حين أخذ صاحبي يتحدث عن صديقه القديم ، ويسرد بعض فضائله -رحمه الله- لم أشعر بالغيرة ، أُدرك أن الحياة تتسع للكثيرين من أصحاب الفضائل ، وتحتاج للمزيد منهم !
وأنتَ تكسب أكثر؛ حين تصرّ على عادة الفرح للآخرين, وتدرب قلبك عليها مرة بعد مرة ، شارِك إذاً في الثناء المعتدل على هؤلاء الأخيار, وادع لهم وبارك ، وإذا كنت لا تعرفهم فلا أقَلَّ من أن تعبّر عن شعور الاغتباط بوجودهم وذكرهم ، وتردد : ما شاء الله ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، تقبل الله منهم ، وبارك في جهدهم .
وإياك أن تظن أن إنجازهم يعرقل إنجازك ، بل هو رديفه ومساعده وداعمه ، ولا أحد يأخذ رزق غيره ، والفرص بعدد بني آدم (وبنات آدم) بل لا أبالغ إذا قلت : إن الفرص هي بعدد أنفاسهم لو شاؤوا !
ولا شيء يمنح الحيوية للحياة ذاتها ، وللأحياء مثل التنافس في الخير ، والتسابق إليه ، وهو ما حث عليه الذكر الحكيم؛ كما في قوله تعالى : (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)(المطففين: من الآية26) ، (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (الواقعة:11،10) ، (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّة..)(الحديد: من الآية21) ، (وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)(فاطر: من الآية32) ، والسبق هنا قبل أن يكون بالأعمال المحسوسة التي يراها الناس ويحكمون على الفرد والجماعة من جرائها ، إنما يكون بصفاء الباطن ، ومتانة العلاقة مع الله ، وسلامة النية ، وحسن المراقبة ، وحسن الظن بالناس ، وسائر المعاني القلبية الإيجابية التي قلّما يتنافس الناس فيها لخفائها ، مع أنها هي سرّ السبق ، وهذا من لطيف المعاني في الفرق بين " السبق " وبين " التنافس " ، وقد روي عن بكر المزني : " ما فضلكم أبو بكر بكثرة صيام و لا صلاة ، و لكن بشيء وقر في صدره "(كما في نوادر الترمذي الحكيم) ، فأصل السبق هو سبق القلوب ، وهو ما يقل تنافس الناس فيه لخفائه ودقته وغفلة معظم الخلق عن تحقيقه .
ثم إن صاحبنا الممدوح قد أفضى إلى ربه ، ورحل من زمن ليس بالقصير ، ولعل الكثير ممن حوله قد نسوه ، فضلاً عمن سمعوا به عن بعد ، فضلاً عمن لم يسمع به أصلاً ، فهو خارج الحلبة إذاً .
ومن الطريف أن ابن مالك حين كتب ألفيته قال فيها :
وتقتضي رضا بغير سُخْطِ فائقةً ألفية ابن مُعطِي
بالغةً في العد ألف بيتِ ..
ثم أرتج عليه فلم يدر كيف يكمل البيت ، ونام .. فرأى ابن معطي يبتسم له ويقول :
والحي قد يغلب ألفَ ميتِ !
فالأموات لا يدلون بحججهم ، ولا يدافعون عن مواقفهم ، ولا يردون على خصومهم ، أو هكذا نظن !
ولعل الحقيقة أن صمتهم أبلغ من كلام غيرهم ، ويروى عن الوزير المغربي أنه قال :
مررتُ بقبرِ ابنِ المبارك غدوةً فأوسعني وعظاً وليس بناطقِ
وقد كنتُ بالعلم الذي في جوانحي غنياً وبالشيبِ الذي في مفارقي
ولكن أرى الذكرى تُنبه عبرةٌ إذا هي جاءت من رجالِ الحقائق !
وعندما انتقل صاحبي إلى الضفة الأخرى وبدأ يلمح بعيب ويُجَمْجِم ولا يكاد يُبين .. فكل ابن آدم خطاء ، والعصمة للأنبياء ، ولا يخلو المرء من نقص أو عيب .. ويدندن حول هذا المعنى راقبت قلبي فوجدت قدراً من الراحة ! وداخلني شعور بحب الاستشراف والمعرفة .. ليتني أعرف ما يقصد دون أن أتجرأ على سؤاله ماذا يعني بالضبط ؟ وما هو النقص الذي يلمح إليه في شيخه الجليل ؟!
وحدثتني نفسي أن النقص الذي يعنيه هو من جنس النقص الذي تعانيه .. فهاهنا الراحة ، لن نشعر بالغربة ، ولن يقسو عليك ضميرك أكثر ، فهاهم الآخرون لديهم العيوب ذاتها ، والنقائص عينها ، فلست فرداً ولا غريباً في الباب !
استعذت من الشيطان ، وترحمت على الراحل ، واستغفرت له ، وللمؤمنين والمؤمنات ، وانقلب الأمر عليّ بعتابين وليس بواحد .
عتاب على الاستسلام للنقص والخطأ بحجة أن المرء مجبول عليه ، وتوطين هذا داخل النفس بدلاً من ملاحقته ومطاردته كما أمر الله (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69) ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) (العنكبوت:9) .
وعتاب آخر على الاسترواح من التعريض بعيب مسلم له فضله وقدره ، لمجرد الرغبة في المشاكلة والتشابه .
وجعلت أسأل نفسي : لماذا نفرح بمدح الأفاضل وتعداد محاسنهم ، ولا نحزن لذكر بعض عيوبهم أو نقائصهم ؟
نعم أنتِ يا نفس أحسن حالاً ممن يفرحون بزلات الآخرين؛ ليدينوهم بها ويشهروها عنهم ويحطوا من قدرهم ، وتلك لعمري منقصة عظيمة ومثلبة جسيمة .
وأنت أحسن حالاً ممن يحزن لصواب الآخرين ويضيق بنجاحاتهم ويتمنى لهم الفشل والعثرة والإخفاق لتستمتع برؤيتهم وهم يتجرعون الهزيمة وكأنه لم يقرأ قول البارئ تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)(النساء: من الآية54) على أن هذا من عواقب الوقوع في الخطأ وتكراره ، وعقوبات التساهل بالزلة مهما بدت صغيرة أن يألفها المرء حتى يحب أن يوافقه الناس عليها ..
فاللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها .
اللهم اغفر لنا وللمسلمين والمسلمات حيّهم وميّتهم برهم وفاجرهم عدوهم وصديقهم ذنوبنا كلها دقها وجلها صغيرها وكبيرها ظاهرها وباطنها واجعلنا وإياهم منها في حل وعافية .
ويا من رحمته وسعت كل شيء ، نحن شيء ، فلتسعنا رحمتك يا أرحم الراحمين .
د سلمان العودة
ام الحكاوي @am_alhkaoy
محررة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
زآدك الله من فضله وبركاته