كما أقبلت الوفود تسعى إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لإعلان إسلامها، وتدخل تحت سيادة الدولة الإسلامية، فقد أخذ هو أيضا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرسل رسله ومبعوثيه إلى الناس لدعوتهم إلى الإسلام، وتعليمهم مبادئه وأحكامه . فقد انتشر الإسلام في الجزيرة ومختلف أطرافها، ومن ثم أصبحت الحاجة داعية إلى إرسال معلمين ومربين ودعاة، يشرحون للناس حقائق الإسلام، ويدعونهم إليه .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على الجبهة الجنوبية للدولة، وأن تدخل قبائل اليمن في الإسلام، وظهر هذا الاهتمام في النتائج الباهرة التي حققتها الدعوة وكثرة عدد الوفود التي كانت تنساب من كل أطراف اليمن متجهة إلى المدينة ..
فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ أعلم الصحابة ـ بالحلال والحرام ـ إلى اليمن قاضياً ومفقِّهاً وأميراً، وجعله على أحد أجزائها وهو الأعلى . ولما خرج معاذ قاصداً اليمن خرج معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأوصاه بوصايا كثيرة، ورسم له منهجاً دعوياً عظيما .
فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: ( إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعُهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ) ( البخاري ). والكرائم: جمع كريمة أي نفيسة، والمراد ترك أخذ خيار المال من الأغنياء، لأن الزكاة شرعت لمواساة الفقراء، فلا يناسب ذلك الإجحاف بمال الأغنياء إلا إن رضوا بذلك .
ولما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وصاياه لمعاذ قال له: ( يا معاذ ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري . فبكى معاذ لفراق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ( البخاري )، وكذلك وقع الأمر كما أشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقد أقام معاذ باليمن ولم يرجع إلا بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم ـ ..
وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ إلى الجزء الآخر من اليمن وهو الأسفل، قاضياً ومفقهاً وأميراً، وقد وُلِدَ - رضي الله عنه - قبل الهجرة في زبيد باليمن، وقدم مكة عند ظهور الإسلام فأسلم، وكان - رضي الله عنه - من أحسن الصحابة صوتاً في تلاوة القرآن الكريم، وقال له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( يا أبا موسى : لقد أُعْطِيتَ مزماراً من مزامير آل داود ) ( البخاري ) .
وأوصاهما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله: ( يسِّرا ولا تعسرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا ) ( البخاري ).
وفي اختيار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمعاذ وأبي موسى ـ رضي الله عنهما ـ لهذه المهمة التأكيد على أهمية حُسْن اختيار الدعاة الذين يمثلون الإسلام ويدعون إليه، فقد اختار ـ صلى الله عليه وسلم ـ صحابيين من أفضل صحابته وفقهائهم، وبعثهم ليكونوا رسله وسفراءه للقيام بمهمة تعليم الناس أمور دينهم .
ومن الفوائد الهامة في وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمعاذ وأبي موسى ـ رضي الله عنهما ـ أمره لهما بالتيسير، فالتيسير سمة من سمات الإسلام، في الشرائع والأحكام، وفي المعاملات والبيوع، والدعوة والتعليم، ومن ثم أمرهما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ به، ولم يكتف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأمر به، بل أضاف إليه النهي عن ضده وهو التعسير، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهما: ( يسرا ولا تعسرا ).
وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمر أصحابه دائما بالتيسير، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إنما بُعِثتم ميسرين ولم تُبْعثوا معسرين .. ) ( أبو داود )، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( إن هذا الدين يُسْر.. ) ( البخاري ) .
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا )( مسلم )، قال النووي : " إنما جمع في هذه الألفاظ بين الشيء وضده لأنه قد يفعلهما في وقتين، فلو اقتصر على يسروا لصدق ذلك على من يسر مرة أو مرات، وعسر في معظم الحالات، فإذا قال ولا تعسروا انتفى التعسير في جميع الأحوال .. " ..
والتيسير مطلوب في كل شيء، غير أنه ينبغي ألا يتجاوز حدود الشرع، فليس من التيسير المطلوب أو المشروع تبديل بعض الأحكام، أو التنازل عن قيم ومفاهيم وأحكام إسلامية ثابتة بُغْية التيسير على الناس وتأليف قلوبهم على الإسلام .
فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( ما خُيِّر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أمرين قَط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنفسه في شيء قط إلا أن ينتهك حرمة الله فينتقم لله بها ) ( البخاري ) .
ويمكن أن نستخلص جملة من الفوائد والدروس من هذا الحدث المهم في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، منها :
الاهتمام بإرسال الدعاة والمصلحين الذين يبلغون رسالات الله، وتنبيههم إلى دراسة أحوال المدعوين، والتعامل معهم بأسلوب التيسير والتبشير المنضبط بالشرع ، وأن أول شيء يُدْعَى إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن أساس دين الإسلام الإقرار لله بالوحدانية، وللنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالرسالة، ثم يأتي بعد ذلك الأمر بالعبادات والواجبات والنهي عن المحرمات، فالإسلام دين شامل لا يفرق بين العقيدة والعبادات والمعاملات والأحكام والأخلاق ..
وعلى الداعية إلى الله أن يتدرج في الدعوة والتعليم بالأهم فالمهم، وأَمْر الإمام عماله بتقوى الله، وعدم الاختلاف، وتحذيرهم من الظلم وبيان عظم حرمته، وأن عاقبته وخيمة .. إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة الموجودة في هذا المنهج النبوي الكريم الذي رسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم – لمعاذ وأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ، ولمن يريد أن يسير على هدى الصحابة الكرام في حياته ودعوته ..
موقع مقالات اسلام ويب
ام الحكاوي @am_alhkaoy
محررة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
يقيني بالله 22
•
اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم فى العالمين انك حميد مجيد
الصفحة الأخيرة