" فيء و شمس "

بعد فراق دام عدة سنوات سيكون اللقاء بين فيء وشمس في منزل الجدّة , سوف تلتقيان لبضعة ساعات فقط , بعد أن قررتا اللقاء بعيدا عن مسؤوليات الزوج والأطفال , ولكن ... هل ستروي تلك السويعات ظمأ سنوات طوال !!!

قالت الجدّة موجهة حديثها إلى فيء :

- يبدو لي أن ابنة عمتك قد تأخرت .
ردت فيء وابتسامتها العذبة لا تفارقها :
- لا بأس يا جدّتي .. فلا زال أمامنا متسع من الوقت .
- متسع من الوقت !!! وماذا عن زوجك وأبنائك يا ابنتي ؟
- لا تقلقي بشأنهم يا جدّتي , أمورهم على خير ما يرام .

تناهى إلى أسماعهما صوت خطوات نسائية تقترب وتتوقف عند باب المنزل , حبست فيء أنفاسها حتى لا تمنعها من سماع رنين الجرس , قفزت بخفة تفتح الباب بلهفة لتجد شمس واقفة مبتسمة ذات الابتسامة التي عرفتها فيء منذ كانتا صغيرتين .

كان لقاء دافئا بدفء الشمس عندما ترسل أشعتها في يوم بارد , ورطبا عليلا كرطوبة الفيء في واحات نبتت في صحراء قاحلة ,

أخذت الجدّة ترقب حفيدتيها بسعادة وفخر , كيف لا وهي من تولّت تربيتهما منذ كانتا طفلتاين !!! لم يكن أمامها من خيار آخر بعد أن فقدت كل منهما والديها إما بالوفاة أو بالسفر .

كانتا في سن واحدة تقريبا , وإن كانت شمس تكبر فيئا ببضعة شهور , إلا أن فيء كانت أطول قامة منها وذات بشرة قمحية أكسبتها الشمس مزيدا من السحر والجاذبية , بينما شمس ذات بشرة بيضاء وشعر مسترسل لونه كأشعة الشمس كانت تصر دوما على إطلاق سراحه وتحريره من قيود الضفائر .

هتفت فيء بسعادة :
- كأننا افترقنا بالأمس فقط ... لم يطرأ عليك تغيير يذكر !!!
- وأنت كذلك يا فيء , سوى أن وزنك قد ازداد قليلا ؟
- بل ازداد كثيرا , أتذكرين يا شمس يوم سفري كيف كان قوامي ؟
- أذكر جيدا , وهل أستطيع نسيان ذلك اليوم !!!
قالت فيء ممازحة :
- لعله كان يوما سعيدا بالنسبة إليك .
قالت شمس بجدية وحزن :
- اسمعيني يا فيء ... صدقيني كان أسوأ يوم في حياتي بعد وفاة والدتي رحمها الله .
- أحقا ما تقولين ؟ هل تألمت لفراقي ؟ دعيني بداية أعترف إليك بأني دهشت من مشاعرك في ذاك اليوم !!! لم يبد عليك أي تأثر .
- أنت محقة في دهشتك عزيزتي , ولكن ... أتعلمين بأني كنت أفر من أمامك كلما شاهدتك تنتهين من حزم حقيبة ؟ أتعلمين بأني كنت أوشك أن أقبّل يد والد عريسك وأتوسل إليه أن يأخذ ابنه ويسافر ويتركك لي ؟ إيــــه يا فيء لو تعلمين ماذا حل بي بعد سفرك !!!
كانت فيء تصغي إلى شمس وبين الفينة والأخرى تمتد أناملها لالتقاط دمعة بدأت تنحدر على وجنتها القمحية , قالت :
- أكملي يا شمس , فلحديثك وقع عجيب على نفسي المتعبة .
ازدردت شمس عبراتها وواصلت :
- بكيت بعد رحيلك وكأني لم أبكِ في حياتي قط , وفي اليوم التالي أصررت على الغياب عن مدرستي , لم تفلح كل محاولات صديقاتنا وقريباتنا في التخفيف عني .. صدقيني كانت تجربة قاسية جدا !!!
- حبيبتي , كلانا عانت وتألمت , كنت دوما أذكرك وأذكر أمسياتنا وأحاديثنا , كم تمنيت لو كان زواجي وسفري حلما أبعدني عنك بضعة ساعات , أصحو بعدها لأجهز فطورنا وأستحثك على السرعة في ارتداء ملابسك وتصفيف شعرك , ثم نمضي سويا إلى مدرستنا ونفترق كل إلى صفها , لنلتقي من جديد في فترة الاستراحة , ولكني كنت أصحو لأجد نفسي في عالم غريب عني ووجوه لم أألفها أو أجد فيها ما يبدد خوفي وحزني ويعوّضني عنك .

قالت شمس وهي تغالب دموعها :
- حزني لغيابك وافتقادي لك كان سببا رئيسا في موافقتي على الزواج من أول طارق يطلب يدي , رغم معارضة جدتي وجميع الأهل , لا أنكر بأنه أبهرني وملك مشاعري , ولكن حرصي على أن أكون بقربك حتى لو كان اللقاء مستبعدا هو الدافع الأول لزواجي .

جاءهما صوت الجدّة تقول :
- كفاكما سهرا وثرثرة ... هيا انهضا لتجهيز العشاء .
تبادلت فيء وشمس نظرات صامتة ... ثم انفجرتا ضاحكتين , فها هي جدتهما تشاطرهما الذكريات وتذكرهما بما مضى