( حديث ماقبل .. ) :
في الحديث عن عهد الحديبية علمنا أنه كان مكسباً للمسلمين
إلا أن بنداً فيه كان يقض راحتهم ..
ويرون أن فيه اجحافاً لهم وظلماً بحقهم ..
ذلك البند الذي يقول أن من يأتي من مكة مسلماً فاراً إلى المدينة
بغير رأي مولاه ،يعاد إلى قريش ..!
وذلك يترتب عليه تعرض من فرّ بدينه للاضطهاد والتعذيب والتنكيل
ولكن بعد ذلك صدّقت الحادثات رأي محمد صلى الله عليه وسلم ..
وبعد نظره في موافقته على كل ماجاء في معاهدة الحديبية ،
بأسرع مما كان يظن أصحابه ..
وذللك حين جاءت الحادثة التالية ...

قصة أبو بصير :
وفد أبو بصير من مكة مسلماً إلى المدينة ..
بدون أذن مولاه .. فاراً بدينه..
فكتب الأزهر بن عوف ، والأخنس بن شريق للنبي طالبين برده
وبعثا الكتاب مع رجل من بني عامر ، ومولى لهما..
فتحتم على النبي رد أبي صير ، لأنه لايصح الغدر بالعهد ..
ودعا النبي له ولأمثاله من المستضعفين بالفرج ..
فقال ابو بصير : اتردني اإلى المشركين يفتنوني في ديني ؟!
فكرر الرسول قوله .. فأطاع الرجل ..
.:
انطلق ابو بصير مع الرجلين حتى وصل ذي الحليفة
فسأل أخا بني عامر أن يريه سيفه ،
وما أن استوى. بقبضته حتى قتل به العامري ..
ففر المولى المرافق إلى المدينة حتى اتى النبي فزعاً فقال :
إن صاحبك قتل صاحبي ..
وما هي إلا قليل حتى أقبل أبو صير متوشحاً السيف
وموجها الحديث للنبي قائلاً :
يارسول الله ، وفتْ ذمّتك وادّى الله عنك .. اسلمتني للقوم
وأنا امتنعت بديني أن أفتن فيه ..
أعجب النبي بشجاعته ..وتمنى أن يكون لديه من يقف إلى جانبه .
ثم أن ابا صير توجه ونزل إلى ( الميص) على ساحل البحر الأحمر
في طريق قريش إلى الشام .. ليقطع الطريق عليها ..
فلما سمع المسلمون بمكة بامره ، وعلموا بإعجاب الرسول به
فرّسبعون رجلاً وانضموا إليه ..
فكانوا لايمر بهم احد من المشركين من قريش إلا قتلوه
ولاتمر بعير إلا استولوا عليها وعلى حملها ..
هنا رأت قريش الخسارة التي منيت بها من جراء ذلك البند من العهد
فتنازلت عن هذا الشرط ...
وآوى محمداً آصحابه ..
وعاد طريق الشام آمناً ...
وهكذا كان هذا الحلف يحمل في كل جوانبه ..
النصر والعزة وعلو الشآن للمسلمين .
عمرة القضاء :
استدار العام بعد الحديبية ، وأصبح محمد وآصحابه ..
في حلٍّ بعهدهم من قريش ، ومن الدخول إلى مكة ، ومن زيارة الكعبة ..
لذلك نادى الرسول في الناس لكي يتجهزوا للعمرة ..
فلبى المسلمون النداء ، من المهاجرين والأنصار ..
وكان ذلك في السنة السابعة للهجرة في ذي القعدة ..
:و لرب سائل يقول:
ما سبب تسميتها بعمرة القضاء ..؟
والجواب : لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاضى قريشا عليها،
لا لأنه قضى العمرة التي صد عن البيت فيها،
فإن تلك العمرة لم تك قد فسدت بصدهم عن البيت ..
بل كانت عمرة تامة متقبلة كما نووها ..
حتى إنهم حين حلقوا رءوسهم بالحلّ..
احتملتها الريح فألقتها في الحرم،
فهي معدودة في عُمَرِ النبي صلى الله عليه وسلم.
:
كما أنها سميت بعمرة القصاص ..
لأن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة في السنة السادسة عن مكة ..
فاقتص رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم..
فدخل مكة في ذي القعدة في الشهر الحرام الذي صدوه فيه
في سنة سبع للهجرة .
وهذا الإسم أولى بها لقوله تعالى :
{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}البقرة ١٩٤
ونعود ..!
فقد سار الركب المؤمن في طريقه إلى مكة للعمرة بألفين من المسلمين
يحملون سيوفهم في قرابهم .. يسوقون الهدي ستين ناقة أمامهم ..
يتقدمهم الرسول الكريم على ناقته القصواء..
لكن النبي كان يخشى الغدر دائماً ، فجهز مائة فارس بقيادة ( محمد بن مسلمة )
وبعثهم طليعة له على ألا يتخطوا حرم مكة ..
:
سار الركب القاصد مكة يحدوهم الشغف ..
خاصة المهاجرين منهم .. الذين اشتاقوا أن يشموا..
عرف الديار وثرى أم القرى وما حولها ..
كانت قلوبهم ترقص جذلاً .. وكلما أناخوا في مكان قريب ..
جعل كل منهم يقص على اصحابه آخر عهده بمكة ..
ومرابع طفولته فيها ...
إنه الشوق إلى الوطن لايعادله شوق ..!
فكيف وهذا الوطن الحبيب المُفارَق هو مكة أطهر البقاع ..؟!!
اترك لخيالك أن يتصور خروج الخائفين وعودة المشوقين الظافرين ..!!
عندما وصل خبر قدوم المسلمين ، جلت قريش من مكة ،
نزولاً على صلح الحديبية ، وصعدت في التلال المجاورة وضربت خيمها..
ومن فوق تلك المرتفعات : أبي قبيس ومرّة وغيرها ..
أطلّ المكيون ينظرون إلى الطريد وأصحابه داخلين البيت الحرام ..
لايصدهم صادٍ ، ولا يحول دونهم حائل ..
وقد أخذ عبد الله بن رواحة بخطام ( القصواء)..
وجاءت الصفوف من حلفهم مابين راجلٍ ومقتعد على بعيره ..
فلما انكشف البيت الحرام امامهم ، انفرجت شفاه المسلمين جميعاً
عن صوت واحد منادين : لبيك اللهم لبيك .. !!
متوجهين بكيانهم إلى وجه الله ذي العزة والجلالة ..
حافين الرسول في موكب مهيب ، ومشهد فذٍّ .. سجله التاريخ بحروفٍ من نور
واهتزت البطحاء من هذا الصوت المدوٌي ..
الذي يهزأشد القلوب صلابة ..!!
:
كيف اعتمر الرسول ~
ولما بلغ الرسول المسجد للطواف اضطبع بردائه..
واخرج عضده اليمنى ثم قال :
( اللهم ارحم أمرأً أراهم اليوم من نفسه قوة) .
ثم استلم الركن عند الحجر الأسود وهرول و معه أصحابه،
فلما استلم الركن اليماني مشى حتى استلم الحجر الأسود مهرولاً من جديد
ثلاثة أطواف ومشى سائرها ، والمسلمين يتبعوه في الهرولة والمشي..
وفي غمرة هذه الحماسة أراد عبد الله بن رواحة أن يقذف في وجه قريش
بصيحة حرب فصده عمر بن الخطاب ، وقال له الرسول :
(مهلاً ياابن رواحة .. قل لاإله إلا الله وحده ، نصر عبده ، وأعز جنده ،
وخذل الأحزاب وحده ) ورددها المسلمون بعده بصوت واحد ..!
فتجاوب صداها في الوادي وارتفعت رهبتها تقرع قلوب المشركين ..
...
وبعدما أتم المسلمون الطواف سبعاً ..
انتقل الرسول بهم إلى الصفا والمروة فركب بينهما سبعاً ،
كما كان يفعل العرب من قبل ، ثم نحر الهدي عند المروة وحلق رأسه
وأتم بذلك فرائض العمرة .
وفي اليوم الثاني دخل محمد صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة
وبقي بها حتى صلاة الظهر .. وكانت الأصنام مازالت قائمة فيها ..
وعلا صوت بلال قوياً تردد صداه في الوادي لأذان الظهر ..
وأمّ النبي ألفين من المسلمين بصلاة الإسلام ..
عند البيت الذي كان يُصدُّ عن الصلاة عنده من سبع سنين..
:
وأقام المسلمون بمكة ثلاثة أيام المفروضة في عهد الحديبية
وقد خلت أم القرى من آهلها ..
وزار المهاجرون دورهم التي تركوها كرهاً.. ومعهم الأنصار ..
ثلاثة أيام أقامها المسلمون في الطاعة والصلاة ..
والنبي بينهم متنقلاً ناصحاً متحدثاً متواضعاً مبتسماً ...
ثلاثة أيام وقريش.. تشاهد هذه المواقف الفريدة ..
من البر .. والتواضع والتراحم بين المسلمين ..
ويرون من خُلُق المسلمين عجبا ..!
فلا خمر ، ولا معصية ، ولا إفراط في طعام وشراب..
بل محبة وتعاضد والتفاف حول الرسول والاستماع لمايقول ..
والطاعة فيما يشير به ..
أي أثر ستترك تلك المشاهد على القلوب ..؟!
تلك التي لم تعهد ذلك التعامل الرفيع والسمو الأخلاقي ..!!
الأثر عظيم حتماً يا أخواتي ..
والدليل عليه .. أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ..
عاد بعد ذلك زمن قصير .. ففتح مكة ..
على رأس عشرة آلاف من المسلمين ...!!
المشهد الأخير :
ماأن قفل الرسول والمسلمون عائدين إلى المدينة ..
حتى وقف خالد بن الوليد معلناً :
"لقد استبان لكل ذي عقل أن محمداً ليس بساحر ولا شاعر ..
وأن كلامه من كلام رب العالمين ..
فحق على كل ذي لبٍّ أن يتبعه .."
:
وقد فزع عكرمة بن أبي جهل ودار بينه وبين خالد نقاش حاد
وذكره عكرمة بثاراته لمن قتلهم المسلمون في الحرب من أهله ..
فقال خالد :
" هذا شأن الجاهلية وحميٰتها ، لكني والله أسلمت حين تبين لي الحق
وبعث للنبي بإقراره بالإسلام ..
ثم خرج من مكة إلى المدينة ، وانضم إلى صفوف المسلمين ..
وأسلم بعده عمر بن العاص ، وحارس الكعبة عثمان بن طلحة ..
وبإسلام هؤلاء دخل الكثيرون في دين الحق ..
وقويت شوكة الإسلام بذلك ..
واصبح طريق فتح مكة ممهداً بتوفيق الله ونصره ..
:
:
( إن الله وملائكته يصلون على النبي..)
ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما
اللهم صل على محمد وعلى آله الطاهرين وأصحابه الغر الميامين
وسلم تسليماً كثيراً