فصل ـ فيمن طلب المصائب و فرح بها رجاء ثوابها

ملتقى الإيمان

فصل ـ فيمن طلب المصائب و فرح بها رجاء ثوابها

روى ابن أبي حاتم بإسناده في تفسيره عن خالد بن يزيد ، عن عياض ، عن عقبة أنه مات له ابن يقال له : يحيى ، فلما نزل في قبره قال له رجل : و الله إن كان لسيد الجيش ، فاحتسبه ، فقال والده : و ما يمنعني أن أحتسبه وكان من زينة الحياة الدنيا ، و هو اليوم من الباقيات الصالحات ؟! فهذا رجل صابر راض محتسب ، ما أحسن فهمه و حسن تعزيته لنفسه ، و ثقته بما أعطاه الله من ثواب الصابرين .

و عن ثابت قال : مات عبد الله بن مطرف ، فخرج أبوه مطرف على قومه في ثياب حسنة و قد ادهن ، فغضبوا ، فقالوا : يموت عبد الله و تخرج في مثل هذه مدهناً ؟ قال : أفأستكين لها و قد وعدني ربي تبارك و تعالى عليها خصالاً ، كل خصلة منها أحب إلي من الدنيا كلها ؟ ! قال تعالى : " الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " ، أفأستكين لها بعد ذلك ؟ ! ثم قال ثابت قال مطرف : ما شيء أعطي به في الآخرة قدر كوز من ماء إلا وددت أنه أخذ مني في الدنيا . رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد .

و عن محمد بن خلف ، قال : كان لإبراهيم الحربي ابن كان له إحدى عشرة سنة ، حفظ القرآن ، و لقنه من الفقه جانباً كبيراً ، قال : فمات ، فجئت أعزيه ، فقال : كنت أشتهي موت ابني هذا ، قال : فقلت له : يا أبا إسحاق ، أنت عالم الدنيا ، تقول مثل هذا ، في صبي قد أنجب ، و لقنته الحديث و الفقه ؟ ! قال : نعم رأيت في منامي ، كأن القيامة قد قامت ، و كأن صبياناً بأيديهم قلال فيها ماء ، يستقبلون الناس فيسقونهم ، و كان اليوم يوماً حاراً ، شديداً حره ، قال : فقلت لأحدهم : اسقني من هذا الماء ، قال : فنظر إلي ، و قال : ليس أنت أبي ، قلت : فأي شيء أنتم ؟ قال : فقال لي : نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا و خلفنا آباؤنا ، فنستقبلهم فنسقيهم الماء ، قال : فلهذا تمنيت موته .

و روى البيهيقي بإسناده ، عن ابن شوذب : أن رجلاً كان له ابن لم يبلغ الحلم ، قال : فأرسل إلى قومه : إن لي حاجة ! قالوا : نعم ، و ما هي ؟ قال : إني أريد أن أدعوا على ابني هذا أن يقبضه الله تعالى و تؤمنون على دعائي ، فسألوه عن ذلك ، فأخبرهم أنه رأى في منامه كأن الناس جمعوا ليوم القيامة ، فأصاب الناس عطش شديد ، فإذا الولدان قد خرجوا من الجنة ، معهم الأباريق ، فأبصرت ابن أخ لي ، فقلت : يا فلان ، اسقني ، قال : يا عم ، إنا لا نسقي إلا الآباء ، قال : فأحببت أن يجعل الله ولدي هذا فرطاً لي ، فدعا ، فأمنوا على دعائه ، فلم يلبس الغلام إلا يسيراً حتى مات . و قد روى ابن عساكر بإسناده ، عن سهيل بن الحنظلية الأنصاري ـ و كان لا يولد له ـ فقال : لأن يولد لي و لو سقط ، فأحتسبه أحب إلي من أن يكون لي الدنيا بأجمعها . و كان ابن الحنظلية ممن بايع تحت الشجرة .

و ذكر ابن عساكر أيضاً ، عن الليث بن سعد ، قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، أن أبناً لعياض بن عقبة ، حضرته الوفاة ، و كان عياض غائباً، فقالت أم الغلام : لو كان أبو وهب حاضراً لقرت عينه ، فلما حضرت وفاة عياض ابن عقبة قال لأخيه أبي عبيد : يهنأك الظفر ، قد كنت أرجو أن تكون قبلي فأحتسبك .

و قال أبو مسلم الخولاني ـ رحمه الله ـ : لأن يولد لي مولود يحسن الله نباته ، حتى إذا استوى على شبابه ، وكان أعجب ما يكون إلي ، قبضه الله تعالى مني ، أحب إلي من أن تكون الدنيا و ما فيها لي . و روي عن الإمام القفال ، قال : كان في جواري رجل يأبى التزويج ، فلما كان في بعض الليالي ، استيقظ من نومه في الليل و نادى : زوجوني زوجوني ، فسئل عن ذلك ، فقال : لعل الله يرزقني ولداً يقبضه قبل البلوغ و قبل موتي ، قيل و كيف ذلك ؟ قال : رأيت في المنام ، كأن القيامة قد قامت ، و الخلق في الموقف ، و أنا معهم ، و قد كظني العطش ، و إذا قد ظهر أطفال بأيديهم أباريق من فضة ، مغطاة بمناديل من نور، يتخللون الجمع و يسقون واحداً بعد واحد ، فمددت يدي إليهم ، و قلت لبعضهم : اسقني ، فقد أجهدني العطش ، فنظر إلي شزراً و قال ليس لك فينا ولد ، و إنما نسقي أباءنا و أمهاتنا ، فقلت من أنتم ؟ قالوا : أطفال المسلمين .

و قال أبو الحسن المدائني : دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه في وجعه ، فقال يابني ، كيف تجدك ؟ قال : تجدني في الحق ، قال : يا بني ، لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك ، فقال : يا أبه ، لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن أكون ما أحبه .

و روى ابن أبي شيبة ، باسناده عن ثابت البناني : أن صلة بن أشيم ، كان في غزاة له و معه ابن له ، فقال له أي بني ، تقدم فقاتل حتى أحتسبك ، فحمل فقاتل حتى قتل ، ثم تقدم أبوه فقتل ، فاجتمعت النساء ، فقامت امرأته معاذة العذرية ، فقالت للنساء : مرحباً ، إن كنتن جئتن لتهنئنني مرحباً بكن ، إن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن .

و " عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت : يا رسول الله ، أي الناس أشد بلاءً قال الأنبياء ، قلت : ثم من ؟ قال الصالحون ، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر ، حتى ما يجد إلا العباءة يحتويها ، و إن كان أحدهم ليفرح بالبلاء ، كما يفرح أحدكم بالرخاء " . رواه ابن ماجه من حديث طويل . و روى الإمام أحمد في كتاب الزهد و ابن ماجه في سننه عن " أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ، و لابإضاعة المال ، و لكن الزهادة في الدنيا ، أن تكون بما في يد الله ، أوثق منك بما في يدك ، و أن تكون في ثواب المصيبة ، إذا أصبت بها ، أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك " .

و قال ابن الجوزي : ثنا ابن ناصر ، أنبأ جعفر بن أحمد ، ثنا أبي ، ثنا هاشم ، عن ابن المبارك ، عن الحسن ، ثنا أبو الأحوص ، قال : دخلنا على ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ و عنده بنون له ثلاثة ، غلمان كأنهم الدنانير فجعلنا نتعجب من حسنهم ، فقال : كأنهم يغبطونني ؟ قلنا : إي و الله، لبمثل هؤلاء يغبط المسلم ، فرفع رأسه إلى سقف البيت ، و قد عشش فيه خطاف و باض ، فقال : و الذي نفسي بيده ، لأن أكون قد نفضت يدي من تراب قبورهم ، أحب إلي من أن يسقط عش هذا الخطاف و ينكسر بيضه ، ثم قال : ما أصبحت على حال ، فتمنيت أني على سواها .

و روى هناد بن السري في الزهد ، عن كثير بن تميم الداري ، قال : كنت جالساً مع سعيد بن جبير فطلع عليه ابنه عبد الله بن سعيد ، و كان به من الفقه ، فقال : إني لأعلم خير حالاته ، فقالوا : و ما هو ؟ قال : أن يموت فأحتسبه .

و روى ابن أبي الدنيا بإسناده، عن سفيان ، قال : سمعت سفيان يقول : ما في الأرض أحب إلي من سعيد ، و ما في الأرض أحد يموت أحب إلي منه ، فمات ، فرأيته يبكي ، قلت : قد كنت تمنى موته ! قال : أذكر قوله : آه جنبي .

و في تاريخ الرقة للحراني : ثنا أحمد بن بديع ، ثنا أبي ، قال : سمعت عمر بن ميمون بن مهران يقول : كنت مع أبي و نحن نطوف بالكعبة ، فلقي أبي شيخاً فعانقه أبي ، و مع الشيخ فتى قريباً مني ، فقال له أبي : من هذا ؟ قال : ابني فقال : كيف رضاك عنه ؟ قال ما بقيت خصلة يا أبا أيوب من خصال الخير إلا و قد رأيتها فيه إلا واحدة ، قال : و ما هي ؟ قال : كنت أحب أن يموت و أوجر فيه ! قال : ثم فارقه أبي ، قال : فقلت لأبي : من هذا الشيخ ؟ قال : هذا مكحول .

و المقصود أن هذا المقام مقام عظيم شريف لمن يطلب المصيبة و يفرح بها نظراً إلى ثوابها ، و ما يفعل ذلك أحد حتى يعلم من نفسه القوة و الصبر و الجلد و الركون إلى دعوى النفس ، و ما أكثر ما تخلف الوعد و تنقد العهد فإن الغالب متى ما أظهرت الدعوى وكلت إليها ، و طولبت بتصحيح دعواها فتقصر عند الحقيقة و تميل عن تقويم الطريقة .

و كان سحنون ـ رحمه الله ـ يقول : قد رضيت ما تقضيه ، فابتلني بما شئت ، فابتلاه الله بحصار البول ، فما صبر ، فكان يدور على الصبيان ، و يقول : ادعوا لعمكم الكذاب . فالطريقة الكاملة ، قوله صلى الله عليه و سلم : " لا تتمنوا لقاء العدو و سلوا الله العافية " .

و اعلم أن النية في طلب الولد و فقده و قصد بقائه ، إذا صحت النية حصل الثواب الجزيل على النيتين جميعاً ، لأن الأعمال بالنيات ، فإنه ثبت عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : ما من أهل و لا مال و لا ولد إلا و أنا أحب أن أقول عليه : " إنا لله و إنا إليه راجعون " ، إلا عبد الله بن عمر فإني أحب أن يبقى في الناس . يأيد ذلك ما ثبت " في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا مات الإنسان ، انقطع عمله إلا من ثلاث : من صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " .

و في حديث أنس مرفوعاً : سيع يجري أجرها للعبد بعد موته ، فذكر منها : أو ترك ولد يستغفر له بعد موته .

و هذا عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قد سماه النبي صلى الله عليه و سلم الرجل الصالح أو العبد الصالح ، ولا شك أن العبد ، إذا حصل له أجر مستمر بعد موته ، هو أولى من حصول أجر في حياته ثم ينقطع بالموت ، فإن العبد من أحوج الناس بعد موته إلى الحسنات و بموته قد انقطع عمله إلا ما أخبر به الصادق المصدوق في هذا الحديث المتقدم ، فطلب الولد و بقاؤه أنفع للعبد فيما فهمت ، و لكن أولئك لما خالط قلوبهم قوة الإيمان و التصديق بالقضاء و القدر ، و الرضى به ، برزوا بالقول ، و قل من يصبر على تحمل البلوى عند الحقيقة ، و الله أعلم .


فصل من كتاب تسلية أهل المصائب

محمد بن محمد المنيجي الحنبلي
2
464

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

ـ أم ريـــــم ـ
اللهم اجعل كل عمل يقربه الي رضاك
ويجنبه سخطك وكنفه يا رب برحمتك وارزقه من حيث لا

يحتسب ويسر له آمر طاعتك

واعصمه من معصيتك اللهم امحو عنه الزله واقل العثرة وبدل

السيئة حسنه

واجعل كل ذنب له مغفور واسكنه عامرات القصور ودار الحور

وأكرمه بروية وجهك يا عزيز يا غفور

وجميع المسلمين