في حديقة للحيوان

الأدب النبطي والفصيح

وقفت في مقتبل عمري وقريب لي في حديقة مفتوحة للحيوان , وصرنا نجول بأبصارنا في ما حولنا من نبت وطير وحيوان ...
وكان قريبي قد وقف مشدوهاً أمام عرين لأسد فتي , كان قد انقض منذ قليل على اٍحدى الفرائس , فأوزعها خدشاً وتمزيقاً , حتى اٍذا ما استسلمت بضعفها أمام جبروته وبطشه , أجهز عليها , وجال في جسدها نهشاً وقضماً , فاٍذا ما أدركه الشبع , ترك ما تبقى من لحم وجلد مهترئ في فريسته لبطانته من الذئاب والثعالب , تلك التي لا تنفك تتبعه , ولا تجرؤ على مقاربته .
فانطلق قريبي يقول : ألا ترين اٍلى ذلك الأسد ما أقواه وما أفتكه ؟! لا أرى من الحيوانات هنا من يجسر على مواجهته , فضلا عن أن يجرؤ على منازلته .. ولو كنت واحداً من أفراد هذه الحديقة لاخترت أن أكون من أفراد بطانته , فمن جهة : أكون قد تمنعت بمنعته , وقويت شوكتي لقوته , ومن جهة أخرى : يكون قد نالني من كل فريسة تقع تحت غائلته نصيب أي نصيب .
فنظرت اٍلى قريبي , وأمعنت فيه النظر , ثم قلت له في عجب : أتراك حقاً تؤمن بما تقول ؟
فقال لي بكل ثقة : بل اٍني أزيدك أيضاً : أن لو كان أمر أحد من حيوانات هذه الحديقة بيد نفسه لاختار أن يكون في صف ذلك الأسد , بل ومن بطانته .
قلت له : وقد أعجبتك قوة هذا الأسد , وأخذت منك كل مأخذ ؟!
قال لي : وكيف لا ؟؟ وهل ترين له على طول هذه الحديقة وعرضها شبيه في قوته أو مثيل؟؟
قلت له : فأين من كان قبله من الآساد ؟ وكانت تملأ الحديقة بزئيرها رعباً وذعراً , وتدك الأرض بخطوها تيهاً وفخراً , فأين هم الآن ؟؟
قال لي : قد آل اٍليه الأمر الآن , وليس ذلك بمنقصة في حقه , بل اٍنها مندوحة وأي مندوحة , اٍذ بقوته أعجزهم , وببطشه أفقدهم سطوتهم .
وأضاف قريبي يكمل : بل قولي : أين من افترسهم هذا الأسد من ضعاف الحيوانات والخراف والأرانب في حديقته هذه ؟؟
قلت له : وكأنك تزعم أن ضعاف الحيوانات هنا لا مصير لهم اٍلا الفناء والهلاك على يد هذا الأسد القوي وأتباعه ؟!
قال لي : بكل تأكيد , وهل تشكين أنت في ذلك ؟!
قلت له : فأجبني اٍذاً , أين تلك الحيوانات الضخمة المخيفة , والتي ملأت الأرض خوفاً ورعباً في سالف الأيام ؟؟ أين تلك الديناصورات الزاحفة والطائرة , وتلك التي رجت الأرض بأقدامها رجاً ؟؟
صمت قريبي هنيهة , ثم أجاب : تلك كائنات ولى عصرها وانتهى زمانها , وآل الأمر اٍلى ما ترين الآن .
قلت له في دهشة : سبحان الله , لقد انقرضت تلك الديناصورات المخيفة وولى عهدها , وبقيت هذه المخلوقات الضعيفة من طيور وأرانب وخراف عبر كل تلك العصور , رغم أنها كانت وما زالت وستظل أبداً هدفاً وفريسة سهلة لكل من رام اصطيادها من الحيوانات المفترسة , ألا يعني لك ذلك شيئاً ؟؟
قال لي قريبي وقد أذعن اٍلي باستخفاف : وأي شيء قد يعنيه كلامك هذا لي ؟!
فقلت له : ألا يعني لك ذلك : أن لله الخالق سنة ثابتة لا تتغير في خلقه ؟!
قال لي : وما تلك السنة التي لا تتغير .. أيتها الفيلسوفة ؟!
قلت له وكلي اٍيمان بما أقول : هذه السنة الثابتة تقول : أن الله قد خلق القوي من الحيوانات وخلق الضعيف , كل لغاية وهدف , فاٍذا ما اغتر القوي بقوته , وقادته سطوته اٍلى اضطهاد الضعيف ومنازعته ما يملك - وأعز ممتلكاته : الروح - فقد آن أوان زوال ذلك القوي , وتبقى العاقبة دوماً وأبداً للضعيف الذي لا حول له ولا قوة اٍلا بخالقه ...

:time:
6
635

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

بحور 217
بحور 217
جميل يا أماني استخلاص الدروس من هذه المخلوقات ...

وعجيب فعلا أن نتمنى أن نكون بطانة للظالم ولا نتمنى أن نكون عونا للمظلوم ..

شكرا لمشاركتك الجميلة :26:
أماني طيبة
أماني طيبة
العزيزة : بحور 217
أشكرك لتواجدك معنا دائما ... كما أشكرك على تعليقك اللطيف .
هدانا الله جميعا لما يحبه ويرضاه .
ليل غربة ومطر
ليل غربة ومطر
دائما انت هكذا
تاتينا بكل ما هو جديد ومفيد

جزاك الله عنا كل خير
وليجعلنا الله ضعفاء اليه خير من أقوياء على الناس

تابعى فمنك نستفيد
^^حورية البحر^^
مشكورووووووووووووووووووووووه

:mouse::mouse:
أماني طيبة
أماني طيبة
العزيزة : ليل غربة ومطر
لقد توقعت منك هكذا تعليق ...
ولقد والله أحسنت بي الظن , أسأل الله أن أكون عند حسن ظنك دائما .
غفر الله لي ولك وباقي المسلمين والمسلمات . :26: