لم تكن الخمسينية "أم محمد" تطمح يوماً في أن تمارس مهنة التمريض.. إلا أن الظروف الكالحة وحدها قد أجبرتها لأن تكون أماً وأباً وممرضة تجيد مهارات الاتصال والتخاطب بلغة الإشارة والحواس بطريقة يستحيل أن يفهمها إلا ابنها محمد المشلول دماغياً وحركياً!
فقد بدأت قصة "أم محمد" عندما أدت ولادتها المتعسرة قبل نحو "24" سنة لوليدها "محمد" إلى تدخل الأطباء جراحياً في محاولة لإنقاذ حياة مولودها البكر.. الأمر الذي تسبب في إصابته بشلل دماغي وصف حينها بالقاتل.. بيد أن إرادة المولى عز وجل كانت فوق كل التقديرات.. إذ ظل محمد على قيد الحياة منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا.. ولكن لا حراك أو ادراك.. ليتحول إلى جسد عظمي لا يدلل على معنى الحياة فيه إلا أنفاسه المتحشرجة.. وعيناه المحدقتان دوماً في وجه أمه.. وتلك الابتسامة الطفولية البريئة التي لم تغادر محياه لحظة حتى بعد رحيل والده الذي كان يرى فيه أجمل ما تقع عيناه عليه في هذه الدنيا..
"الرياض" زارت عائلة "محمد" في منزلها الكائن في مدينة جبة " 100كم عن حائل" وذلك عقب أن تلقت العديد من الاتصالات الهاتفية من أهالي جبة والتي يناشدون فيها نقل معاناة هذه الأسرة المكلومة عبر "الرياض" لما اعتبروه أنها الأكثر نصيباً في تجاوب القراء على المستويين الرسمي والشعبي.
وقد كان لزيارة "الرياض" وقع خاص في نفسية "أم محمد" التي بادرتنا بالترحاب الحاتمي والدعاء في أن يجعل في هذا الطرح ما يفك كربتها وكربة فلذة كبدها "محمد" بعد أن أعيتها الحيلة عقب فراق رب الأسرة الذي كان المعيل الوحيد - بعد الله - ليتركها وحيدة في بحر من الآلام تتقاذفها لوعة الفراق لتستقر على ضفاف العوز والمرض والشقاء لا تجد من يعينها على نوائب الدهر إلا الله ثم ما تبقى من فتات دخل شهري تقلص حتى بلغ 1300ريال شهرياً لا تكاد تفي بأبسط مقومات العيش الكريم.
سألناها بداية عن أسباب مرض محمد الذي بدا مقعداً على فراشه من دون حراك حتى تحول إلى هيكل عظمي.
فقالت: حدث ذلك قبل 24سنة عندما أنجبت محمداً - ابني البكر - حيث تعسرت ولادته حتى تدخل الأطباء بطريقة سببت له شللاً دماغياً أصابه بفقدان الادراك والحركة بشكل تام وتضيف لتقول: لقد قال الأطباء إن المولود لن يعيش طويلاً فحالته جداً خطيرة. إلا أنني تسلمته من المستشفى وقمت برعايته والعناية به أنا ووالده قبل أن يتوفاه الله قبل عامين حتى أصبح رجلاً - كما ترون - وعاش حتى هذا اليوم ولله الحمد.
@ وكيف تمكنتم من رعايته وهو بحاجة إلى رعاية خاصة؟
- لقد أعاننا الله ثم الخيرون فوالده لم يكن موظفاً وإنما على باب الكريم (مؤذن مسجد) إلا أن ذلك لم يمنعه من الوقوف وتوفير متطلبات حياة ابننا الكريمة حتى رُزقنا بعده بولدين وبنت وهم جميعاً سليمون ولله الحمد والمنة.
وتستدرك لتقول لقد كنا نعيش مما نستلمه من الضمان الاجتماعي بواقع "1800" ريال تقريباً في الشهر غير أن الأمر تبدل بعد أن اضطررنا لأن نحمل محمداً إلى الأحوال المدنية لإصدار بطاقة شخصية له منذ سنة ففوجئنا عقب صدور البطاقة أن حصته من الضمان الاجتماعي قد صودرت ليتقلص الضمان إلى "1300" ريال شهرياً من دون معرفة الأسباب.
أما مكافأة والده الشهرية التي لم تكن تزيد على ألف ريال فقط قطعت بعد وفاته منذ عامين.
@ وهل يكفي ما تبقى لسد حاجاتكم اليومية؟
- لو علمت كيف نتدبر أمور كل شهر لاصابك العجب من ذلك ولكن الله كريم وساتر الحال.. فابنتي قد رفضت هجر الدراسة بسبب ما نعانيه من فاقة وحاجة وهي ولله الحمد تدرس وتواصل تعليمها الأكاديمي في مدينة حائل بشكل مستمر إلا أن ذلك يكلفنا شهرياً 500ريال أجرة النقل المدرسي من وإلى مدينة جبة أي أن ما يقارب نصف الدخل قد هدر في المواصلات وأنا كنت ولا زلت أشجعها على المضي في دراستها حتى تحصل على أعلى الشهادات وهي تبادلني نفس الطموح في أن ترى نفسها يوماً وقد حملت مسؤوليتها تجاه شقيقها محمد واخوته الذين لا يزالون على مقاعد الدراسة.
وعن حالة محمد الحالية قالت: محمد يعاني من تشنجات يومية وآلام مبرحة وتقلص في العضلات لا يستطيع الحراك على الإطلاق ولا يتكلم ولا يفهمه أحد غيري.. حيث نجحت منذ صغره أن أوجد طريقة خاصة بيني وبينه للتخاطب من خلال قبضة يده ونظرات عينيه فأستطيع من خلالها - بإذن الله - أن اتعرف على كل ما يدور بخاطره. حتى ان والده الذي توفي قبل عامين بسبب تعرضه لأمراض مزمنة على مدى السبع سنوات التي سبقت وفاته كان يتعجب بشدة من دقة تحديدي لما يريد محمد من رغبات فيقوم - رحمه الله بتلبيتها بأية وسيلة حتى لو اضطر للذهاب لمدينة حائل مرتين في اليوم وقد حدث ذلك أكثر من مرة.
@ هل تودين توجيه نداء معين لأحد؟
- أود أن تنقلوا معاناتي كما شاهدتموها من دون زيادة أو نقصان عل وعسى أن يأتي على أيديكم الفرج بإذن الله. هذا وقد قامت "الرياض" بجولة في أنحاء منزل "أم محمد" لتشاهد وترصد مدى ما آلت إليه ظروف هذه الأسرة من فاقة وفقر مدقع لا يصوره مشهد المنزل من الخارج حيث حرصت "أم محمد" أن تكون من المتعففين حتى بلغت بها الحال إلى هذا المأل من الحاجة والعوز.. وفيما نحن كذلك تركنا محمد وهو يلهو بلعبته التي بقيت له تذكاراً من والده يحاول من خلالها أن يجسد لوالدته وأشقائه كم هو فرح وفخور بهم كما هم به فرحون، رغم كل الظروف والمحن التي عصفت ولا تزال تعصف بهم.
للاستفسار الاتصال بمكتب جريدة "الرياض" في حائل (06/5321077) أو جوال المحرر أحمد القطب (0504880016).
