لما كان شعاع الإيمان يحاول أن يشق طريقه في بيداء الظلام في مكة ليكسر حواجز الوثنية الصلبة التي كانت تتحصن في عقول أهل الكبر والعناد , كان وراء الفكرة الوضاءة قائد ليس كباقي القادة ... رجل تلقى وحي السماء فعلم ضخامة التكليف وأيقن أن نقطة الانطلاق ستبدأ عند أسوار منيعة من الحواجز النفسية القديمة البائدة قدم عاد وثمود..
لم يكن ذلك الحاجز المنيع هو صخرة التحدي بمفردها .. بل إن الحنين إلى تراث الآباء والأجداد في الانحراف العقيدي والتلوث الفكري على ما كان يزاوجه من عتو وكبر وغرور وأمراض النفوس من حب للرياسة والسلطان والجاه العريض بل والحسد في أن يكون ذلك النور من بني هاشم ومنهم كان شرف الاصطفاء فعتوا وتمردوا وجحدوا!!..
لكنه لم يكن عوداً يسهل ليّه .. اجتمع عليه بنو العمومة والعشيرة ليحدثوا عمه في أمره فأوجس في نفسه خيفة المهادنة أو التراجع من قِبل عمه فقال قولته الخالدة : ( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته أبداً حتى يُظهره الله أو أهلك دونه )..
ثلاثة عشر عاماً من الخطاب الدعوي الموصول والمتصل لم تزد فيها النفوس إلا قحطاً وجفاء فكان لا بد من نقطة انطلاق لهذا الدين ..
غالية هي الأوطان .. والبلد الحرام قد تمكن من سويداء قلب القائد الحبيب .. فخرج مهاجراً واقفاً على رباها قائلاً : ( والله إنك لأحب أرض الله إليّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت ) ...
وبقي القائد يفيض بحنانه على أصحابه من حوله وهم يتناسلون واحداً تلو الآخر حرصاً على حياة الدعوة المتمثلة بحياة أفرادها .. لقد كان كل واحد منهم – رضي الله عنهم – ركناً من أركان هذا الدين .. أمين الأمة .. فارس رسول الله .. فاروق الحق والباطل .. أعلم الناس بالحلال والحرام .... إلخ .
وحان موعد الفراق .. بكته مكة وجنبات البيت العتيق .. تباطأت شمس ذلك النهار حزناً ألا تعانق وجنات الحبيب .. وودعت مكة خيار رجالها .. وصادق تقاتها .. لقد خرج من بينهم والتقى بوعد السماء مطمئن القلب رابط الجأش ..
لا ضير أن يكون الركب المبارك اثنان : المصطفى وصاحبه والله ثالثهما .. وكفى بالله ولياً وناصراً . " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " !! .. كان أمر الصحبة بينهما وحياً من الله عز وجل.. خطوات مباركة رسمت معالم طريق واضحة لأهل الأرض قاطبة .. لمَ كان الصدّيق رفيق الدرب !! .. لقد كان رجلاً بأمة .. بذل .. فداء .. تضحية .. نجم التضحيات دائماً .. ... ( أبقيت لهم الله ورسوله يا رسول الله ) ..
لقد كان موكب الإيمان ، موكب التوحيد ، موكب الحق : موكب الرسول - صلى الله عليه وسلم – وصاحبه أبي بكر الصديق ، منذ ألف وأربعمائة وخمسة وعشرين عاماً وهما في طريقهما من مكة إلى المدينة مقدّمة لمواكب رائعة ظافرة ، حققت للإنسانية كل ما كانت تصبو إليه من آمال على طول الأعوام والأجيال .
كان مقدمة لمواكب الصحابة الطويلة ، التي خرجت من الجزيرة العربية ، تهدر كالسيل إلى كل مكان في العالم ؛ لتنشر الدين ، وتعلي كلمة الله ، وتدعو الناس إلى الإيمان والحق ، والطهر والتوحيد .
وكان مقدمة لجيوش الإسلام الزاحفة ، كما يزحف الليل إلى كل مكان ، لتحمي دعوة الإسلام في الشام والعراق ومصر ، من عدوان الكسرويين والقيصريين ، ولتقود الدعاة إلى الله على كل أرض ، وفي كل قطر وشعب !
وكان مقدمة لمواكب العلماء التي خرجت من الجزيرة العربية إلى مراكز الثقافة والحضارة الإسلامية المبثوثة في كل مكان من الأندلس إلى الصين ، لتعلّم العقل الإنساني : كيف ينتصر على الجهل والخرافات ، والأوهام والشرك والوثنية والطغيان ، ولتذيع في الناس مبادئ الإسلام وقيمه ومثله الرفيعة في إعزاز الحياة وتكريم الإنسانية ، وتبجيل قدر العقل والفكر ، ووضعهما في قمة التقدير والإكبار والاحترام .
موكب جليل مهيب صغير ، واحد قاد – منذ ألف وأربعمائة وخمسة وعشرين عاماً – مسيرة الحضارة والإنسانية والتقدّم والعلم ، ووضع الدعامة الأولى لانتصار الإنسان المسلم على عصر الجاهلية ، وعلى مبادئها وضلالاتها ، وبهتانها وشركها ! .. وقاد الحياة البشرية عامة إلى ما كانت تتطلع إليه من نور وخير ، وعدل وحرية وسلام ، وإخاء ومساواة .
وكان هذا الموكب الجليل المهيب يسير فيه رجلان اثنان ، ولكنهما : مؤمنان ! مؤمنان ! مؤمنان !
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصاحبه أبو بكر الصديق رضوان الله عليه !
خرجا مهاجرين من مكة إلى المدينة ، من الشرك والبهتان والضلال والجهل ، إلى أفق رحب فيه الإسلام أن يتنفس وأن يعيش .
خرجا مهاجرين من اضطهاد قريش وتعذيبها وتنكيلها ، إلى حيث يجدان – هما والمؤمنون بالله – الحرية والسلام ، والأمان والأمن في الأرض .
خرجا ، بعد أن سدّت قريش – أمام دعوة الله – كل طريق ، وبعد أن نالت من الرسول – صلى الله عليه وسلم – والمسلمين الأوائل كل نيل .. تعذيب وتشريد وتنكيل .. ليبنيا للإسلام حياة جديدة ، تكون له فيها السيادة والقوة ، والنصر بإذن الله .
خرجا بعد أن ائتمرت قريش بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وصممت على قتله واعدّت لتنفيذ مؤامرتها الدنيئة الشريرة الضالة ؛ في وقت محدود معلوم .. { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } .
خرجا ينشدان الحياة والحرية ، والسلام والاطمئنان ، لا لأنفسهما بل للإسلام وللمسلمين أولاً وقبل كل شيء .
الإمكانيات قليلة لا تقوم بنصرة رجل .. فكيف بنصرة نبي للأمة ولكن ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) .. سيبارك هذا العمل .. وينمو ويمتد أثره .. ومن يدري .. فقد كانت نواته نواة لدولة الإسلام العالمية ..
ويسير الركب .. ويملأ غضب مكة فجاج الأرض .. وتُعلّق الجائزة الكبرى .. رأس محمد بمائة من الإبل .. ثمن الانتقام غالٍ .. إنها ثارات الجاهلية الحمقاء .. ولكن الجنة أغلى .. والبيع رابح بإذن الله ولا شك .. وهذا يقيننا وجوهر عقيدتنا .. ويُحبط الله مخططهم ويتحول سراقة من طالب لرأس المصطفى إلى متوسل يرجو الشفاعة طالباً الأمان.. ويصل رسول الله إلى المدينة .. وتأتي البشرى من يهودي حاقد : ( يا أهل يثرب هذا جدكم الذي تنتظرون ) .. لقد كان الأولى أن يزف البشرى لأهل ملّته فهم أهل الكتاب وخبر السماء بين أيديهم .. ولكنه عداء يهود حيث أكملوا حلقات المؤامرة مع قريش فيما بعد ..
وتتفتق عبقرية القائد الرباني السياسي المحنك والعسكري الحاذق عن قواعد للبناء .. فكان المسجد .. وعن وثيقة سياسية تمثلت بالمعاهدات الطائفية .. وعن نص في حقوق الإنسان تجلّى بالمؤاخاة في أبها معانيها ..
وضرب الرسول – صلى الله عليه وسلم – بهجرته للناس أروع الأمثال :
علّمهم أن الحق هو القوة ، وأن الباطل هو الهوان والضعف والصغار .
وعلّمهم أن العذاب والاضطهاد لا يمكن أن يكون وسيلة للنيل من المبادئ الشريفة الحق الصادقة .
وعلّمهم أن القوي ضعيف إذا لم يكن الحق معه ، وأن الضعيف قوي بالحق إذا اتبعه ، وكان من المؤمنين به .
وعلّمهم أن المال وعرض الحياة الدنيا لا يمكن أن يقف عقبة أمام العقيدة والإيمان ، وأن وسائل النصر لا يمكن أن تُنال إلا بالإيمان العميق .
وعلّمهم أن الدين كرامة وعزة وقوة ، وأن المسلم يجب ألا يحرص على المال والدار ليعيش من أجلهما عيشة الذليل ، بل عليه أن يضحّي بكل شيء في سبيل الله ، ومن اجل كلمة الله والجهاد في سبيل الحق والشرف والدين .
وعلّمهم أن الإسلام : إيثار وأخوة ، ومحبة وتعاون في الله ، وأن المسلمين جميعاً هم بنعمة الله قد أصبحوا إخواناً متعاونين في العسر واليسر ، والشقاء والرخاء .
من أي الجامعات أنت !.. وعلى أيدي من من الساسة تربيت !.. وفي أي من حواضر المدينة عشت يا أبا القاسم !!! .. إنه الإلهام ووحي السماء ...
لولا الهجرة .. لكان من أمر محمد مع قومه ما كان من أمر نوح والنبيين من بعد ..
لولا الهجرة .. ما دوّى في مشارق الأرض ومغاربها نداء التوحيد ..
لولا الهجرة .. ما عانقت أفئدة المحبين قبلة الإسلام خمس مرات في اليوم ...
تلك كانت هجرة النبي العظيم .. ثماني سنوات فقط وكانت رايات العزّ ترفرف فوق مكة ..
وصوت بلال يصدح بالأذان ...
الرحيق المختوم8 @alrhyk_almkhtom8
عضوة نشيطة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة