
fraternity88
•
بإيحائهم للناس أنهم هالكون مردودة عليهم أعمالهم مغضوب عليهم منذ ولادتهم وقبل أن يولدوا، مما يجعل الإنسان الجاهل بحقيقة الأمر يحس بثقل عظيم على كاهله من تلك الرزية والخطيئة التي لم يكن له دور فيها، ثم إنهم بعد أن يوقعوا الإنسان فريسة الشعور بالذنب والخطيئة، وتأنيب الضمير، والخوف من الهلكة، يفتحون له باب الرجاء بالمسيح المصلوب، فيزينون له ذلك العمل العظيم الذي قام به المسيح لأجل الناس، ويدعونه إلى الإيمان به، فإذا كان ممن لم يتنور عقله بنور الهداية الربانية ونور الإسلام يجد أن هذه هي الفرصة العظيمة التي يتخلص بها، وما علم المسكين أن الأمر كله دعوى كاذبة وخطة خبيثة للإيقاع به وأمثاله

دعوى محاسبة المسيح الناس
يزعم النصارى أن المسيح عليه السلام سوف يتولَّى يوم القيامة محاسبة الناس وإدانتهم، ولهم على ذلك نصوص من إنجيل يوحنا وغيره. وثبوت هذه العقيدة فرع عن ثبوت أصلها، وهي الأناجيل أو الرسائل، أما الأناجيل فقد سبق الحديث عنها، و(إنجيل يوحنا) أقلها نصيباً من الصحة. أما كلام بولس في رسائله فإنه غير مقبول؛ لأنه كما سيتبين يهودي متعصب، وهو أول من انحرف بالديانة النصرانية عن وجهها إلى الشرك ودعوى ألوهية المسيح إلى غير ذلك من الضلالات. وما نعتقده في ذلك أن الله عزَّ وجلَّ هو الذي يتولَّى حساب الناس يوم القيامة، ويكون الرسل شهوداً على أقوامهم.
قول النصارى في البعث والجنة والنار
يعتقد النصارى بالبعث الجسدي. ورد في (قاموس الكتاب المقدس): "ولقد عَلَّم المسيح بوضوح بأن الموتى سيقومون". كما أن النصارى يؤمنون بالنعيم الأبدي في الجنة والعذاب الأبدي في النار.إلا أنهم يزعمون أن الجنة ليس فيها أكل ولا شرب ولا نكاح ولا شيء من المتع الحسية، وإنما يعتقدون أن المتعة تكون برؤية الله فقط. فلهذا يقول ميخائيل مينا: "إن نعيم الأبرار هو عبارة عن اتصالهم بالله ورؤيتهم جلاله، ورؤية الله هي الجزاء الأعظم الفائق كل خير الذي يملأ رغبة كل إنسان، ويشبع شهوات نفسه، بل هو سعادته النهائية المشتهاة من كل مشاعره، والتي إليه تتجه كل أشواق قلبه". وإنكارهم هذا يعود إلى أنهم يرون أن الأجساد يوم القيامة ستكون أجساداً روحانية لا تحتاج إلى الطعام والشراب، وليس فيها شهوة الجماع، ولا فرق فيها بين جسد المرأة وجسد الرجل.
ويستدلون لذلك بنصين: أحدهما في (إنجيل متَّى) (22/29) وفيه يقول المسيح: "لأنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون، بل يكونون كملائكة الله في السماء". والآخر من كلام بولس في كورنثوس الأولى (15/44) وهو يتحدث عن قيامة الأموات "يزرع جسماً حيوانياً ويقام جسماً روحانياً". وهذا الكلام من بولس لا دليل له عليه، وهو من اختراعاته وافتراءاته العديدة.
أما النص المنسوب إلى المسيح فليس فيه سوى نفي الزواج، وليس فيه نفي الطعام والشراب، وقد ثبت في نصوص الأناجيل إثبات الطعام والشراب في الآخرة،ففي إنجيل متى) (26/29) أن المسيح قال لتلاميذه بعد آخر شراب شربه معهم: "وأقول لكم: إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي".
فهذه النصوص تعارض ذلك النص السابق الذي ينكر النعيم الحسي، وتدل على عدم صحته؛ لأن الحق أن أهل الجنة يتنعمون فيها نعيماً كاملاً، ذكره الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم، وبيَّنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بياناً شافياً، وليس هناك مانع عقلي منه، والله على كل شيء قدير وفضله عظيم.
بعض العبادات والشعائر عند النصارى:
المسيح عليه السلام من بني اسرائيل وكان ملتزما بما كان من الشريعة قبله ، إلا أن النصارى بعد المسيح بلوا وغيروا ديانته في العقيدة والشريعة ،فألغى بولس الناموس أو شريعة موسى وأبطل العمل بها بل اعتبر العمل بها لا ينجي الإنسان بل يهيأه للعنة.لهذا انقطعت صلة النصارى بالعبادات والشرائع الموجودة في العهد القديم وصارت عندهم عبادات وشرائع مختلفة نذكر منها:
المطلب الأول: الصلاة
وهي سبع صلوات في اليوم والليلة، وليس لها كيفية محدودة وإنما هي دعاء. ويختارونه في الغالب من الأدعية المنسوبة للمسيح عليه السلام، أو الأدعية المنسوبة إلى داود عليه السلام، كما ذكروها في المزامير من العهد القديم. وللصلاة عندهم شرطان فقط، وهما:
1- أن تقدم الصلاة باسم المسيح؛ لأنه الواسطة عندهم، وهذا أصرح ما يكون في عبادتهم له.
2- أن يتقدم الصلاة الإيمان الكامل بالتثليث وغيره من العقيدة.
والصلاة أنواع: منها صلاة فردية سرية، وصلاة عائلية في البيت، ومنها الصلاة العامة في الكنيسة، وأهمها صلاة يوم الأحد حيث يقرأ الكاهن عليهم شيئاً من المزامير أو من غيرها من الكتاب المقدس، والجميع وقوف يستمعون، وعند نهاية كل مقطع يؤمنون. ومما يجدر ملاحظته هنا أن النصارى يوردون عن المسيح أنه حضَّ على الصلاة،ولكن لم يرد عن المسيح عليه السلام بيان لكيفية الصلاة، والذي يظهر أن المسيح عليه السلام كان يصلي مثل صلاة بني إسرائيل، وحواريوه كانوا يعرفون الصلاة؛ لأنهم من بني إسرائيل، فلهذا لم يعرفهم المسيح عليه السلام كيفيه الصلاة.
ومما يلاحظ أن المسيح حين صلَّى كان يقع على وجهه على الأرض،فهذا يفهم منه أن المسيح كان يسجد في صلاته، وهو ما لا يفعله النصارى، وهذا يدلنا على أن النصارى لا يعرفون كيف كان يصلي المسيح على التفصيل، وإنما أخذوا من أمره بالصلاة المعنى العام، وهو الدعاء، والتزموه بدون دليل صحيح.
المطلب الثاني: الصوم
وهو الامتناع عن الطعام حتى بعد منتصف النهار، ثم تناول طعام خال من الدسم عند البعض، والبعض منهم يرى أن الصوم امتناع عن الأكل والشرب من الصباح إلى المساء، وهم يصومون يوم الأربعاء؛ لأنه يوم المشاورة على موت المسيح عندهم، ويوم الجمعة؛ لأنه صلب عندهم فيه المسيح، وصوم الميلاد وعدد أيامه (43) يوماً تنتهي بعيد الميلاد، وأياماً أخرى غيرها وضعوها لمناسبات خاصة تختلف من كنيسة إلى كنيسة. وبعضهم يرى أنه لا يوجد صيام دوري على النصراني، بل يصوم الإنسان وقت الحاجة للصيام، ويَعْتِبر كل صيام محدد بدعة غير مشروعة.
- الصوم: هو الامتناع عن الطعام الدسم وما فيه شيء من الحيوان أو مشتقاته، مقتصرين على أكل البقول، وتختلف مدته وكيفيته من فرقة إلى أخرى.
وما سبق أن قلنـاه في الصلاة نقوله في الصوم، فإن المسيح حضَّ على الصوم عموماً ولم يحدد فيه كيفية ولازمانـاً ولا شيئـاً من ذلك، فتأوله كل جماعة منهم على ما أرادوا بدون أن يكون هناك أي دليل يعتمد عليه من قبل المسيح.
وهذا كله لأن النصارى فصلوا بين العبادة الواردة في العهد القديم والعبادة في العهد الجديد، فحرَّم عليهم بولس العمل بشيء من تعاليم الناموس (التوراة) كما سبق بيانه - فصارت ديانتهم دعوة عامة ليس فيها تفصيل لشيء من العبادات.
الشعائر عند النصارى
المطلب الأول:التعميد
هو مفتاح الدخول في النصرانية، فمن لم يعمد فليس نصرانيًّا عندهم، ولو كان من أبوين نصرانيين، ويمكن أن يعمَّد الشخص وهو طفل أو في أي وقت من حياته، كما يمكن تعميده وهو على فراش الموت، ومرادهم بالتعميد أن يكون الإنسان طاهراً مبرءاً من الذنوب.
وطريقته عندهم رش الماء على الجبهة، أو غمس أي جزء من الجسم في الماء، أو غمس الشخص كله في الماء، ولا يكون إلا في الكنيسة وعلى يد كاهن.
المطلب الثاني:العشاء الرباني أو القربان المقدس
هو قطع من الخبز مع كأس من الخمر، يتناوله النصارى في الكنيسة رمزا وتذكارا لصلب المسيح عندهم. وعند الكاثوليك من النصارى أن من أكل هذا الخبز وشرب الخمر فقد أكل لحم المسيح، وشرب دمه؛ لأنه عندهم يتحول حقيقة إلى لحم المسيح ودمه.
وهاتان الفريضتان الأخيرتان هما أهم شعائر النصارى؛ إذ هما فقط الذي ورد عن المسيح في زعمهم الأمر بهما.
المطلب الثالث: الاعتراف للقس وصكوك الغفران
التوبة عند النصارى لا تتمُّ إلا بالاعتراف بالذنوب والخطايا أمام القس أو الكاهن في الكنيسة، ثم يمسحه هذا الكاهن فتغفر ذنوبه. ثم إن ذلك تطور حيث قُرر في المجمع الثاني عشر سنة (1215)م, أن الكنيسة الكاثوليكية تملك حق الغفران للذنوب، وتمنحه لمن تشاء.
وهذا وصمة عار في جبين النصارى، ومظهر من مظاهر تلاعبهم وعبثهم؛ لأن من المعلوم أن الإنسان لا يتجاوز ويتسامح عما لا يملك، فكيف يسقط الكاهن أو القسيس حقوق الآخرين التي في ذمة الإنسان، وأكبر منها وأعظم الذنوب التي يرتكبها الإنسان مخالفاً بها أمر الله ومتعدياً حدوده، فمغفرتها حقٌّ لله عزَّ وجلَّ وحده. فهل الله جلَّ وعلا عاجز عن تولي ذلك؟ أم أنه غائب لا يدري؟ أم أن البابوات والقسس أعلم منه بخلقه؟ أم هم أرحم منه بخلقه ؟
قال تعالى عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. ثم يقول جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
المطلب الرابع: الزواج عند النصارى
الزواج عند النصارى جائز عندهم ما عدا القسس والرهبان اقتداء في زعمهم بالمسيح عليه السلام الذي لم يتزوج. وعندهم أن الذي يستطيع أن يضبط نفسه عن الزنا فالأفضل أن لا يتزوج، ولا يجوز عندهم الزواج بأكثر من واحدة، ولا طلاق عندهم إلا في حالة الزنا عند الأرثوذكس، وإذا طلَّق أحدهما الآخر فلا يتزوج مرة أخرى. ويجوز الطلاق عندهم في حالة اختلاف الدين بين الرجل والمرأة إذا لم يتمَّ التوافق بينهما.
المطلب الخامس: حمل الصليب وتقديسه
النصارى يرمزون بالصليب الذي يحملونه، والذي لا تكاد تجد نصرانيا إلاّ وهو يحمله، إلى صلب المسيح عليه السلام عندهم. ويزعمون أن حمله يشعرهم بإنكار النفس، واقتفاء أثر المسيح في هذا الإنكار، والسير وراء مخلصهم وفاديهم. ولا يوجد لدى النصارى دليل على حمل الصليب فضلاً عن تقديسه.
المطلب السادس: تقديس يوم الأحد
من المعلوم أن المسيح عليه السلام من بني إسرائيل، وبنو إسرائيل يعظمون يوم السبت ويقدسونه، فكان المسيح عليه السلام على ذلك، إلا أن النصارى فيما بعد بوقت طويل تركوا السبت، وأخذوا يعظمون الأحد رغبة منهم في مخالفة اليهود الذين يكنون لهم العداء والبغض. وهذا يُعدُّ من النصارى تحريفا وتغييرا لدين المسيح عليه السلام بما يوافق أهواءهم بدون أن يكون عندهم دليل على ذلك.
يزعم النصارى أن المسيح عليه السلام سوف يتولَّى يوم القيامة محاسبة الناس وإدانتهم، ولهم على ذلك نصوص من إنجيل يوحنا وغيره. وثبوت هذه العقيدة فرع عن ثبوت أصلها، وهي الأناجيل أو الرسائل، أما الأناجيل فقد سبق الحديث عنها، و(إنجيل يوحنا) أقلها نصيباً من الصحة. أما كلام بولس في رسائله فإنه غير مقبول؛ لأنه كما سيتبين يهودي متعصب، وهو أول من انحرف بالديانة النصرانية عن وجهها إلى الشرك ودعوى ألوهية المسيح إلى غير ذلك من الضلالات. وما نعتقده في ذلك أن الله عزَّ وجلَّ هو الذي يتولَّى حساب الناس يوم القيامة، ويكون الرسل شهوداً على أقوامهم.
قول النصارى في البعث والجنة والنار
يعتقد النصارى بالبعث الجسدي. ورد في (قاموس الكتاب المقدس): "ولقد عَلَّم المسيح بوضوح بأن الموتى سيقومون". كما أن النصارى يؤمنون بالنعيم الأبدي في الجنة والعذاب الأبدي في النار.إلا أنهم يزعمون أن الجنة ليس فيها أكل ولا شرب ولا نكاح ولا شيء من المتع الحسية، وإنما يعتقدون أن المتعة تكون برؤية الله فقط. فلهذا يقول ميخائيل مينا: "إن نعيم الأبرار هو عبارة عن اتصالهم بالله ورؤيتهم جلاله، ورؤية الله هي الجزاء الأعظم الفائق كل خير الذي يملأ رغبة كل إنسان، ويشبع شهوات نفسه، بل هو سعادته النهائية المشتهاة من كل مشاعره، والتي إليه تتجه كل أشواق قلبه". وإنكارهم هذا يعود إلى أنهم يرون أن الأجساد يوم القيامة ستكون أجساداً روحانية لا تحتاج إلى الطعام والشراب، وليس فيها شهوة الجماع، ولا فرق فيها بين جسد المرأة وجسد الرجل.
ويستدلون لذلك بنصين: أحدهما في (إنجيل متَّى) (22/29) وفيه يقول المسيح: "لأنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون، بل يكونون كملائكة الله في السماء". والآخر من كلام بولس في كورنثوس الأولى (15/44) وهو يتحدث عن قيامة الأموات "يزرع جسماً حيوانياً ويقام جسماً روحانياً". وهذا الكلام من بولس لا دليل له عليه، وهو من اختراعاته وافتراءاته العديدة.
أما النص المنسوب إلى المسيح فليس فيه سوى نفي الزواج، وليس فيه نفي الطعام والشراب، وقد ثبت في نصوص الأناجيل إثبات الطعام والشراب في الآخرة،ففي إنجيل متى) (26/29) أن المسيح قال لتلاميذه بعد آخر شراب شربه معهم: "وأقول لكم: إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي".
فهذه النصوص تعارض ذلك النص السابق الذي ينكر النعيم الحسي، وتدل على عدم صحته؛ لأن الحق أن أهل الجنة يتنعمون فيها نعيماً كاملاً، ذكره الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم، وبيَّنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بياناً شافياً، وليس هناك مانع عقلي منه، والله على كل شيء قدير وفضله عظيم.
بعض العبادات والشعائر عند النصارى:
المسيح عليه السلام من بني اسرائيل وكان ملتزما بما كان من الشريعة قبله ، إلا أن النصارى بعد المسيح بلوا وغيروا ديانته في العقيدة والشريعة ،فألغى بولس الناموس أو شريعة موسى وأبطل العمل بها بل اعتبر العمل بها لا ينجي الإنسان بل يهيأه للعنة.لهذا انقطعت صلة النصارى بالعبادات والشرائع الموجودة في العهد القديم وصارت عندهم عبادات وشرائع مختلفة نذكر منها:
المطلب الأول: الصلاة
وهي سبع صلوات في اليوم والليلة، وليس لها كيفية محدودة وإنما هي دعاء. ويختارونه في الغالب من الأدعية المنسوبة للمسيح عليه السلام، أو الأدعية المنسوبة إلى داود عليه السلام، كما ذكروها في المزامير من العهد القديم. وللصلاة عندهم شرطان فقط، وهما:
1- أن تقدم الصلاة باسم المسيح؛ لأنه الواسطة عندهم، وهذا أصرح ما يكون في عبادتهم له.
2- أن يتقدم الصلاة الإيمان الكامل بالتثليث وغيره من العقيدة.
والصلاة أنواع: منها صلاة فردية سرية، وصلاة عائلية في البيت، ومنها الصلاة العامة في الكنيسة، وأهمها صلاة يوم الأحد حيث يقرأ الكاهن عليهم شيئاً من المزامير أو من غيرها من الكتاب المقدس، والجميع وقوف يستمعون، وعند نهاية كل مقطع يؤمنون. ومما يجدر ملاحظته هنا أن النصارى يوردون عن المسيح أنه حضَّ على الصلاة،ولكن لم يرد عن المسيح عليه السلام بيان لكيفية الصلاة، والذي يظهر أن المسيح عليه السلام كان يصلي مثل صلاة بني إسرائيل، وحواريوه كانوا يعرفون الصلاة؛ لأنهم من بني إسرائيل، فلهذا لم يعرفهم المسيح عليه السلام كيفيه الصلاة.
ومما يلاحظ أن المسيح حين صلَّى كان يقع على وجهه على الأرض،فهذا يفهم منه أن المسيح كان يسجد في صلاته، وهو ما لا يفعله النصارى، وهذا يدلنا على أن النصارى لا يعرفون كيف كان يصلي المسيح على التفصيل، وإنما أخذوا من أمره بالصلاة المعنى العام، وهو الدعاء، والتزموه بدون دليل صحيح.
المطلب الثاني: الصوم
وهو الامتناع عن الطعام حتى بعد منتصف النهار، ثم تناول طعام خال من الدسم عند البعض، والبعض منهم يرى أن الصوم امتناع عن الأكل والشرب من الصباح إلى المساء، وهم يصومون يوم الأربعاء؛ لأنه يوم المشاورة على موت المسيح عندهم، ويوم الجمعة؛ لأنه صلب عندهم فيه المسيح، وصوم الميلاد وعدد أيامه (43) يوماً تنتهي بعيد الميلاد، وأياماً أخرى غيرها وضعوها لمناسبات خاصة تختلف من كنيسة إلى كنيسة. وبعضهم يرى أنه لا يوجد صيام دوري على النصراني، بل يصوم الإنسان وقت الحاجة للصيام، ويَعْتِبر كل صيام محدد بدعة غير مشروعة.
- الصوم: هو الامتناع عن الطعام الدسم وما فيه شيء من الحيوان أو مشتقاته، مقتصرين على أكل البقول، وتختلف مدته وكيفيته من فرقة إلى أخرى.
وما سبق أن قلنـاه في الصلاة نقوله في الصوم، فإن المسيح حضَّ على الصوم عموماً ولم يحدد فيه كيفية ولازمانـاً ولا شيئـاً من ذلك، فتأوله كل جماعة منهم على ما أرادوا بدون أن يكون هناك أي دليل يعتمد عليه من قبل المسيح.
وهذا كله لأن النصارى فصلوا بين العبادة الواردة في العهد القديم والعبادة في العهد الجديد، فحرَّم عليهم بولس العمل بشيء من تعاليم الناموس (التوراة) كما سبق بيانه - فصارت ديانتهم دعوة عامة ليس فيها تفصيل لشيء من العبادات.
الشعائر عند النصارى
المطلب الأول:التعميد
هو مفتاح الدخول في النصرانية، فمن لم يعمد فليس نصرانيًّا عندهم، ولو كان من أبوين نصرانيين، ويمكن أن يعمَّد الشخص وهو طفل أو في أي وقت من حياته، كما يمكن تعميده وهو على فراش الموت، ومرادهم بالتعميد أن يكون الإنسان طاهراً مبرءاً من الذنوب.
وطريقته عندهم رش الماء على الجبهة، أو غمس أي جزء من الجسم في الماء، أو غمس الشخص كله في الماء، ولا يكون إلا في الكنيسة وعلى يد كاهن.
المطلب الثاني:العشاء الرباني أو القربان المقدس
هو قطع من الخبز مع كأس من الخمر، يتناوله النصارى في الكنيسة رمزا وتذكارا لصلب المسيح عندهم. وعند الكاثوليك من النصارى أن من أكل هذا الخبز وشرب الخمر فقد أكل لحم المسيح، وشرب دمه؛ لأنه عندهم يتحول حقيقة إلى لحم المسيح ودمه.
وهاتان الفريضتان الأخيرتان هما أهم شعائر النصارى؛ إذ هما فقط الذي ورد عن المسيح في زعمهم الأمر بهما.
المطلب الثالث: الاعتراف للقس وصكوك الغفران
التوبة عند النصارى لا تتمُّ إلا بالاعتراف بالذنوب والخطايا أمام القس أو الكاهن في الكنيسة، ثم يمسحه هذا الكاهن فتغفر ذنوبه. ثم إن ذلك تطور حيث قُرر في المجمع الثاني عشر سنة (1215)م, أن الكنيسة الكاثوليكية تملك حق الغفران للذنوب، وتمنحه لمن تشاء.
وهذا وصمة عار في جبين النصارى، ومظهر من مظاهر تلاعبهم وعبثهم؛ لأن من المعلوم أن الإنسان لا يتجاوز ويتسامح عما لا يملك، فكيف يسقط الكاهن أو القسيس حقوق الآخرين التي في ذمة الإنسان، وأكبر منها وأعظم الذنوب التي يرتكبها الإنسان مخالفاً بها أمر الله ومتعدياً حدوده، فمغفرتها حقٌّ لله عزَّ وجلَّ وحده. فهل الله جلَّ وعلا عاجز عن تولي ذلك؟ أم أنه غائب لا يدري؟ أم أن البابوات والقسس أعلم منه بخلقه؟ أم هم أرحم منه بخلقه ؟
قال تعالى عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. ثم يقول جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
المطلب الرابع: الزواج عند النصارى
الزواج عند النصارى جائز عندهم ما عدا القسس والرهبان اقتداء في زعمهم بالمسيح عليه السلام الذي لم يتزوج. وعندهم أن الذي يستطيع أن يضبط نفسه عن الزنا فالأفضل أن لا يتزوج، ولا يجوز عندهم الزواج بأكثر من واحدة، ولا طلاق عندهم إلا في حالة الزنا عند الأرثوذكس، وإذا طلَّق أحدهما الآخر فلا يتزوج مرة أخرى. ويجوز الطلاق عندهم في حالة اختلاف الدين بين الرجل والمرأة إذا لم يتمَّ التوافق بينهما.
المطلب الخامس: حمل الصليب وتقديسه
النصارى يرمزون بالصليب الذي يحملونه، والذي لا تكاد تجد نصرانيا إلاّ وهو يحمله، إلى صلب المسيح عليه السلام عندهم. ويزعمون أن حمله يشعرهم بإنكار النفس، واقتفاء أثر المسيح في هذا الإنكار، والسير وراء مخلصهم وفاديهم. ولا يوجد لدى النصارى دليل على حمل الصليب فضلاً عن تقديسه.
المطلب السادس: تقديس يوم الأحد
من المعلوم أن المسيح عليه السلام من بني إسرائيل، وبنو إسرائيل يعظمون يوم السبت ويقدسونه، فكان المسيح عليه السلام على ذلك، إلا أن النصارى فيما بعد بوقت طويل تركوا السبت، وأخذوا يعظمون الأحد رغبة منهم في مخالفة اليهود الذين يكنون لهم العداء والبغض. وهذا يُعدُّ من النصارى تحريفا وتغييرا لدين المسيح عليه السلام بما يوافق أهواءهم بدون أن يكون عندهم دليل على ذلك.

العوامل التي أدت إلى تحريف رسالة المسيح عليه السلام
المطلب الأول: الاضطهادات
إن مما لاشك فيه أن الدعوات خاصة الدينية والإصلاحية تنمو وتزدهر في السلام والأمن، وتنكمش وتتقوقع في الخوف والاضطهاد، وقد يؤدي الاضطهاد المركز إلى القضاء عليها، وخاصة إذا واكب نشأتها قبل أن تنغرس جذورها في الأرض وتثبت قدمها فيها.
وإن الدارس لتاريخ المسيح عليه السلام وأتباعه ودعوته يجد أن الاضطهاد واكب نشأتها، واستمر قروناً عده يشتد حيناً، ويفتر حيناً آخر.
فقد كان المسيح عليه السلام مطارداً من اليهود، بل سعوا جادين إلى قتله، إلا أن الله عزَّ وجلَّ أنجاه منهم ورفعه إليه، ثم إن النصارى حسب كلامهم وقع عليهم اضطهاد شديد من بعده، أولاً من قبل اليهود، فقد قُتل أحد كبار النصارى ويسمى "إستفانوس" رجماً، وقُطع بعده رأس "يعقوب" مما جعل بقية الأتباع يتفرقون في البلدان، وينتشرون في أرض الله خوفاً من اضطهاد بني جنسهم اليهود لهم، ثم وقعت على من بقي منهم في فلسطين نكبتان مدمرتان:
أولاهما عام (70)م، وهي: فتك الوالي الروماني "تيطس" باليهود وتدميره لبيت المقدس، والأخرى وهي أكبر من أختها: عام (135)م, في عهد الإمبراطور "هادريان" الذي قضى على اليهود في فلسطين، ولم يبق بعده فيها إلا أقلية نصرانية واهنة مبعثرة.
ثم استمر اضطهاد أباطرة الرومان للنصارى قرنين آخرين، ذاق خلالهما النصارى ألواناً شتى من الذل والاضطهاد، حتى أصبح اتهام أي رجل بالنصرانية في بعض الأحيان مبرراً قويًّا لإلقائه للوحوش المفترسة والحكم عليه بالموت، فكان هذا الاضطهاد من العوامل المهمة في تحريف دعوة المسيح عليه السلام ؛ لأن تثبيت العقيدة والدعوة إليها والعمل بها، يحتاج إلى وضع آمن، بل يحتاج إلى قوة داعمة ومناصرة لترسخ العقيدة في النفوس، ويتمكن الدعاة من نشرها بين الناس، وإلا فإن عقائد الناس وعباداتهم القديمة تطغى على الدعوة الجديدة، وقد تصبغها بصبغتها، وكذلك أعداء الأديان من أصحاب الأهواء والنفعيين فإنهم يجدون أرضية مناسبة لبث آرائهم وأهوائهم في الأديان، كما أن الجهل بالدين الصحيح في كثير من الأحيان مع النية الصالحة في العمل قد تدفع الإنسان إلى استحسان أمور وادعاء أمور أنها من الدين وهي ليست منه.
فهذه الأمور وغيرها تطفو على السطح وتظهر في حالة الاضطهاد وعدم الأمن، وإذا نظرنا إلى تاريخ النصرانية نجد أنه في فترة الاضطهاد شاع بينهم ما يسمونه بـ "الهرطقة" وهي التعاليم المخالفة لما عليه النصارى، كما كثرت الكتب والرسائل المنسوبة إلى دعاة النصارى الأوائل.
واستمر وجود تلك البدع والكتب إلى أن جاء قسطنطين وسعى إلى توحيد النصارى بدعوته إلى مجمع نيقية سنة (325)م، إلا أنه وحدَّهم على إحدى تلك البدع، وهي بدعة بولس، فمما لا شك فيه أن ذلك كله كان عاملاً من العوامل التي تسببت في انحراف النصرانية عن الدين الحق الذي جاء به المسيح عيسى عليه السلام.
المطلب الثاني: ضياع الإنجيل وانقطاع السند
الأناجيل الموجودة ليس منها شيء منسوب إلى عيسى عليه السلام، ولا يعرف أثر لإنجيل عيسى عليه السلام، كما أن النصارى لم يعتنوا بالتدوين مباشرة بعد رفع المسيح، وإنما تأخروا في التدوين مما جعل كثيراً من الأناجيل تظهر، ولا يعرف على اليقين كاتبها، ولا من أين أخذ معلوماته.
وهذا انحرف بدعوة المسيح عليه السلام عن وجهها الصحيح؛ لأن أصحاب تلك الأناجيل ليسوا معصومين، فوقعوا في أخطاء كثيرة، وسوء فهم، وغير ذلك من العوارض التي تعرض للبشر، مما جعل الديانة المعتمدة على مثل تلك الكتب المليئة بالأخطاء تبدو ديانة مرتبكة مختلة التركيب، كما هو حال النصرانية.
المطلب الثالث: بولس (شاؤول اليهودي) » الفرع الأول: ادعاؤه أن المسيح ابن الله
الفرع الأول: ادعاؤه أن المسيح ابن الله
من الدعاوى التي أطلقها بولس هي ادعاؤه أن المسيح عليه السلام ابن الله- تعالى الله عن ذلك
فهذه الدعوى ظهرت أولاً في كلام بولس ودعوته، ثم ظهرت قوية في المجامع النصرانية، وقامت عليها الديانة كلها، وهذا كله خلاف ما صرَّح المسيح عليه السلام به مراراً من أنه رسول لبني إسرائيل، وأنه إنسان، وابن إنسان، وابن داود، وغيرها من الألقاب التي تؤكد أنه بشر ابن بشر، ومن ذلك قول (إنجيل متى) " فقال له يسوع: للثعالب أوجرة ولطيور السماء أو كار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه؟".
وفي (إنجيل يوحنا) يقول "وأنا إنسان علمكم بالحق الذي سمعه من الله"
فهذه النصوص قد أكَّد بها المسيح بشريته إلا أن بولس بعد قد أضفى على المسيح صفة "ابن الله" وأعطاها ذلك المضمون الذي أخذت به النصرانية من اعتقادهم أن المسيح إله، ابن إله، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيراً.
الفرع الثاني: ادعاؤه أن الغاية من مجيء المسيح عليه السلام هو الصلب وتكفير الخطايا
وفي هذا ورد في إنجيل متى قوله: " لأني لم آت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة".
وفي (إنجيل مرقص)) يقول: " وبعد ما أُسْلِم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله، ويقول: قد كمل الزمان، واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل".
فهذا ظاهر منه أن المسيح عليه السلام قد صرَّح بأن الهدف من رسالته هو الدعوة إلى التوبة، إلا أن بولس اخترع من عند نفسه هدفاً آخر للمسيح لم يصرح به المسيح ولم يقله، وهو أنه إنما جاء ليصلب تكفيراً للخطايا.
الفرع الثالث: ادعـاؤه أن دعوة المسيح عليه السلام كانت عامة لجميع بني البشـر
ادَّّعى بولس أن المسيح عليه السلام رسول لجميع الأمم ثم زعم لنفسه بأنه مرسل إلى جميع البشر، وفي هذا يقول في رومية: "فإني أقول لكم أيها الأمم، بما أني أنا رسول للأمم أمجد خدمتي".
وفي أفسس يقول: "أعطيت هذه النعمة أن أبشر بين الأمم"?
وهذه الدعوى منه تخالف ما ذكره المسيح عن نفسه وما وصَّى أيضا به تلاميذه، حيث يقول عن نفسه في (إنجيل متى): "لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة". ووصَّى تلاميذه بقوله في (إنجيل متى): " إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة".
الفرع الرابع: إلغاؤه لشريعة موسى عليه السلام، ودعواه أن الإنسان ينجو بالإيمان المجرَّد بدون عمل.
ألغى بولس شريعة موسى عليه السلام، وفي هذا يقول في رسالته إلى رومية: "إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس، بل بإيمان يسوع المسيح آمنا نحن أيضاً بيسوع المسيح لنتبرر بإيمان يسوع لا بأعمال الناموس؛ لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسد ما..... فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبَّني وأسلم نفسه لأجلي ".
ومما يجدر ذكره أن بولس لما وسع نطاق دعوة المسيح عليه السلام لتشمل جميع الناس واجه عقبة كؤود، وهي عدم قبول الوثنيين للشرائع الموسوية، وتصوَّر أنه لا يمكن أن تنجح الدعوة بينهم مع وجود الشريعة، فقرَّر إلغاءها، ويذكر سفر أعمال الرسل أن هذا أولاً تمَّ بمطالبة من بولس ودعوة منه، ثم قبله بعد ووافق عليه سائر التلاميذ، وقرروا أن لا يلزم الناس بشيء من الأمور الواجبة عند بني إسرائيل سوى الامتناع عن الذبح للأصنام، وعن أكل الدم، والمخنوق، والامتناع عن الزنا.
وإلغاء بولس للعمل بشريعة موسى عليه السلام خلاف ما أكَّده المسيح عليه السلام ودعا إليه، فقد ورد في (إنجيل متى) أنه قال: " لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل. فهذه تأكيدات واضحة من المسيح على التزام شريعة موسى عليه السلام وتحريم الخروج عليها. فإلغاء العمل بشريعة موسى هو في الحقيقة هدم لديانة المسيح تماماً؛ لأن مما هو ظاهر من دعوة المسيح عليه السلام أنه لم يأت بتعاليم جديدة تذكر، وإنما ركَّز تركيزاً خاصًّا على التوبة والتخلص من الخطايا.
وهذا لا شك مع التزام الشريعة السابقة، فإذا ألغيت الشريعة بقيت دعوة المسيح عليه السلام دعوة عامة للتوبة والصلاح بدون أعمال يتوصل الإنسان من خلالها إلى تهذيب نفسه وتزكيتها، وهذا ما آل إليه أمر ديانة المسيح عليه السلام بسبب دعوة بولس الذي نشط بعد ذلك في بيان بطلان شريعة موسى عليه السلام وَوَجْهِ إلغائها، وتكرَّر هذا الأمر في أغلب رسائله، وهو من أهمِّ ما يميز دعوته، مع أنه لا يملك دليلاً واحداً يبيح له مثل هذا العمل، الذي يعتبر كفراً بالديانة ونقضاً لها من أساسها.
كما يُعتبر بكل المعايير فشلاً في الدعوة، وليس نجاحاً كما يظن النصارى؛ لأن النجاح في الدعوة هو أن تنجح في الدعوة إلى كامل المنهج الذي تدعو إليه بأصوله وفروعه، أما تغييره أو الاكتفاء بجزء شكلي منه، فلاشك أن ذلك فشل كبير.
الفرع الخامس: إلغاؤه للختان:
اختتن المسيح عليه السلام والتزم به؛ لأنه من شريعة موسى، فقد ذكر اليهود في كتابهم أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام كما في التكوين: "يختن منكم كل ذكر فَتُخْتَنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم... وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها إنه قد نكث عهدي".
ومع هذا التأكيد على الختان، فقد ألغـاه بولس من ضمن ما ألغى من شريعة موسى عليه السلام، هذه بعض الأمور التي يلاحظها الإنسان الذي يطَّلع اطلاعة سريعة على رسائل بولس التي تكونت بعد منها النصرانية، وقامت عليها وغطت تعاليمه على تعاليم المسيح عليه السلام، بل ألغتها وحلَّت محلَّها، كما سبق ذكره، ومن الجدير بالذكر أن أتباع المسيح الأوائل لم يقبلوا تلك الدعاوى من بولس، بل ردوها، إلا أن تلك الدعاوى وجدت رواجاً لدى الرومان واليونان، وخاصة في غرب أوربا حيث كان الغالبية وثنيين، فناسبتهم هذه المبادئ فأخذوا بها، ثم طبعها بطابع الشمول والإلزام مجمع نيقية سنة (325)م, حيث قرروا فيه ألوهية المسيح عليه السلام، وأنه نزل ليصلب تكفيراً لخطايا البشر كما تقدَّم، فأصبحت الديانة النصرانية مدينة في الواقع لبولس، وليس للمسيح منها إلا الاسم فقط.
الفرع السادس: التأثر بالوثنيات والفلسفات الوثنية:
لقد نادى المسيح عليه السلام بأنه لم يرسل إلا إلى خراف إسرائيل الضالة، بل نهى أتباعه عن الذهاب إلى قرى غير اليهودية، إلا أن أتباعه فيما بعد خالفوا ذلك، وتوجهوا إلى الوثنيين من الرومان واليونان والفرس وغيرهم في المناطق المجاورة، والأماكن التي أمكنهم الوصول إليها، ولما كانت الديانة المسيحية تفتقر للمقومات التي تكفل لها التأثير في تلك المجتمعات، حيث كانت دعوة لبني إسرائيل خاصة، وليس لها الصبغة العالمية التي يمكن أن تتغلب بها على تلك الأديان والفلسفات. لذا فقد غُلبت وأمكن للديانات الوثنية أن تصبغها بصبغتها، بل ألغتها تماماً، واحتلت مكانها، وأخذت مسمَّاها، هذا أمر يتضح لكل ناظر في الديانة النصرانية المحرَّفة، وقد أكَّد علماء الأديان والتاريخ ذلك، وأن الديانة النصرانية قد اصطبغت بالصبغة الوثنية، وأنها أخذت عقيدتها وعبادتها من تلك الوثنيات فضمتها إليها ووضعت عليها اسمها.
ومن الأمثلة على أن النصارى قد ردَّدوا عقائد الوثنيين الذين كانوا قبلهم ما يلى:
1- أن التثليث موجود عند الهنادكة والبوذيين قبل النصارى، وفي هذا يقول "فابر" في كتابه (أصل الوثنية): "وكما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلفاً من برهمة وفشنو وسيفا، هكذا نجد عند البوذيين فإنهم يقولون: إن بوذا إله ويقولون بأقانيمه الثلاثة...".
2- إن الصلب - فداءً للبشر- عقيدة وثنية كانت موجودة لدى الهنادكة،
3-الاعتقاد بأن إلهاً تجسَّد ووُلد من عذراء هو كذلك من عقائد الوثنيين،
ولكن كيف تشرَّبت الديانة النصرانية الأديان الوثنية؟
إن الناظر في كبار الدعاة إلى النصرانية في العصور الأولى، والذين يُشار إليهم بأنهم من أعظم الناس أثراً وتأثيراً في الديانة النصرانية، هم فلاسفة متعمقون في الفلسفات الوثنية، وبعد تنصرهم نقلوا تلك الفلسفات معهم إلى الدين الجديد، وحاولوا أن يسدوا الثغرات التي يجدوها في الديانة النصرانية- وما أكثرها- بمزيج من الفلسفات التي كانوا عليها من قبل، ومن هؤلاء الذين كان لهم دور في ذلك:
بولس(شاؤول اليهودي) وسبق الحديث عنه.
"يوستينيوس" الذي وُلد سنة ( 100أو 105)م
" تاتيان السوري" المولود عام (110)م
"أثينا غورس الأثيني"
"ثيوفيلوس الأنطاكي"
"إكلميندوس الإسكندري" ولد على ما يحتمل سنة (150)م
"أغسطينوس" ولد سنة (354)م
الفرع السابع: تدخل الإمبراطور قسطنطين
الإمبراطور قسطنطين إمبراطور الدولة الرومانية هو الذي رفع الاضطهاد عن النصارى بعد أن دام ما يقارب (300) سنه من قبل اليهود والرومان، فقرَّب هذا الإمبراطور النصارى إليه، ورفع الاضطهاد عنهم، فانحازوا هم إليه وقبلوا منه ذلك، ثم إنه لما رأى اختلافهم وتباين أقوالهم دعاهم إلى مجمع نيقية سنة (325)م، فاجتمعوا في ذلك المجمع، ولما كان هو وثنيًّا ولا علم عنده أيضاً بالمسيحية انحاز إلى ما يوافق هواه ورغبته، فنصر قول القائلين بألوهية المسيح، وأمر بلعن وطرد من خالفهم وملاحقته.
وبالفعل تم ذلك وترتب عليه القضاء على التوحيد، واندراس معالمه بعد ذلك، كما أدَّى ذلك إلى انتشار النصرانية المثلثة بقوة السلطان، وأولهم" قسطنطين" الذي لم يدخل في الديانة النصرانية إلا وهو على فراش الموت.
الفرع الثامن: المجامع النصرانية:
تبين أن تلك المجامع هي التي كوَّنت الديانة النصرانية، ووضعت أهم أسسها، وهي التي حاربت التوحيد عن طريق قراراتها، فأصبحت الديانة النصرانية تدين في الواقع لهذه المجامع في تكوينها وفي دعوتها لمحاربة وتكفير كل من يخالف قراراتها.
المطلب الأول: الاضطهادات
إن مما لاشك فيه أن الدعوات خاصة الدينية والإصلاحية تنمو وتزدهر في السلام والأمن، وتنكمش وتتقوقع في الخوف والاضطهاد، وقد يؤدي الاضطهاد المركز إلى القضاء عليها، وخاصة إذا واكب نشأتها قبل أن تنغرس جذورها في الأرض وتثبت قدمها فيها.
وإن الدارس لتاريخ المسيح عليه السلام وأتباعه ودعوته يجد أن الاضطهاد واكب نشأتها، واستمر قروناً عده يشتد حيناً، ويفتر حيناً آخر.
فقد كان المسيح عليه السلام مطارداً من اليهود، بل سعوا جادين إلى قتله، إلا أن الله عزَّ وجلَّ أنجاه منهم ورفعه إليه، ثم إن النصارى حسب كلامهم وقع عليهم اضطهاد شديد من بعده، أولاً من قبل اليهود، فقد قُتل أحد كبار النصارى ويسمى "إستفانوس" رجماً، وقُطع بعده رأس "يعقوب" مما جعل بقية الأتباع يتفرقون في البلدان، وينتشرون في أرض الله خوفاً من اضطهاد بني جنسهم اليهود لهم، ثم وقعت على من بقي منهم في فلسطين نكبتان مدمرتان:
أولاهما عام (70)م، وهي: فتك الوالي الروماني "تيطس" باليهود وتدميره لبيت المقدس، والأخرى وهي أكبر من أختها: عام (135)م, في عهد الإمبراطور "هادريان" الذي قضى على اليهود في فلسطين، ولم يبق بعده فيها إلا أقلية نصرانية واهنة مبعثرة.
ثم استمر اضطهاد أباطرة الرومان للنصارى قرنين آخرين، ذاق خلالهما النصارى ألواناً شتى من الذل والاضطهاد، حتى أصبح اتهام أي رجل بالنصرانية في بعض الأحيان مبرراً قويًّا لإلقائه للوحوش المفترسة والحكم عليه بالموت، فكان هذا الاضطهاد من العوامل المهمة في تحريف دعوة المسيح عليه السلام ؛ لأن تثبيت العقيدة والدعوة إليها والعمل بها، يحتاج إلى وضع آمن، بل يحتاج إلى قوة داعمة ومناصرة لترسخ العقيدة في النفوس، ويتمكن الدعاة من نشرها بين الناس، وإلا فإن عقائد الناس وعباداتهم القديمة تطغى على الدعوة الجديدة، وقد تصبغها بصبغتها، وكذلك أعداء الأديان من أصحاب الأهواء والنفعيين فإنهم يجدون أرضية مناسبة لبث آرائهم وأهوائهم في الأديان، كما أن الجهل بالدين الصحيح في كثير من الأحيان مع النية الصالحة في العمل قد تدفع الإنسان إلى استحسان أمور وادعاء أمور أنها من الدين وهي ليست منه.
فهذه الأمور وغيرها تطفو على السطح وتظهر في حالة الاضطهاد وعدم الأمن، وإذا نظرنا إلى تاريخ النصرانية نجد أنه في فترة الاضطهاد شاع بينهم ما يسمونه بـ "الهرطقة" وهي التعاليم المخالفة لما عليه النصارى، كما كثرت الكتب والرسائل المنسوبة إلى دعاة النصارى الأوائل.
واستمر وجود تلك البدع والكتب إلى أن جاء قسطنطين وسعى إلى توحيد النصارى بدعوته إلى مجمع نيقية سنة (325)م، إلا أنه وحدَّهم على إحدى تلك البدع، وهي بدعة بولس، فمما لا شك فيه أن ذلك كله كان عاملاً من العوامل التي تسببت في انحراف النصرانية عن الدين الحق الذي جاء به المسيح عيسى عليه السلام.
المطلب الثاني: ضياع الإنجيل وانقطاع السند
الأناجيل الموجودة ليس منها شيء منسوب إلى عيسى عليه السلام، ولا يعرف أثر لإنجيل عيسى عليه السلام، كما أن النصارى لم يعتنوا بالتدوين مباشرة بعد رفع المسيح، وإنما تأخروا في التدوين مما جعل كثيراً من الأناجيل تظهر، ولا يعرف على اليقين كاتبها، ولا من أين أخذ معلوماته.
وهذا انحرف بدعوة المسيح عليه السلام عن وجهها الصحيح؛ لأن أصحاب تلك الأناجيل ليسوا معصومين، فوقعوا في أخطاء كثيرة، وسوء فهم، وغير ذلك من العوارض التي تعرض للبشر، مما جعل الديانة المعتمدة على مثل تلك الكتب المليئة بالأخطاء تبدو ديانة مرتبكة مختلة التركيب، كما هو حال النصرانية.
المطلب الثالث: بولس (شاؤول اليهودي) » الفرع الأول: ادعاؤه أن المسيح ابن الله
الفرع الأول: ادعاؤه أن المسيح ابن الله
من الدعاوى التي أطلقها بولس هي ادعاؤه أن المسيح عليه السلام ابن الله- تعالى الله عن ذلك
فهذه الدعوى ظهرت أولاً في كلام بولس ودعوته، ثم ظهرت قوية في المجامع النصرانية، وقامت عليها الديانة كلها، وهذا كله خلاف ما صرَّح المسيح عليه السلام به مراراً من أنه رسول لبني إسرائيل، وأنه إنسان، وابن إنسان، وابن داود، وغيرها من الألقاب التي تؤكد أنه بشر ابن بشر، ومن ذلك قول (إنجيل متى) " فقال له يسوع: للثعالب أوجرة ولطيور السماء أو كار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه؟".
وفي (إنجيل يوحنا) يقول "وأنا إنسان علمكم بالحق الذي سمعه من الله"
فهذه النصوص قد أكَّد بها المسيح بشريته إلا أن بولس بعد قد أضفى على المسيح صفة "ابن الله" وأعطاها ذلك المضمون الذي أخذت به النصرانية من اعتقادهم أن المسيح إله، ابن إله، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيراً.
الفرع الثاني: ادعاؤه أن الغاية من مجيء المسيح عليه السلام هو الصلب وتكفير الخطايا
وفي هذا ورد في إنجيل متى قوله: " لأني لم آت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة".
وفي (إنجيل مرقص)) يقول: " وبعد ما أُسْلِم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله، ويقول: قد كمل الزمان، واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل".
فهذا ظاهر منه أن المسيح عليه السلام قد صرَّح بأن الهدف من رسالته هو الدعوة إلى التوبة، إلا أن بولس اخترع من عند نفسه هدفاً آخر للمسيح لم يصرح به المسيح ولم يقله، وهو أنه إنما جاء ليصلب تكفيراً للخطايا.
الفرع الثالث: ادعـاؤه أن دعوة المسيح عليه السلام كانت عامة لجميع بني البشـر
ادَّّعى بولس أن المسيح عليه السلام رسول لجميع الأمم ثم زعم لنفسه بأنه مرسل إلى جميع البشر، وفي هذا يقول في رومية: "فإني أقول لكم أيها الأمم، بما أني أنا رسول للأمم أمجد خدمتي".
وفي أفسس يقول: "أعطيت هذه النعمة أن أبشر بين الأمم"?
وهذه الدعوى منه تخالف ما ذكره المسيح عن نفسه وما وصَّى أيضا به تلاميذه، حيث يقول عن نفسه في (إنجيل متى): "لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة". ووصَّى تلاميذه بقوله في (إنجيل متى): " إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة".
الفرع الرابع: إلغاؤه لشريعة موسى عليه السلام، ودعواه أن الإنسان ينجو بالإيمان المجرَّد بدون عمل.
ألغى بولس شريعة موسى عليه السلام، وفي هذا يقول في رسالته إلى رومية: "إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس، بل بإيمان يسوع المسيح آمنا نحن أيضاً بيسوع المسيح لنتبرر بإيمان يسوع لا بأعمال الناموس؛ لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسد ما..... فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبَّني وأسلم نفسه لأجلي ".
ومما يجدر ذكره أن بولس لما وسع نطاق دعوة المسيح عليه السلام لتشمل جميع الناس واجه عقبة كؤود، وهي عدم قبول الوثنيين للشرائع الموسوية، وتصوَّر أنه لا يمكن أن تنجح الدعوة بينهم مع وجود الشريعة، فقرَّر إلغاءها، ويذكر سفر أعمال الرسل أن هذا أولاً تمَّ بمطالبة من بولس ودعوة منه، ثم قبله بعد ووافق عليه سائر التلاميذ، وقرروا أن لا يلزم الناس بشيء من الأمور الواجبة عند بني إسرائيل سوى الامتناع عن الذبح للأصنام، وعن أكل الدم، والمخنوق، والامتناع عن الزنا.
وإلغاء بولس للعمل بشريعة موسى عليه السلام خلاف ما أكَّده المسيح عليه السلام ودعا إليه، فقد ورد في (إنجيل متى) أنه قال: " لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل. فهذه تأكيدات واضحة من المسيح على التزام شريعة موسى عليه السلام وتحريم الخروج عليها. فإلغاء العمل بشريعة موسى هو في الحقيقة هدم لديانة المسيح تماماً؛ لأن مما هو ظاهر من دعوة المسيح عليه السلام أنه لم يأت بتعاليم جديدة تذكر، وإنما ركَّز تركيزاً خاصًّا على التوبة والتخلص من الخطايا.
وهذا لا شك مع التزام الشريعة السابقة، فإذا ألغيت الشريعة بقيت دعوة المسيح عليه السلام دعوة عامة للتوبة والصلاح بدون أعمال يتوصل الإنسان من خلالها إلى تهذيب نفسه وتزكيتها، وهذا ما آل إليه أمر ديانة المسيح عليه السلام بسبب دعوة بولس الذي نشط بعد ذلك في بيان بطلان شريعة موسى عليه السلام وَوَجْهِ إلغائها، وتكرَّر هذا الأمر في أغلب رسائله، وهو من أهمِّ ما يميز دعوته، مع أنه لا يملك دليلاً واحداً يبيح له مثل هذا العمل، الذي يعتبر كفراً بالديانة ونقضاً لها من أساسها.
كما يُعتبر بكل المعايير فشلاً في الدعوة، وليس نجاحاً كما يظن النصارى؛ لأن النجاح في الدعوة هو أن تنجح في الدعوة إلى كامل المنهج الذي تدعو إليه بأصوله وفروعه، أما تغييره أو الاكتفاء بجزء شكلي منه، فلاشك أن ذلك فشل كبير.
الفرع الخامس: إلغاؤه للختان:
اختتن المسيح عليه السلام والتزم به؛ لأنه من شريعة موسى، فقد ذكر اليهود في كتابهم أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام كما في التكوين: "يختن منكم كل ذكر فَتُخْتَنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم... وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها إنه قد نكث عهدي".
ومع هذا التأكيد على الختان، فقد ألغـاه بولس من ضمن ما ألغى من شريعة موسى عليه السلام، هذه بعض الأمور التي يلاحظها الإنسان الذي يطَّلع اطلاعة سريعة على رسائل بولس التي تكونت بعد منها النصرانية، وقامت عليها وغطت تعاليمه على تعاليم المسيح عليه السلام، بل ألغتها وحلَّت محلَّها، كما سبق ذكره، ومن الجدير بالذكر أن أتباع المسيح الأوائل لم يقبلوا تلك الدعاوى من بولس، بل ردوها، إلا أن تلك الدعاوى وجدت رواجاً لدى الرومان واليونان، وخاصة في غرب أوربا حيث كان الغالبية وثنيين، فناسبتهم هذه المبادئ فأخذوا بها، ثم طبعها بطابع الشمول والإلزام مجمع نيقية سنة (325)م, حيث قرروا فيه ألوهية المسيح عليه السلام، وأنه نزل ليصلب تكفيراً لخطايا البشر كما تقدَّم، فأصبحت الديانة النصرانية مدينة في الواقع لبولس، وليس للمسيح منها إلا الاسم فقط.
الفرع السادس: التأثر بالوثنيات والفلسفات الوثنية:
لقد نادى المسيح عليه السلام بأنه لم يرسل إلا إلى خراف إسرائيل الضالة، بل نهى أتباعه عن الذهاب إلى قرى غير اليهودية، إلا أن أتباعه فيما بعد خالفوا ذلك، وتوجهوا إلى الوثنيين من الرومان واليونان والفرس وغيرهم في المناطق المجاورة، والأماكن التي أمكنهم الوصول إليها، ولما كانت الديانة المسيحية تفتقر للمقومات التي تكفل لها التأثير في تلك المجتمعات، حيث كانت دعوة لبني إسرائيل خاصة، وليس لها الصبغة العالمية التي يمكن أن تتغلب بها على تلك الأديان والفلسفات. لذا فقد غُلبت وأمكن للديانات الوثنية أن تصبغها بصبغتها، بل ألغتها تماماً، واحتلت مكانها، وأخذت مسمَّاها، هذا أمر يتضح لكل ناظر في الديانة النصرانية المحرَّفة، وقد أكَّد علماء الأديان والتاريخ ذلك، وأن الديانة النصرانية قد اصطبغت بالصبغة الوثنية، وأنها أخذت عقيدتها وعبادتها من تلك الوثنيات فضمتها إليها ووضعت عليها اسمها.
ومن الأمثلة على أن النصارى قد ردَّدوا عقائد الوثنيين الذين كانوا قبلهم ما يلى:
1- أن التثليث موجود عند الهنادكة والبوذيين قبل النصارى، وفي هذا يقول "فابر" في كتابه (أصل الوثنية): "وكما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلفاً من برهمة وفشنو وسيفا، هكذا نجد عند البوذيين فإنهم يقولون: إن بوذا إله ويقولون بأقانيمه الثلاثة...".
2- إن الصلب - فداءً للبشر- عقيدة وثنية كانت موجودة لدى الهنادكة،
3-الاعتقاد بأن إلهاً تجسَّد ووُلد من عذراء هو كذلك من عقائد الوثنيين،
ولكن كيف تشرَّبت الديانة النصرانية الأديان الوثنية؟
إن الناظر في كبار الدعاة إلى النصرانية في العصور الأولى، والذين يُشار إليهم بأنهم من أعظم الناس أثراً وتأثيراً في الديانة النصرانية، هم فلاسفة متعمقون في الفلسفات الوثنية، وبعد تنصرهم نقلوا تلك الفلسفات معهم إلى الدين الجديد، وحاولوا أن يسدوا الثغرات التي يجدوها في الديانة النصرانية- وما أكثرها- بمزيج من الفلسفات التي كانوا عليها من قبل، ومن هؤلاء الذين كان لهم دور في ذلك:
بولس(شاؤول اليهودي) وسبق الحديث عنه.
"يوستينيوس" الذي وُلد سنة ( 100أو 105)م
" تاتيان السوري" المولود عام (110)م
"أثينا غورس الأثيني"
"ثيوفيلوس الأنطاكي"
"إكلميندوس الإسكندري" ولد على ما يحتمل سنة (150)م
"أغسطينوس" ولد سنة (354)م
الفرع السابع: تدخل الإمبراطور قسطنطين
الإمبراطور قسطنطين إمبراطور الدولة الرومانية هو الذي رفع الاضطهاد عن النصارى بعد أن دام ما يقارب (300) سنه من قبل اليهود والرومان، فقرَّب هذا الإمبراطور النصارى إليه، ورفع الاضطهاد عنهم، فانحازوا هم إليه وقبلوا منه ذلك، ثم إنه لما رأى اختلافهم وتباين أقوالهم دعاهم إلى مجمع نيقية سنة (325)م، فاجتمعوا في ذلك المجمع، ولما كان هو وثنيًّا ولا علم عنده أيضاً بالمسيحية انحاز إلى ما يوافق هواه ورغبته، فنصر قول القائلين بألوهية المسيح، وأمر بلعن وطرد من خالفهم وملاحقته.
وبالفعل تم ذلك وترتب عليه القضاء على التوحيد، واندراس معالمه بعد ذلك، كما أدَّى ذلك إلى انتشار النصرانية المثلثة بقوة السلطان، وأولهم" قسطنطين" الذي لم يدخل في الديانة النصرانية إلا وهو على فراش الموت.
الفرع الثامن: المجامع النصرانية:
تبين أن تلك المجامع هي التي كوَّنت الديانة النصرانية، ووضعت أهم أسسها، وهي التي حاربت التوحيد عن طريق قراراتها، فأصبحت الديانة النصرانية تدين في الواقع لهذه المجامع في تكوينها وفي دعوتها لمحاربة وتكفير كل من يخالف قراراتها.
الصفحة الأخيرة