فرص هاربة

الملتقى العام

قال لي حين لقيته إنه يعتبرني هدية من الله! وإنه سيفعل ويفعل، وصدّقته فيما يقول؛ ومضيت معه إلى آخر الشوط بعفوية, دون أن أسمح لنفسي بالشكّ أو التردد. ما الذي يدعوه لأن يقول غير الحقيقة؟ إنها الفرصة التي كنت أنتظرها وطالما حُجبت عني، فهذا أوانها، وكل شيء بأجل، ولكل أجل كتاب.
ازدريت أعمالي الصغيرة التي كنت أحاولها، وأبذل فيها مزيد جهدي، وأمدّ فيها رجلي على قَدْر لحافي.. لم يعد ثمة معنى لأن أعملها بعد اليوم, وقد فتح لي هذا الفتح.
يوم فيوم فثالث، تأخّرت الفرصة قليلاً، لكن لا بأس، فضخامتها تعوّض عن تأخيرها، موعد يتأجل، ثم يحدث القلق، ثم بدا كأن الفرصة تهرب، وأخيراً هربت حتى لا أراها!
عدْ إلى أعمالك الصغيرة الوفيّة، تحقق عبرها إنجازك، وتكسب الرزق اليومي لمشروعك الدعوي, أو الفكري, أو الإصلاحي, أو لدنياك, أو أسرتك, أو حاجاتك المعاشية؛ فالسيل من نقط.. أين هي الفرصة الكبيرة الهاربة؟
أتراها كانت برقاً خُلّباً، لا مطر ولا أثر؟ ربما:
وما كُلُّ بَرقٍ لَاحَ لِي يَسْتَفزُّنِي وَلَا كُلُّ مَن لَاقَيتَ تَرْضاهُ مُنْعِمَا
إِذَا قِيلَ: هَذَا منْهلٌ؛ قُلْتُ: قَدْ أَرَى وَلَكِنَّ نَفْسَ الحرِّ تَحتَمِلُ الظّمَا!
ربما كانت وهماً، أو خَطْرة عابرة في نفس صاحبها, ما تلبّث أن تزول, أو لعل الحسابات اختلفت باختلاف ظروفه؛ فقد جدّ لديه جديد في مسائل متعسرة, أو متعثرة فانفتحت أبواب، وتيسرت أسباب، وتغيّرت تبعاً لذلك وجهة التفكير.
أو لعله وجد سبيلاً أقوم وأفضل لتحقيق ما يريد، ولقي غيرك ممن هو خير منك له، أو لعل همساً خفياً أثار عنده المزيد والمزيد من الحسابات والأسئلة والاحتمالات، فتوصّل إلى إغلاق الباب، ثم النوافذ أيضاً!
أو.. أو..
هذه فرصة هاربة.. قد يكون مهماً أن تعرف لماذا هربت، وأين ذهبت، لكن الأهم ألاّ تخدعك مرة أخرى!!
الحياة ترشد إلى أن 80% من الفرص التي تعرض لك؛ هي فرص هاربة، وإن كان هذا يتفاوت من إنسان لآخر، فالنسبة هي حسب تقديري الشخصي المحض.
يكفي أن تظفر ب 20% من الفرص، وتقبض عليها، وتطوّرها، وتهتم بها، فهي مادة نجاحك، وخريطة إنجازك، لا تستهن بها وإن كانت صغيرة، فميزتها أنها متاحة، ولا حاجة للبكاء على فائت، وميزتها أنها مستسلمة لك, قابلة للعمل لديك حتى تهجرها أنت, وتذهب إلى أخرى أكثر شباباً وجمالاً ودلالاً، لتذهب هي إلى المعاش راضية قانعة، وعيبها أنها صغيرة!
وميزتها أنها فرص تصنعها أنت، وليس تنتظر الآخرين أن يصنعوها، أو يقدموها لك، أو حتى يساعدوك عليها.
تاريخ الإنسان تصنعه الفرص الصغيرة المتاحة التي يعمل عليها، وليس من الحكمة أن يحتقر المرء هذه الفرص أو يزدريها, ويمدّ عينه إلى ما عند الآخرين، فكل ميّسر لما خُلق له، والصواب أن تقبض على فرصتك الصغيرة، وتعتبرها حظك من الفرص، فتستمتع بها، وتسعى في تطويرها، وضبطها وإتقانها، وحين يعرض لك ما هو أفضل وأجدى فحاولْه؛ فإن الطموح سرّ النجاح، لكن دون أن تترك ما في يدك من الأعمال المحققة، والفرص القائمة المنتجة؛ لأنك ستكتشف أن 80% من هذه الفرص التي عَرَضَت لك، أو عُرِضت عليك هي "برقٌ خُلّب"!
كان عمر ?رضي الله عنه- يقول: مَن بُورك له في شيء فليلزمه.
وحين اشتغل النبي ?صلى الله عليه وسلم- بدعوة الملأ من قريش, وانشغل عن ضَعَفة الصحابة؛ عاتبه ربه فقال: "عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى" ، ونهاه عن ذلك فقال: كلا!
وفي سياق مشابه, أدّبه ربه؛ فقال: "وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ".، وقال: "وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ"..
الوصول إلى نقطة التوازن بين الفرص الممكنة الصغيرة، وبين الفرص الهاربة الكبيرة معنى لا يتحصل إلاّ بقدر من المران والخبرة، تحدث للإنسان صدمات أو أزمات, ولكنها تصنع له عقلاً وفهماً, وتجعله أقل اندفاعاً، وتحميه من المفاجآت.
قلت يوماً لصاحبي: أقبل عليك بكامل الإخلاص ما أردت، وأتركك بكامل العذر ما أردت!


د سلمان العودة
1
355

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️