( غرفة الأحزان )
.
كان لي صديق أحبه لفضله وأدبه
فكان يروقني منظره .. ويؤنسني محضره
قضيت في صحبته عهداً طويلاً
ما أنكر من أمره ولا يُنكر من أمري شيئاً .. حتى سافرت .
ثم رجعت .. فجعلت أكبر همي أن أراه
فطلبته في جميع المواطن التي كنت ألقاه فيها فلم أجده .
وبينا أنا عائدٌ إلى منزلي في ليلة من الليالي
إذ دفعني الجهل بالطريق في هذا الظلام المدلهم
إلى طريق موحش ومنازل مهجورة
يُخيّل للناظر إليه في مثل تلك الساعة التي مررت فيها
أنه مسكن الجان
فما توسطت لجته
حتى سمعت في منزل من تكل المنازل المهجورة
أنّةٌ تتردد في جوف الليل
ثم أخذت تزداد شيئاً فشيئاً .
فآثر في نفسي مسمعها تأثيراً شديداً
وقلت : يا للعجب !
كم يكتم هذا الليل في صدره من أسرار البائسين وخفايا المحزونين !.
فتلمست الطريق إلى ذلك المنزل حتى بلغته
فطرقت الباب طرقاً خفيفاً فلم يُفتح
فطرقته أخرى طرقاً شديداً
ففتحت لي فتاة صغيرة لم تكد تسلخ العاشرة من عمرها .
فتأملتها على ضوء المصباح الضئيل الذي كان في يدها
فإذا هي في ثيابها الممزقة كالبدر وراء الغيوم المتقطعة
وقلت لها : هل عندكم مريض ؟
فزفرت زفرة كاد يتقطع لها نياط قلبها وقالت :
أدرك أبي أيها الرجل فهو يعالج سكرات الموت !
ثم مشيت أمامي .. فتبعتها
حتى وصلت إلى غرفة ذات باب قصير مسنم .. فدخلتها
فخيل إليّ أني قد انتقلت من عالم الأحياء إلى عالم الأموات
فدنوت منه حتى صرت بجانبه
فإذا قفص من العظم يتردد فيه النفس
تردد الهواء في البرج الخشبي .
وضعت يدي على جبينه
ففتح عيناه وأطال النظر في وجهي
ثم فتح شفتيه قليلاً .. قليلاً
وقال بصوت خافت :
الحمد لله .. فقد وجدت صديقي .
فشعرت كأن قلبي يتمشى في صدري جزعاً وهلعاً
وعلمت أني قد عثرت على ضالتي التي كنت أنشدها !!
وكنت أتمنى ألا أعثر عليها وهي في طريق الفناء ! .
فسألته : ما بالك ؟ وما هذه الحال التي صرت إليها ؟!
وكأن أُنسهُ بي قد أمد مصباح حياته الضئيل بقليل من النور .
فأشار على أنه يحب النهوض
فمددت يدي إليه فاعتمدت عليها حتى استوى جالساً
وأنشأ يقص علي القصة الآتية :-
منذ عشر سنين كنت أسكن أنا ووالدتي بيتاً
يسكن بجانبه جار لنا من أرباب الثراء والنعمة .
وكان قصره يضمّ بين جنباته فتاةً
ما ضمت القصور أجنحتها على مثلها حسناً وبهاءً وجمالاً .
فألمّ بنفسي من الوجد بها ما لم استطع معه صبرا
فما زلت بها أراودها فتمتنع وتعتذر
حتى عثرت بمنفذ الوعد بالزواج
فانحدرت فيها .. فسكن وأسلس قيادها
فسلبت قلبها وشرفها في يوم واحد .
وما هي إلا أيام قلائل
حتى عرفت أن جنباً يضطرب أحشائها !! فأُسقط في يدي
وطفقت أفكر بين أن أُفي لها بوعدها .. أو أقطع حبل ودّها
فآثرت أخراهما على أولاهما
وهجرت ذلك المنزل التي كانت تزورني فيه .
يا صديقي ..
مرت على تلك الحادثة أعوام طوال .
وفي ذات يوم جاءني منها مع البريد هذا الكتاب
ومدّ يده تحت وسادته وأخرج كتاباً بالياً مصفراً فقرأت فيه ما يأتي :
- لو كان بي أن أكتب إليك لأُجدد عهداً دارساً .. أو وداً قديماً
ما كتب سطراً ولا خططتُ حرفاً .
لأني لا أعتقد أن عهداً مثل عهدك الغادر
ووداً مثل ودك الكاذب يستحق أن أحفل به
فأذكره أو آسف عليه فأطلب تجديده .
إنك عرفت حين تركتني أن بين جنبي ناراً تضطرم .. وجنباً يضطرب
فلم تبال بذلك مني حتى لا تحمّل نفسك مؤونة النظر إلى شقاء أنت صاحبه
ولا تكلف يدك مسح دموع أنت مرسلها ..
فهل أستطيع بعد ذلك أن أتصور أنك رجل شريف ؟!
لا .. بل لا أستطيع أن أتصور أنك إنسان .
كذبت علي في دعواك أنك تحبني
وما كنت تحب إلا نفسك
وكل ما في الأمر أنك رأيتني السبيل إلى إرضائها
فمررت بي في طريقها إليها
ولولا ذلك ما طرقت لي باباً .. ولا رأيت لي وجهاً .
خنتني إذ عاهدتني على الزواج
فأخلفت وعدك ذهاباً بنفسك أن تتزوج امرأة مجرمة ساقطة .
وما هذه الجريمة .. ولا تلك السقطة
إلا صنعة يدك وجريرة نفسك
ولولاك ما كنت مجرمة ولا ساقطة
فقد دافعتك جهدي حتى عييت بأمرك
فسقطت بين يديك سقوط الطفل الرضيع الصغير
وبين يدي الجبار .
سرقت عفتي فأصبحت ذليلة النفس حزينة القلب .
استثقلُ الحياة واستبطئ الأجل
وأي لذة في العيش لامرأة لا تستطيع أن تكون زوجة لرجل ولا أُماً لولد
بل لا تستطيع أن تعيش في مجتمع من هذه المجتمعات البشرية
إلا وهي خافضة رأسها مسبلة جفنها
واضعة خدها .. على كفها .. ترتعد أوصالها .. وتذوب أحشائها
خوفاً من عبث العابثين وتهكم المتهكمين .
سلبتني راحتي .. لأني أصبحت مضطرة بعد تلك الحادثة
إلى الفرار من ذلك القصر الذي كنت متمتعة فيه بعشرة أبي وأمي .
تاركة ورائي تلك النعمة الواسعة وذلك العيش الرغد
إلى منزل حقير في حيّ مهجور لا يعرفه أحد .. ولا يُطرق بابه !
لأقضي فيه الصبابة الباقية لي من أيام حياتي .
قتلت أمي وأبي .. فقد علمت أنهما ماتا
وما أحسب موتهما إلا حُزناً لفقدي ويأساً من لقائي .
قتلتني .. لأن ذلك العيش المرّ الذي شربته من كأسك
والهم الطويل الذي عالجته بسببك قد بلغا مبلغهما من جسمي ونفسي
فأصبحت في فراش الموت كالذبابة المحترقة تتلاشى نفساً في نفس
وأحسب أن الله قد استجاب دعائي
وأراد أن ينقلني من دار الموت والشقاء إلى دار الحياة والهناء .
فأنت كاذب خادع .. ولص قاتل .
ولا أحسب أن الله تاركك دون أن يأخذ لي بحقي منك .
ما كتبت إليك هذا الكتاب لأجدد عهداً أو أخطب إليك وداً
فأنت أهون عليّ من ذلك .
إنني قد أصبحت على باب القبر وفي موقف وداع الحياة بأجمعها
فلا أمل لي في ود ولا متسع بعهد .
وإنما كتبت إليك لأن عندي وديعة وهي ابنتك !
فإن كان الذي ذهب بالرحمة من قلبك
أبقى لك منها رحمة الأبوة
فأقبل إليها وخذها إليك
حتى لا يدركها من الشقاء ما أدرك أمها من قبلها .
يقول صديقه :
فما أتممت قراءة الكتاب
حتى نظرت إلى صديقي بمدامعه تنهمر على خديه !
فسألته : وماذا تم بعد ذلك ؟!
قال : إني ما قرأت هذا الكتاب
حتى أحسست برعدة تتمشى في جميع أعضائي ..
خُيل إلي أن صدري يحاول أن ينشق عن قلبي حزناً وجزعاً .
فأسرعت إلى منزلها
وهو هذا المنزل الذي تراني فيه الآن
فرأيتها في هذه الغرفة على هذا السرير جثة هامدة لا حراك بها ؟! .
ورأيت ابنتي إلى جانبها تبكي بكاء مراً
فصعقت لهول ما رأيت
وتمثلت لي جرائمي كأنما هي وحوش ضارية وأسود ملتفة
هذا يُنشب أظفاره وذلك يحدد أنيابه ! .
فما أفقت
حتى عاهدت الله ألا أبرح هذه الغرفة التي أسميتها :
( غرفة الأحزان )
حتى أعيش فيها عيشها .. وأموت موتها
وها آنذا أموت اليوم راضياً مسروراً .
وما وصل من حديثة إلى هذا الحد
حتى انعقد لسانه واكفهر وجهه
وسقط على فراشه .. فأسلم الروح وهو يقول :
( ابنتي يا صديقي .. ابنتي يا صديقي )
فلبثت بجانبه ساعة قضيت فيها ما يجب على الصديق لصديقة
ثم كتبت إلى أصدقائه ومعارفه فحضروا تشييع جنازته .
وما مثل يومه يوم كان أكثر باكية وباكياً .
يعلم الله أني أكتب قصته ولا أملك نفسي من البكاء والنشيج
ولا أنسى ما حييتُ نداءه وهو يودع نسمات الحياة وقوله :
( ابنتي يا صديقي .. ابنتي يا صديقي )
1
492
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
زيّنت لي عيشاً بوادي السرابْ = وعالم السحر ودنيا الضبابْ
وأنت باللذات أغريتني = وأغويتني بانطلاق الشبابْ
وأذهلتني بثمين الهدايا = وخدرّتني بسلوك عجابْ
وقد قُدتني شِبه مسحورةٍ = أحثُ الخطا لأوكار الذئابْ
وطمأنتني بورود الطريق = وأمن السبيل وسحر المآب ْ
فأصبحت في عالم السيدات = وقد كنت بالأمس بكر كعابْ
إلى أن أفقت على صرخةٍ = مسعّرةٌ بعظيم المصابْ
هنا .. ههنا في حشاي جنين = جنين الخطيئة وابن العذابْ
فجئتك ضارعةً في ابتهال = فألقيتني ههنا في الترابْ
لعقتُ دموعي وجمعت عاري = ووليتُ وجهي نوحٌ واغترابْ
فقادت خُطاي بقايا فتاةٍ = إلى حيث سوق الخنا والسرابْ
إلى بيت سوءٍ شديد الظلام = رطيب الجحورِ كثير الطّلابْ
وفي غرفتي هرمٌ زُيّفت = بياضاً كساه فنون الخِضابْ
وأفنيت عمري تعيساً كئيباً = وولّى شبابي فما من شبابْ
عجوزٌ تغضن مني الإهاب = وفتنتنا للرحال الإهابْ
ومالي إلى أسرة من سبيلٍ = ومالي إلى دارها من إيابْ
فيا فارسي في سنّي الشباب = ويا لافظي في بيوت الخرابْ
عظامي تضج وبي رعدةٌ = وفي ناظري كثيف الضبابْ
وتلسعني سنواتُ الخريف = وتُثلجني سنوات رِطابْ
أتهربُ من ضربات القِصاص = وتتركني للخنا والعذابْ
.