عطـــــــر الياسمـــــــــين
الثلج في تهطال ..
والريح تزار وتئن .. وتعصف بما تبقى في قلبها من صبر ..
لم تجد في فهرس مشاعرها الكئيبة شعورا كهذا الذي يخالجها اللحظة ..
الوحدة التي تلفها تبدو في هذا الصمت الرهيب أشرس من أي وقت مضى .. وتكاد تودي بالبقية الباقية من صبابة الصبر في قلبها الكسير ..
معركة الثلوج مع الريح الهادر لا تزال دائرة بالخارج .. ولا صوت غير أفنان الشجر اليابس على زجاج النافذة .. وكأنها تستجدي دفئاً يزيل عنها ما تحس به من البرودة في هذه الليلة القاتمة ..!
ولئن كان الكائنات أجمعين قد أوت إلى مساكنها .. لتنعم بالفراش الدافئ الوثير .. والنوم الهانئ القرير .. بعيداً عن العاصفة وضجيجها .. فهي الوحيدة التي غدت نديم السهاد .. وقرين الهم والقلق .. وفراشها الوثير استحال شوكاً يدمي جسدها الواني الكليل .. وما من شيء في هذا الوجود يعيد لها راحة بالها المفقودة .. ولا بسمتها المسلوبة ....!
***************
لم تدر لماذا ألحت عليها الذكريات .. تؤرّي في حناياها نار الشوق الدفين ..
فجلست صامتة حزينة .. تواري بين أضالعها آلاماً وذكريات لو صبت على حجر أصم لتفتت !.. فكيف بقلبها وهي العجوز الطاحنة .. التي لم يبق لها في دنياها سوى أحزان لا قبل لمخلوق باحتمالها ..
جلّت ببصرها هاهنا وهاهناك .. أثقال من الصمت كئيبة .. وظلمة مقيتة لا تمحوها شمس ولا يقتحمها ضياء ...
دارت بعينيها في أرجاء المنزل .. فتلمح في كل زاوية طيفاً حبيباً إلى قلبها .. وتتمنى لو تثب وتعانقه لولا أنها تدرك أن ذاك الطيف ليس إلا من صنع خيالها لقلبها الذي أضناه الشوق وأتعبه تكالب الذكرى .. فتلبث ساكنة مستكينة ..
وتوغل في ماضيها الذي كان ربيعاً مشرقاً .. مزهراً .. بين أحبة كانت تعيش بينهم سعيدة هانئة ..
كشجرة مورقة في بستان أخضر .. لطالما نعم الجميع بعطائها وتفيؤوا بظلها .. حتى إذا ا جاء خريف قاس .. ودعتها حتى أوراقها .. فبقيت وحدها تعاني من البرد وقسوة الأيام ....
***************
قامت تنتزع خطواتها انتزاعاً من الأرض المقفرة .. حتى بلغت ذلك الباب .. فمدت يدها .. وفتحته ....
فإذا بأنسام الذكريات العطرة تداعب أوتار قلبها المكلوم بسهام الواقع المرير ..
دخلت في تؤدة .....
هذا سريره .. وهذه ثيابه .. وهذا مكتبه عليه بعض من كتبه وأوراقه المبعثرة لم يمسسها أحد منذ أمد طال .. وكأنما لمحت فيها عتاباً لصاحب اليد الحانية التي كانت ترعاها .. ثم غيبتها الأيام فلم تعد ثانية !..
ضحكات طفولية تغمر المكان بأريج البراءة الحلوة .. والجدران تحكي قصة الطفولة الجميلة التي عاشتها .. لكنها انتهت فجأة في قسوة ..
تلفتت يمنة ويسرة ..
وكأنها تبحث عن صاحب تلك الضحكات .. وتتمنى أن تجده واقفاً في أحد الزوايا يبسم لها بسمته العذبة المعهودة ..
لكن ....
لا شيء سوى الصمت الموحش .. غابت البسمة ورحلت الضحكات .. برحيل فلذة كبدها من هنا ...
وعاد عقلها يغوص في أعماق الماضي ....
- أمي سوف أرحل !
ينقبض قلبها وتتسابق إلى مقلتيها الدموع :
- لكن يا بني .. لمن تتركني ؟؟
- لا أملك شيئاً يا أمي .. هي لا تود العيش هنا .. وإن لم أستمع لها خسرتها للأبد !
- ولا يضيرك أن تخسرني أنا ؟؟
في لطف يقول :
- أمي .. سآتي لرؤيتك متى شئت .. لن أدعك تعانين من الوحدة إن كان هذا ما تخشينه ..
ويخرج مودعاً .. حاملاً معه كل شيء إلا حبه لأمه .. فقد نسي هذا الحب وضاع في الأفق كطير حائر ...
ثم غاب البدر .. ولم يطل بنوره الفضي وسناه الساحر في كبد السماء .. وأظلمت حياتها إلى أجل غير مسمى ..
أغلقت الباب وراءها .. فما عاد شيء ها هنا يروي غليلها .. ويداوي جرحها ..
البدر قد ودعها إلى غير أوبة .. فلا تملك هي الوصول إليه ...
***************
بلغت باباً آخر .. وتمنت لو تخونها يدها فلا تمتد لفتحه .. لكنها أم .. وقلبها غائر الجرح يعيش أبداً على ذكرى أحبة ملؤوا حياتها أنساً وسعادة ..
هناك على النافذة تتراءى نبتة الياسمين بورودها البيضاء الشاحبة .. المتعطشة للقطر .. ويحملها بقايا عطر إلى عالم بريء جميل كادت تنسيها إياها نوائب الدهر ورزاياه ..
صوت عذب آسر ينسكب في مسمعها كالشهد فلا تقاومه ..
- أمي .. لماذا أسميتني ( ياسمين ) ؟
وتبتسم لطفلتها .. وأناملها في رقة تداعب خصلات الشعر الحريرية اللامعة :
- لأني أحب الياسمين .. ولأنك يا حبيبتي مثلها .. وفدت إلينا فملأت حياتنا عطراً وندى .. كبياضها أنت نقاءً وصفاءً .. وكعطرها سحراً وبهاءً ..
وتزرع بيديها تلك النبتة .. تتعهدها بالسقيا من معين الحب .. كلما نمت راقبت طفلتها وهي تنمو معها .. ومثلها تزداد جمالاً ورونقاً ...
- سأحتفظ بها في غرفتي يا أمي .. سأظل أسقيها حتى آخر رمق في حياتي !
وتمضي السنون .. وهي ترقب بعين الأم الحنون المحبة ياسمينتها العطرة وهي تنمو وتكبر .. حتى جاء ذلك اليوم ..
هاهي ذي صغيرتها ( ياسمين ) تميس في ثوب زفافها في أوج بهائها .. تنافس ورود الكون كله عذوبة العطر .. وروعة معاني الجمال ...!
- وداعاً يا أمي ....
- وهل ستتركيني وحدي للأبد يا ( ياسمين ) ؟؟
- لكن الأمر ليس بيدي .. علي أن أظل معه حيث سار ....
وبابتسامة آسرة تلقي بكلمتها كالبلسم الشافي على الجرح الراعف :
- سأعود يا أمي لأراك .. وبيديَّ سأقطف لك أعطر ورود الياسمين .. وآتيك بها على جناح الشوق إلى أغلى أم ... وسأعود لأسقي ياسمينتي الحبيبة ...
لكن الياسمينة لم تدم طويلا .. وما لبثت أن ذبلت وتساقطت .. لأنها فقدت اليد الحانية التي كانت تسقيها بحبها وعطفها ..
وودعتها الياسمينة .. وما عاد عطرها يضوع في الأرجاء..
أطلقت دموعها الحبيسة .. وجاوبتها نبتة الياسمين رغم ذبولها .. فتأوهت مع الريح القادم من الخارج ..
متناغم الصوت ينسج لحناً حزيناً يقطر دماً …..
***************
وهناك ..
في الحديقة المغطاة بالثلج الناصع ...
كانت نبتة الياسمين ترتجف .. تلقي بأوراقها مودعة هذه الحياة المريرة ...
الريح تعول .. تنوح في شجن ..
ومع آخر لمساتها للنبتة ....
سقطت آخر ورقة ذابلة منها ....
لكنها لم تزل تحمل بين أعطافها بقية من ذلك العطر الساحر ...
عطر الياسمين !....
عصفورة الربيع .....
شهر رمضان المبارك
...............1425
عصفورة الربيع @aasfor_alrbyaa
عضوة فعالة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
بحور 217
•
مرحبا يا عصفورتنا المحلقة دائما بعيدا عنا
طال غيابك !!!!
سأعود لصفحتك إن شاء الله فانا مضطرة للتحليق بعيدا الآن :17:
طال غيابك !!!!
سأعود لصفحتك إن شاء الله فانا مضطرة للتحليق بعيدا الآن :17:
بحوري الحبيبة ....
وأنا بانتظار بديع شدوك ..
فأنى حلت بحور .. حل الهناء ...!
تحليقاً طيباً ............
وأنا بانتظار بديع شدوك ..
فأنى حلت بحور .. حل الهناء ...!
تحليقاً طيباً ............
الصفحة الأخيرة
عذراً خطأ مطبعي ...