كان الطفل عمر دردونة (13 عاما) يحلم بأن يصبح لاعب كرة قدم شهير، على غرار لاعبي الكرة المرموقين في العالم، رغم أن أحدا لا يعطي للرياضة أي أهمية في هذه الأيام في غزة التي تعيش على وقع القصف الإسرائيلي المتواصل، ظل عمر مصرا على ممارسة الكرة مع أقرانه في زقاق ضيق يقع إلى الشرق من مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة، ولم يكن يعلم أن هذا المكان الذي لطالما تمناه مكسوا باللون الأخضر كما ملاعب الكرة الحقيقية سيشهد نهايته ومجموعة من أصدقاءه الذين شاركوه الحلم اثر صاروخ أطلقته طائرة استطلاع إسرائيلية أحال جسده النحيل إلى أشلاء متقطعة استعصى التعرف عليه حتى من والدته التي لن تصف كلمات اللغة ومفرداتها حالة الحزن والألم الذي يعتصر قلبها على فلذة كبدها الذي رحل دونما وداع.
عمر لم يكن الوحيد الذي رحل بهذه الطريقة، فالصاروخ نفسه الذي مزق جسده اربا اربا، أدى لاستشهاد اثنين من أقربائه هم الشقيقان ديب (11 عاما) وعلي (8 أعوام)، بالإضافة لمحمد نعيم حمودة (7 أعوام)، بينما كان صاروخ آخر وفي اليوم السابق أدى لاستشهاد ثلاثة أطفال آخرين كانوا يمارسون كرة القدم أيضا في منطقة "التوام"، شمال غزة، ليصبح القاسم المشترك لاستشهاد غالبية الأطفال في اليومين الماضيين هو ممارستهم للكرة، التي يجد فيها أطفال غزة ضالتهم في ظل غياب الملاعب الحقيقية وأماكن اللعب واللهو التي ينعم بها نظرائهم في العالم.
يوم عمر بدأ طبيعيا.. في الصباح ذهب إلى مدرسته، ومنها عاد إلى البيت ليتناول طعام الغذاء، ويحل واجباته ويحصل على قسطا من الراحة، قبل أن يأتي وقت "ما بعد صلاة العصر" وهو الوقت المفضل بالنسبة له، فما أن يأتي ذلك الوقت حتى ينطلق مسرعا للحاق بأصدقائه، الذين لا يبدأون لعب الكرة قبل أن يأتي هو باعتباره أكبرهم سنا.. فهو يقوم بدور "الكابتن" بينهم، ويحظى بالاحترام والتقدير كونه أيضا "صاحب الكرة"، وصاحب الكرة له مقام رفيع هنا، حتى وان كانت كرته متواضعة ومليئة بالثقوب، وهم لا ينسون أن عمر ادخر من مصروفه اليومي من اجل شراء تلك الكرة، وكذلك الحال لا يبخل عليها إن هي احتاجت "للترقيع" أو "النفخ"، فكثيرا من الأوقات ما حطّت أثناء تقاذفها تحت عجلة سيارة مسرعة، الأمر الذي يتطلب من عمر "الدفع" من مصروفه لإعادة الحياة للكرة وبث الروح فيها من جديد.
يصل عمر وعيون رفاقه تتركز نحوه، والحماس يملئهم فهم لا يريدون أن يضيع الوقت، ويحل الظلام ومعه يُسدل الستار على يومهم.. عمر أيضا مثلهم، لا وقت أمامه ليضيعه، يقوم كما كل يوم بتقسيم الفريق إلى فريقين، ليبدأ اللعب، ومعه يعيش وأصدقاءه أسعد لحظات يومهم.. صوت صراخهم وشجارهم وتشجيعهم لبعضهم البعض يملأ المكان، لكن في هذا اليوم صوتهم ليس هو الوحيد في الأرجاء، فثمة طائرات استطلاع تحوم في السماء، ويقترب صوتها رويدا رويدا، وجودها في حد ذاته ليس غريبا، فهم اعتادوا عليها، لكن الغريب اليوم هو اقترابها وتحليقها على مسافات منخفضة، رغم ذلك كان سحر الكرة وبريقها أكثر حضورا من تلك الطائرات، وعمر لم يعرها أي اهتمام، ما يعنيه هو الاستمتاع وتسجيل الأهداف، فذلك هو الشيئ الوحيد الذي يشعره بالسعادة والنشوة، وينسيه الكثير من الهموم والمشاكل التي لا أول لها ولا آخر.
تقترب الطائرات أكثر وأكثر، وعمر وأترابه مصرّين على البقاء حتى غروب الشمس.. أذان المغرب بالنسبة إليهم هو صافرة النهاية لمباراتهم، وقبل ذلك لا شيئ يوقفهم عن اللعب، إلا رغما عنهم، وهو ما حدث بالفعل.. صاروخ مدمر أطلقته إحدى الطائرات لم ينهي مباراتهم فحسب، بل أنهى حياتهم، وحوّل ساحة الملعب الصغيرة إلى بركة من الدماء، والأشلاء التي تناثرت في كل مكان، ولم يعد بالإمكان التمييز بين احد.
والدة عمر وبمجرد سماع صوت الصاروخ خرجت مسرعة نحو موقع القصف.. بإحساس الأم شعرت أن ولدها كان احد الضحايا، فهي تعرف تماما أن عمر كان قبيل لحظات فقط في هذه الساحة يلعب الكرة، لكنها ورغم معرفتها بذلك لم تتمكن من التعرف عليه، فما تشاهده لم يكن أكثر من أجزاء بشرية مقطعة، بعضها تفحّم، وبعضها استحال نطف صغيرة تخالطت بالتراب، وما هي سوى لحظات حتى تيقنت تماما بأن عمر مات.. نعم هكذا وبكل بساطة، رحل عمر، ورحلت معه أحلامه البريئة، صعدت روحه إلى بارئها برفقة أصدقاءه الذين شاركوه كل شيئ: لعب الكرة والحلم، والشهادة، وكذلك القبر؛ دُفن عمر وديب وعلي ومحمد في قبر واحد، والسبب انه التفريق بينهم لم يعد ممكنا، فما هم الآن إلا أشلاء.. وأشلاء فقط!.
منقول
نسائم الاقصى @nsaym_alaks
كبيرة محررات
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️