بسم الله الرحمن الرحيم
لانجد في ثقافتنا ولا في تعاليمنا ما يسوِّغ لنا بغض إنسان لأجل لونه أو عرقه أو دينه.
إنما نجد في كتابنا وفي سيرة رسولنا دعوة ملحة إلى الحب والود والبر والإحسان والعفو والصفح والسلم والجمال والإخاء والخير والإصلاح والإيثار والحوار والإعمار.
والإنسان في تعاليمنا مقدّس، خلقه الله في أحسن تقويم، ونفخ فيه من روحه، وسواه فعدله، وفضله على سائر مخلوقاته، وكرمه فأسجد له ملائكته، ونعَّمه فسخَّر له الكون كله وأطلق يده فيه ليكشف قوانينه وأسراره ويستثمرها.. خلقه من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً، وجعلهم شعوباً وقبائل وألواناً وأمماً، وضعهم في حلبة السباق على عتبة واحدة، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وصان حياتهم، وحرّم دماءهم وأموالهم، وعدّ قتل نفسٍ بغير نفس أو فساد في الأرض معادلاً لقتل الناس جميعاً، وإحياءها كإحياء الناس جميعاً، وجعل الخلق كلهم عيال الله، وجعل أحبهم إليه أنفعهم لعياله، وسوّى بينهم في انتسابهم لآدم جميعاً، فلا فضل لأحد منهم على الآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح.
ولا يصح إيمان المسلم مالم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله جميعاً لا يفرق بين أحد من رسله، ولأهل الكتاب عند المسلم مكانة خاصة، يجمع بينهم قاسم مشترك، وكلمةٌ سواءٌ يدعوهم إليها، هي كلمة التوحيد ] ألا نعبُدَ إلا الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله. وللنصارى عنده مكانة مميزة ] لتجدن أشد الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى؛ ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون.
وعداوة اليهود للذين آمنوا من سائر البشر، ليست عداوة متبادلة بل هي عداوةٌ من طرف واحد، إذ عدوا أنفسهم شعب الله المختار، ليسوا بشراً مثل سائر الناس: فصور الله تعالى ما انطوت عليه نفوسهم أروع تصوير: ] هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم، وتؤمنون بالكتاب كله، وإذا لقوكم قالوا آمنا، وإذا خلَوْا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ.
وإنما صيغت نفس المسلم على الحب: حبٍّ لله، وحبٍّ لعباده، وحبٍّ للبيئة من حوله، فالمؤمنون هم الأشد حباً لله، حباً متبادلاً ] يحبهم ويحبونه . وهو قد ] كتب على نفسه الرحمة ، وهم ] رحماء بينهم ، ] ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً، سبحانك، وذلك في تناغم كامل مع الطبيعة والبيئة والشجرة وما خلق الله في الأرض من دابة، حتى إن القرآن العظيم ليجري - في سياق هذا التناغم- حواراً بين الإنسان وأعضائه، وبينه وبين النمل والطير وسائر الكائنات الحية والجامدة، كلٌّ يقول: ] أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء.
وبمقتضى هذا الحب المتبادل بين الله والإنسان والبيئة، تهفو نفس المؤمن إلى كل ما يحبه الله تعالى فيحبه، وتعاف كل مالا يحبه الله فيكرهه، فهو يحب المحسنين والمتقين والمقسطين والصابرين والمتوكلين والتوابين والمتطهرين، لأن الله يحبهم، ويبغض الفساد والمفسدين والخائنين والمختالين والمستكبرين والمعتدين والظالمين والمسرفين لأن الله نفى محبته لهم.
وكذلك أقام الله تعالى العلاقة بين المسلم وغير المسلم على الحب، ولو كان هذا الحب من طرف واحد، بمعنى أن المسلم إنما يحب في الآخر إنسانيته، فهو يحب له ما أحبه لنفسه من نعمة الإسلام، ويتمنى له أن يدخل في الإسلام،فإن هو آثر التشبث بدينه ورفض الدخول في الإسلام، فإن ذلك لن يشكل حاجزاً بينهما، يقطع أواصر المحبة والتعاون، ويثير بينهما العداوة والبغضاء بل إن الإسلام رسم لهما السبل الكفيلة باستمرار هذه العلاقة، التي يديرها المسلم بحسب أحوالها المختلفة على النحو التالي:
1- حالة التعايش والود المتبادل: تحكمها الآية القرآنية {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم} ، والبر هو أعلى درجات الحب والمودة، ويكون لكل منهما أن يمارس عباداته ويعيش حياته على النمط الديني الذي ارتضاه، وليس للمسلم أن يزيد في دعوته إلى دينه عن تقديم النموذج الصالح والقدوة الحسنة، والحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن في الظروف المناسبة حفاظاً على حبل المودة والعلاقة الحميمة.
2- حالة التنافر والتخاصم التي ربما تشوب العلاقة بينهما، فالمسلم هنا مأمور بأن لا يبادر بالعدوان {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} ، كررها بالصيغة نفسها مرتَّين تأكيداً للنهي عن العدوان، وبغض الله تعالى له.
3- حالة مبادرة الآخر بالعدوان: فما على المسلم إلا أن يرد العدوان بمقداره ولا يتجاوزه {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}
4- حالة الدعوة إلى السلم وإيقاف العدوان، على المسلم أن يستجيب لها، حتى لو اشتم منها رائحة الخدعة، فإن عليه أن يقبلها مع الحذر { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله، إنه هو السميع العليم. وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} .
5- حالة التوافق على السلم وإبرام المعاهدات: يكون على المسلم فيها الالتزام والوفاء الكامل بها {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً، إن الله يعلم ما تفعلون} .
6- إنهاء المعاهدات ونقضها: يظل المسلم ملتزماً بمعاهداته مادام الطرف الآخر ملتزماً بها {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} ، ولا يجوز له نقضها حتى لو كان ذلك تلبية لطلب من إخوان له في الدين {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} .. وعليه أن يحافظ على احترامه لمعاهداته حتى انتهاء مدتها { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين} .
تلك هي النصوص القرآنية الناظمة للعلاقة بين المسلم وغير المسلم، وهي تشكل ثقافة المسلم يتصرف على ضوئها - فرداً كان أو جماعة- في حالتي السلم والحرب..
هل جاءت مواثيق الأمم المتحدة، وشرعة حقوق الإنسان، ومبادئ العلاقات الدولية بأهدى منها؟!ولدينا في تعاليمنا عن حسن العلاقة والجوار والتعايش مزيد..
فعلى الرغم من انتمائنا لحضارة عريقة هي أقدم من حضارتكم، قصرت همتنا عن متابعة مسيرتها، وتراخت أيدينا عن حمل رايتها، فلسنا نرى مانعاً من بزوغ حضارات أخرى تمضي قدماً في الارتقاء بالإنسان، فقد تكفل الله بإبقاء راية الحضارة مرفوعة، { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} بل نرى حتمية وجود هذه الحضارات البديلة المتعاقبة {ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} فلقد {أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} ولا يزال يتطور ويرتقي في معارج الحضارة، ولن يعود إلى وراء..
ولسنا نرى مع هنتنغتون حتمة الصراع بين الحضارات، بل نرى الحوار بين الحضارات هو السبيل الأمثل للتعارف والتفاعل والتعايش والتكامل؛ يثري بعضها بعضاً لتحقيق ما هو أفضل لمصلحة الإنسان ..
وعلى الرغم من رفضنا لأحادية القطب- لتوجسنا مما يكتنفها من مخاطر الغرور والاستعلاء والاستكبار، ولثقتنا بأن مآلها العقم لافتقارها إلى روح التحدي والاختلاف- فإننا لا نرى مانعاً أن يدفع التفوق والنجاح صاحبه إلى مركز القيادة، ومرتبة النموذج، وسنكون معه ونشد من أزره، ما كان واعياً لما يرتبه هذا المركز عليه من واجب ومسؤولية تجعله جديراً به.
هذا عنا، فماذا عنكم؟
لقد ألمنا لما أصابكم يوم الحادي عشر من إيلول سبتمبر، ورأينا فيه عدواناً فادحاً على الإنسانية جمعاء، فهل شعرتم يوماً بآلامنا اليومية المستمرة من عشرات السنين؟!
هل فكرتم أن تبحثوا عن عدوكم الحقيقي بين ظهرانيكم، فلربما كان هو عدوَّنا المشترك الذي لا يرى أحداً غيره جديراً بالحياة؟!
هل فكرتم أن تبحثوا عنه في سياساتكم، فلربما كانت هي صانعة الإرهاب وموقدة ناره في العالم؟!
إن قيمة التاريخ العظمى تكمن في عظاته وعبره وما يمكن للإنسان أن يستنبطه من تجاربه من سنن وقوانين يهتدي بها ..
فهلا استفدتم من دروسه؟ هلا راجعتم أنفسكم وردعتموها عما ترتكبه في العالم من مظالم وآثام؟!
هلا وقفتم لحظة مع العدل والضمير؟!
{لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلِم} ، فلتسمحوا لنا بالجهر أن الكارثة التي حلت بكم على بشاعتها واستنكارنا لها لم تزحزحكم عما ترتكبونه من مظالم قيد أنملة ولم تحرك من ضمائركم ساكناً، ومازلتم ترون في باطل إسرائيل حقاً تدافعون عنه، وفي ظلمها عدلاً تدعمونه، وفي بغيها وعدوانها دفاعاً عن النفس تصفقون له، وفي آلام الفلسطينيين وبؤسهم وشقائهم شأناً عادياً لا يؤبه به، وفي تدمير منازلهم وتشريد أهليهم وقلع أشجارهم واحتلال أراضيهم وقتل أطفالهم واغتيال رجالهم عدالة يستحقونها، وفي عويل نسائهم، وصراخ شيوخهم، وأنين جرحاهم ضجيجاً لا مبرر له، وفي دفاعهم عن أنفسهم عدواناً يجب رده، وفي حجارة أطفالهم إرهاباً تجب مكافحته، وفي إضعاف سلطتهم الفلسطينية وشل حركتها وتقويضها تحقيقاً لأمل الشعب الفلسطيني في إقامة دولته، وفي هدم بيوته تحقيقاً لسيادته على أرضه..
إننا نشك أن تكون الإدارة الأميركية من السذاجة بحيث تجهل أن الشعب الفلسطيني يعيش على أرضه منذ آلاف السنين،
وأن بلفور وعد اليهود بما لا يملك منه شبراً.
وأن الذين نفذوا الوعد اقتلعوا شعباً آمناً من أرضه ليحلوا محله، وأن الذين يحكمون إسرائيل الآن هم قادة العصابات الإرهابية التي ارتكبت مجازر دير ياسين وصبرا وشاتيلا وقانا، وأن الذين شردوا من أرضهم ما زالوا يعيشون في المخيمات لاجئين ونازحين، وأن الذين أحلوا محلهم استقبلوا استقبال الفاتحين وأقطعوا الأراضي المغتصبة مستوطنين آمنين، وأن حجارة الأطفال إنما هي بقايا منازلهم المدمرة، وأن سواعدهم لا تقوى على أن تصل بها إلى مدى أبعد من خوذة الجندي الذي يقابلهم بالرصاص، أو الدبابة التي تدك بيوتهم بالقنابل، وأن الشعب الذي يدافع عن أرضه لا يملك طائرات إف 16 ولا الأباتشي، وأن رجال أمن السلطة الذين تطلب منهم أمريكا حماية أمن إسرائيل، تتصيدهم إسرائيل تباعاً، لأن إسرائيل لا تريد أمناً ولا سلاماً، بل تريد حرباً تتذرع بها لاستكمال مشروعها الاستيطاني.
وأن من مُنح من العرب حق المواطنة في إسرائيل، يعيش المواطنة من الدرجة العاشرة بلا فرص ولا حقوق. وأن انتفاضة الشعب الفلسطيني الأعزل صرخة يُطلقها مدوية عبر مواكب شهدائه المتلاحقة في مواجهة الصمت العالمي المطبق والمتواطئ.
وأن الجسد الغض الذي يضحي به شاب فلسطيني في مقتبل العمر، إنما يجود به تشبثاً بذراع من أرضه يدفن فيه قبل أن يطرده منها الغاصب المحتل.
وأن هذا الجسد هو كل ما يملكه المواطن الفلسطيني المقهور، أفتحرمونه من حقه في تفجير جسده والتضحية بروحه التي هي أعز ما يملك؟ فما الفرق بين صواريخ شارون وقنابله الذكية التي يرميها من طائرات ف 16 ومروحيات الأباتشي والدبابات الأميركية الصنع، فوق رؤوس الفلسطينيين، تحصد شيوخهم وأطفالهم ونساءهم كل يوم، وبين جسدٍ ينفجر بين ظهراني اليهود المعتدين رداً على العدوان ودفاعاً عن النفس وتعبيراً عن الوجود؟! وما حجم هذا الرد على العدوان إزاء العدوان؟! وما عسى أن تفعل الآلة البشرية وأذرعة الأطفال، إزاء الآلة العسكرية العملاقة المدمرة؟ وهل الدم الإسرائيلي المعتدي الذي تتحسرون عليه أزكى من الدم الفلسطيني المراق بسخاء دفاعاً عن الأرض والعرض؟!
إذا كانت الإدارة الأميركية لا تعلم هذه الحقائق فتلك مصيبة، أو كانت تعلمها وتتجاهلها فالمصيبة أعظم.
نكرر قولنا للأميركيين : لسنا أعداءكم.. كلمة حق لو تقولونها ينكشف لكم العدو من الصديق، ويتبين لكم المفسد من المصلح.. تكسبون بها قلوب مليار من المسلمين ، ومن ورائهم عالَم بأسره يشكو ظلم الصهيونيين وغطرستهم، وتستعيدون بها مصداقيتكم أمام عالَم مل من الفساد والإفساد، فتكونون جديرين بقيادته {ولاتحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليومٍ تشخص فيه الأبصار، مهطعين مقنعي رؤوسهم، لا يرتد إليهم طرفهم، وأفئدتهم هواء} .
محب الورد @mhb_alord
عضو مميز
هذا الموضوع مغلق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️