قصة دمعة

الأدب النبطي والفصيح

قصة :
دمعــــــة
بقلم :محمود البدوى

استيقظ بعد أن أفجر النهار ، تعس النفس ضيق الصدر موزع الخاطر مشتت الذهن ، والواقع أنه شعر فى ليلته الماضية بغير ما كان يتوقع ويقدر ، فما احتواه البحر حتى اكتنفته الوحشة واعتراه الملل ، وراح يرزخ تحت أعباء هذا وينوء بحمله الثقيل عليه ، حتى كانت ليلته ليلاء ، فما غمض له جفن ولااستقر به مضجع ، وطردت الوساوس عن ذهنه كل الصور الجميلة والأمانى العذبة التى طافت بمخيلته قبل أن يعد العدة للسفر ويأخذ أهبته للرحيل وحلت محلها أوهام جسمها له نوع من " الهستيريا " استقر فى رأسه الشهرين الأخيرين واستحوذ عليه بشكل عجيب ! . حتى خشى مغبة هذا على نفسه فاستشار طبيبا يثق فيه ، فحبب له هذا السفر ، فنـزل عند رغبته وسافر ! فلما أحس بما أحس به فى الليلة التى انقضت ، ورأى أن السفر انقلب نقمة لانعمة ، لعن هذا الطبيب فى سره الف مرة !! على أنه عزم على جلب السرور لنفسه بكل ما يملك من حول .
فمشى وئيد الخطى إلى مقدم السفينة يستقبل شروق الشمس ، ويفتح صدره لهواء الصبح العليل ، وكانت الطبيعة مازالت راقدة فى حضن الكرى ، وخيم سكون رهيب تجلت معه أروع المناظر وأبدع الرؤى .
وما عتم بعد ساعات من هذا ، أن حن للطبيعة وجنح إلى العزلة بحكم ميوله ورغباته والتذ لهذا ووجد أن الهم أخذ ينـزاح عن قلبه ، وأن العافية بدت تسرى إلى جسمه وتدب فى عظامه . وكان إذا صفت نفسه وطابت يجلس على مقعد خشبى يقع فى ركن منعزل فى الجزء الأمامى من السفينة ، ويأخذ فى ترتيل القرآن بصوت شجى مؤثر وهو خاشع سادر ، وهنا يشعر باحساس روحى جارف يغمر قلبه ويفيض على نفسه فيمعن فى القراءة حتى يغيب بكليته عن الوجود .
***
كانت " مارلين " تستشعر فى كل آونة تسمع فيها هذا الصوت الشجى الساحر الهافى اليها من نافذة غرفتها ـ وكانت أول غرفة فى الجناح الأيمن ـ بإحساس لذيذ يتملك فؤادها ويستحوز على كيانها حتى كانت من فرط السرور ، تضع أذنها ملاصقة للنافذة علها تزداد من الصوت قربا ، واستمرت تسمع هذا الصوت ثلاثة أيام متتالية فى وقت معين حتى كان صباح أحست فيه أن الصوت بلغ من الرقة والعذوبة مبلغا لامزيد بعده ، فتسمعت وقد اضطرب جسمها واهتز واشتدت ضربات قلبها وتدافعت وتملكها احساس غامض وشعرت نحو الصوت بحنين بالغ لم تقو معه على البقاء فى غرفتها ، فمشت إلى الباب وجذبت مصراعه بيد راعشة ، واجتازت الممر الضيق إلى ممشى السفينة الجانبى ، وهناك أرهفت سمعها بعد أن حبست أنفاسها ، فألفت الصوت آتيا من الأمام فتقدمت قليلا ثم جفلت وتراجعت . وهنا ارتفع الصوت وازداد حلاوة ، فجمدت فى مكانها . ما هذا ؟ هذا الصوت الساحر يناديها ! أجل هذا الذى نفذ إلى شغاف قلبها وحرك كل جارحة فى جسمها وأرسل الدمع من عينيها ، لابد أنه يناديها ! ومشت مسلوبة الإرادة سادرة البصر إلى الأمام ، وكان الصوت قد خفت ولكنه تنغم وازداد سحرا ، ورمت بصرها ، فألفت انسانا يجلس فى ركن منعزل على مقعد طويل ، فوقفت دقيقة تحرن ثم مالت على مقعد آخر وجلست بالقرب منه ، وكان وجهه إلى البحر فلم يحس بها .
وانطلق هو يرتل فى صوت خافت "ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لانسقى حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير . فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إنى لما أنزلت إلىّ من خير فقير . فجاءته إحداهما تمشى على استحياء وقالت ..... "
وجلست تسائل نفسها :
ـ ما الذى يتغنى به ؟ وما الذى يقوله ؟ بأى لغة يتكلم ؟
وقامت وتقدمت نحوه إلى أن وقفت أمامه ، فألفته شابا فى مقتبل العمر يضرب لونه إلى السمرة ويميل جسمه إلى النحافة ، وملامحه بعد ذلك عادية وليس فيه ما يبعث على استلفات النظر ، غير شعره الجثل الطويل الذى أرسل على غير نظام .
وحاولت الكلام فجف ريقها ووقفت الكلمات فى حلقها . وكان هو قد أخذها بنظرة ثم غضه وأطرق ، وتابع قراءته حتى فرغ من الآية .
وتشجعت قليلا بعد أن صمت وقالت بالإنجليزية فى صوت خافت مرتعش :
ـ ما الذى تغنيه ؟
فرمقها بعينه وقد أربد وجهه واضطرم وقالت لها عيناه :
ـ دعينى وحيدا
فلم يخذلها هذا وكررت :
ـ ما الذى تغنيه ؟
وظهر على وجهه عند هذا الاستياء والضجر ، فقد كان شديد المقت للمرأة وقال فى نفسه :
ـ أى شيطان رماك ؟ اليك عنى
ورفع وجهه إليها ثانية وتفرس فيها فرأى الطهر يطل من عينيها ويطفح بلون الأرجوان على خديها . فأجاب بصوت خافت :
ـ ما كنت أغنى وانما أرتل القرآن
ـ القرآن
ومدت الألف ونغمت النون
ـ أجل
ـ أعربى أنت
ـ أجل
ـ ولكن صوتك جميل للغاية
ـ ذلك لأنى أتلو كلام الله
ـ كلام الله !
ـ أى نعم
ـ اممتع هو جدا
ـ إلى الحد الذى لايدركه العقل البشرى
ـ أيمكنك أن تترجم لى شيئا
ـ قليلا من المعنى
وانطلق يقص عليها جزءا كبيرا من صورة القصص وهى مأخوذة بحلاوة الحديث فائضة البشر طلقة المحيا ، ثم قالت فى صوت عذب :
ـ أصعب تعلم العربية ؟
ـ أبدا . سهل جدا
ـ أيمكنك أن تعلمنى شيئا منها ؟
ـ أقبل هذا عن طيب خاطر ، ولكنا سنفترق بعد يومين ..!
ـ لنبدأ فيهما وسأستكمل الباقى بنفسى
ومضى يوم كامل وهما أحسن أصدقاء ، ثم أطل عليهما الدردنيل بشامخاته .
***
ولاحت الآستانة فى الأصيل بمآذنها وقبابها ومساجدها وقصورها وهى قائمة على شط الماء كعرائسه ، ضاحكة مستبشرة وقد تغشى الأفق سحاب خفيف تلتقى به الشمس أو تهوى به الريح . وحلقت عصائب الطير تحيى الركب فى ايناس ! وخفت سرعة الباخرة لما خرجت من الميناء ثم القت مرساها حتى يجىء الربان التركى . وأفلت الشمس وخيم على الوجود صمت عميق .
وصعد وهى تتبعه درج السفينة الخشبى حتى وصلا الظهر فوقفا فى الممشى الأمامى وكان خاليا ، وارتفقا على الحاجز وصوبا عينيهما إلى البوسفور ، وكان قد أشرف برياضه وقصوره ووقفا سادرين مشدوهين من فرط الروعة المحيطة والجمال الشامل .
ودوى صوت قوى قطع هذا الصمت العميق
الله اكبر الله اكبر
فحملقت فيه وكان غارقا عنها ذاهلا عن وجودها وحاولت أن تجره إلى الكلام بيد أنها رأت أن ما غشيه كان أعمق وأبلغ فصمتت . وكانت يدها على مدى ذراع منه فحركتها وهى ترجف حتى قربت من يده قليلا ، ووجف قلبها فارتعدت مفاصلها من فرط الرهبة الشاملة .
ووصل المؤذن عند :
أشهد أن محمدا
رسول الله
فجال فى عينيها الدمع وتحدر وقربت يدها من يده حتى لامستها ، وظلت على هذا دقيقة كاملة نسيت فيها الوجود كله ، وانتفض هو من حركة يدها وأبعدها عنه برفق .
ولما فرغ المؤذن من آذان المغرب نظرت اليه بعين دامعة وقالت :
ـ ما الذى قاله ؟
ـ يؤذن للصلاة ..
وسأل وقد حول وجهه اليها
ـ ألا تعرفين شيئا عن الإسلام ؟
ـ طبعا لا .. ولكنى بدأت أعلم القليل .. وبدأت أحب الإسلام ..
وكانت تود أن تضيف " وأحبك أنت أيضا على أنها لم تجسر على هذا "
وقالت بعد فترة انقضت:
ـ سأستأذن من أمى وأخى وأهبط معك إلى أجمل المدائن فى الشرق
فأجابها باسما :
ـ أقبل هذا بصدر رحب
وعادت بعد مدة لابسة ثوبا داكنا تبدو عليه الحشمة والبساطة معا ، وابتدرته قائلة :
ـ ألا تود أن تغير حلتك ؟ ألا تنوى النـزول إلى المدينة الآن ؟
ـ لاأود النـزول الآن ، وانما بعد أن يهبط الناس وتفرغ السفينة
ـ ألا تحب الناس ؟ أتتضايق منهم ؟
ـ أجل
ـ وربما ستتضايق منى أيضا !
وأمعنت البصر فيه مستفسرة ، بيد أنه صمت ولم يقل شيئا ، وآلمها هذا كثيرا
***
وقامت من فراشها مبكرة جدا ومشت مرحة نشطة إلى غرفته وقرعتها قرعا خفيفا فلم يجاوبها أحد ، فانقلبت تدق الباب بشدة وقد تمشى فى مفاصلها الخوف واستولى عليها القلق ، وسمعتها الوصيف فسعت إليها وقالت بلطف :
ـ السيد خرج
ـ إلى أين ..؟ إلى البهو الكبير ؟
ـ لاأدرى
فجرت وهى تلهث إلى المكان الذى اعتاد الجلوس فيه فلم تجده ، وكرت راجعة تهرول كالمخبولة وجازت البهو بسرعة ثم صعدت إلى السطح ، فألفته يجلس فى ركن منـزو ويرتل فى صوت خافت
ولما فرغ من القراءة استقبلها بوجهه وأشار إليها بأن تجلس ففعلت
وقالت :
ـ لماذا غيرت مكان قراءتك ؟ .. ألا تود أن أسمع صوتك ؟
فصمت ثم نظر إليها فى عطف وقال :
ـ ألا ترغبين فى درس الآن قبل أن نزور أيا صوفيا
فأجابت وقد لمعت عيناها
ـ ما أحلى هذا عندى
***
وركبا الترام إلى أيا صوفيا ، وكانت الشمس قد ارتفعت وغمر نورها البسيطة ، واجتاز الترام كوبرى " غلطة " ثم دار فى عرجات وممرات ملتوية حتى استوى عند سور عال ، وهنا صعد طريقا منحدرا حتى وقف عند ميدان فسيح فنـزلا وجازاه إلى المسجد .
ودخلا المسجد خاشعين ضارعين ، ولما توسطاه اتجه إلى القبلة وصلى ركعتين .
ووقفت هى ترقبه فى اكبار واعظام .
وبصرت عند القبلة باسم الله ورسوله
الله محمد‍
وسجد فسجدت
ولما فرغ من السجود فرغت ومدت يدها إليه وعينها مخضلة بالدمع فشد عليها فى عنف .
***
وبعد شهر من هذا كان شاب وفتاة يدلفان إلى محطة بودابست ، وقد احتقب الشاب حقيبة صغيرة ووضع على ذراعه معطفا للسفر ! ومشى إلى لوحة مواعيد سفر القطر الحديدية ووقف عندها يتأمل :
وقالت الفتاة :
ـ أود لو تسافر فى آخر قطار يقوم الليلة إلى بوخارست
ـ سأفعل هذا
ـ لدينا إذا أكثر من ثلاث ساعات نقضيها معا
وصمتت لحظة ثم أردفت :
ـ هيا إلى الدانوب
ـ الآن
ـ أجل
ووقفا على الكوبرى صامتين وعيناهما إلى ماء الدانوب الأزرق الجميل ، ثم حولت وجهها إليه وقالت بصوت موسيقى فاتن :
ـ رتل بعض آيات من القرآن
ـ هنا
ـ أجل أرجوك !
فصمت برهة ثم قرأ
" ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا
إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون "
وسألت :
ـ متى أفهم معنى هذا الكلام
ـ بعد عام
ـ إذن فسأصبر عاما ؟
ـ أجل
ـ ستذكرنى ؟
ـ دائما
ـ وستكتب إلىّ
ـ كل يوم رسالة
فاستضحكت
ـ كل يوم إذا فلتكن بلغة القرآن
ـ أتحبينه ؟
ـ أكثر من كل شىء
فأخرج من جيبه مصحفا مذهبا صغيرا وقدمه إليها
ـ ليكن هذا كتذكار خالد
ـ سأضعه دائما عند قلبى
فأطرق يغالب انفعالا شديدا ..
***
ولما قربا من المحطة تخاذلت واشتدت ضربات قلبها وغشى عينيها مثل الضباب وبدا لها أن تتحامل على كتفه أو تستعين بساعده ، بيد أن إرادة قوية صرفتها عن هذا ، ووضعت يدها على المصحف فشعرت بقوة غريبة فتماسكت واشتدت .
ولما تحرك القطار مد يده إليها وقال :
لا اله الا الله
محمد رسول الله
وشيعت القطار بعينيها حتى طواه الليل فى جوفه ثم مشت متثاقلة تهيم على وجهها فى الطرقات وهى شاردة ساهمة حتى الفت نفسها فى المكان الذى كانت فيه منذ ساعة .
ووقفت حيث وقف ووضعت يدها حيث وضع يده ثم أخرجت المصحف وقبلته واهتز جسمها عند هذا وأرجف ، وندت عن عينها دمعة صافية امتـزجت بماء الدانوب الأزرق الجميل .
======================================
نشرت فى مجلة صوت الإسلام ـ العدد السابع 11 أغسطس 1935
====================================
10
1K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

سنابل العطاء
سنابل العطاء
جزاك الله خيراً أختي.

وأحسن الله إليك وأثابك.

تم نقل الموضوع من التوعية.

فالموضوع في التوعية لا يشاهده أحداً من الأعضاء والزوار،
بل هو مقصور على المشرفات وعضوات التوعية.

وفقك الله ورعاك.
wahm
wahm
بارك الله فيك غاليتي ... قصصك رائعة وأسلوب والدك سلس جميل ... أتحفينا بالمزيد ، وسأتتبع كتاباتك دائما
لغة الغروب
لغة الغروب
جميلة جدا

بورك في المداد
ليلى محمود البدوى
جميلة جدا بورك في المداد
جميلة جدا بورك في المداد
بارك الله فيكم
pearly moment
pearly moment
رائع ما خطته يداك