بسم الله الرحمن الرحيم
يشيع بين المعاصرين مفهوم (عليك بالقول دون القائل) وتُورد أمثال العبارة في سياق المطالبة بالحكم على المقولات بمعزل تامٍّ عن أصحابها وحالِهم وما يتعلَّق بهم، وتُذكر في سبيل المبالغة في توخي العدل والإنصاف، وفي الحقيقة أن جزءا من هذه الفكرة صحيح لا غبارَ عليه، فيجب علينا أن لا نردَّ حقا لأجل قائله ولو كان مبطلا ، وإنما يؤخذ الحق إن وجد من كل أحد، لكن المبالغة في تطبيق هذه المقولة على تفريعات كثيرة يوقع في إشكالات علمية.
فحينما يقول علمانيٌّ متَطرف -مثلا-: (يجب أن لا نقدِّس غير المقدَّسات) فكل العقلاء الذين يسمعون عبارته لا يفهمون مراده منها كما لو نطقها بحروفِها مسلمٌ موحد لله، وإنما تعريف هذا العلماني للمقدسات يلقي بظلالِه فورا على أبعادِ معنى هذه العبارة، وذلك لأن مقالات الناس ليست معلَّقةً في الهواء تسرح في أجوافِ طير خُضر، وإنما تنتسب لمحسوسين لهم مقاصد وأغراض يدل عليها السياق .
فالذين يبالغون في معنى هذه العبارة: (عليك بالقول دون القائل) يتجاهلون كون الكلام يُفهم ابتداءً بالنظر في سِياقه، ومن السياق الذي يُغفل عنه هنا: القائل وحاله ، فليست السياقات كلُّها لفظيَّة كما يُتَوهَّم ، وإنما كما يقول ابن تيمية: (الحسُّ والعقل ومعرفة مراد المخاطب قرينة متصلة تضم إلى الكلام) ولهذا لما بلغ الإمامَ أحمد عن ابن أبي قتيلة أنه ذُكر عنده أهل الحديث بمكة، فقال: قوم سوء. فقام الإمام أحمد، وهو ينفض ثوبه، ويقول : (زنديق، زنديق، زنديق) ودخل بيته. فلم يستصحب أبو عبدالله رحمه الله في إطلاق هذا الحكم على ابن أبي قتيلة عبارتَه وحدها ولم يجعل الحكم على المقولة بمعزل عن حال القائل ، وإنما نفذ لمراده منها ، لذا قال ابن تيمية بعدما أورد حكم أحمد على ابن أبي قتيلة: (إنه عرف مغزاه!) ، وقال ابن القيم في مدارج السالكين مبينا استحالة انفكاك الحكم على القول عن الحكم على القائل: (الكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما أعظم الباطل ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عليه) وأشار لهذا المعنى بحروفٍ قريبة منه أيضا أبو العباس في الصارم المسلول.
****
وحتى الذين يتحمَّسون لهذه القاعدة ويكررونها؛ هم لا يطبقونها في كل الأحوال، وإنما يستصحبون حال القائل، لأنه معنى فطري يتعذَّر نفيه وتصعب مكابرته، بل حتى الطرائف والنوادر إنما تُستحسن إذا أضيفت لقائليها واستُصحبت أحوالهم، فربما استظرف الناس عبارةً أضيفتْ لأحد الظرفاء، ولو نُقِلت عن سواه لتبارَدوها ولم يستظرفوها، وإنما حال القائلين يلقي بظلاله حتما على المقولات ، وأشار إلى هذا المعنى أبو عثمان الجاحظ فقال -في كتابه البخلاء-: (ولو أن رجلا ألزق نادرة «بأبي الحارث جمّين» «والهيثم بن مطهر» و «بمزبّد» «ابن أحمر» ثم كانت باردة، لجرت على أحسن ما يكون ، ولو ولّد نادرة حارّة في نفسها، مليحة في معناها، ثم أضافها إلى «صالح بن حنين» وإلى «ابن النواء» وإلى بعض البُغَضاء، لعادت باردة، ولصارت فاترة، فان الفاتر شرّ من البارد، وكما أنك لو ولّدت كلاما في الزهد، وموعظة الناس، ثم قلت: هذا من كلام «بكر بن عبد الله المزني» و «عامر بن عبد قيس العنبري» ، و «مؤرق العجلي» و «يزيد الرقاشي ، لتضاعف حسنه، ولأحدث له ذلك النسب نضارة ورفعة لم تكن له، ولو قلت: قالها «أبو كعب الصوفي» أو «عبد المؤمن» أو «أبو نواس» الشاعر أو «حسين الخليع» لما كان لها إلا ما لها في نفسها، وبالحري أن تغلط في مقدارها، فتبخس من حقّها) وما ذكره الجاحظ هنا هو معنى فطري لا يتعارض مطلقا مع تطبيقات الناس وطرائق تفكيرهم وإنما يتعارض فقط مع تنظيرات بعض المعاصرين المبالِغة في التجريد !
سليمان بن ناصر العبودي
http://www.qk.org.sa/nawah.php?tid=5835
فta @fta_5
عضوة نشيطة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
استفدت حقا من إضاءات
الدكتور سليمان العبودي
بارك الله فيك وفي والديك