كان الصباح هادئًا، جميلًا، ومنعشًا.
تنساب أشعة الشمس بلطف، تمسح على وجوه الناس وتوقظ فيهم طاقة البدايات، وهم يخطون خطواتهم نحو أرزاقهم.
ضحكات الأطفال تتسلل إلى الأرواح، تدغدغ القلوب وتوقظ ذكرياتٍ عذبة، اصوات لا بد ان تزرع الفرح في قلب كل من يسمعها.
لكن…
ثمة من يعاني من ضجيج داخلي، أفكار متشابكة تنهك عقله، تحيط بأذنيه وعينيه، وتكمم فمه عن البوح.
وراشد كان واحدًا منهم… لم يعد قادرًا على الكتمان.
وقف، أعدّ نفسه، نظر إلى المرآة، ثم مضى بخطوات ثقيلة نحو بيت جدته، التي كانت وستبقى ملاذ أسراره وملجأ همومه.
عند الباب، ألقى نظرة هادئة حوله.
كل نبتة في الحديقة حملت ذكرى...
شجرة الليمون التي كانت تزين شاي جدته،
شجيرة التوت التي كان يسرق منها حبّات في كل زيارة،
ورائحة الميرمية التي كانت تشفيه ايام مرضه.
وقبل أن تنحدر دمعة من عينيه، فُتح الباب بصمت عميق.
ظهرت العجوز التي حنى الزمان ظهرها، وابتسامتها لا تزال تضيء وجهها:
الجدة: مرحبًا يا ولدي… تفضل بالدخول.
لاحظت شرود راشد وتحديقه في البستان، فابتسمت وقالت:
- أتدري؟ لنجلس في الخارج، أظنه المكان الأنسب لك الآن.
جلس راشد وهو ما يزال غارقًا في شروده، ثم نظر إليها وقال:
- صباح الخير يا جدتي… جئت لأن لا أحد سواك قادر على أن يخفف عني ثقل هذه الأيام.
- الله يحميك يا ولدي… ما الذي يشغلك؟
- لا أدري كيف أبدأ... لكن...
- تكلم يا حبيبي، لا تخف.
راشد (بتنهيدة): زوجتي على خلاف معي… لا أصدق أننا اختلفنا ولم يمضِ على زواجنا سوى شهرين!
هي الآن في بيت أهلها، وقالت إنها لن تعود إلا إذا غيّرت طريقتي في معاملتها!
الجدة: وكيف تعاملها؟
راشد (باندفاع): أعاملها باحترام! لم أهنها يومًا، ولا رفعت صوتي عليها! أوفر لها كل ما تحتاجه من أمان ومال… ألا يكفي هذا؟
الجدة: وماذا كانت تطلب ولم تمنحها؟
راشد (بضيق): لا أعلم! لم تقل لي شيئًا واضحًا، رحلت دون تفسير…
تنهّد راشد بحرقة، ثم قال بصوتٍ منخفض:
- هل الخطأ مني أم منها يا جدتي؟
الجدة (بحزم): الخطأ منك، طبعًا.
نظر إليها بدهشة. كان يتوق للدعم لا للوم.
راشد: مني؟! لكنني فعلت كل شيء كما يجب! ألا يمكن أن تشرحي لي ما الخطأ؟
(ابتسمت الجدة ): لا يا ولدي، لن أشرح. لانها زوجتك! لذا عليك انت الاجتهاد … أن تقرأها وتفهمها.
لكل امرأة روح مختلفة، ومطلبها لا يُقال… بل يُحس.
وضع راشد يده على رأسه، حائرًا، عاجزًا عن الفهم، فازدادت حيرته بكلام جدته.
ضحكت الجدة برقة وهي ترى ملامحه المتخبطة، ثم مشت نحو أحد الأصص المعلقة على السور…
الجدة: أظن أن هذه… تشبه زوجتك.
نظر راشد إلى الزهرة باستغراب، ولم يقاطعها.
الجدة: هذه زهرة "الأوركيد".
زهرة جميلة، رقيقة، لا تعيش إلا بالعناية… ولا تليق إلا بمن يفهم حاجاتها ويهتم لأمرها.
مهملة؟ تذبل.
مفهومة؟ تزهر.
اقتربت منه، وقدمت له الزهرة، ووضعتها بجانبه بحنان، ثم قالت:
- خذها معك إلى المنزل… وإن عدت لي ووجدتها قد ذبلت…
(شدّت أذنه ورسمت ملامح جادة ولاول مره )
الجدة: فسيخيب ظن جدتك بك!
التكملة عن قريب 🌻🌱
بقلمي

وليكن قريباً