
"على قمــــــــــم الجبــــــــــال"

أما بعد ..
فهذه رحلة مع أقوام من الصالحين ..
الذين تنفسوا في الطاعات .. وتسابقوا إلى الخيرات ..
نعم.. مع الذين سارعوا إلى مغفرة من ربهم وجنات..
هذه أخبار أقوام .. لم يتهيبوا صعود الجبال.. بل نزعوا عن أعناقهم الأغلال .. واشتاقوا إلى الكريم المتعال ..
هم نساء ورجال .. علو إلى قمم الجبال..
ما حجبتهم عن ربهم لذة .. ولا اشتغلوا عن دينهم بشهوة ..
فأحبهم ربهم وأدناهم .. وأعلى مكانهم وأعطاهم ..
(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ ) ..
نعم .. والله لا يستوون ..
لا يستوي من ليله قيام .. ونهاره صيام ..
مع من ليله عزف وأنغام .. ونهاره كالأنعام ..
لا يستوون .. { أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {19} وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } ..
وإذا اردت أن تقف على حال المتقين ..
فانتقل معي إن شئت إلى هناك .. انتقل إلى المدينة ..
وانظر إلى أولئك الفقراء .. انظر إلى أبي هريرة وسلمان .. وأبي ذر وبلال .. وقد أقبلوا إلى النبي عليه السلام .. يشتكون من الأغنياء ..
عجباً !! الفقراء يشتكون من الأغنياء !! نعم .. فلماذا يشتكون ..
هل لأن طعام الأغنياء ألذ من طعامهم .. أم لأن لباس الأغنياء ألين من لباسهم ..
أم لأن بيوت الأغنياء أرفع من بيوتهم .. كلا .. ما كانت هذه شكاتهم .. ولا كان في هذا تنافسهم ..
أقبلوا حتى وقفوا بين يدي النبي عليه السلام .. فقالوا يا رسول الله .. جئنا إليك نشتكي من الأغنياء ..
قال : وما ذاك ..
قالوا : يا رسول الله .. ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلى .. يصلون كما نصلي .. ويصومون كما نصوم ..
ولكن لهم .. فضول أموال فيتصدقون .. ولا نجد ما نتصدق ..
فقال لهم النبي عليه السلام : ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من قبلكم ولم يدركم أحد ممن يجيء بعدكم ؟
قالوا : نعم ..
قال : تسبحون في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين .. وتحمدون ثلاثاً وثلاثين .. وتكبرون ثلاثاً وثلاثين .. إنكم إذا فعلتم ذلك .. سبقتم من قبلكم ولم يدركم أحد ممن يجيء بعدكم ..
فرح الفقراء بذلك .. فلما قضيت الصلاة فإذا لهم زجل بالتسبيح والتكبير والتحميد ..
التفت الأغنياء فإذا الفقراء يسبحون .. سألوهم عن ذلك .. فأخبروهم بما علمهم النبي عليه السلام .. فما كادت الكلمات تلامس أسماع الأغنياء .. حتى تسابقوا إليها .. نعم .. إذا أبو بكر يسبح .. وإذا ابن عوف يسبح .. وإذا الزبير يسبح ..
فرجع الفقراء إلى النبي عليه السلام .. فقالوا : يا رسول الله سمع إخواننا الأغنياء بما علمتنا .. ففعلوا مثلنا .. فعلمنا شيئاً آخر ..
فقال صلى الله عليه وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ..
والحديث رواه ابن حبان وابن خزيمة ..
نعم .. ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) ..

بل كان التنافس على الخيرات هو الذي يشغل بال الصالحين .. ويرفع درجات المتقين ..
وانظر إلى الشيخين الجليلين .. والعلمين العابدين ..
انظر إلى أبي بكر وعمر ..
كان عمر رضي الله عنه .. يقول : كنت أتمنى أن أسبق أبا بكر .. إن سبقته يوماً ..
فأمر النبي عليه السلام الناسَ بالصدقة يوماً .. وكان عند عمر مال حاضر من ذهب وفضة .. فقال في نفسه : اليوم أسبق أبا بكر ..
فأقبل على ماله فقسمه نصفين .. وأبقى نصفٍاً لعياله .. وجاء بنصف إلى النبي عليه السلام ..
فلما وضعه بين يديه .. رفع صلى الله عليه وسلم بصره إليه ثم قال : ماذا تركت لأهلك ..
قال : يا رسول الله .. تركت لهم مثله ..
ثم جلس عمر ينتظر أبا بكر ..
فإذا أبو بكر قد جاء بصرة عظيمة .. فوضعها بين يدي النبي عليه السلام .. فقال له صلى الله عليه وسلم : ماذا تركت لأهلك ..
فقال أبو بكر : تركت لهم الله ورسوله ..
فنظر إليه عمر ثم قال : والله لا سابقت أبا بكر بعد اليوم أبداً ..

بل انظر إلى صورة أخرى من صور التنافس الحارّ .. يوم يقف النبي عليه السلام أمام جموع المسلمين في معركة أحد .. ثم يعرض سيفه صلتاً ويصيح بجموع الأبطال : من يأخذ هذا السيف بحقه ..
عندها تتسابق الأكف .. وتتطاير الأبصار .. وتشرئب النفوس .. عجباً على ماذا يتسابقون ؟!
إنه على الروح أن يبذلوها .. وعلى الدماء أن يسكبوها .. والأنفس ليقتلوها ..
فيقفز من بينهم أبو دجانة ويقول : وما حقه يا رسول الله ..
فيقول النبي عليه السلام : ألا تضرب به مسلماً .. ولا تفر به من بين يدي كافر ..
نعم .. لا تفر عن كافر مهما كان قوياً أو ضعيفاً .. شجاعاً أو جباناً ..
عندها يأخذه البطل .. ثم يخرج عصابة حمراء فيربطها على رأسه .. ويتبختر مستبشراً فرحاً .. ويضرب به هام الكفار حتى انثنى ..

أن من أمته سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ..
فيعجب الصحابة بهذا الفضل العظيم .. ويقفز عكاشة بن محصن رضي الله عنه .. سريعاً .. يبادر الموقف وينتهز الفرصة قبل أن تفوت ..
ويقول : "يا رسول الله أدعُ الله أن يجعلني منهم .. قال : ( أنت منهم ) ..
ويفوز بها عكاشة .. ثم يغلق الباب .. ويقال لمن بعده : سبقك بها عكاشة ..
نعم سبق عكاشة فدخل الجنة بغير حساب ..
وفاز أبو دجانة بسيف النبي الأواب ..
وارتفع أبو بكر على جميع الأصحاب ..
وتنافس الأغنياء والفقراء .. والصالحون والأولياء ..
همهم واحد .. كما أن ربهم واحد ..
وقلوبهم ثابتة .. كما أن عزائمهم ماضية ..
وأنت أفلا نظرت إلى نفسك .. كيف همتك إذا رأيت من سبقك إلى الدعوة إلى الله .. أو النفقة في سبيل الله ..
أفلا تلوم نفسك إذا رأيت فلاناً سبقك بحفظ القرآن .. وأنت غافل ولهان ..
ورأيت الآخر سبقك إلى الجهاد .. وأنت على الأريكة والوساد ..
والثالث يصعد في الدرجات .. وينكر المنكرات .. وأنت عاكف على أمور تافهات ..
ما حالك إذا علمت أن فلاناً صوام في النهار .. أو بكاء في الأسحار ..
فيا بائعا نفسه بيع الهوان لو استرجعت ذا البيع قبل الفوت لم تخب
وبائعا طيب عيش ما له خطر بطيف عيش من الآلام منتهب
غبنت والله غبنا فاحشا ولدى * يوم التغابن تلقى غاية الحرب
وحاطب الليل في الظلماء منتصبا * لكل داهية تدني من العطب
كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلت * ورسل ربك قد وافتك في الطلب
فاستفرش الخد ذياك التراب وقل * ما قاله صاحب الأشواق والحقب
منحتك الروح لا أبغى لها ثمنا * الا رضاك ووافقرى الا الثمن
ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه .. غلام صغير من الأصحاب .. لكن همته كانت فوق السحاب ..
فكان يأتي إلى النبي عليه السلام .. وهو غلام .. فيقرب له وَضوءه وحاجته .. فأراد النبي عليه السلام أن يكافئه يوماً ..
فقال له : سلني يا ربيعة ..
فسكت ربيعة قليلاً .. ثم قال : أسألك مرافقتك في الجنة ..
فقال صلى الله عليه وسلم : أو غير ذلك ؟
قال : هو ذاك .. فقال عليه السلام : فأعني على نفسك بكثرة السجود ..رواه مسلم ..
فكان ربيعة على صغر سنه لا يرى إلا مصلياً أو ساجداً ..
لم يفوت من عمره ساعة .. ولم يفقد في صلاة جماعة ..
نعم .. كانوا إذا عرفوا الفضائل تسابقوا إليها .. وثبتوا عليها ..
أذاقهم الله طعم محبّته .. ونعّمهم بمناجاته .. وطهّر سرائرهم بمراقبته .. وزين رؤوسهم بتيجان مودّته ..
فذاقوا نعيم الجنة قبل أن يدخلوها ..
وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله إذا أراد بعبد خيراً استعمله .. قيل : كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال : يوفقه للعمل الصالح ثم يقبضه عليه ..) ..
فمن أحبه الله .. أستعمله في طاعته .. وجعله لا يعيش لنفسه فقط .. بل يعيش لدينه .. داعياً إليه .. آمراً بالمعروف .. ناهياً عن المنكر .. مهتماً بأمر المسلمين .. ناصحاً للمؤمنين .. ففي الشيشان أخته .. وفي أفغان أمه .. وفي الصين ابنته .. وفي كشمير أحبابه .. يألم لألمهم .. ويفرح لفرحهم .. لا تراه إلا واعظاً لخلانه .. ناصحاً لإخوانه .. مؤثراً في زمانه ومكانه ..
إذا رأى المنكرات .. امتلأ قلبه حسرات .. وفاضت عينه دمعات ..
يود لو أن جسده قُرّض بالمقاريض وأن الناس لم يعصوا الله تعالى ..
يستميت في سبيل نصح الخلق .. وهدايتهم إلى الحق .. تأمل في أحوال الأنبياء .. وأخبار الأولياء ..
انظر إلى إبراهيم وهود .. وسليمان وداود .. وتأمل في حال شعيب وموسى .. وأيوب وعيسى ..
كيف كانوا يخدمون الدين .. ويحققون اليقين ..
واستمع إلى نوح عليه السلام .. يشكو حاله فيقول :
( رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعائي إلا فرارا * وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ) ..
فهل استسلم لما أعرضوا ؟ كلا :
( ثم إني دعوتهم جهارا * ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا * فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا * ما لكم لا ترجون لله وقارا ) ..
ماذا بقي من حياة نبي الله نوح؟
الليل والنهار .. العلن والإسرار ..
كل ذلك سخر للدعوة إلى الله ..
وقضى في ذلك ألف سنة إلا خمسين عاماً .. تموت أجيال وتحيا أجيال .. وهو ثابت ثبات الجبال ..