يصرفه عن شغبه إلا الزواجر والقوارع، وإني لأحسب معالي الوزير د . محمد العيسى من الصنف الأول، وقد تناول في مقاله المذكور مسألة الاختلاط على سبيل الإجمال، والتعميم :
فقرر – وفقه الله- أن مصطلح الاختلاط من المحدثات في الشريعة، بعبارات مختلفة فقال: («الاختلاط»، وهو ما لا يعرف في قاموس الشريعة) وقال: (بدعة مصطلحية لا تعرف في مدونات أهل العلم ) إلى غير ذلك ..
من المتقرر أن الشريعة تدور مع المعاني والحقائق، والمصطلحات تولد للتقريب والإفهام، ومع ذلك فمن المجازفة أن يطلق أن مصطلح "الاختلاط": (بدعة مصطلحية لا تعرف في مدونات أهل العلم) وهذا ليس من التحقيق والتحري في شيء، والنصوص في جميع القرون منذ الصدر الأول إلى يومنا لا يخلو قرنٌ من بيان "الاختلاط وتحريمه" بل وفي سائر المذاهب الفقهية، مع الإقرار أن الفقهاء في سائر القرون على هذا المصطلح، خاصة، وما في حكمه ومعناه .
ففي السنة ما رواه البخاري في "صحيحه" عن ابن جريج قال قلت: لعطاء بن أبي رباح: كيف يخالطن الرجال يعني في الطواف !؟ قال: لم يكن يخالطن كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة مع الرجال لا تخالطهم.
وروى أبو داود في "سننه" عن أبي أسيد الأنصاري: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: ( استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن ( أي ليس لكن أن تسرن وسطها ) الطريق عليكن بحافات الطريق) فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به .
وزعم الدكتور أن مصطلح "الاختلاط" حادث، ولا تعرفه دواوين الشريعة، هو من القطع بغير تقدير، والخبط الذي ليس من العلم في قبيل ولا دبير، وما يدري الناقد من أي باب يلج إليه، ليُنير فيه مصباح الحق، فهو دارٌ مشرعة الأبواب والزوايا، وما يزال الرجل في فُسحة من أمره حتى يضع علمه في قِرطاس العلم، فالعقول محابر، والأقلام مغاريف، وكُل إناء بما فيه يَرشح.
فأما دعواه أن "الاختلاط" مصطلح حادث لفظاً ومعنىً لا تعرفه "قواميس الشريعة" ولا "مدونات أهل العلم"، فينيره العلم :
ففي القرن الأول والثاني: قال فقيه البصرة التابعي الجليل الحسن البصري (22 هـ-110هـ): إن اجتماع الرجال والنساء لبدعة . رواه الخلال .
وبمعنى قوله قال إمام التفسير من التابعين مجاهد بن جبر (21هـ-104هـ) كما رواه ابن سعد في "الطبقات" (8/157): قال مجاهد في تفسير قوله تعالى: ( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى): كانت المرأة تخرج فتمشي بين الرجال فذلك تبرج الجاهلية.
وبنحوه قال عطاء بن أبي رباح كما تقدم، وقد ضرب عمر بن الخطاب من اختلط بالنساء من الرجال كما يأتي .
وفي القرن الثالث: إمام الحنفيه أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي (229-421 هـ) في "شرح معاني الآثار": (1/485) روى عن مغيرة عن إبراهيم، قال: "كانوا يكرهون السير أمام الجنازة. قال: فهذا إبراهيم يقول هذا، وإذا قال: "كانوا" فإنما يعني بذلك أصحاب عبد الله، فقد كانوا يكرهون هذا، ثم يفعلونه للعذر، لأن ذلك هو أفضل من مخالطة النساء إذا قربن من الجنازة) انتهى .
وفي القرن الرابع والخامس : قال أبو الحسن الماوردي الشافعي (364 - 450 هـ) في "الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي وهو شرح مختصر المزني" (2/51) : (والمرأة منهية عن الاختلاط بالرجال مأمورة بلزوم المنزل).
وقال في "أدب الدين والدنيا" (ص268) عند تعريفه للديوث: (هو الذي يجمع بين الرجال والنساء، سمي بذلك لأنه يدث بينهم) انتهى .
وقال الحافظ البيهقي أحمد بن الحسين بن علي بن موسى (ت: 458هـ)في "شعب الإيمان"(13/260): (فدخل في جملة ذلك أن يحمي الرجل امرأته وبنته مخالطة الرجال ومحادثتهم والخلوة بهم) .
وبنحوهم قرر عصريهم السرخسي الحنفي (ت:490) في "المبسوط" (4/197)
وفي القرن الخامس والسادس: قال الفقيه المالكي أبو بكر محمد بن الوليد القرشى الأندلسي، أبو بكر الطرطوشى (451 - 520 هـ) كما في "المدخل لابن الحاج" (2/297) عند كلامه على اجتماع الرجال بالنساء عند ختم القرآن: (يلزمه إنكاره لما يجري فيه من اختلاط الرجال والنساء) انتهى .
وفي القرن السابع : قال ناصح الدين المعروف بابن الحنبلي فقيه الحنابلة في زمانه (ت: 634هـ) كما في "ذيل طبقات الحنابلة" (4/195): (وأما اجتماع الرجال بالنساء في مجلس .. محرم ) .
وقال الإمام النووي أبو زكريا يحيى بن شرف عُمدة الشافعية (631-679هـ) في "المنهاج شرح صحيح مسلم": (2/183): (وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك وذم أول صفوفهن لعكس ذلك) انتهى .
وبنحوه قرر عصريه الفقيه الأصولي ابن دقيق العيد (ت:702هـ) كما في "الفتح" (2/620).
وفي القرن الثامن: قال قاضي مصر وفقيهها عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم ابن جماعة (694 - 767 ) في "هداية السالك":"ومن أكبر المنكرات ما يفعله جهلة العوام في الطواف من مزاحمة الرجال بأزواجهم سافرات عن وجههن، وربما كان ذلك في الليل، وبأيديهم الشموع متقدة ..."
وفي القرن التاسع : قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي (773هـ-852) في "فتح الباري" (2/336) : (فيه اجتناب مواضع التهم وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلا عن البيوت) انتهى .
وفي القرن العاشر: قال شمس الدين محمد بن أبي العباس الرملي الشافعي (ت1004) في "نهاية المحتاج شرح منهاج النووي": (8/272) في ذكر سياق ألفاظ القذف: ( قوله: يا ) لامرأة (قوله صريح كما أفتى به) أي ابن عبد السلام، فلو ادعى أنها تفعل فعل القِحاب من كشف الوجه ونحو الاختلاط بالرجال هل يُقبل أو لا ؟ فيه نظر . والأقرب القبول لوقوع مثل ذلك كثيراً) انتهى .
وهذا ما قرره عصرية الإمام الحطاب الرعيني المالكي (ت: 954) في "مواهب الجليل شرح مختصر خليل" (4/154) وأبو السعود في "تفسيره" (ت: 982هـ) (5/40) .
وفي القرن الحادي عشر: قال مفتي الحنفية في زمانه أحمد بن محمد ، أبو العباس الحسيني الحموي (ت 1098 هـ) في كتابه "غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر لابن نجم" (2/114) في حكم العرس المختلط: (وهو حرام في زماننا فضلا عن الكراهة لأمور لا تخفى عليك منها اختلاط النساء بالرجال) انتهى .
وفي زمنه قال الفقيه شهاب الدين النفراوي الأزهري المالكي (1044 - 1126 هـ) في كتابه "الفواكه الدواني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني" (2/322) عند كلامه على وجوب حضور الوليمة عند الدعوة إليها إلا عند المنكر قال: (قوله: "ولا منكرٌ بيِّنٌ" أي مشهور ظاهر, كاختلاط الرجال بالنساء, أو الجلوس على الفرش الكائنة من الحرير, أو الاتكاء على وسائد مصنوعة منه).
وفي القرن الثاني عشر: قال الفقيه سليمان بن محمد البجيرمي (1150-1221) في "حاشيته على الشربيني" (2/461): (الِاختلاط بهن –النساء- مَظِنَّةُ الفساد) .
وهذا ما قرره في ذات القرن الإمام الشافعي سليمان بن عمر الجمل (ت: 1204هـ) في "حاشيته على شرح منهج الطلاب": (7/197).
وفي القرن الثالث عشر: قال فقيه الشافعية في زمانه عبدالحميد الشرواني (ت:1230-1302) في "حاشية تحفة المحتاج"(8/205) في سياق ذكر ألفاظ القذف الصريح منها وغير الصريح قال: (أي –القذف بـ- يا صريح أي لامرأة ولو ادعى إرادة أنها تفعل فعل القحاب من كشف الوجه ونحو الاختلاط بالرجال فالاقرب قبوله لوقوع مثل ذلك كثيرا عليه فهو صريح يقبل الصرف) انتهى بحروفه.
وقال ابن عابدين محمد أمين بن عمر الدمشقي فقيه الديار الشامية وإمام الحنفية في عصره (1198 – 1252) في "رد المحتار على الدر المختار" (6/355) مبيناً حرمة الاختلاط عند المناسبات: (لما تشتمل عليه من منكرات، ومن اختلاط الرجال بالنساء) انتهى
وقال مفتي القطر الحضرمي في زمانه العلامة عبدالرحمن بن محمد باعلوي الشافعي (1250-1320) في كتابه "بغية المسترشدين" (ص537) : (ويقطع مادة ذلك أن يأمر الوالي النساء بستر جميع بدنهن ، ولا يكلفن المنع من الخروج إذ يؤدي إلى إضرار ، ويعزم على الرجال بترك الاختلاط بهنّ) .
وقال العلامة محمد بن علي بن محمد الشوكاني (ت: 1250هـ) في "تفسيره فتح القدير) (5/203): ( لما فرغ سبحانه من ذكر الزجر عن الزنا والقذف ، شرع في ذكر الزجر عن دخول البيوت بغير استئذان لما في ذلك من مخالطة الرجال بالنساء ، فربما يؤدّي إلى أحد الأمرين المذكورين) انتهى .
وانظر "حاشية البجيرمي على الخطيب الشربيني" (ت:1221): (2/461)، وحاشية الشرواني (ت: 1302) على تحفة المحتاج (3/173) والآلوسي (ت: 1270هـ) في "تفسيره": (9/328).
وفي القرن الرابع عشر: قال محمد رشيد بن علي رضا (ت: 1354هـ) في "تفسيره المنار" ( إنه لعار على بلاد الانكليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال) انتهى .
وبنحوه قال عصريه محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332 هـ) في "تفسيره" عند ذات الآية .
وما تُرك من النقول أكثر مما ذكر، والنصوص التي فيها النهي صراحة بغير لفظ الاختلاط لا تُحصى عداً كالأمر بمجانبة النساء ومباعدتهن، والضرب والتأديب على ذلك، كما روى عبدالرزاق في "مصنفه" عن أبي سلامة قال : انتهيت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يضرب رجالاً ونساءً في الحَرَم، على حوضٍ يتوضئون منه، حتى فرَّق بينهم، ثم قال: يا فلان. قلتُ: لبيك وسعديك، قال: لا لبيك ولا سعديك، ألم آمرك أن تتخذ حياضاً للرجال وحياضاً للنساء ؟!
وإن النفس لتعجب ممن يعلم إطباق السلف والخلف ثم يحيف في حق الحق، (مصطلح الاختلاط لا يعرف في قاموس الشريعة الإسلامية) و (بدعة مصطلحية لا تعرف في مدونات أهل العلم) فعن أي مدونات علماء يتحدث الدكتور العيسى، أمدونات علماء الإسلام ؟! أم علماء الغرب ؟!
ثم ألا يعلم الدكتور – وفقه الله - أنه يخوض في مسألة "متقررة" عند سائر المذاهب على اختلاف مشاربهم، وأصلها من قطعيات الشريعة، وإنما يختلف العُلماء في بعض لوازم ذلك المنكر، كإسقاط حد القذف على من قذف امرأة تختلط بالرجال، وكقبول شهادة الرجل الذي يختلط بالنساء، فنص على عدم القبول أئمة وخلق كالقرافي في "الفروق" (4/156) وابن فرحون في " منهج الأحكام" (1/361) وغيرهما.
وكل ما بناه الدكتور العيسى من تقريرات في "مقاله" هي فرع عن ذلك القطع بغير تقدير، فمن ذلك ذكره لحديثٍ مُجملٍ قال: (وفي هذا السياق ما ثبت في الصحيحين عن أم الفضل بنت الحارث - رضي الله عنها - «إن أناساً تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن، وهو واقف على بعيره، فشرب»، وذكر شراح الحديث بأن هذا أصل في المناظرة في العلم بين الرجال والنساء) انتهى .
المناظرة في العلم والتعليم، لا ينكر وجوده أحد، وهذا تعميم أورد فهماً خاطئاً، ولو تحقق له صفته علم أنه أُتي من تلقينٍ، وإدامة نظر في مقالات صحفية، لا تُري القاريء إلا ما ترى، تُسوِّدها أقلام ذاهلة، أحبوا شيئاً فطوَّعوا له النصوص، المناظرة في العلم بين الرجال والنساء التي يستنبطها العلماء الحذاق من النصوص، هي على حالٍ وصفها مسروق بن الأجدع كما في الصحيحين قال: سمعت عائشة وهى من وراء الحجاب.
وكما ذكره البخاري في "تاريخه" ترجمة عبد الله أبي الصهباء الباهلي قال: رأيت سِتْر عائشة رضي الله عنها في المسجد الجامع، تُكَلِّم الناس من وراء السِّتر ، وتُسأل من ورائه.
وكما جاء في "المسند" عن عبد الله أبي عبد الرحمن قال: سمعت أبي يقول: جاء قوم من أصحاب الحديث فاستأذنوا على أبي الأشهب، فأذن لهم فقالوا: حَدِّثنا. قال: سلوا. فقالو : ما معنا شيء نسألك عنه، فقالت ابنته - من وراء السِّـتْر -: سَلُوه عن حديث عرفجة بن أسعد أُصيب أنفه يوم الكُلاب .
وأما احتجاجه في الأسواق والبيع والشراء، فهي طرقات لا مواضع جلوس وقرار وحديث، ومع هذا فهذه الاستثناءات لم يرتضها الصحابة تمام الرضا وإنما خففوا فيها بلا مبالغة، فقد روى أحمد عن على رضي الله عنه قال: (بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج في السوق، أما تغارون، ألا إنه لا خير فيمن لا يغار).
وأما خروج النساء في الجهاد، فالمقطوع به الذي لا يشك به عاقل أن هذا من باب الضرورات الصرفة، وانشغال الرجال بضرب الأعناق ومتابعة العدو وترقبه، ثم هن مع ذلك متأخرات بعد الرجال معهن محارمهن ولا يتصور عاقل خروج نساء الصحابة إلا وأزواجهم معهم يبتن حيث يبيتون ويرتحلن حيث يرتحلون، وأي ضير في ذلك، ثم كيف يقاس هذا على اختلاط المرأة بالرجال في ميادين العمل والدراسة؟! كيف وقد أمر الله أهل العلم بالعدل والإنصاف: (وإذا قلتم فاعدلوا) .
وإني أذكر الدكتور – وفقه الله - بتقوى الله، ويوم العرض عليه، وأذكره بأعظم ما يُفسد على العبد دينه كما في الخبر عنه صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)، وأذكره بأن الأمر ديِن، ودَين سيتم القضاء فيه بين يدي الخالق وحده، والواجب فيه الوفاء بالحق بلا جمجمةٍ أو دِهان، أو السكوت فإن السكوت "لا يُكتب"، (والله ورسول أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين) .
والله يتولانا وإياه، بمنه وكرمه .
ا.هــ
المصدر / شبكة نور الإسلام
نص رد الشيخ عبدالعزيز بن مرزوق الطريفي:
التاريخ :6/11/1430 هـ
إلى وزير العدل .. " وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا" !
بسم الله الرحمن الرحيم ..
فقد قرأت ما نَشره وزير العدل "د . محمد العيسى" - وفقه الله - في "صحيفة الرياض" في حوار مطول، وعلمت أنه بُشّر بمقال الدكتور في "بعض المواقع العلمانية والليبرالية" قبل نّشره بنحو يومين، ولم أهتم بالرّحِم بين المقال واليد المبشرة به، قدر الاهتمام بالعدل الموضوع، والعهد المأخوذ على أهل العلم أن يبينوا الحق للناس .
لم أجد جديداً في مقالة الدكتور، بل هي من العمومات والنصوص المطلقة، وكنت أظنه قبل قراءة المقال على حال من سعة الاطلاع غير تلك الحال، فمسألة "الاختلاط" بالمفهوم الذي يُدعى إليه ليست مسألةً بالغة من الخفاء واللطف حداً يدق عن فطنة العالم ويزيد عن تبصره، فالعالم المتشبع بالاطلاع على علل الشريعة ومقاصدها، يفرق بين مقامات النصوص والأخبار، ويُدرك أن منها مقام حكاية عينٍ ونقل إجمال، ومنها مقام تقرير وتعليم وتحقيق، فيَرد نصوص الشريعة إلى موردها اللائق، وأما غيره فتتجاذبه المتعارضات مجاذبةً تقوده حينها الشهوة الخفية إلى ما لا يريده الله، وتُعميه عما سواه .
ومن المُسلم عقلاً أن من المجازفة الاحتجاج بما ورد في أحد أوصاف الموصوف في سياق الجواز، على وصفٍ آخر له انفرد حُكمه بنص، وإذا وُصف الموصوف بجميعها، لم يكن إفراده بوصف واحدٍ منها دليلا على مساواة ذلك الوصف لبقيتها، وبمثل هذا الاحتجاج والفَهم ظهرت البدع في أصول الدين المقتضية البيان عند نزول الوحي أكثر من الفروع، وُحجج الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة، والمرجئة في إخراج العمل من الإيمان، هي من هذا النوع من الاستدلال، ناشئة عن عدم إحاطة بموارد النصوص، والغفلة عن غرضها، وكيف لو ملك الخائض في الاختلاط نصاً صريحاً من الوحي، كما يملك الخوارج كقوله صلى الله عليه وسلم في "الصحيحين": "قتال – المسلم - كفر" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" فكان بين يديه نحو "الاختلاط جائز بين الجنسين"، ماذا سَيُبقي من رأي سائغ لمن خالفه، كيف وهو متجرد من ذلك كله، فصفة العالم العدل الجمع والتحرير بأوضح حُجة وأسهل سبيل، فلا يكون ممن خفيت عليه أشياء، وحضره شيء، فيَضل ويُضل .
ومن كوامن النفس، وبواطنها الخفية إذا اندفعت بقوّة بلا تجرّد إلى تقرير مسألة أو دفع حُجة قوية، الإغضاء عن نقض ما تقرره النفس من وجوه أخرى، فكفار قريش يعترضون على محمدٍ كونه: (بشراً مثلهم) فقالوا: (ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذا لخاسرون) بينما لم تلفت نفوسهم إلى إلههم "الحجر"، فرضي المشركون بالإله الحجر، وردوا نبوة النبي لأنه بشر ! لأن النفس منشغلة في صد محمد، والطعن في نبوته، على أي وجه كان، منصرفةً عن طلب الحق، كَحال من يُفتّش في كُتب السنة ليَقفَ على نَصٍ مُشتبه، ويَضع أُصبعيه في أُذنيه عن سماع دِرَّة عُمر على رؤوس الرجال وهو يُفرِّقهم عن النساء، كما رواه الفاكهي في "تاريخ مكة" وهذا النحو ليس من طرائق أهل العدل والعلم والإيمان.
ومع العلم أن الناس يتفاوتون في الخطاب، فمنهم من لا يقتنع إلا بالدليل والحجة، وإذا ذُكّر تذكر، ومنهم مماذق لا يرعوي إلا بالجدل، ومنهم مكابر معاند لا يصرفه عن شغبه إلا الزواجر والقوارع، وإني لأحسب معالي الوزير د . محمد العيسى من الصنف الأول، وقد تناول في مقاله المذكور مسألة الاختلاط على سبيل الإجمال، والتعميم :
فقرر – وفقه الله- أن مصطلح الاختلاط من المحدثات في الشريعة، بعبارات مختلفة فقال: («الاختلاط»، وهو ما لا يعرف في قاموس الشريعة) وقال: (بدعة مصطلحية لا تعرف في مدونات أهل العلم ) إلى غير ذلك ..
من المتقرر أن الشريعة تدور مع المعاني والحقائق، والمصطلحات تولد للتقريب والإفهام، ومع ذلك فمن المجازفة أن يطلق أن مصطلح "الاختلاط": (بدعة مصطلحية لا تعرف في مدونات أهل العلم) وهذا ليس من التحقيق والتحري في شيء، والنصوص في جميع القرون منذ الصدر الأول إلى يومنا لا يخلو قرنٌ من بيان "الاختلاط وتحريمه" بل وفي سائر المذاهب الفقهية، مع الإقرار أن الفقهاء في سائر القرون على هذا المصطلح، خاصة، وما في حكمه ومعناه .
ففي السنة ما رواه البخاري في "صحيحه" عن ابن جريج قال قلت: لعطاء بن أبي رباح: كيف يخالطن الرجال يعني في الطواف !؟ قال: لم يكن يخالطن كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة مع الرجال لا تخالطهم.
وروى أبو داود في "سننه" عن أبي أسيد الأنصاري: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: ( استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن ( أي ليس لكن أن تسرن وسطها ) الطريق عليكن بحافات الطريق) فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به .
وزعم الدكتور أن مصطلح "الاختلاط" حادث، ولا تعرفه دواوين الشريعة، هو من القطع بغير تقدير، والخبط الذي ليس من العلم في قبيل ولا دبير، وما يدري الناقد من أي باب يلج إليه، ليُنير فيه مصباح الحق، فهو دارٌ مشرعة الأبواب والزوايا، وما يزال الرجل في فُسحة من أمره حتى يضع علمه في قِرطاس العلم، فالعقول محابر، والأقلام مغاريف، وكُل إناء بما فيه يَرشح.
فأما دعواه أن "الاختلاط" مصطلح حادث لفظاً ومعنىً لا تعرفه "قواميس الشريعة" ولا "مدونات أهل العلم"، فينيره العلم :
ففي القرن الأول والثاني: قال فقيه البصرة التابعي الجليل الحسن البصري (22 هـ-110هـ): إن اجتماع الرجال والنساء لبدعة . رواه الخلال .
وبمعنى قوله قال إمام التفسير من التابعين مجاهد بن جبر (21هـ-104هـ) كما رواه ابن سعد في "الطبقات" (8/157): قال مجاهد في تفسير قوله تعالى: ( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى): كانت المرأة تخرج فتمشي بين الرجال فذلك تبرج الجاهلية.
وبنحوه قال عطاء بن أبي رباح كما تقدم، وقد ضرب عمر بن الخطاب من اختلط بالنساء من الرجال كما يأتي .
وفي القرن الثالث: إمام الحنفيه أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي (229-421 هـ) في "شرح معاني الآثار": (1/485) روى عن مغيرة عن إبراهيم، قال: "كانوا يكرهون السير أمام الجنازة. قال: فهذا إبراهيم يقول هذا، وإذا قال: "كانوا" فإنما يعني بذلك أصحاب عبد الله، فقد كانوا يكرهون هذا، ثم يفعلونه للعذر، لأن ذلك هو أفضل من مخالطة النساء إذا قربن من الجنازة) انتهى .
وفي القرن الرابع والخامس : قال أبو الحسن الماوردي الشافعي (364 - 450 هـ) في "الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي وهو شرح مختصر المزني" (2/51) : (والمرأة منهية عن الاختلاط بالرجال مأمورة بلزوم المنزل).
وقال في "أدب الدين والدنيا" (ص268) عند تعريفه للديوث: (هو الذي يجمع بين الرجال والنساء، سمي بذلك لأنه يدث بينهم) انتهى .
وقال الحافظ البيهقي أحمد بن الحسين بن علي بن موسى (ت: 458هـ)في "شعب الإيمان"(13/260): (فدخل في جملة ذلك أن يحمي الرجل امرأته وبنته مخالطة الرجال ومحادثتهم والخلوة بهم) .
وبنحوهم قرر عصريهم السرخسي الحنفي (ت:490) في "المبسوط" (4/197)
وفي القرن الخامس والسادس: قال الفقيه المالكي أبو بكر محمد بن الوليد القرشى الأندلسي، أبو بكر الطرطوشى (451 - 520 هـ) كما في "المدخل لابن الحاج" (2/297) عند كلامه على اجتماع الرجال بالنساء عند ختم القرآن: (يلزمه إنكاره لما يجري فيه من اختلاط الرجال والنساء) انتهى .
وفي القرن السابع : قال ناصح الدين المعروف بابن الحنبلي فقيه الحنابلة في زمانه (ت: 634هـ) كما في "ذيل طبقات الحنابلة" (4/195): (وأما اجتماع الرجال بالنساء في مجلس .. محرم ) .
وقال الإمام النووي أبو زكريا يحيى بن شرف عُمدة الشافعية (631-679هـ) في "المنهاج شرح صحيح مسلم": (2/183): (وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك وذم أول صفوفهن لعكس ذلك) انتهى .
وبنحوه قرر عصريه الفقيه الأصولي ابن دقيق العيد (ت:702هـ) كما في "الفتح" (2/620).
وفي القرن الثامن: قال قاضي مصر وفقيهها عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم ابن جماعة (694 - 767 ) في "هداية السالك":"ومن أكبر المنكرات ما يفعله جهلة العوام في الطواف من مزاحمة الرجال بأزواجهم سافرات عن وجههن، وربما كان ذلك في الليل، وبأيديهم الشموع متقدة ..."
وفي القرن التاسع : قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي (773هـ-852) في "فتح الباري" (2/336) : (فيه اجتناب مواضع التهم وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلا عن البيوت) انتهى .
وفي القرن العاشر: قال شمس الدين محمد بن أبي العباس الرملي الشافعي (ت1004) في "نهاية المحتاج شرح منهاج النووي": (8/272) في ذكر سياق ألفاظ القذف: ( قوله: يا ) لامرأة (قوله صريح كما أفتى به) أي ابن عبد السلام، فلو ادعى أنها تفعل فعل القِحاب من كشف الوجه ونحو الاختلاط بالرجال هل يُقبل أو لا ؟ فيه نظر . والأقرب القبول لوقوع مثل ذلك كثيراً) انتهى .
وهذا ما قرره عصرية الإمام الحطاب الرعيني المالكي (ت: 954) في "مواهب الجليل شرح مختصر خليل" (4/154) وأبو السعود في "تفسيره" (ت: 982هـ) (5/40) .
وفي القرن الحادي عشر: قال مفتي الحنفية في زمانه أحمد بن محمد ، أبو العباس الحسيني الحموي (ت 1098 هـ) في كتابه "غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر لابن نجم" (2/114) في حكم العرس المختلط: (وهو حرام في زماننا فضلا عن الكراهة لأمور لا تخفى عليك منها اختلاط النساء بالرجال) انتهى .
وفي زمنه قال الفقيه شهاب الدين النفراوي الأزهري المالكي (1044 - 1126 هـ) في كتابه "الفواكه الدواني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني" (2/322) عند كلامه على وجوب حضور الوليمة عند الدعوة إليها إلا عند المنكر قال: (قوله: "ولا منكرٌ بيِّنٌ" أي مشهور ظاهر, كاختلاط الرجال بالنساء, أو الجلوس على الفرش الكائنة من الحرير, أو الاتكاء على وسائد مصنوعة منه).
وفي القرن الثاني عشر: قال الفقيه سليمان بن محمد البجيرمي (1150-1221) في "حاشيته على الشربيني" (2/461): (الِاختلاط بهن –النساء- مَظِنَّةُ الفساد) .
وهذا ما قرره في ذات القرن الإمام الشافعي سليمان بن عمر الجمل (ت: 1204هـ) في "حاشيته على شرح منهج الطلاب": (7/197).
وفي القرن الثالث عشر: قال فقيه الشافعية في زمانه عبدالحميد الشرواني (ت:1230-1302) في "حاشية تحفة المحتاج"(8/205) في سياق ذكر ألفاظ القذف الصريح منها وغير الصريح قال: (أي –القذف بـ- يا صريح أي لامرأة ولو ادعى إرادة أنها تفعل فعل القحاب من كشف الوجه ونحو الاختلاط بالرجال فالاقرب قبوله لوقوع مثل ذلك كثيرا عليه فهو صريح يقبل الصرف) انتهى بحروفه.
وقال ابن عابدين محمد أمين بن عمر الدمشقي فقيه الديار الشامية وإمام الحنفية في عصره (1198 – 1252) في "رد المحتار على الدر المختار" (6/355) مبيناً حرمة الاختلاط عند المناسبات: (لما تشتمل عليه من منكرات، ومن اختلاط الرجال بالنساء) انتهى
وقال مفتي القطر الحضرمي في زمانه العلامة عبدالرحمن بن محمد باعلوي الشافعي (1250-1320) في كتابه "بغية المسترشدين" (ص537) : (ويقطع مادة ذلك أن يأمر الوالي النساء بستر جميع بدنهن ، ولا يكلفن المنع من الخروج إذ يؤدي إلى إضرار ، ويعزم على الرجال بترك الاختلاط بهنّ) .
وقال العلامة محمد بن علي بن محمد الشوكاني (ت: 1250هـ) في "تفسيره فتح القدير) (5/203): ( لما فرغ سبحانه من ذكر الزجر عن الزنا والقذف ، شرع في ذكر الزجر عن دخول البيوت بغير استئذان لما في ذلك من مخالطة الرجال بالنساء ، فربما يؤدّي إلى أحد الأمرين المذكورين) انتهى .
وانظر "حاشية البجيرمي على الخطيب الشربيني" (ت:1221): (2/461)، وحاشية الشرواني (ت: 1302) على تحفة المحتاج (3/173) والآلوسي (ت: 1270هـ) في "تفسيره": (9/328).
وفي القرن الرابع عشر: قال محمد رشيد بن علي رضا (ت: 1354هـ) في "تفسيره المنار" ( إنه لعار على بلاد الانكليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال) انتهى .
وبنحوه قال عصريه محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332 هـ) في "تفسيره" عند ذات الآية .
وما تُرك من النقول أكثر مما ذكر، والنصوص التي فيها النهي صراحة بغير لفظ الاختلاط لا تُحصى عداً كالأمر بمجانبة النساء ومباعدتهن، والضرب والتأديب على ذلك، كما روى عبدالرزاق في "مصنفه" عن أبي سلامة قال : انتهيت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يضرب رجالاً ونساءً في الحَرَم، على حوضٍ يتوضئون منه، حتى فرَّق بينهم، ثم قال: يا فلان. قلتُ: لبيك وسعديك، قال: لا لبيك ولا سعديك، ألم آمرك أن تتخذ حياضاً للرجال وحياضاً للنساء ؟!
وإن النفس لتعجب ممن يعلم إطباق السلف والخلف ثم يحيف في حق الحق، (مصطلح الاختلاط لا يعرف في قاموس الشريعة الإسلامية) و (بدعة مصطلحية لا تعرف في مدونات أهل العلم) فعن أي مدونات علماء يتحدث الدكتور العيسى، أمدونات علماء الإسلام ؟! أم علماء الغرب ؟!
ثم ألا يعلم الدكتور – وفقه الله - أنه يخوض في مسألة "متقررة" عند سائر المذاهب على اختلاف مشاربهم، وأصلها من قطعيات الشريعة، وإنما يختلف العُلماء في بعض لوازم ذلك المنكر، كإسقاط حد القذف على من قذف امرأة تختلط بالرجال، وكقبول شهادة الرجل الذي يختلط بالنساء، فنص على عدم القبول أئمة وخلق كالقرافي في "الفروق" (4/156) وابن فرحون في " منهج الأحكام" (1/361) وغيرهما.
وكل ما بناه الدكتور العيسى من تقريرات في "مقاله" هي فرع عن ذلك القطع بغير تقدير، فمن ذلك ذكره لحديثٍ مُجملٍ قال: (وفي هذا السياق ما ثبت في الصحيحين عن أم الفضل بنت الحارث - رضي الله عنها - «إن أناساً تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن، وهو واقف على بعيره، فشرب»، وذكر شراح الحديث بأن هذا أصل في المناظرة في العلم بين الرجال والنساء) انتهى .
المناظرة في العلم والتعليم، لا ينكر وجوده أحد، وهذا تعميم أورد فهماً خاطئاً، ولو تحقق له صفته علم أنه أُتي من تلقينٍ، وإدامة نظر في مقالات صحفية، لا تُري القاريء إلا ما ترى، تُسوِّدها أقلام ذاهلة، أحبوا شيئاً فطوَّعوا له النصوص، المناظرة في العلم بين الرجال والنساء التي يستنبطها العلماء الحذاق من النصوص، هي على حالٍ وصفها مسروق بن الأجدع كما في الصحيحين قال: سمعت عائشة وهى من وراء الحجاب.
وكما ذكره البخاري في "تاريخه" ترجمة عبد الله أبي الصهباء الباهلي قال: رأيت سِتْر عائشة رضي الله عنها في المسجد الجامع، تُكَلِّم الناس من وراء السِّتر ، وتُسأل من ورائه.
وكما جاء في "المسند" عن عبد الله أبي عبد الرحمن قال: سمعت أبي يقول: جاء قوم من أصحاب الحديث فاستأذنوا على أبي الأشهب، فأذن لهم فقالوا: حَدِّثنا. قال: سلوا. فقالو : ما معنا شيء نسألك عنه، فقالت ابنته - من وراء السِّـتْر -: سَلُوه عن حديث عرفجة بن أسعد أُصيب أنفه يوم الكُلاب .
وأما احتجاجه في الأسواق والبيع والشراء، فهي طرقات لا مواضع جلوس وقرار وحديث، ومع هذا فهذه الاستثناءات لم يرتضها الصحابة تمام الرضا وإنما خففوا فيها بلا مبالغة، فقد روى أحمد عن على رضي الله عنه قال: (بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج في السوق، أما تغارون، ألا إنه لا خير فيمن لا يغار).
وأما خروج النساء في الجهاد، فالمقطوع به الذي لا يشك به عاقل أن هذا من باب الضرورات الصرفة، وانشغال الرجال بضرب الأعناق ومتابعة العدو وترقبه، ثم هن مع ذلك متأخرات بعد الرجال معهن محارمهن ولا يتصور عاقل خروج نساء الصحابة إلا وأزواجهم معهم يبتن حيث يبيتون ويرتحلن حيث يرتحلون، وأي ضير في ذلك، ثم كيف يقاس هذا على اختلاط المرأة بالرجال في ميادين العمل والدراسة؟! كيف وقد أمر الله أهل العلم بالعدل والإنصاف: (وإذا قلتم فاعدلوا) .
وإني أذكر الدكتور – وفقه الله - بتقوى الله، ويوم العرض عليه، وأذكره بأعظم ما يُفسد على العبد دينه كما في الخبر عنه صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)، وأذكره بأن الأمر ديِن، ودَين سيتم القضاء فيه بين يدي الخالق وحده، والواجب فيه الوفاء بالحق بلا جمجمةٍ أو دِهان، أو السكوت فإن السكوت "لا يُكتب"، (والله ورسول أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين) .
والله يتولانا وإياه، بمنه وكرمه .
ا.هــ
المصدر / شبكة نور الإسلام


الصفحة الأخيرة