
فوق السحاب
تقول صاحبة الحكاية....
استفقت من نومي وقد أثقلتني هموم الحياة. فتحت نافذتي لأرى أشعة الشمس الذهبية بدأت هي الأخرى في الإستيقاظ من نومها لتضيء الأفق معلنة بداية يوم جديد.
همست لنفسي "لا أشعر اليوم بأني على ما يرام. فما الذي يمكنني فعله حتى أروِّح عن نفس تكالبت عليها الهموم والصعاب"
صمت للحظات...
همست مرة أخرى "يبدو الجو جميلا. علِّي أن أذهب إلى الصحراء وحيدة. فأنا بأشد الحاجة إلى قليل من الهدوء و السكينة. أتخلص لبعض الوقت من صخب الحياة"
حضرت بعض الحاجيات وانطلقت إلى وجهتي...
فرشت سجادتي الصغيرة. جلست عليها وبجانبي كوب الشاي وشطيرة...
تناولت إفطاري... تتجاذبني مشاعر البهجة و السرور... إن للتغيير لمذاقاً لذيذاً يدخله على ذواتنا...
تأملت إتساع الأفق وزرقة السماء...
أخذت نفسا عميقا ثم رميت بظهري على الأرض وناديت بصوت عالٍ "يا للروعة!"
شد بصري شيء ما في السماء...
قلت لنفسي "لا! لابد أني واهمة"
أعدت النظر ثانية...
ثم ثالثة...
ثم رابعة....
"لا! هذا لا يصدق! هل هذه قصور قد شيدت فوق السحاب؟ لا بد أني أحلم"
قرصت نفسي علِّي أستيقظ من حلمي. ثم أعدت النظر مرة أخرى لأرى القصوركما هي. غير أني رأيت هذه المرة حبالا قد تدلت من السحب.
حدّثت نفسي آمرة "أسرعي تسلقي إحدى هذه الحبال. حتى تصلي إلى تلك القصور"
وبالفعل أمسكت إحداها. فإذا بصوت رجل خلفي يناديني "إلى أين يا ابنتي؟"
التفت وقد ملء قلبي الذعر لأرى رجلا مُسِّنا حسن المنظر حسن الثياب تزين وجهه لحية بيضاء توحي لمن يراها بحكمة اكتسبها ذلك الرجل عبر السنين.
قلت له "سأذهب إلى تلك القصور في الأعلى ألا تراها"
رفع الرجل بصره للسماء ثم نظر إلي وقال: "نعم إني أراها. ولكن يجب علي أن أحذرك بأن أي شخص يحاول الذهاب إلى تلك القصور يهلك في الطريق. فكما تعلمين تسلق السماء أمر مستحيل يا ابنتي."
شعرت بخيبة أمل ولكني تذكرت هموم حياتي ... تذكرت طموحي وآمالي التي ما استطاعت هذه الدنيا بزخرفها أن تشبعها ... نظرت إلى القصور ثانية ... ثم قلت للرجل المسن "الحياة التي أعيشها لا تستحق مني أن أفكر في البقاء فيها. أنا ذاهبة إلى تلك القصور وإن هلكت"
رد علي المُسن "نصحتك ولكنك لا تريدين الإستماع فاصنعي ما شئت"
ثم جلس على الرمال بمسافة ليست بالبعيدة عني. يراقبني ماذا سأصنع.
أمسكت بالحبل وأخذت أتسلق بجهد كبير. فالأمر كان صعبا حقا. وما أن إرتفعت قليلا عن الأرض. حتى انقطع الحبل وسقطت على الأرض.
كانت السقطة مؤلمة فصرخت "آآآآآه"
ركض إليّ المُسن وقال: "لقد حذرتك يا ابنتي فكفاك أرجوك. لقد سلمت هذه المرة فاكفي عن المحاولة قبل الهلاك."
هممت أن أستمع إلى نصحه غير أن أصوات ضحكات تعالت من بعيد فأوقفتني.رفعت بصري للقصور ثانية. فإذا هي أصوات أناس يلعبون ويتسامرون في تلك القصور. فقلت للمسن "أسمعت؟ هناك أناس في تلك القصور. فإذا كانوا قد تمكنوا من الوصول هناك فلماذا لا يمكنني أنا أيضا الوصول؟"
رد المسن بنبرة إشفاق "كلها أكاذيب وأوهام يا ابنتي. استمعي إلى نصحي"
لم أستمع لنصح ذلك الرجل وأمسكت حبلا آخر على عجالة. ثم بدأت بالتسلق. تسلقت وتسلقت. أكثر بكثير من المرة السابقة. فشعرت بسعادة غامرة. ولكنها لم تلبث أن تحطمت على أثر وقوعي على الأرض ثانية بعد إنقطاع الحبل.
هنا كانت الوقعة مؤلمة حقا...
ناداني المسن "كفى يا ابنتي"
إلا أنني استجمعت قواي وأسرعت لتسلق حبل ثالث. احتجت إلى جهد جبار في تسلق هذا الحبل. ولكن ما شد من عزيمتي هو أني بدأت أقترب من تلك القصور. ورأيت نعيما لم أره في حياتي قط. فجاهدت نفسي على أن أتسلق أكثر وأكثر.
ويا لخيبة الأمل...
انقطع الحبل للمرة الثالثة فسقطت سقطة ليست كسابقتيها. سقطة لم أستطع بعدها النهوض. تدفقت الدماء من جراحي. والدموع من عيناي. وعلمت بأني هالكة لامحالة.
ناداني المسن بصوت حزين "هل يأست الآن؟ هل عرفت بأني كنت على حق؟"
أبت نفسي أن ترد... وفضلت أن أموت في صمت...
نظرت إلى تلك الحبال القاتلة نظرة أخيرة... نظرة حسرة وحزن...لأني لم أتمكن من الوصول إلى تلك القصور...
فإذا بي أنتبه إلى حبل ليس ككل الحبال. حبل متين للغاية. صرخت في نفسي مؤنِّبةً "كيف لم أنتبه لهذا الحبل منذ البداية؟"
حاولت النهوض ولكن جراحي كبلتني. فأخذت أزحف على الأرض متجاهلة آلام الجراح وأنين جسدي المنهك. ونداء المسن لي "ألم تيأسي بعد. أما زلت ترغبين في إلقاء نفسك في الهاوية"
وما أن لاحظ المسن بأني إقتربت من ذلك الحبل حتى إندفع نحوي. مسكني بقوة وصرخ "قلت لك كفاك. ستقتلين نفسك"
فصرخت ردا عليه "دعني وشأني"
ولكنه لم يتركني. حاولت إبعاده عني فأمسكت بلحيته.
وليتني لم أمسك بها...
حيث أني بمسكتي هذه أوقعت القناع الذي كان يرتديه لينكشف لي وجه قد تجسدت كل معان القبح فيه. بل قد خيل إلي بأن وجوه الوحوش باتت جميلة عند وجهه. هزني زلزال ذعر كاد أن يفقدني صوابي.
"هل أنا في الجحيم؟" سؤال صرخ بداخلي جعلني أدفع المُسن بكل ما أوتيت من قوة. وقد كان أضعف بكثير مما تخيلته.
وقع المسن على الأرض. نادى بأعلى صوته بكلمات لم أفهمها. إلا أن ماحدث بعدها جعل شعر جسدي كله يقف مذعورا من هول ما رآى...
تحلقت حولنا ذئاب لا أعلم من أين أتت...
زحفت بكل ما أوتيت من قوة نحو الحبل. مسكني المسن. رميته بحفنة تراب من الأرض أصبت بها عيناه. وقع ثانية يصرخ من الألم. انقضت علي الذئاب...
وفي اللحظة الأخيرة دفعت نفسي بكل قوى الذعر التي اندفعت في عروقي فأمسكت بالحبل...
وقد كانت دهشتي أكبر من أن تصفها كلمات أو تعبر عنها أحرف عندما سُحِب الحبل للأعلى ليرفعني إلى علياء السماء.
بين السحاب و فوق قمم الجبال...
سال الدمع من مقلتي....
عندما أيقنت بأن حبل الله المتين ليس ككل الحبال...
حبل لا نحتاج إلى تسلقه ... بل نحتاج إلى أن نتشبث به فقط...
حتى إذا ما فعلنا....
رفعنا هو بكل يسر وسهولة إلى عليين...
رفعنا إلى سحب السعادة وبرد اليقين... إلى ملك لا يبلى وإلى النعيم...
وعندما أدرك الشيطان وأعوانه هذه الحقيقة....
وقفوا لنا بالمرصاد... تلبسوا لنا بكل أشكال الأكاذيب في قوالب الصلاح والجمال ... حتى يوهمونا بأن الأمر صعب وبأنه محض خيال...
فإما أن نرفع همتنا و نبذل كل جهودنا وطاقاتنا لمحاربتهم والإنتصارعليهم... وإما أن نستسلم وننجرف في تيار الوهن والضعف ... تيار الراحة اللحظية التي سرعان ما تنقضي ... لتوصلنا إلى نياران الحسرة والندامة...
فأيها نختار؟؟؟؟؟؟؟
جذبتني قصتك بما تحمله من رموز وصور ودلالات ..!
أنت قصصية ماهرة ..! ولديك خيال واسع ..!وحروف مطواعة ..
صدقت غاليتي .. فإن النجاة تكون بالتمسك بحبل الله المتين ..!
والانتباه إلى حبائل الشيطان الرجيم ..!
بوركت .. وأسعدك الله ..!