ذهبت إلى غرفتي و أنا حزينة ...
فوليد لم يتصل
و دانه تسخر مني
و من الطريقة التي تمت خطبتي بها ...
رغم أنها كانت أكثر من أقنعني بأنه لابد لي من الزواج من سامر ...
فهو أقرب الناس إلي ، و هو يحبني كثيرا ، و هو مشوه بشكل يثير نفور
بقية الفتيات ...
و بسببي أنا ...
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
فيما كنت أسخن بعض الفاصوليا على لهيب الموقد في المطبخ ، حضر صديقي سيف .
لم أكن أتوقع زيارته ،كانت الساعة السادسة مساءا ، لكنني سررت بها
" تفضل ! إنني أعد بعض الفاصوليا ... عشاء مبكر ! ستشاركني فيه "
قلت ذلك و أنا أقوده إلى المطبخ ...
حينما وصل و شم رائحة الفاصوليا قال بمرح :
" تبدو شهية ! سأتناول القليل فقط ، فلدي ضيوف على العشاء هذا المساء "
وضعت مقدارين منها في طبقين صغيرين ، مددت بأحدهما نحو صديقي و قلت :
" جرب طهو ـ أو بالأحرى تسخين يدي ! "
تناول سيف بعضها و استساغ الطعم ... ثم قال :
" لكنها لا تقارن بأطباق والدتي ! يجب أن تشاركنا العشاء الليلة يا وليد "
ابتسمت ابتسامة باهتة ، و لم أعلق ...
" هيا يا وليد ! سأعرفك على زملائي و أصدقائي في العمل "
قلت :
" كلا لا يمكنني ، لدي ارتباطات أخرى "
سيف نظر إلي باستنكار ...
" أية ارتباطات ؟؟! "
ابتسمت و قلت :
" سآخذ الأطفال إلى الملاهي ! فقد وعدتهم بذلك "
سيف كان يحرك الملعقة باتجاه فمه ، فتوقف في منتصف الطريق و قال :
" أي أطفال ؟؟ "
قلت بابتسام و أنا أقلب الفاصوليا في الطبق لتبرد قليلا :
" رغد و دانة و سامر ! سأجعلهم يستمتعون بوقتهم ! "
أعاد سيف الملعقة و ما حوت على الطبق ... و ظل صامتا بضع ثوان ...
" ما بك ؟ ألم يعجبك ؟ "
أعني بذلك الفاصوليا
سيف تنهد ثم قال :
" وليد ... ما الذي تهذي به بربك ؟؟ "
تركت الملعقة تنساب من يدي ، و قد ظهرت علامات الجدية على وجهي الكئيب و قلت :
" أتخيل أمورا تسعدني ... و تملأ فراغي ... "
هز سيف رأسه اعتراضا ، و قال :
" ستصاب بالجنون إن بقيت هكذا يا وليد ! بل إنك أصبت به حتما ... ينبغي أن تراجع طبيبا "
دفعت بالكرسي للوراء و أنا انهض فجأة و استدير موليا سيف ظهري ...
سيف وقف بدوره ، و تابع :
" لا تفعل هذا بنفسك ... أتريد أن تجن ؟؟ "
استدرت إلى سيف ، و قلت :
" ما الفرق ؟ لم يعد ذلك مهم "
" كلا يا وليد ... لا تعتقد أن الدنيا قد انتهت عند هذا الحد ... لا يزال أمامك المستقبل و الحياة "
قاطعته بحدّة و زمجرت قائلا :
" المستقبل ؟؟ نعم المستقبل ... لرجل عاطل عن العمل متخرج من السجن لا يحمل سوى شهادة الثانوية المؤرخة قبل ثمان سنين ! و يخبئ بعض النقود التي استعارها من أبيه في جيب بنطاله ليشتري بها الفاصولياء المعلبة فيسد بها جوعه ... نعم إنه المستقبل "
سيف بدأ يتحدّث بانفعال قائلا :
" تعرف أن فرص العمل في البلد ضئيلة بسبب الحرب ، لكنني سأتدبر الأمر بحيث أتيح الفرصة أمامك للعمل معي ... "
قلت بسرعة :
" معك ؟ أم عندك ؟؟ "
استاء سيف من كلمتي هذه و همّ بالانصراف .
استوقفته و قدمت إليه اعتذاري ...
لقد كان اليأس يقتلني ... و لا شيء يثير اهتمامي في هذه الدنيا ...
قال سيف :
" المزيد من الصبر ... و سترى الخير إن شاء الله "
ثم تقدّم نحوي و قال :
" و الآن ... تعال معي ... فالأشخاص الذين سيتناولون العشاء معنا سيهمك التعرف إليهم "
لكنني رفضت ، لم أشأ أن أظهر أمام رجال الأعمال و أحرج صديقي ، لكوني شخص تافه خرج من السجن قبل أسابيع ...
" كما تشاء ... لكنك ستحضر غدا ! عشاء خاص بنا نحن فقط ! "
أومأت إيجابا ، إكراما لهذا الصديق الوفي ...
قال سيف :
" يا لك من رجل ! لقد أنسيتني ما جئت لأجله ! "
" ما هو ؟؟ "
" تلقيت اتصالا من والدك اليوم ، يريد منك أن تهاتفه للضرورة "
شعرت بقلق ، فلأجل ماذا يريدني والدي ؟؟
" أتعرف ما الأمر ؟؟ "
" لا فكرة لدي ، لكن عليك الاتصال بهم فورا "
و أشار إلى الهاتف المعلق على الجدار ...
قلت :
" الخط مقطوع ! "
" حقا ؟؟ "
" كما كانت الكهرباء و المياه أيضا ! تصور أنني عشت الأيام الأولى بلا نور و لا ماء ! "
ضحك سيف ثم قال :
" معك أنت يمكنني تصور كل شيء ! هل تريد هاتفي المحمول ؟ "
" لا لا ، سأتصل بهم من هاتف عام "
سار سيف نحو الباب مغادرا ، التفت قبل الانصراف و قال :
" موعدنا غدا مساءا ! "
" كما تريد "
و عدت إلى طبقي الفاصوليا التي بردت نوعا ما ، و أفرغتهما في معدتي ...
لم يكن في المنزل أي طعام ، و كنت اشتري المعلبات و التهم منها القدر الذي يبقيني حيا ...
ذهبت إلى غرفتي و أنا حزينة ...
فوليد لم يتصل
و دانه تسخر مني
و من الطريقة التي تمت...
لقد بذلت جهودا مضاعفة في تنظيف المنزل بعد مغادرة الضيوف !
أما دانه فكان القلم مرفوعا عنها هذا اليوم !
طلبت من أمي أن تذهب للراحة و توليت أنا ، مع سامر تنظيف الأطباق ...
أما الرجل الناري فلا علم لي بأي أرض يحرق هذه الساعة !
كنت واقفة أمام صنبور الماء البارد أغسل الأطباق ، و سامر إلى جانبي ...
سألته :
" كيف بدا العريس ؟؟ "
أجاب :
" مهذبا و خلوقا و بشوشا ! "
قلت :
" لا يعجبني ! "
ابتسم سامر و قال :
" و لكن لم ؟؟ "
أجبت :
" لا أعرف ! لكنني أجده ثقيل الظل ! إنه مغرور و يتحدث عن نفسه بزهو و خيلاء أمام الكاميرات ! كيف تتحمل دانه زوجا كهذا ؟؟ "
سامر ضحك ، فضحكت معه ...
قال :
" ليس المهم رأيك أنت به ! المهم رأي العروس به ! "
ثم غير نبرة صوته حتى غدت أكثر لطفا و رقة ، و قال :
" و رأيك بي أنا ... "
ارتبكت .. و اضطربت تعبيرات وجهي ، و أخفيت نظراتي في حوض الغسيل !
وصلنا هذه اللحظة صوت حركة عند الباب ، فالتفتنا للخلف فإذا به وليد ...
و صدقوني ، شعرت بماء الصنبور يحرقني !
تبادلنا النظرات ...
قال وليد :
" هل لي بلحاف ؟ سأنام في غرفة الضيوف "
نظف سامر يده و استدار نحو وليد قائلا :
" أوه كلا يا أخي ، بل ستنام في غرفتي و على سريري ، سأنام أنا على الأرض أو في غرفة الضيوف أو أي مكان ! "
لم يظهر على وليد أنه يرحب بالفكرة أو حتى سمعها !
قال :
" أريد لحافا لو سمحت "
كان وجهه جامدا صارما ، و رغم أن سامر كان يبتسم ، ألا أن وليد كان عابسا ...
قال سامر :
" أرجوك استخدم غرفتي ! أنا سأسافر بعد الغد على أية حال "
قال وليد :
" و أنا كذلك . هل لا أحضرت لحافا الآن ؟؟ "
وليد شخص غريب ... نعم غريب !
نحن لا نعرفه ! و لا نعرف كيف هي طباعه و لا كيف كانت حياته في الخارج ... ربما كان صارما جدا ... قلما رأيته يبتسم مذ عودته !
انتهى الأمر بأن نام وليد في غرفة الضيوف ، على المقعد الكبير ، الذي نمت عليه ذلك اليوم ! أتذكرون ؟؟
توقعت أن أجد صعوبة في النوم ... طالما تفكيري مستعمر من قبل وليد ... ألا أنني نمت بسرعة مدهشة !
في اليوم التالي ، اجتمعت العائلة في غرفة الطعام لتناول الفطور الصباحي ، في ساعة متأخرة من الصباح !
أعددنا الأطباق في غرفة المائدة ، و جاء الجميع ليتخذوا مقاعدهم ...
كالعادة جلس والداي على طرفي المائدة ، و دانة إلى يمين أبي ، و سامر إلى يساره ، و هممت بالجلوس على مقعدي المعتاد يمين أمي ، لكنني انتظرت وليد ...
وليد حرك ذات المقعد و قال :
" مقعدك ... "
و تركه و ذهب للجهة المقابلة و جلس إلى يسار أمي ...
جلست أنا على مقعدي المعتاد ، و صار وليد مواجها لي ... وضع يسمح للأشعة المنبعثة من ناحيتة لاختراقي مباشرة !
فجأة ، وقف وليد ... و خاطب دانة قائلا :
" هل لا تبادلنا ؟؟ "
و تبادلا المعقدين ...
ربما رأى الجميع هذا التصرف عاديا ... و فسروه بأن وليد يرغب بالجلوس قرب والده .... أو أي تفسير آخر ... ألا أنني فسرته بأن وليد لا يرغب في الجلوس مقابلا لي ...
صار هذا الوضع هو الوضع الذي نجلس عليه خلال الأيام التي قضاها وليد معنا ...
وليد كان يلتزم الصمت ، و أنا أريد أن أسمع منه أخباره ، و لا أجرؤ على طرح الأسئلة عليه ...
بين لحظة و أخرى ، ألقي نظره باتجاهه ، لكن أعيننا لم تلتق مطلقا ...
بعد الفطور ، ذهب الجميع إلى غرفة المعيشة ، والدي يطالع الصحف و سامر يقلب قنوات التلفاز ، و دانه شاردة الذهن ... فيما وليد و أمي يتبادلان الحديث ، يشاركهما البقية بتعليق أو آخر من حين لآخر
تركت الجميع كما هم ، و ذهبت إلى غرفة الضيوف لرفع اللحاف و ترتيب ما قد يكون مضطربا ...
دخلت الغرفة ، فوجدت اللحاف مطويا و موضوعا على المقعد الكبير ، و على المنضدة المجاورة وجدت سلسة مفاتيح وليد ، و محفظته ...
مشيت بخفة حتى صرت أمام المنضدة و جعلت أحدق في المحفظة بفضول !
و انتقل فضولي من عيني إلى يدي ، فمددتها و نظرت من حولي لأتأكد من أن أحدا لا يراقبني !
انفتحت المحفظة المثنية ، فظهرت بطاقة وليد الشخصية و فيها صورة حديثة له !
بأنفه المعقوف !
و الآن ... ما هي الفكرة المجنونة التي قفزت إلى رأسي ؟
سأرسمه !
لم أدع أي فرصة لعقلي ليفكر ، و أخذت المحفظة و طرت مسرعة إلى غرفتي
و بدأت أرسم رسمة سريعة خفيفة لمعالم وجهه و أنظر للساعة في وجس و خوف ...
ما أن انتهيت ، حتى أسرعت الخطى عائدة بالمحفظة إلى غرفة الضيوف ... و توقفت فجأة و اصفر وجهي و ارتجفت أطرافي ... حين رأيت وليد في الغرفة مقبلا نحو الباب ، يحمل في يده سلسلة المفاتيح ...
أول شيء وقعت عينا وليد عليه هو محفظته التي تتربع بين أصابع يدي !
رفع وليد بصره عن المحفظة و نظر إلي ، فأسرعت بدفن أنظاري تحت قدمي قال باستنكار :
" أظن أنها ... تشبه محفظتي المفقودة تماما ! "
ازدردت ريقي و تلعثمت الكلمات على لساني من شدة الحرج و الخجل ...
قال وليد :
" خائنة ... مبذرة ... و ماذا بعد ؟ هل تسرقين أيضا ؟؟ "
رفعت نظري إليه و فغرت فاهي بذهول ... من هول ما سمعت !
===================================