المتميزة

المتميزة @almtmyz

عضوة جديدة

فيصل .. وداعا أيها الطاهر ... ::قصة قصيرة::

الأدب النبطي والفصيح

الوقت لا يزال هادئا رغم كثافة الضباب .. لم يكن مساءً عاديا ذلك المساء ...
كنت أتصفح إحدى المجلات عندما أغلقت أمي سماعة الهاتف .. بدا وجهها شاحبا .. وكأنها تلقت للتو ضربة على هامة رأسها .. ( أمي .. ماذا هناك ؟؟ ) ...لم تجب أمي .. بل أخفت وجهها بين ركبتيها المضمومتين .. و بدأ ظهرها بالاهتزاز ..
تحركت من مكاني .. إخوتي واجمون .. كان سكون الغرفة تلك اللحظة رهيبا .. إن الشعور بأن ثمة مصيبة قد حدثت و أنت تنتظر أحدا يتفوه بها لهو شعور مرعب ...
وقع الخبر علي كالصاعقة ... " ماذا .. ماذا تقولين ؟ " ....... ( فيصل .. فـيـ.. صـ .. ل .. ما .. ت .. ) .. لم يكن هناك إلا شخص واحد أعرفه أسمه فيصل رغم ذلك سألت ( من فيصل ؟؟ ) لأنني لا أريد أن يكون هو .. ... لم يجبني أحد .. لأنه لم يكن غيره .. من فيصل ؟؟ ( فيصل .. ابن خالتي .. ذلك الفتى الطاهر )
لأول مرة في حياتي أبكي هذا البكاء .. لقد كنا نتردد سويا من المدرسة عندما كنا صغارا .. كانت ضحكته المميزة ترن في السيارة و نحن نستقلها عائدين من المدرسة ..
دخل على أمه ذات يوم .. نظرت الأم لابنها البكر ..
" فيصل .. لماذا يبدو بطنك منتفخا !! "

" لا أعلم يا أمي .. و لكنني كلما تناولت طعاما أحس بضيق و ألم " ..
ذهب به أبوه إلى أحد الاستشاريين .. " ابنك مصاب بتليف في الكبد .. عنده استسقاء "
" هل هناك علاج يا دكتور ؟؟؟ "
نظر الطبيب إلى هذا الفتى الممتلئ براءة و همة لمتابعة طريقه في الحياة .. ذرف دمعتين حاول جاهدا إخفائها .. أشاح بوجهه نحو النافذة و قال " سأحدثك بالهاتف إن استجد أمر ما " .. لقد عرف الأب بفطرته أن مرض ابنه ... مرض خطير .. توالت المراجعات للمستشفيات .. و الأطباء يقولون " لا حل سوى زراعة كبد لابنك .. يجب أن تنتظر مع المنتظرين "

كانت أمه تبكي دائما .. الأسى يلقي بضلاله على بيتهم يوما بعد يوم ..كم هو قاس أن ترى فلذة كبدك يموت بين يديك لا تملك أن تدفع عنه شيئا .. كلما سمع أبوه بأحد الأطباء الشعبيين أحضره إلى ابنه .. لكن الحالة لا تزداد إلا سوءا .. و بطن فيصل ما زال ينتفخ .. و الدموع تملأ المآقي ..

ذهبت إلى بيتهم في أحد المرات لرؤيته .. لم أره بعد إصابته لظروف دراستي خارج المدينة .. دخلت المجلس وجدت جده .. ذهب أبوه لمناداته كي أسلم عليه .. كنت أتحدث عندما أحسست بقدوم شخص ما .. اتجهت ببصري نحو مصدر الصوت .. يا الهي .. إنه أقسى مشهد شاهدته في حياتي .. هذا الفتى الذي كان رمزا للقوة و الصلابة أراه مسندا يديه على الجدار و هو يتجه إلي .. جسمه الذي كان ممتلئا أراه الآن كعود شجرة يابس ..انتفاخ بارز في بطنه ينبئك بحجم الفاجعة ... سلّم علي لم استطع أن أتحدث .. تجمع خط من الدموع في عيوني .. راقبته و الصورة مشوشة بفعل الدموع وهو يخرج منهكا ,, مستندا بيديه على الجدار ..
لقد احتشدت جميع الذكريات في عقلي المذهول و وقفت أمام صورته التي رأيتها للتو .. لقد أحسست بأنه سينتهي .. سيموت .. هذا الفتى الذي سلمت عليه قبل قليل .. يا الهي .. لم استطع أن أحبس دموعي .. لم أستطع أن أتمالك نفسي .. و انفجرت ببكاء مرير ..
لم يكن جده يعرف ماذا يفعل .. سألني عن دراستي ..عن و عن .. يحاول أن يلهيني عن الأمر .. لقد كنت في واد سحيق و خيال الفتى الهزيل ما زال واقفا أمامي يبتسم ..
نهضت مسرعا فالتقيت بابيه عند الباب .. تركته و أنا أقول " السلام عليكم " ذهبت إلى البيت .. أغلقت باب غرفتي و أسندت ظهري على الباب .. وضعت يدي على وجهي و أنا أبكي بشده .. بينما جسمي يهبط رويدا رويدا إلى الأرض ... ضممت كتابك ( عدة الصابرين ) اسمك المنقوش عليه أقبله و أبكي .. أقبله و أبكي ..

فيصل .. الآن فارقت روحك جسدك .. الآن انقطع اتصالك بنا نحن الأحياء .. فقط قبل ساعات كنت معنا .. قبل ساعات كانت أنفاسك تتردد بيننا .. قبل ساعات كنت هنا من أهل هذه الدنيا .. كنت تطمح أن تشفى و تذهب و تعمل وتقبل أمك .. أنا.. أنا أيضا كنت أريد أن أزورك في المستشفى .. كنت أريد أن أرى وجهك الوضيء .. أن أمسح على شعر رأسك المتكئ على الأغطية البيضاء ... قبل ساعات .. كنت حيا .... و الآن صرت .. صرت .. صرت ميتا يا فيصل ...

فيصل .. أتذكر اول مرة دخلت غرفتك عندما أريتني مكتبتك الصغيرة .. و أهديتني كتاب قصص النبيين .. .. أتذكر حينما طلبت مني أن نتبادل بعض الكتب .. آه ..يا فيصل ..
أتذكر حينما سألنا أستاذ التاريخ عن الشخصية المفضلة لكل واحد منا .. أتذكر حينما وقفت و قلت ( إنني أحب عبد الله عزام ) حينما دهش الأستاذ و سألك عنه و أنت تجيبه بثقة ( إنه مجاهد بطل في أفغانستان) لقد كنا في الصف الثاني المتوسط ..
أتذكر عندما كان معلم الدين يحكي لنا قصة الصحابي سعد بن معاذ .. أتذكر كيف أجهشت أنت بالبكاء حينما نطق المعلم ( اهتز لموته عرش الرحمن ) ..
أتذكر كيف التفتنا عليك ثم بكينا لبكائك .. بكى جميع الفصل لبكائك.. لبكائك أيها الطاهر ..

.. أتذكر كيف كانت الدموع تترقرق في عينيك يوم كنا نشاهد في الفيديو شريط عشاق الشهادة .. أتذكر كيف كانت عيونك حمراء و خطين من الدموع ينزلان على خديك حينما ظهر الشهيد عبد الله عزام و هو يتحدث .. كنت دائما تتحدث عنه حتى غدا رمز البطولة عندنا نحن طلاب الثانوية ... أتذكر كيف أقسمت على المصحف أن تذهب للجهاد بعد تخرجك من الجامعة .. فيصل .. لقد خطفك الموت قبل أن تحقق أمنيتك التي طالما حلمت بها ..

فيصل .. هل ترى دموعي و أنا أقف على حافة قبرك الآن .. فيصل إنهم ينزلونك الآن إلى قبرك .. إلى ذلك المكان الذي أخذتني إليه ذات يوم و أنت تقول ( سنذهب إلى مكان مناسب نتعاهد فيه على الأخوة و الإيمان ) .. فزعت أنا عندما اقتربنا من المقبرة .. كنت تمشي بدون خوف .والمكان يبدو مألوفا لك .. كنت تمسك بيدي المرتجفة و تشدني نحو المقبرة ..
أتذكر حينما وقفنا على حافة أحد القبور و تكلمت أنت ( محمد .. هل ترى هذه الحفرة .. هذا هو مسكننا بعد الموت .. هذا هو بيتنا القادم .. ألا ترى كم هو صغير و موحش .. ألا ترى كم هو مظلم و ضيق .. هنا أول منازل الآخرة .. عاهدني يا صديقي أن نكون إخوة في الله نساعد بعضنا للوصول إلى هنا بسلام .. اسمع يا محمد إن خطفني الموت قبلك فلا تنسى أخوتنا .. تذكر أنني في هذه الحفرة لا أملك فعل شيء.. فلتفعل من أجلي .. من أجل أخيك ما ينفعه .. ) أتذكر عندما أجهشت أنا بالبكاء و تهاويت على تراب المقبرة أمسكه بيدي و أبكي .. أمسكه و أبكي ... كنت تهدئ من روعي و دموعك الطاهرة تبلل التراب ... أحد الأخوة الآن يهزني بعنف .. يصرخ بي ( كفى .. لا تبك يا أخي .. لله ما أخذ و له ما أعطى و كل شيء عنده بأجل مسمى ) .. الآن يدخلونك قبرك يا فيصل .. يدخلونك إلى أول منازل الآخرة يا فيصل ... أهالوا عليك التراب .. وقفوا و أحدهم يقول ( أدعو له بالثبات فإنه الآن يسأل ) .. لقد حدث كما قلت يا فيصل .. كما كنت تحدثني به من قبل ( يقفون على قبرك قليلا .. يدعون لك قليلا .. يبكون عليك قليلا .. ثم .. يذهبون عنك و يتركونك وحدك .. و كأن شيئا لم يكن .. فأعد لنفسك و لقبرك ما يسعدك ) ...

في ليلة وفاة فيصل و قبل أن تعرف أمه بوفاته .. اتصلت على أمي و روت لها حلما رأته في المنام ( رأيت رجلا يقتلع نخلة من بيتنا .. ) لم يفسره أحد .. لأن فيصلاً مات و انتهى الأمر ..

فيصل لقد ذهبت كما نحسبك مؤمنا طاهرا .. فهل أنعيك أم أنعي نفسي التائهة في دروب الدنيا ..
نم في قبرك بسلام يا فيصل ... صديقك لم ينسى عهده ....
3
729

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

مروه
مروه
اختي المتميزه شكرا علي هذه القصه الجميله فلقد اثرت بي كثيرا فهي
قصه رائعه جدا فانتي فعلا متميزه


أختك مروه
رعشة خفوق
رعشة خفوق
شكرا لك أختي المتميزة
فعلا متميزة
المتميزة
المتميزة
الأخت مروة ..
شكرا لك .. و جزاك الله خيرا .. هذا ما أتمناه أن تصل قصتي نحو الغاية التي أريد ... شكرا لك مرة أخرى ..

الأخت رعشة خفوق ..
شكرا لك جزيل الشكر .. و جزاك الله خيرا ..

أختكم المحبة / المتميزة