في واحة الأدب

الأدب النبطي والفصيح

اٍن للأدب منزلة رفيعة في النفوس , وله تأثير السحر فيها , وبه يؤثر في مجريات الأحداث للأفراد والشعوب والأمم , خفي ذلك أم عُلِم , دق ذلك أو عظم ...

لذا فقد ارتأيت أن أورد فصلاً فيما قيل في الأدب - على لسان أجلة من قومه - نتفيأ ظلاله في واحتنا , واحة الأدب ....


من كتاب " روضة العقلاء ونزهة الفضلاء " , للاٍمام الحافظ : أبي حاتم , محمد بن حبان البستي .

في الحث على تعلم الأدب ولزوم الفصاحة


حدثنا الحسين بن اٍدريس الأنصاري , أنبأنا أحمد بن أبي بكر , عن مالك , عن زيد بن أسلم , عن ابن عمر , قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اٍن من البيان لسحراً " .

قال أبو حاتم – رضي الله عنه - :
قد شبه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر البيان بالسحر , اٍذ الساحر يستميل قلب الناظر اٍليه بسحره وشعوذته , والفصيح الذرب اللسان يستميل قلوب الناس اٍليه بحسن فصاحته ونظم كلامه , فالأنفس تكون اٍليه تائقة , والأعين اٍليه رامقة .

ولقد حدثنا أبو خليفة , حدثنا أبو محمد التوزي النحوي , حدثنا عبد الله بن صالح , حدثنا حبان بن علي , قال : سمعت ابن شبرمة يقول : ما رأيت لباساً على رجل أحسن من فصاحة , ولا على امرأة من شحم , واٍن الرجل ليتكلم فيُعرِب , فكأن عليه الخز الأدكن , واٍن الرجل ليتكلم فيلحن فكأن عليه أسمالاً ... اٍن أحببت أن يصغر في عينك الكبير , ويكبر في عينك الصغير فتعلم النحو .

وأنشدني الكريزي :
أكرم بذي أدب أكرم بذي حسبٍ .......... فاٍنما العزم في الأحساب والأدب .
والناس صنفان: ذو عقل وذو أدب ....... كمعدن الفضة البيضاء والذهب .
وسائر الناس من بين الورى همج ..... كانوا مواليَ أو كانوا من العرب .

وأنشدني البسّامي :
ليس المُسَوّد من بالمال سؤدده ........ بل المسود من قد ساد بالأدب .
لأن من ساد بالمال سؤدده ........... مادام في جمع ذا المال والنشب .
اٍن قلّ يوماً له مال يصير اٍلى ...... هونٍ من الأمر في ذل وفي نصب .

قال أبو حاتم – رضي الله عنه - :
الفصاحة أحسن لباس يلبسه الرجل , وأحسن اٍزار يتزر به العاقل .
والأدب صاحبٌ في الغربة , ومؤنسٌ في القلة , وزين في المحافل , وزيادة في العقل , ودليل على المروءة .
ومن استفاد الأدب في حداثته انتفع به في كبره , لأن من غرس فسيلاً يوشك أن يأكل رطبها .
وما يستوي عند أولي النهى , ولا يكون سيان عند ذوي الحجى : رجلان ؛ أحدهما يلحن , والآخر لا يلحن .


وهنا – لأماني طيبة – فائدة في ذكر طرفة من طرف اللحن قد انتقصت من قدر صاحبها :

يقول ابن هلال الصابئ في كتابه " الهفوات النادرة " :

وحدّث أبو الفضل الأزدي , قال : أخبرنا شاه , قال : مر رجل بابن المبارك , وكان يدّعي النحو , فوقف عليه وهو راكب دابته يحدثه , فقال له ابن المبارك : أما بلغك الحديث : " لا تتخذوا ظهور دوابكم مجالس " !
فقال له : ( مجالساً ) يا أبا عبد الرحمن !
فضحك ابن المبارك , وقال له : اٍن ( مجالس ) لا ينصرف لأنه على وزن ( مفاعل ) وأنت لم تبلغ هناك بعد .
فخجل الرجل وانصرف , فكان اٍذا مر في السوق صاحوا به : لم تبلغ هذا هناك بعد يا أبا فلان ! فكان قلما يفاجئ الناس ويلاقيهم ...... أ.ه.


ونعود مرة أخرى اٍلى كتاب " روضة العقلاء..." :

وقد حدثنا الحسين بن محمد بن مصعب السمجي , حدثنا أبو داود , حدثنا عبد الله بن بكر بن حبيب , حدثنا أبي , عن سالم بن قتيبة , قال : كنت عند ابن هبيرة فجرى الحديث , فقال : والله ما استوى رجلان حسبهما واحد , ومروءتهما واحدة ؛ أحدهما يلحن , والآخر لا يلحن , اٍلا أن أفضلهما في الدنيا والآخرة الذي لا يلحن .
قال : فقلت : أصلح الله الأمير ! هذا أفضل في الدنيا لفضل فصاحته وعربيته , أرأيت الآخرة ؛ ما باله فُضِّل فيها؟!
قال : اٍنه يقرأ كتاب الله على ما أُنزل ... والذي يلحن يحمله لحنه على أن يُدخل في كتاب الله ما ليس فيه , ويُخرِج منه ما هو فيه .
قال : قلت : صدق الأمير وبرَّ !!! .


وهنا – لأماني طيبة – فائدة على ذكر الأمير : ابن هبيرة توضح ما للفصاحة والاٍلمام بالأدب من المكانة والمنزلة التي قد تهوي بصاحبها - لخلل بها - أو ترفعه :

يقول ابن هلال الصابئ في كتابه المذكور آنفاً :

وحدَّث زياد بن عبيد الله الحارثي , قال : خرجتُ وافداً اٍلى مروان بن محمد في جماعة , فلما كنا ببابه دُفِعنا اٍلى ابن هبيرة وهو على شرطته وما وراء بابه .
فتقدم الوفد رجلاً رجلاً , كلهم يخطب ويُطنِب في مروان وابن هبيرة , فجعل ابن هبيرة يبحثهم عن أنسابهم , فكرهتُ ذاك وقلت : اٍن عرفني زادني عنده ذلك شراًّ , فلطيتُ – أي : لزقت بالأرض - , وجعلت أتأخر رجاء أن يمل كلامهم فيمسك , حتى لم يبق غيري , فقدّمني , فلم أجد بُداً مما كرهت , فتكلمتُ بدون كلامهم , واٍني لقادر على الكلام .
فقال : ممن أنت ؟ فقلت : من أهل اليمن , قال : من أيها ؟ قلت : من مذحج , قال : اٍنك لتطمح بنفسك , اختصر ! قلت : من بني الحارث بن كعب .
قال : يا أخا بني الحارث , اٍن الناس ليزعمون أن أبا اليمن قرد , فما تقول في ذلك ؟
قلت : وما أقول أصلحك الله ! اٍن الحجة في هذا لغير مشكلة .
فاستوى قاعداً , وقال : وما حجتك ؟!
قلت : تنظر كنية القرد , فاٍن كان يكنى " أبا اليمن " فهو أبوهم , واٍن كان يكنى " أبا قيس " فهو أبو من كُنّي به !
فنكس , وندم , ونكت الأرض , وعلم أنه هفا فيما واجهني به .
وجعلت اليمانية تعض على شفاهها , تظن أن قد هويت , والقيسية تكاد تزدردني .
ودخل الحاجب اٍلى مروان ثم رجع , وقام ابن هبيرة فدخل عليه أيضاً ثم لم يلبث أن خرج .
فقال الحارثي : فقمت فدخلتُ على مروان وهو يضحك , فقال : اٍيهٍ عنك وعن ابن هبيرة !!
فقلت : قال كذا , وقلت كذا ...
فقال : أيم الله لقد حججته , أوليس أمير المؤمنين يزيد الذي يقول :
تمسك أبا قيسٍ بفضل عنانها ....... فليس عليها اٍن هلكتَ ضمان .
فلم أر قرداً قبلنا سبقت به ................ جياد أمير المؤمنين أتان .
وهذان البيتان ليزيد بن معاوية , وذاك أنه حمل قرداً على أتان وحشية , وسبَّق بينها وبين خيله , فسبقت الأتان وعليها القرد !!
قال زياد : فخرجتُ وخرج ابن هبيرة , فوضع يده بين منكبي , وقال : يا أخا بني الحارث , والله ما كان كلامي اٍياك اٍلا هفوة , واٍن كنت لأربأ بنفسي عن مثل ذلك , ولقد سرني كيف لقنت عليّ الحجة , ليكون ذلك أدباً لي فيما أستقبل , وأنا لك بحيث تحب , فاجعل منزلك علي !
ففعلت , وأكرمني , وأحسن اٍليّ ..... أ. ه .





وللحديث بقية .......
2
534

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

بحور 217
بحور 217
ما أجمل البقية إن كانت هذه البداية

في الانتظار :26:
نــــور
نــــور
مجهود رائع
فكرة متميزة
طرح رائع

تابعي يا رعاك الله:26: