شحيحة هي الترجمة الفعلية لما يكتنز في القلب من لواعج ويتزاحم للخروج
وذلك حين يقلب الذكريات التي توشك على الهجوع ..
أمرٌ ما فيثير السواكن ..
وما كنت على وعد مسبق مع نفسي لأن أدون بداية رحلتي مع القرآن ..
فرغم مرور الأعوام لازلت أحمل بين ضلوعي شيئاً من ذكرى وجعٍ مدفونة
أحاول أن لاأزيح عنها الركام .. ولذا كنت أتجنب حديث الألم هذا ..
ولكن ... قصصاً مؤلمة هنا قرأتها أثارت قلمي ودعت قلبي ليفيض قليلاً
ويحدّث كيف استطاع أن يغوص في بحر المعاناة ويخرج منها سليماً
وقد فاز بدرّة ثمينة .. هي .. كلمات القرآن التي كانت له طوق نجاة ..!
أترك قلمي يجول ببساطة .. دون تمعن بالحرف أو اختيار للكلمة
أو انتقاءٌ ...للتعبير..
أترك قلبي ليكتب مايطيق .. كلمة من هنا .. وأخرى من هناك ..
يصل إليكن برسالة تفهمها قلوبكن بلا ريب ؛
لأنها تتحدث عن أغلى إنسانة على قلب كل واحدة منّا ..
ألا وهي الأم .. ... ومن هنا أبدأ .!
بعد أن خلا البيت ولخلوه أسباب ..
بقيت أنا الأخيرة وحدي معها فصرت أمثل عالمها كله .. ولم أخيب ظنها
كانت لي ناصحاً .. ومرجعاً أطرح عندها مايعترضني من مشكلات ..
فأجد الراحة في توجيهها.. وكثيراً ماكانت تقص عليّ الأمثال وقصصاً من القرآن ..
شخصيتها كانت تجمع التناقضات .. حزم ظاهر وطيبة باطنة ..
قوة ارادة وصلابة ... وضعف ينهمر فجأة بالدموع .. ثم يتوارى وتجف الدموع .
قد يكون حديثي هنا الأكثر عنها .. والأقل عنّي ..
ذلك لأنها هي التي مهدت لي السبيل إلى القرآن .. وعلمتني أن به الراحة الكبرى.
فمنذ نعومة أظفاري .. كنت أراها ضحىً أو عصراً تحمل ( مسند ) القرآن الكريم
وتنشد ركناً منقطعاًعن الضجيج لتقرأ جزءاً منه .. بصوتٍ متكسّرٍ
وترتيل يحمل نبرة باكية .. لازال في مسمعي صداه ..!
وكثيراً ماكنت ألمح بقايا دمعة شاردة حين تعود لتودع المصحف مكانه ..
وسرعان ماتنصرف لشؤون البيت كأن قلبها قد أفرغ همومه وارتاح .
لم أكن حينها قد ارتبطت بالقرآن - رغم حبي الذي نما وكان يكبر معي -
وأنا أشهدها مخلصة القلب للقرآن تجد فيه ملاذها وراحتها ..
ثم أتى يومّ وحانت لي الفرصة لأتعلم من خلال المدرسة القواعد العامة للتجويد ..
وتحسنت قراءتي .. وزاد ارتباطي بكتاب الله .. وأصبحت أتقن التلاوة
دون الرجوع إلى الأحكام .. انطبعت القراءة السليمة بذاكرتي الفطرية ..
وساعدت غيري في التعلم. ..
كانت أمي تتابع برامج تبث أسئلة وأجوبة عن القرآن وتسجلها
لأجدها حين أعود من المدرسة تفاجئني بطرحها عليّ ..
وهي تحمل كمّاً زاخراً من الفرحة والدهشة .. كمن عثر على كنزٍ ثمين ..
أذكر يوماً قالت لي على سبيل الإختبار :
هل تعرفين ياابنتي ماالسورة التي يذكر اسم الله في كل آية فيها ؟
و هل تعرفين ماهي أطول آية ؟ ... و ... و...و .. وحين أعجز عن الإجابة
تظهر السرور بتزويدي بها.. وهكذا نما ارتباطي بالقرآن شيئاً فشيئاً
بالحب .. بالمتابعة .. وبالتشجيع .. بالتعوّد.. فالتعلّق .. فالتزوّد ..
وتمر الأعوام وينسل المرض شيئاً فشيئاً .. داخل جسدها
فيذوي العود ويضعف البصر وتنهدّ القوى
ويبقى تعلقها اليومي بالقراءة يقاوم عوامل المرض الهدامة ..
وذات يومٍ جئتها بمصحفٍ كبير الحروف لتقرأ فيه بعد أن زاد عجز بصرها
وكنت أراها وهي تنهي الختمة إثر الختمة ..
حتى أتى يوماً غلبها المرض وما زالت الختمة لم تكتمل ..
فكانت تذهب في نوم عميق .. ثم تصحو قليلاً ..
فكنت أجلس أسفل سريرها والقرآن .. وذكر الله يملآن فراغ قلبي
لأكمل مابدأته كل يوم .. ومن هنا بدأ ارتباطي بقراءة جزء يومياً .
وأخيراً جاء اليوم ..الذي استسلمت فيه بعد معاناة ..وبعد أن هدّم معول
(الفشل الكلوي ) آخر قلعة دفاع وتوقفت الكليتان وتعطلت مؤشرات الحياة ..
في تلك المرحلة الصعبة التي يفقد فيها المرء الإحساس بطعم الأشياء
كان القرآن محدثي وسلوتي .. وذكر الله منقذي
من الهم والوحدة والضياع .. وألهمني الصبر
كان صديقاً ملازماً وصاحباً مؤنساً في وحشة الأيام ..
عودني القرآن أن ألتقيه كل يوم .. حتى إذا ماشغلني أمر ذكّرني
فأهرع مسرعة إليه أصبحت أجدني مفقودةً من دونه ، وروحي فارغة بِلاه ..
احتويت بالقرآن حزني واحتواني بكلماته الشافيات ..
وأصبح جزءا لايتجزأ من وجودي ...
بتُّ أشعر بيومي ناقصاً إن لم أكتمل به .
( نرحل وتبقى أشياؤنا ~
مصحف أمي لايزال على مكتبي ..
مغطى بقطعة نسجتها بيديها بجمال من خيوط القطن ..
كثيراً ماأقرأ به وأجول بين التأشيرات والملاحظات التي كتبتها
على ورقة غلافه الداخلية ... !!
ولا زالت الأشرطة المسجل عليها المسابقات محفوظة عندي .
كل يوم أدعو لها بالرحمة والمغفرة..
وأن يكون ماقرأته وفهمته وعلمتنيه ثقلاً في موازين حسناتها
ونوراً لها .. وشفيعاً يوم القيامة ..
هي علمتني كيف ارتبط بالقرآن وأتزود منه ...
وعلمني القرآن كل شيء .
