فزادهم إيماناً
حين تضعف النفوس في مَيدان الحياة، ويخبو نورُ الإيمان من جنبات القلب، وتزيغ الأبصار عن الصراط المستقيم، وتنمحي من العقلِ الأفكارُ الإسلاميَّة الصحيحة، المتَّزنة، الواعية، الواثقة بما عند الله، حينما يحصُلُ ذلك، يتسرَّبُ الخوف إلى الأرواحِ، وترتعدُ فرائِصُ الأشباحِ، ويَحِلُّ الوَهَنُ، وتتنزَّل الهزيمة.
لكن نفس المؤمن الواثِقِ بربِّه لا تَعْرِفُ الضَّعف، ولا يتطرَّقُ إليها الوَهَن، فعزيْمَتُها صارِمة، وإرادتها قويَّة، وطموحاتها صُلبة؛ لأنها تشعر دائمًا بمعيَّة الله، وتعلم أنَّ الكونَ كله تحت تصرُّف الله.
نعم، هي تعلم ذلك، وتعلم يقينًا أنَّ الأمةَ كُلَّها لو اجتمعت على أن تنفعها بشيءٍ، لم تنفعها إلا بشيء قد كتبه الله لها، ولو اجتمعت على أن تضرَّها بشيءٍ، لم تضرها إلا بشيء قد قدَّره الله عليها.
إن نَفْسَ المؤمن تعلم يقينًا أنَّ الأعمار بيد الله، وأن الآخر - كائنًا مَن كان - لا يملك أن يزيد في عُمُرِها ولو نَفَسًا، وفي المقابل لا يملك أن ينقص من عمرها نَفَسًا، وتعلم كذلك أن الأرزاق بيد الله، وأنها لن تموت حتى تستوفي رزقها.
ما أحوج الصَّفَ الإسلاميَّ اليوم - أكثر من أيِّ وقت مضى - إلى أن يَعِيَ هذه الحقائق؛ لأنه إن وعاها، لم يفتأ في رياض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مجاهدًا بقلبه، ولسانه، ويده، يحطم الطواغيت التي تُعْبَد من دون الله - تبارك وتعالى - سواء أكانت دنيا مغريةً، أم امرأة فاتنة، أم رجلاً من عِلْيَة القوم، يحطمها بكلماتِه المُقْنِعَةِ، وبتعامله الرشيد، وبأخلاقه الفوَّاحة، لا يَعْبَأُ أبدًا بترغيب، ولا يخاف من ترهيب، ولا تزيده الصدمات والابتلاءات إلا ثباتًا، بل وتكشف عن جوهره، كعود زاده الإحراق طيبًا، وكجوهر زادته النيران لمعانًا.
لقد فَقِه هذا الدرس عالم ربَّاني من أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - فما خاف من ترهيب، ولا استكان لترغيب، وحَرِيٌّ بالصف المسلم أن يأخذ منه درسًا، فلقد دخل عليه سليمان بن عبدالملك، فقال له: "يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟ فقال: خربتم آخرتكم، وعمَّرْتُم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب، قال سليمان: صدقت يا أبا حازم، فكيف القدوم غدًا على الله - تعالى؟ قال: أمَّا المحسن، فكالغائب يَقْدَمُ على أهله، وأمَّا المسيء، فكالآبق يَقْدَمُ على مولاه، قال سليمان: أصبت، فما تقول فيما نحن فيه؟ قال: يا أمير المؤمنين، أو تعفيني؟ قال له سليمان: لا، ولكن نصيحة تلقيها إليَّ، قال: يا أمير المؤمنين، إن آباءك قهروا الناس بالسيف، وأخذوا هذا الملك عَنْوةً على غير مشورة من المسلمين ولا رضاهم، حتى قتلوا منهم مقتلةً عظيمةً، فقد ارتحلوا عنها، فلو شعرت ما قالوه، وما قيل لهم! فقال له رجل من جلسائه: بئس ما قلت يا أبا حازم! قال أبو حازم: كذبت، إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبيِّنُنَّه للناس ولا يكتمونه، قال له سليمان: فكيف لنا أن نصلح؟ قال: تدعون الصلف، وتمسكون بالمُرُوءةِ، وتقسمون بالسويَّة، قال له سليمان: فكيف لنا أن نأخذ به؟ قال أبو حازم: تأخذه من حِلِّه وتضعه في أهله، قال سليمان: هل لك يا أبا حازم أن تصحبنا، فتصيب مِنَّا، ونصيب منك؟ قال: أعوذ بالله، قال له سليمان: ولِمَ ذاك؟! قال: أخشى أن أركن إليكم شيئًا قليلاً، فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات، فلمَّا خرج سليمان من عنده أرسل إليه بمائة ألف دينار، وكتب إليه ألوكة (رسالة) فيها: أن أنفقْها، ولك عندي مثلها كثير، فردَّها أبو حازم قائلاً: لا أرضاها لك، فكيف أرضاها لنفسي، إن كانت هذه المائة دينارًا عوضًا لما حدَّثت، فالميتة والدم ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحلُّ من هذه، وإن كان لي حقٌّ في بيت المال، فلي فيها نظراء، فإن ساويت بيننا، وإلا فليس لي فيها حاجة"؛ "تفسير القرطبي"، ج (1)، ص (337 – 339)، بتصرُّف.
وفَقِه هذا الدرسَ رِبْعِيُّ بن عامر، كما فَقِهَهُ قبْلَهُ رِجالٌ كثيرٌ، منهم: عبدالله بن حذافة السهمي، وغيره من العظماء الذين حدَّث عنهم التاريخُ بلا حَرَج، وحدَّث الدعاة عن بطولاتهم بكلِّ فخرٍ، ولا غرو من ذلك، فالصفُّ المسلم حين يتربَّى على الإسلام الواعي المتزن، يضرب أروع الأمثال، ويضرب من الأمثال أروعها.
وما أحوجَ الصفَّ الإسلامي إلى أن يتعرَّف على سُنَّة الابتلاء، وسُنَّة التدافع! لأنه حين يتعرَّف عليهما، يسير في الطريق على هدى وبصيرة، يترقَّب الابتلاء، وينافح الأعداء، شعاره الدائم:
ضَعْ فِي يَدَيَّ الْقَيْدَ أَلْهِبْ أَضْلعي ** بِالسَّوْطِ ضَعْ عُنُقِي عَلَى السِّكِّينِ
لَنْ تَسْتَطِيعَ حِصَارَ فِكْرِي سَاعَةً ** أَوْ نَزْعَ إِيمَانِي وَنُورِ يَقِينِي
فَالنُّورُ فِي قَلْبِي وَقَلْبِي فَي يَدِي ** رَبِّي وَرَبِّي نَاصِرِي وَمُعِيْنِي
سَأَعِيشُ مُعْتَصِمًا بِحَبْلِ عَقِيدَتِي ** وَأَمُوتُ مُبْتَسِمًا لِيَحْيَا دِينِي
إن طريق الدعوة إلى الله طويلة، وتكاليفها باهظة، وأعباؤها شاقة؛ وهي لذلك تحتاج إلى إيمان قوي، وفَهْم سويّ، وعزم فَتِيّ، وعمل نقي، وتحتاج إلى أمل طموح، لا تحرقه نيران النكبات، ولا تجتثه صنوف الملمَّات، ولا يغتاله اليأس الجامح، فالدعوة الإسلاميَّة أشبه ما تكون بِكُرة من المطَّاط، كلما رُمِيَت أرضًا، كلما ارتفعت قدرًا، وعلا شأنها.
إن ابتلاء الصف الإسلامي سُنَّة كونيَّة مطردة، فلا بد للإيمان من ضريبة، ولا بد للصف من ابتلاء، وحينها تظهر معادن الرجال، وينكشف ستار القدر عن المخلصين والكاذبين؛ قال - تعالى -: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ .
وما أحوج الجماعةَ المسلمة - وهي تسير إلى تحقيق أهدافها، وتحكيم شِرَعة الله، وإعادة القرآن إلى منصة الحكم، ورعاية مصالح العباد - إلى أن تفقه قانون الصبر، فالمجتمع الإسلامي لا بد لميلاده من حمل لتكاليف الدعوة، ولا بد للحمل من مخاض، ولا بد للمخاض من آلام، وحينها يولد المجتمع، وتتحقق الخلافة على منهاج النبوة.
إن على الجماعة الإسلاميَّة ألا تستعجل قطف الثمار، وأن تسير بتؤدةٍ، عَبر خطط مرحليَّة مدروسة، يحسب لها حسابها من الجهد، والوقت، والمال، وأن تُوازِن بين فِقه الواقع، ونصوص الشرع، وأن تُقدِّم الأولويَّات على الكماليَّات، كما أن عليها أن تزداد عند الابتلاءات إيمانًا، وعند الصدمات رسوخًا، وأن تضمد جراحاتها بترياق الصبر، وأن تطرد اليأس عن أتباعها، وأن تُعِدَّهم لطول الطريق، وأن تَغرس فيهم البعد التربوي؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لخبَّاب بن الأرت: ((كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصدُّه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون))؛ رواه البخاري.
إذًا؛ فلماذا استعجال قطف الثمار قبل أوان الحصاد؟! ولماذا يشب عمرو عن الطوق، قبل بلوغه سن الرشد؟! ولماذا يركب الربُّان ظهر البحر، قبل هدوء الأمواج العاتية، وقبل مجيء الفرصة الناجحة المواتية؟! وهل إخراج الحمل قبل تسعة أشهر إلا مجازفة بحياته، وإعدام لصحته وعافيته؟! فلماذا تستعجلون؟!
لقد أفرز الواقع من التجارب ما يؤكِّد على عاقبة الاستعجال، وما مأساة (حماة) عنا ببعيد، وقد قال فقهاء المسلمين قديمًا: "من استعجل الشيء قبل أوانه عُوقِبَ بحرمانه"، فهل من عقل يفقه الدرس، ويعتبر بالماضي؟!
ما أحوجَ الجماعةَ الإسلاميَّة اليوم إلى أن تدرك فقه الواقع، فتوازن بين المصالح والمفاسد، في ضوء ما يتضح لأولي العلم، مقدمة درء المفاسد على جلب المصالح، ومقدمة المصلحة الراجحة على المرجوحة، ومقدمة المصلحة الحقيقيَّة على المصلحة الوهميَّة!
إن على الصف المسلم أن يدرك أن التدافع بين الحق والباطل قائمٌ إلى قيام الساعة، وأن دولة الباطل، وإن كان لها الصولة والجولة اليوم، فإن الصولة والجولة في النهاية للصف المسلم، وستأتي عن قريب، إن الصف المسلم يؤمن إيمانًا لا شك فيه أن التمكين لا محالة قادم، وأن العاقبة للمتقين، وقد قال الله - تعالى -: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ .
وينبغي على الجماعة الإسلاميَّة أن تدرك سداسيَّة النصر، وأن تعمل على تحقيقها وتعميقها في نفوس أتباعها، فقد جاء التعبير القرآني بهذه السداسيَّة في تعبير بليغ بديع، حيث قال الله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ .
إن الصف الإسلامي حين فَقِه هذه السداسيَّة، وعمل على تعميقها وتجذيرها في نفسه، ازداد عند الابتلاء إيمانًا، وزاده التدافع يقينًا، وزادته التجربة اندفاعًا متَّزنًا واعيًا، فرفع شعاره المتعالي المعتز:حسبنا الله ونعم الوكيل، وجاء التعبير القرآني يصف المشهد، وكأنه رَأْيَ العين، فقال الله - تعالى -: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ ، وعلَّق في السياق على عاقبة الصبر، وأثبت ما نالوه من نعمة الله وفضله، وما دفعه الله عنهم من السوء، وما أحرزوه من رضوان الله؛ قال الله - تعالى -: ﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ .

الامــيــرة01 @alamyr01
عضوة مميزة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.


جزاك الله خير
غفر الله العظيم التواب الرحيم لذنبي ولذنبك وللمسلمين وللمسلمات وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء منهم والاموات الى يوم الدين
عن أم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما قالت .سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول .
عبد مسلم يصلي لله تعالى في كل ثنتي عشرة ركعة تطوعًاغير الفريضه إلا بنى الله له بيتًا في الجنة أو إلا بني له بيت في
الجنة ].رواه مسلم
غفر الله العظيم التواب الرحيم لذنبي ولذنبك وللمسلمين وللمسلمات وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء منهم والاموات الى يوم الدين
عن أم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما قالت .سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول .
عبد مسلم يصلي لله تعالى في كل ثنتي عشرة ركعة تطوعًاغير الفريضه إلا بنى الله له بيتًا في الجنة أو إلا بني له بيت في
الجنة ].رواه مسلم

الصفحة الأخيرة
ومن الهم والضيق نجاهم.....