كان لي صديق أحبه لفضله وأدبه ، فكان يروقني منظرُه ويؤنسني ، محضرُه.
قضيت في صحبته عهداً طويلا ما أُنكر من أمره ولا يُنكر من أمري شيئاً حتى سافرت من القاهره سفراً طويلاً فتراسلنا حيناً ثم انقطعت عني كتبه فرابني من أمره ما رابني ثم رجعت فجعلت أكبر همي أن أراه فطلبته في جميع المواطن التي كنت ألقاه فيها فلم أجده ، فذهبت إلى منزله ، فحدثني جيرانه أنه هجره من عهد بعيد ، وأنهم لا يعرفون أين مصيره ، فوقفت بين اليأس والرجاء برهة من الزمان ، يغالب أولهما ثانيهما حتى غلبه ، فأيقنت أن قد فقدت الرجل ، وأني لن أجد بعد اليوم سبيلاً .
هنالك ذَرَفتُ من الوجد دموعاً لايذرفها إلا من قلَّ نصيبه من الأصدقاء ، وأقفر ربعه من الأوفياء وأصبح غرضاً من أغراض الأيام ، لاتخطئه سهامها ، ولاتغبُّه آلامها.
بينا أنا عائد إلى منزلي في ليلة من ليالي السرار ـ الليالي الأخيرة من الشهر ـ إذ دفعني الجهل بالطريق في هذا الظلام المدلهم إلى زقاق موحش مهجور يخيل للناظر إليه في مثل تلك الساعة التي مررت فيها أنه مسكن الجان ، أو مأوى الغيلان ، فشعرت كأني أخوض بحراً أسود ، يزخَر بين جبلين شامخين ، وكأن أمواجه تقبل بي وتدبر وترتفع وتنخفض ، فما توسطت لجته حتى سمعت في منزل من تلك المنازل المهجورة أنَّه تتردّد في جوف الليل ، ثم تلتها أختها ثم أخواتها ، فأثر في نفسي مسمعُها تأثيراً شديداً وقلت : ياللعجب ، كم يكتم هذا الليل في صدره من أسرار البائسين ، وخفايا المحزونين ، وكنت قد عاهدت الله قبل اليوم ألا أرى محزوناً حتى أقف أمامه وقفة المساعد إن استطعت ، أو الباكي إن عجزت فتلمست الطريق إلى ذلك المنزل حتى بلغته ، فطرقت الباب طرقاً خفيفاً فلم يفتح ، فطرقته أخرى طرقاً شديداً ففتحت لي فتاة صغيرة لم تكد تسلَخ العاشرة من عمرها ، فتأملتها على ضوء المصباح الضئيل الذي الذي كان في يدها ، فإذا هي في ثيابها الممزقة ، كالبدر وراء الغيوم المتقطعة ، وقلت لها : هل عندكم مريض ؟ فزفرت زفرة كاد ينقطع لها نياط قلبها ، وقالت : أدرك أبي أيها الرجل فهو يعالج سكرات الموت ، ثم مشت أمامي فتبعتها حتى وصلت إلى غرفة ذات باب قصير مسنم ، فدخلتها فخيل إليَّ أني قد انتقلت من عالم الأحياء إلى عالم الأموات ، وأن الغرفة قبر ، والمريض ميت فدنوتُ منه حتى صرتُ بجانبه ، فإذا قفص من العظم يتردّد فيه النفس تردد الهواء في البرج الخشبي .
فوضعت يدي على جبينه ففتح عينيه وأطال النظر في وجهي ، ثم فتح شفتيه قليلاً قليلاً .وقال بصوت خافت:
"أحمد الله فقد وجدت صديقي "
فشعرت كأنَّ قلبي يتمشى في صدري جزعاً وهلعاً ، وعلمت أني قد عثرت بضالتي التي كنت أنشُدُها وكنت أتمنى ألاَّ أعثر بها وهي في طريق الفناء ، وعلى باب القضاء ، وألا يجدّد لي مرآها حزناً كان في قلبي كميناً ، وبين أضالعي دفيناً ، فسألته ماباله ؟ وماهذه الحال التي صار بها ؟ وكأنَّ أُنسه بي أمد مصباح حياته الضئيل بقليل من النور فأشار إليَّ أنه يحب النهوض فمددتُ يدي إليه ، فاعتمد عليها حتى استوى جالساً وأنشأ يقص عليَّ القصة الآتية:
منذ عشر سنين كنت أسكن أنا ووالدتي بيتاً يسكن بجانبه جار لنا من أرباب الثراء والنعمة وكان قصرة يضم بين جناحيه فتاة ماضمت القصورُ أجنحتها على مثلها حسناً وبهاءً ، ورونقاً وجمالاً ، فألَّم بنفسي من الوجد بها مالم أستطع معه صبراً ، فما زلت بها أعالجها فتمتنع ، وأستنزلها فتتعذر .
وأتأتي إلى قلبها بكل الوسائل فلا أصل إليه ، حتى عثرتُ بمنفذ الوعد بالزواج فانحدرتُ منه إليها ، فسكن جماحها ، وأسلس قيادها ، فسلبُتها قلبها وشرفها في يوم واحد ، وماهي إلا أيام قلائل حتى عرفت أن جنيناً يضطرب في أحشائها ، فأسقط في يدي ، وطفقت أرتئي بين أن أفَي لها بوعدها أو أقطع حبل ودّها ، فآثرت أخرهما على أولاهما ، وهجرت ذلك المنزل الذي كنت تزورني فيه ، ولم أعد أعلم بعد ذلك من أمرها شيئاً.
مرت على تلك الحادثة أعوام طوال وفي ذات يوم جاءني منها مع البريد هذا الكتاب .. ومد يده تحت وسادته وأخرج كتاباً بالياً مصفراً ، فقرأتُ فيه ما يأتي :
لو كـــان بي أن أكتب إليك لأجدد عهداً دارساً ، أو ودًّا قديماً ، ماكتبت سطراً ، ولا خططت حرفاً ، لأني لا أعتقد أن عهداً مثل عهدك الغادر ، وودًّا مثل ودّك الكاذب، يستحق أن أحفل به فأذكره ، أو آسف عليه فأطلب تجديده.
إنك عرفت حين تركتني أن بين جنبيَّ نـــاراً تضطرم ، وجنيناً يضطرب ، تلك للأسف على الماضي ، وذاك للخوف من المستقبل ، فلم تبال بذلك مني حتى لا تحمَّل نفسك مؤونة النظر إلى شقاءٍ أنـــت صاحبه ، ولا تكلف يدك مسح دموع أنت مرسلها ، فهل أستطيع بعد ذلك أن أتصوّر أنك رجــل شريــف ؟ لا .... بل لاأستطيع أن أتصوّر أنك إنســـــان ؛ لأنـــك ماتركت خلة من الخلال المتفرّقة في نفوس العجماوات أو أوابد الوحش إلا جمعتها في نفسك وظهرت بها جميعها في مظهر واحد .
كذبت عليَّ في دعواك أنك تحبني ، وماكنت تحب إلا نفسك ، وكل مافي الأمر أنك رأيتني السبيل إلى إرضائها فمررت بي في طريقك إليها ، ولولا ذلك ماطرقت لي باباً ولا رأيت لي وجهاً ..
خنتني إذ عاهدتني على الزواج فأخلفت وعدك ذَهاباً بنفسك أن تتزوج إمرأة مجرمة ساقطة ’ وماهذه الجريمه ولا تلك السقطة إلا صنعة يدك وجريرة نفسك ، ولولاك ما كنت مجرمة ولا ساقطة ،
فقد دافعتك جهدي حتى عييت بأمرك، فسقطت بين يديك سقوط الطفل الصغير ، بين يدي الجبار الكبير ، سرقت عفتي ، فأصبحت ذليلة النفس ، حزينة القلب ، أستثقل الحياة وأستبطئ الأجل ، وأي لذة في العيش لا مرأة لا تستطيع أن تكون زوجة لرجل ، ولا أُمًّــا لولد ، بل لا تستطيع أن تعيش في مجتمع من هذه المجتمعات البشرية إلا وهي خافضة رأسها ، مسبلة جفنها ، واضعة كفها على يدّها .
ترتعد أوصالها وتذوب أحشاؤها ، خوفاً من عبث العابثين وتهكم المتهكمين .
سلبتني راحتي لأني أصبحت مضطّرة بعد تلك الحادثة إلى الفرار من ذلك القصر الذي كنت متمتعة فيه بعشرة أبي وأمي ، تاركة ورائي تلك النعمة الواسعة وذلك العيش الرغد إلى منزل حقير في حيّ مهجور لا يعرفه أحد ، ولايطرق بابه ، لأقضي فيه الصبابة الباقية لي من أيام حيـــاتي ..
قتلت أمي وأمي ، فقد علمت أنهما ماتا ، وما أحسب موتهما إلا حزناً لفقدي ، ويأساً من لقائي .
قتلتني لأن ذلك العيش المرّ الذي شربته من كأسك ، والهمَّ الطويل الذي عالجته بسببك . قد بلغــا مبلغهما من جسمي ونفسي ، فأصبحت في فراش الموت كالذبالة المحترقة تتلاشى نفساً في نَفَس ، وأحسب أن الله قد صنع لي ، واستجاب دعائي ، وأراد أن ينقلني من دار الموت والشقاء ، إلى دار الحياة والهنــــــاء .
فأنت كاذب خادع ، ولص قاتل ، ولا أحسب أن الله تاركك دون أن يأخذ لي بحقي منـــك.
ماكتبت إليك هذا الكتاب لأجدّد بك عهداً ، أو أخطب إليك ودَّا ، فأنت أهون عليَّ من ذلك ، إنني قد أصبحت على باب القبر وفي موقف وداع الحياة بأجمعها خيرها وشرها ، سعادتها وشقائها ، فلا أمل لي في ودّ ، ولا متسع لعهد ، وإنما كتبت إليك لأن لك عندي وديعة وهي فتـــــاتك ، فإن كان الذي ذهب بالرحمة من قلبك أبقى لك منها رحمة الأبوة فأقبل إليها وخذها إليك حتى لا يدركها من الشقاء ما أدرك أمها من قبلها.
فمــا أتممت قراءة الكتاب حتى نظرت إليه فرأيت مدامعه تتحدّر على خدّية فسـألته : وماذا تمَّ بعد ذلك ، قال :
إني ماقرأت هذا الكتاب حتى أحسست برعدة تتمشى في جميع أعضائي ، وخيل إليَّ أن صدري يحاول أن ينشق عن قلبي حزناً وجزعاً .
فأسرعت إلى منزلها وهو هذا المنزل الذي تراني فيه الآن ، فرأيتها في هذه الغرفة على هذا السرير جثة هامدة لا حَرَاك بها ، ورأيت فتاتها إلى جانبها تبكي بكاء مرَّا فصُعقتُ لهول مارأيت ، وتمثلت لي جرائمي في غشيتي كأنما هي وحوش ضارية ، وأساود ملتفة ، هذا ينشب أظافره ، وذاك يحدّد أنيابه ، فما أفقت حتى عاهدت الله ألا أبرح هذه الغرفة التي سميتها " غرفــــــه الأحـــزان "
حتى أعيش فيها عيشتـــها ، وأموت موتها .
وماوصل من حديثه إلى هذا الحد ، حتى انعقد لسانه واكفهرّ وجهه وسقط على فراشه فأسلم الروح وهو يقول :
ابنتي ياصديقي ، فلبثت بجانبه ساعة قضيت فيها ما يجب على الصديق لصديقه ، ثم كتبت إلى أصدقائه ومعارفه فحضروا تشييع جنازته ، ومارئي مثل يومه يومٌ كان أكثر باكية وباكياً.
يعلم الله أني أكتب قصته ، ولا أملك نفسي من البكاء والنشيج ؛ ولاأنسى ما حييت نداءَه لي وهو يودع نسمات الحياة ، وقولة : " ابنـــتي يــا صــديقي ".
فيـا أقوياء القلوب من الرجال ، رفقاً بضعفاء النفوس من النساء .
إنكم لا تعلمون حين تخدعونهن عن شرفهن ، وعفتهن .
أي قلب تفجعون ، وأي دم تسفكون.
إن هذه القصة تبكي العين وتحزن القلب.
هذه القصة تبين للأخت المسلمة حيل كثير من الشباب الذي لا همَّ لهم إلا مطاردة النساء في الأسواق والمدارس والطرقات ثم بكلام معسول تنقاد له وتصبح طريحة أسيره بين يديه حتى يعبث بها ويسرق عفتها وطهرها ثم يتبرأ منها بعد ذلك وينكر صحبتها فتبقى المسكينه بين نارين لا تدري ماتقول وما تفعل بل تلازم البكاء والنحيب لعله يفرج عن نفسها من هذا العناء المتواصل والتفكير الدائم.
وأما الرجل الفاجر فقد ذهب بلا عودة ليصطاد فتاة أخرى بعد ماأذاق الأولى صنوف الآلآم والحسرات والبكاء والزفرات وسرق منها أغلى ما لديها عفتها وطهرها...
فيا أختـــي المسلمه : أفيقي من غفلتلك وانتبهي لنفسك من ذئاب البشر وحصينها بالحشمة والحياء والحجاب والستر كي تسعدي في الدنيا والآخرة ...
× كتاب زاد المتقين ـ الجزء الأول ـ الشريف ابراهيم بن عبد الله الحازمي ×
أعاذنا الله وإياكم من كل شر وستر عنا وعنكم كل عيب..
هذه القصه أثرت كثيراً في نفسي وحبيت أن انقلها لكمـ..
تحيـــاتي
محبتكم الجازي
AL_Jazi @al_jazi
عضوة فعالة
هذا الموضوع مغلق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️