قصتي .. ( أنا واليتيم ) إبحار في جوف "أترجة" (القصة كاملة - جميع الحلقات)

الملتقى العام

المعرف .. تديره أنامل غسان مؤقتا

شكرا لصاحبة المعرف
-----

جميع ما في القصة من الوقائع حقيقة إلا الأسماء




قصتي .. (أنا واليتيم) .. إبحار في جوف "أترجة"

( الحلقة الأولى )


لا أدري مالذي يجعلني أشعر أن دقات قلوبنا، هي "عقارب ساعة العمر" ولا أدري لماذا نسمي عقارب الساعة "عقاربا" هل هذا إذعان وتسليم أن الحياة شقاء وبؤس، وإقرار أولي أنها لدغات تلو لدغات ..
واللدغة الأخيرة قاتلة .. التي هي ثانية الموت المؤذنة بتوقف الساعة إلى الأبد ..
رحمك الله يا أحمد شوقي حينما قلت:
"دقات قلب المرء قائلة له ... إن الحياة دقائق وثواني"
أواه .. لو نعلم كم في رصيدنا من دقات وثواني .. حتى نستدرك ما ضاع من أيامنا الخوالي فيما لا ينفع .. لكن "ساعتنا العمرية" مخفية في جوفنا، لا نرى أين وصلت .. ربما لأنها ثمينة أخفيت في مكان لا يطلع عليه أحد، سوى إشعارات خاصة وخاصة جدا لصاحبها فقط .. تنبهه أنه ما زال في العمر بقية ..
سحر يوم الأحد من غرة شهر صفر، بدأت عقارب ساعة العمر لـ "رياض" بالعمل ..
ميلاد جديد إلى حياة فسيحة وعالم متسع .. مجهول من أوله إلى آخره "ما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت " ..
لم يعلم رياض بالطبع حقيقة جميع صيغ الاستفهام في مسرح الحياة " أين .. متى .. كيف .. من .. لمن .. "
نشترك جميعا مع رياض في جهل هذه الصيغ، لكن نحن إلى حد معين نجهلها ثم ندرك .. لكن رياض إلى الأبد !
صراخ .. وبكاء طفل صغير من شرفة منزل سيدة .. ساقها القدر لأن تفتح تلك الشرفة لتستنشق نسيم السحر، فجاء نسيم رياض من أرض مجاورة عوضا عنه ... صراخ وبكاء الحياة !
نسمع أن البكاء عذاب وبؤس، وجزء منه تنفيس، لكن يبقى أصله كدر وبداياته أشياء مؤلمة ..
لكن ..
لم أسمع يوما ما أن البكاء حياة ونجاة لأحد إلا رياض .. بل منقذ من هلاك ..
كبر رياض وكان يقول لي : "هكذا كانت بدايتي .. فكيف تكون النهاية"
تحرك قلب السيدة من تلك الشرفة لهذا لبكاء غير المعهود .. كأنه مناجاة وشكوى .. "أدركوني .. أدركوني" بالطبع لم يقل ذلك لكن هذه لغته حينئذ .. لها نغمة في أذن السيدة الأم لا يستطيع أحد تمييزه عن غيره من الصراخ والبكاء .. هكذا تقول تلك السيدة حينها ..
شعرت بتوتر عجيب وكأنها الأم الحقيقية ..
خرجت بنفسها على غير العادة في ظلام الليل الدامس، لم يكن لديها وقت لأن تمسك لثوان بزمام عقلها وتفكر "كيف أخرج وحدي في هذا الظلام"
الوقت لا يتسع لذلك ..
تمشي بخطى مسرعه وكأنها تعرف مكان الصوت بدقة ..
بالطبع وصلت ..
طفل ملتحف بلحاف ناعم كالحرير، .. لحاف كالحرير .. أرانيه رياض بعدما كبر .. هو الشيء الوحيد الذي يحتفظ به رياض من ذكرى أمه بعدما كبر ..
يضعه على أنفه كل يوم ويبكي ..
أين أنت أمي ؟
لماذا أمي تركتيني ؟
يناديه ويحاكيه .. كان يتحدث معه امامي كأنه يتحدث إلى كائن حي ..
كنت دائما أتذكر موقفه هذا .. وأتسلل إلى أمي واقبلها وأشم جسدها وأبكي "أمي لم أعرف قدرك" ..




--



لحظة صمت وذهول أخذت السيدة وهي واقفة تتأمل في الموقف الرهيب .. وجه كقطعة القمر .. براءة وطهر .. من وضعه؟ ومن زهد فيه ؟ كيف ؟ ومتى ؟
أسأله سريعة كالبرق لاحت في أذن السيدة ..



لكن ..


ستبقى صيغ استفهامات مجهولة إلى الأبد .. !




برد شاتي لا يحتمل البقاء لإيراد هذه الأسئلة .. فضلا عن محاولة إيجاد جواب ..
نزلت بيديها واعتنقته وقبلته مع قطرات سريعة من الدموع .. يحتملها المقام ..
أول صدر حاني لرياض ..
ربما تأخر مدة طويلة طويلة جدا عن هذا العناق .. لأن الثواني بطول السنين لمن فتح عينيه لهذه الحياة لأول وهله ..
حركات عجلى من السيدة إلى المنزل ..
حيث الدفء والهدوء ..
رحم الأم الدافيء .. ورحم الدار الدافئة ..
يا ترى كم بين الموضعين والدفئين من بون شاسع ..
وكم بينهما من وقت ..
لا أدري ..
-----
يتبع بإذن الله الحلقة الثانية



الحلقة الثانية


---------

بدأت الأحضان الجديدة لرياض .. بمهمتها التي يمليها عليها الواجب الفطري

أيدي جديدة وأرواح وأنفس جديدة .. لذلك الطفل المغيب ..

ما أجمل فقد الإحساس والتغييب العقلي في لحظات كهذه ..

رياض .. في محطة جديدة من حياته ..

السيدة لا تملك حليبا .. وليس لديها أطفال في سن الرضاع .. الوقت متأخر ورياض يصرخ من الجوع والآلام ..

لابد أن تقوم أم بالواجب عليها في مثل هذه الظروف .. تهدئة بسيطة تصل لجوف رياض .. حتى ينشق الصباح المؤذن بكثرة الخيارات لإطعام رياض ..


رياض في صحة عالية .. مستغرق في النوم ..

السيدة تنظر له في حيرة وانبهار ..


جمال يفوق الوصف .. طفولة مليئة بالبراءة

من يزهد فيه من ؟!

الخوف ينتاب السيدة من مصير رياض وسبب وجوده في هذا المكان ..

أبلغت السيدة زوجها الذي كان حينها خارج المنزل لسفره، قال انتظري حتى قدومي ليومين سننظر في الأمر ..

الأب الشهم لم يغلق الخط حتى قال لزوجته : اهتمي به غاية الاهتمام واطعمية ودثريه ودفئيه حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا ..

يومان بقي رياض في أحضان هذه السيدة تطعمه وتلاعبه .. تقول : أنظر إليه وأبكي .. هل تم سرقته من أمه أم لا .. ما حال أمه !

ماذا أفعل .. تعتنقه وتبكي ..

شعر رياض بحنان الأمومة وشعرت الأم بحنان الطفولة ..

جاء الزوج من سفره .. رأى الطفل .. طالعه وأبهره حسن خلقته وبرائته غير الطبيعية، وقال لزوجته: شيء محزن أن يتخلى عن هذا ..

دخل رياض شغاف قلب السيدة وزوجها ..

ليس هما فقط ..

ابناءهما الاثنين الذكر والأنثى ..



الزوج والزوجه كانا خائفين من أن يكون لهذا الطفل قصة فأرادا أن يفعلا معروفا فجاءت العاقبة بخلاف ذلك ..

كان لهما جارة من جنسية شامية تربطهما بها علاقة حميمة، حدثاها بالقصة، وعن قلقهما من العاقبة .. كانت السيدة الشامية أربط جأشا منهما، وقالت الأمر أسهل من ذلك ..

عليكما ابلاغ الشرطة فقط بالواقعة وابقاءه احتسابا عندكما، كانت مشورة صائبه ..

بادر الزوج بابلاغ الشرطة بالواقعة ..

وتدوين الواقعة ..

وفي النهاية طلبوا منه تسليمه "دار رعاية الايتام" إلزاما .. واحضار ما يفيد ذلك ..

رجع الزوج لبيته أبلغ زوجته ..

كان الطلب ثقيلا عليها لتعلقها بهذا الطفل وتعلق ابناءها به كذلك .. دمعت عيناها ولفته بلحاف جديد عندها عطرته وطيبته .. وقبلته بدموعها الحارة ..

وأخذت اللحاف لتحتفظ به مع ملابس أطفالها .. هكذا فعلت ربما بلا ترتيب ودوافع محددة ..



قام ابناءها بنفس الدور بتقبيل رياض قبلات الوداع الحارة ..

نزلت دمعة من الطفلين .. وهما يقولان: ماما نريد رياض عندنا ارجوك

قالت الام : ليس بيدي ..

سندعوا له فقط .. ان يحفظه الله من كل مكروه

انتقل رياض لداره الجديده التي لا ارادة له فيها .. ولا خيار

نحن الكبار حينما ننتقل من دار الى دار ألفناها ينتابنا شعور بالالم والحزن ..

لكن ما أجمل أن نفقد هذه الشعور وتغيب عقولنا كحال رياض حينما انتقل من يد امه الى يد غيرها وهو لا يشعر ..

--




الحلقة الثالثة



رياض .. رياض

ذلك الاسم الذي سمته به تلك السيدة التي سمعت صوته من شرفة المنزل، ودونته في سجلات "دار الايتام" ..

رياض تحت سقف آخر .. وارتمى في أحضان سرير خشبي .. والأم خادمة .. خادمة .. هكذا سيبقى المفترض حتى يشتد عودة كالرجال ..

ليتني أستطيع كشف الحجب وأرى أمه ما حالها، وأكشف بينها وبينه لتراه للحظة واحدة فقط ..

لباس واحد ومكان واحد .. الكل على نسق واحد تحت هذا السقف .. لا يختلفون الا في الأسماء ..

تطلع الشمس وتغرب ورياض على حال واحدة لا تستطيع تمييزها عن سابقتها

أدرك أن رياضاً لا يهمه ذلك .. فهو الآن يهمه أن يرضع فقط

أتسائل لماذا أمهاتنا تجملنا باللباس والحذاء و ... و .. ونحن لا ندرك .. بل ربما لا يرانا أحد ..

تقوم الأم بتزيين مولودها بأجمل حله ثم تقوم بالنظر إليه فقط كأبهج وأجمل تحفة في الوجود .. ربما رقصت به في باحة المنزل .. وهو لا يشعر !

مشاعر الأمومة .. لا بد أن تخرج ..

رياض وغسان لا يذكرون شيئا من ذلك الآن .. إذن هم سواء ..

المسئولة المشرفة على رياض لا يعنيها شيء من ذلك اطلاقا .. لأنه لديها عشرات أمثال رياض للأسف !

لم تتغير صورة الأيام على رياض .. لكن

رياض بدأ يحبوا .. ويتمتم بكلمات الطفولة .. "ماما" .. "بابا"

كان كفيلا مع جماله المبهر أن يأسر من حوله من العاملات .. فيرتمي بين أيديهن واحدة تلو الأخرى .. أشربن حبه والاعجاب به ..

أخذن يخصنه باللباس المميز يشترينه من حسابهن الخاص .. شعرن بأنه كالمولود لواحدة منهن ..

لكن ..

الأمومة لا يمكن أن تتصنع ..

كما كنا نقول "ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة" كذلك ليست الأم الحقيقية كالأم المستأجرة ..

صبيحة يوم الثلاثاء من اول اسبوع من الشهر العاشر من عمر رياض .. بدا




تحول جديد

---
جاءت سيدة وسيد يطرقان باب الدار ليدخلان على المسؤل الأول فيها ..

تم الإذن لهما بالدخول ..

تبادلوا التحايا ..

السيدة كانت كبيرة في السن .. كانت حيية فلزمت طرف المكتب .. وتركت المجال لزوجها المسن بالحديث ..

مالأمر ؟

سعادة المدير : نحن زوجان قد بلغنا من الكبر عتيا .. ولم يوفقنا الله لذرية، بحثنا وعالجنا، ولكن قضى الله أن نبلغ هذا السن ولا مولود ..

(للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُالذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًاوَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)

ما أجمل حكم الله التي نجهلها .. ونتضجر أحيانا من بعض الأقدار، ولكن لا ندري أنها ربما تكون سعادة لنا أو سعادة لغيرنا ..

قال المسؤول : تفضلا .. والمطلوب ..

االمطلوب: أننا نحتاج من نربيه ونكفله من أبناء هذه الدار كابننا .. نحن على أعتاب الآخرة، ونحتاج أن نعانق ابنا في هذه الدنيا نراه بيننا صباحا ومساء ..

لقد مللنا من وحدتنا.. وسئمنا منها .. حتى أثرت على صحتنا ..

السيدة كانت تسمع ما يدور بوجل وترقب أن يرد طلبهما وتبوء محاولتهما الأخيرة بالحصول على "ابن" بالفشل ..كان قلبها يترقب بخوف .. ولسانها يلهج بالدعاء .. يارب يارب كما حرمتني الذرية فلا تحرمني "التبني" .. يارب .. يارب .. يارب ..

صمت مسؤل الدار وأطرق .. ثم رفع رأسه ليتأمل في السيد والسيدة هل هما أهلاً للأمانة أم لا ؟!

تأمل في وجنة الشيخ المنهكة من هم الدنيا وعينية الصادقتين وهو مطرق ..

لا مانع .. لا مانع ..

هكذا قال المسؤل للسيد ..

السيدة سقطت دمعتها بسرعة البرق فرحاً ونشوة .. بدأت تفرك بيديها كأنها تريد الدعاء وترفعهما شكرا لله ,,, ولكن منعها الحياء ..

قال المسؤل : هذه قائمة فيها معلومات الأيتام شاملة لاسمائهم وصورهم وأعمارهم بإمكانكم تختاروا المناسب لكم .. ثم نحضره لتروه .. ثم توقعوا على استلامه ..

أخذ السيد والسيدة القائمة وأخذا يقلبان فيها .. يمنة ويسره ..

توقفت السيدة عند صورة رياض ..

أخذت تتأمل فيه .. وعيناها تغرورقان بالدمع شوقا لهذا القادم ..

قالت : أريد هذا ؟!


اتفقنا .. ولكني أريد أن أصلي صلاة الاستخارة ..قام السيد -بعد ان استأذن من المسؤل- بالصلاة في مكتبه ..



أبلغا المسؤل بالخيار المدروس ..

تم طلبه من الداخل ..

احضروا .. رياض

رياض .. رياض .. رياض

تمسكت المشرفة المباشرة برياض وأخذت تتوسل للمسؤلة الأولى أن تبقيه، - فهي قد علقت به- ، وتبعث غيره من الأطفال .. توسلت .. وبكت ..

لم يجد ذلك شيئا ..

تم إلباس رياض ملابس جديدة .. حضرت السيدة العقيم لاستلامه ..

طالعته فاجهشت بالبكاء .. كشفت الغطاء عن وجهها ثم أخذت تقبله وتقبله وتستنشق رائحته وتبكي ..

المشرفة تنظر باستغراب .. لم كل هذا ؟!

السيدة العقيم : أدركت هذا السؤال الذي يدور في ذهن المشرفة فأجابت: لا تلومني يا ابنتي .. أنا ابنة الخمسين ولم أحمل طفلا لي .. لي .. أبدا!


أخذت رياض تحمله كأعظم هدية في الدنيا ..

أخذتها بالمجان .. وبلا مقابل وعوض ..

مسؤل الدار يودع الزوجين عند باب الدار ويوصيهما "اتقوا الله بهذا اليتيم" "اتقوا الله بهذا اليتيم" ..



--------------

الحلقة الرابعة ..----

رياض أظله سقفٌ جديد، وحياة جديدة... وتلقفته أيدٍ جديدة

لكَ اللهُ يا رياض... أين ستحط آخر محطةٍ لك...
هكذا يترقب المتابع لحكايتك بشغف،، رغم أنك
حينها لا تشعر ... بل لا يعنيك ذلك ..

أماالزوجان.. في حياة رتيبة، أيامها تستنسخ بعضها البعض، لا تجد فارقا بينها إلا فيما ندر...

نوم، صلاة، و طعام... و تواصل يسير مع أقارب معدودين بين الفينة والأخرى ...رياض قلب الموازين ...

غير في حياة الزوجين... ملأ البيت ضجيجاً وصراخاً. ..
كلمات رائعة تنطق لأول مرة في هذا البيت العتيق "مااااما" "باااابا"... كان العجوزان يسمعانها وكأنها مزمار من مزامير آل داود !! حتى و لو امتزجت بالبكاء و الأنين ...

شعر الزوجان بالمتعة و الأنس والشباب... تجددت دماؤهما .. دبت روح التفاؤل ** في أرجاء المنزل ..

الله الله يا رياض !.. ما فعلت بهما ..

تنزل الزوجة إلى السوق، تتفنن بشراء الملابس إلى حد الإسراف .. تتمنى لو كان بنتا لتشتري لها الحلي و تجملها حتى أخمص قدميها .. سعادتها غامرة لا توصف ...

أما الزوج فيغادر المنزل لكسب الرزق، لم يعد هاتفه يرن أثناء عمله كالمعتاد من قبل زوجته للاطمئنان عليه لمرات عديدة في اليوم الواحد ... فقد جاءها من يشغلها عنه !
لكن ..
تبقى الحياة محدودة .. رتيبة.. مستنسخة..

بدأ رياض يخطو ..

يلعب ويلهو بنفسه ..

بدأت خيارات الأم تتتعدد في شراء الملاهي والألعاب لرياض .. كرة .. سيارة كهربائية .. مكعبات ..

رغم أن الزوجين متوسطي الدخل .. فكل ما يملكانه المنزل الصغير .. إلا أنهما ينفقان نصف مرتب الزوج على رياض ..

فرياض الصغير قاسمهما المال والروح والجسد ..

كثيرا ما كان رياض يخرج مع والده إلى الشوارع و زيارة الناس .. يجري خلفه مناديا ببراءة: بابا.. بابا.. بابا ..

كانت كلمة رنانة تطرب مسامع الأب ..

كان الأب يأخذ معه رياض عندما يزور أقاربه.. يجلسه في حجره بحنان ..

بدأت تشد رياض حركة الصبية الصغار .. أحب الاندماج معهم

و بدأ بالتفلت من والده ليلعب مع صغار الأقارب في باحة المنزل ..
كان الأب يخاف بشدة على رياض ..يشعر أنه زجاجة رقيقة يخشى عليها الخدش أو الكسر .. كل من كان حوله يلومه .. ليدعه يلعب ويلهو مع الصبيان كما يحلو له .. لم تكن نفسه لتطاوعه على أن يفارقه لولا كثرة اللوامين ..

أصبح رياضا في سن السادسة .. و لم يعهد بعد أن يشارك صبيا اللعب .. لطالما أحب ذلك كثيرا لكنه يشعر بنفور و خوف شديدين من أي شخص .. فهو لم يعتد مخالطة الناس ..

يذهب ويقف عند فم الباب ويطالع الصبيان يلعبون، عين عليهم وعين على والده .. يخاف أن يفارقه ولو لحظة .. يخاف من المجهول ..

قلق من كل شئ ..كما هو الأب كذلك .. عين على رياض وعين على جلسائه، والقلب كله مع رياض ..

مرة .. تلو مرة .. زيارة تلو زيارة ..

بدأ رياض بمفارقة والده .. ولأول مرة تجتمع عيناه على غير والده .. بكل أحاسيسه ..
شعر بمتعة الصبيان في اللعب .. انتزع عن نفسه ذلك الخوف والقلق بشجاعة و قرر الخوض في خضم الحياة..

كان يلفت نظره من بين الصبيان صبي شقي.. مترف.. متسلط.. لكن رياض كان يحبه رغم ذلك كله ..


إنه " غسان " ..

----



الحلقة الخامسة

-----------


غسان ( و ) رياض

وبدأ المشوار

--

اقترب سن رياض من السابعة .. لا بد من دخوله المدرسة ..

لا زالت هناك عقبه كبيرة ..

رياض حتى هذه الساعة يتسمى باسم ابيه بالتبني .. لا يعرف اسم والده الحقيقي ولا اسم اسرته ..

كان الأمر بالنسبة للعجوزين أشبه باليقظة من النوم .. رياض سيبدأ المدرسة !

و سيقرأ بنفسه .. التلقين انتهى وقته ..

في ذات الوقت .. بدأ ناقوس القلق يدق في دواخل الأبوين ..

حاول الأب التهوين على نفسه و تقبل الأمر ..

ذهبت الأم قبل ان تعرف مستلزمات رياض الدراسية إلى المكتبة ..
أخذت تشتري كل شيء .. أقلام ، دفاتر، ملابس رياضية راقية ..
و كل شيء يتعلق بالمدرسة ..بل حتى ما لا يناسب احتياجاته و سنه حينها ..

لا يهم .. الأهم إشباع الرغبة في التفاني لرياض و سعادته ..


ذهب الأب إلى المدرسة مصطحبا معه الوثائق الخاصة بالرياض كما استلمها من "دار الأيتام" ..

دخل إدارة المدرسة .. وجد أولياء الأمور يتزاحمون لتسجيل أطفالهم ..

لكنه لم يسلم ملف رياض بهذه السرعة .. فقد كان يرغب بمقابلة مدير المدرسة على انفراد ليحدثه بحال رياض ..


غسان المشاكس لمح بصره رياض من بعيد ..
كان ممسكا بيد والده وسط الزحام ..
يا للروعة !! لقد جاء به والده ليسجله في نفس المدرسة أيضا ..

تفلت غسان من يد والده إلى رياض .. وأخذ ينادي: رياض .. رياض .. رياض .. أنا غسان ..

ابتهج رياض وزاح عنه الهم والقلق الكبير الذي خيم عليه من هذا الزحام والحياة الجديدة المليئة بالضجيج ..

كان هذا اللقاء بداية نقلة كبيرة في حياة رياض الذي فرح وابتهج بغسان : غسان أنت معي هنا ؟! نحن في مكان واحد ..

نعم نعم يا رياض .. نحن معا ..

انطلق غسان لوالده خشية أن يضيع منه وسط زحام المسجلين ..

و لا زال الأب ممسكا بيد رياض ينتظر المدير ليهمس بأذنه ..

كان الجو حارا وزاده حرارة أنفاس المزدحمين.. و الوالد يتصبب عرقا وهو ينتظر ذهاب الجميع ..

انتظر ساعات طويلة حتى بعد الظهر .. في هذا الجو الكاتم دون أن يمل لأجل رياض ..

و بعدما خف الزحام و انفرد المدير بنفسه ..

دخل عليه والد رياض ..

حاول أن يبعد رياض ليتحدث مع المدير بكل راحة بال فلا يسمع ما سيدور بينهما من حديث ..


- ابني رياض اجلس هناك في آخر الغرفة وانتظرني ..
ذهب رياض مطيعا لتوجيهات والده

بدأ الأب يخبر المدير بحقيقة الأمر هامسا له به ..
- .. هذا الطفل يتيم الأبوين .. بل و حتى لا يعرف من هما أبويه .. و أنا من أقوم بدور الوالد في حياته ، لا أحد يعلم بهذا سوى القليل من الخاصة المقربين من العائلة .. هنا في المدرسة يعرف رياض بعض الأطفال اللذين لا يعرفون هذا الشيء .. ارجوك قدروا أمره وحاولوا عدم صدمه بالواقع حتى يكبر ويدرك بنفسه ..

المدير : لكنه لابد أن يعرف يوما ما..

الاب: ارجووووك لا أريده أن يعرف مني أو المدرسة ارجوووك دعه ليعرف بنفسه .. فلا احب ان ينفر مني أو من المدرسة يوما ما ..

المدير يفكر بعمق : لا بأس .. سنضع اسمه في شئون الطلاب على انه ابنك .. لكن في الشهادات والملفات المرفوعة للجهات الرسمية لابد من تدوين الحقيقة .. كما هي في وثائقه الرسمية ..

ابتهج الأب و أردف معلقا : فكرة جيدة .. هذه بطاقتي سجلوه باسمي رياض ابن .. وهذه أوراقه الثبوتية الحقيقية للملفات وللجهات الرسمية ..

المدير: سأجمع المدرسين وسأنسق بيني وبينهم بالأمر.. سنتعاون لأجل ابننا رياض ..

قام المدير من مكتبه: رياض .. رياض .. يا بطل .. تعال .. جاء رياض على استحياء وقلق لا يدري ما يدور حوله ..

عانقه المدير ورفعه بيديه وقبله واخرج حلوى من درج مكتبه وأعطاه إياها : رياض هذه هدية للأطفال الذين يحبون مدرستهم فقط .. أمثالك


خرج رياض ووالده من المدرسة مبتهجين ..

وصلا المنزل ..

رياض كان يسابق الوقت يريد أن يخبر أمه بما حدث في المدرسة


دخل مسرعا : ماما ماما .. ذهبت للمدرسة وعانقني المدير و أعطاني شوكولاته وقال إنها هدية لي لأني أحب المدرسة ..
ماما بابا متى سأذهب للمدرسة ؟؟ ..

قريبا قريبا يا بني بإذن الله

-----



الحلقة السادسة


وبدأت المدرسة .. و أصبح رياض تلميذا

بقي الأب أياما كثيرة يبقى في المدرسة لكي يطمئن على أحوال رياض ..
رياض القَلِق من المجتمع الجديد ..

من عزلة .. إلى اختلاط ضخم جدا ..

كان كل حصة يدخل لرياض ليطمئنه ويشجعه .. ثم يرجع إلى الممر أو إلى الإدارة لينتظر فيها ..

بدأ رياض يصبح أكثر جرأة .. كثرت أصحابه .. و صار والده لا يأتيه إلا عند الخروج للمنزل


عرف المدرسون حقيقة رياض .. فصاروا يتعاملون معه بلطف .. يشجعونه، يهدونه الهدايا ..

كان هذا دافعا للأسف لإثارة الشكوك لدى التلاميذ.. و منهم "غسان " ..
ترى ..لماذا هذا الاهتمام برياض خصوصا .. و لم نحن لا نعامل هكذا ؟؟

دبت الغيرة في نفوس التلاميذ ضد رياض ..

صاروا يتحينون كل فرصة لإغضابه والتهكم به ..

محيط آخر يعيشه الطلاب بين بعضهم البعض.. لا يعلم عنه الأساتذة ..

الاساتذة لا يعرفون ما يدور جيدا ..

و رياض كان صامدا ..


أمه كانت تحاول قدر الإمكان أن يكون متميزا ..

كانت كثيرا ما تردد : لا بد أن نهتم بدراسة رياض حتى يتفوق ويعين نفسه فنحن لن ندوم له ..


وصل رياض إلى السنة الثالثة الابتدائية ..

كانت دراسته على نسق واحد ..

لم يلحظ اي تغير ..

رياض بن ... بن ... بن

ما زال يتسمى باسم من رباه ..

لا يعرف لا هو ولا التلاميذ شيئا ..

بدأ الانقلاب في حياة رياض نحو الشمال ..

دق ناقوس الخطر من داخل المنزل هذه المرة .. والده أدخل المستشفى بجلطة دماغية !

أخذ للمستشفى .. أخذه أحد الجيران ..

ذهب رياض وأمه لمرافقته في المستشفى .. انشغلت الأم عن رياض الذي ترك المدرسة لعدة أيام ..

فلا احد يأخذه للمدرسة !! ..


وقعت الكارثة ..

توفي والد رياض خلال أيام من دخوله المستشفى!! ..

تقدم الناس للعزاء .. كان من ضمنهم غسان ووالده ..

اجتمع أقارب والد رياض في منزله ورياض منزو في المجلس يتساءل .. لا احد يهتم به .. ولا يعزيه !

بدأ يتساءل بداخله : لماذا لا احد يسلم علي !


غسان قفز بطفولته بجوار رياض .. يلاعبه ويسليه .. لم يشعر رياض بأي تغير نفسي ..

فهو ليس بصغير ..

أصبح يفهم .. عمره الآن عشر سنوات ..


الأم تغيرت حالتها وانقلبت صحتها .. ألما على زوجها .. وقلقا على رياض .. وقلق آخر جديد

نعم جديد ..

بدأت تخاف من أبناء عمومة زوجها الذين يخشى من التفاتهم على رياض ومحاولة إبعاده كي لا يأخذ شيئا من مال ابن عمهم !

لزمت البكاء كثيرا ..

و رياض كان أشد بأسا منها .. ربما لأنه لا يدرك العواقب .. فالطفل يبقى سعيدا .. آه ما أجمل البراءة ونزاهة القلب ..

كان رياض يبكي بين وقت وآخر عندما يتذكر والده ..

ذهب رياض إلى غرفة كان والده يجلس فيها .. اخذ يقلب في بقايا والده لعله يجد شيئا جديدا يذكره به ..

وجد ملفا فيه أوراقا كثيرة


رياض الآن ليس برياض السابق ..

رياض الآن يقرأ .. ويفهم

قلب الأوراق بنهم ..

وقعت عينه على ورقة جديدة مكتوبة بخط والده .. نصها

(بسم الله الرحمن الرحيم

اشهد الله وملائكته وجميع خلقه أنني وهبت ثلث مالي لرياض بن ... بن .. بن .. "فذكر اسم رياض الحقيقي" هبة له يقوم على شأنه زوجتي أو احد الصالحين من قرابتي يرعاه ويربيه ويزوجه منه وصلى الله على نبينا محمد )

كانت كالصاعقة في رأس رياض
-----

الحلقة السابعة

انطلق رياض بعد إن تملكه وجوم وصمت طويل بعد قراءة الورقة .. انطلق إلى أمه .. يطلعها عليها ..

قرأت الأم الورقة ..

لم تتمالك نفسها فأجهشت بالبكاء ..حتى تبللت بعض أجزاء الورقة بدموع العجوز ..

أدركت وجود اسم رياض الحقيقي ..

صمتت وكأن الأمر لم يكن ..

تظن أن رياضاً لم يدرك الحقيقة لصغر سنه ..

فبادرت بسؤاله .. عن مكان وجود الورقة .. فأخبرها بالموضع الذي وجدها فيه ..

ذهبت لذلك المكان ولغيره تلملم جميع آثار الأب المرحوم ..حتى لا يقف على شيء بعد ذلك ..

رياض .. لصغر سنه أدرك شيئا من الحقيقة .. و ليس كلها .. لكنه ما زال لا يعرف سبب تغير اسم والده و نسبه في هذه الورقة

أخذ يفكر بذلك بين وقت وآخر .. ولكنه لم يجد جوابا ..

وجد الأجواء حوله لم تتغير فنسي ذلك الحدث وتلك الورقة ..


ولكنه بالتأكيد سيجدها يوما في خبايا ذاكرته حينما يجد داعيا لنبشها من قبرها ..


الأم العجوز خيم عليها الهم، أثر على مشيتها وعلى حديثها، لحظ هذا كل من قابلها أو تحدث إليها عبر الهاتف ..

أقاربها قاموا بزيارتها بين وقت وآخر محاولين أن تنتقل معهم في منزلهم بدلا من بقاءها ورياض في منزل لا عائل فيه يحميهم من النوائب المفاجأة ..

طفل صغير وعجوز !

طلبت التفكير كثيرا ..

تفكر برياض وتبكي !

تخاف عليه من أن يكون انتقالها و اختلاطه باقاربها قد يؤثر عليه دوما فتتعكر عليه حياته .. وذلك بعلمه بحقيقة أمره قبل أن يشتد عوده ..

وتفكر مرة أخرى ببقاءها في منزلها وحدها وتبكي ..

حيرة .. بقيت تلازم العجوز شهرا ..

استخارت وتضرعت لمولاها أن يكتب لها الخيرة في أمرها ..

وجدت انشراحا ببقاءها في منزلها حماية لرياض، ولمستقبله ..

تتذكر زوجها وتبكي منزوية في غرفة مظلمة عن أعين رياض .. تحاول أن تكون بشوشة معه فلا تكدره ..

رياض رغم صغر سنه إلا أن أمه وجدته يبكي مرارا و يتذكر والده فتصبره وتسليه ..

في قرارة نفسها .. تدرك بأن رياضاً في يوم ما سيدرك من هو و من أين هو !؟




لكن حينما تسترسل في التفكير بهذا الموضوع، وتصل إلى لحظة علمه بالأمر تصيبها قشعريرة وتبكي .. فتحاول الآن تناسي هذا الأمر ..

و تفوض أمرها و أمره إلى الله وحده..

كانت تدعي دوما في سجودها "يارب" "يارب" لا تمتني حتى تريني رياضاً متزوجا وله ابناء يارب من له بعدي ..

آواه أيتها الأم ..

أكل هذا وهو ابن تبني كيف لو كان ابن صلب وخرج من رحمك فأصبح قطعة منك ؟!

ما أعظم حقوق أمهاتنا علينا ولكن لا نشعر ..


بعد أن أخبرت العجوز أقاربها بحسم أمرها بالرغبة ببقاءها في منزلها لأجل رياض ..

لم يتحمل الأقارب هذا الخيار بسهولة، لكن تحملوه لحظتها لقرب عهدها بوفاة زوجها، ولكونها في عدة الحداد ..

لم يشأ أقاربها الإكثار عليها الآن حتى تهدأ موجة الحزن على الزوج الكبير رحمه الله ..

رياض لأول مرة يذهب بغير والده إلى المدرسة حينما نسقت أمه له مع قريب لها ليوصله للمدرسة ..

طرق الباب صباحا لأخذ رياض ..

ركب رياض السيارة بوجل .. ..

شاهد السيارة وداخلها ليست هي كما عهد..


التفت يساره إلى السائق لم ير تلك الشعرات البيضاء على صفحة خد السائق كما عهد عند التفاته عند كل ركوب إلى خد "والده" العجوز فيرى الشعرات البيضاء التي أصبحت مؤنسا له، وأشبه بالأنيس الصامت في طريقه لقلة حديث العجوز وطول صمته وطول تفكيره ..

لأول ركوب جديد التفت رياض للسائق لم ير تلك الشعرات البيضاء أطرق وبكى !

أخذ رياض يبتلع عبرته وحشرجته حتى لا يعلم بها السائق، لكنه أدرك ذلك ..


رياض .. رياض .. رياض


يناديه ..

لم يتلفت رياض خشية أن يرى دموعه ..

بقي مطئطئاً برأسه ناظراً إلى نعليه ..

سكت السائق قليلا تاركا فسحة صغيرة ليفرغ رياض ما في نفسه من شجن ..

في مثل هذه اللحظات يصبح البكاء والدموع نعمة ورحمة .. ما أجمل البكاء حينما يكون تنفيسا عمّا يختلج بدواخلنا..

بقي رياض على هذه الحال ..

شعر بوحشة شديدة .. لفقد والده


أصبحت المدرسة متوشحة بالسواد بعد فقد والده .. موحشة لم يعد يأنس بها ..
أصبح يحب الوحدة والانطواء في أوقات الفراغ على غير عادته ..


حاول الاعتذار عن الدراسة فاعترضت أمه و منعته ..

كانت تقول له دوما : يا بني هذا مستقبلك الوحيد والدك توفي وأنا كبيرة في السن .. أرجوك فكر بعقل ..

صمد وقاوم رياض فكرة ترك الدراسة ..

مضت الاربعة أشهر بقي عشرة أيام لانقضاء عدة العجوز في وفاة زوجها ..

في تمام اليوم العاشر .. طرق الباب ليلا ...


كان قريبها ..

جاء ليفاتحها في انتقالها .. ولكنه لم يتحدث مباشرة وفضل الانتظار إلى حين الانفراد بها


أدخلته العجوز .. أجلسته ..

جاء رياض سلم عليه وجلس ..

أم رياض أدركت ما يريد هذا القريب وبماذا يفكر ..كانت تعلم في نفسها أنه يريد انتقالها معهم خوفا عليها ..

لم تفكر العجوز بنفسها ابدا بل كانت تفكر برياض ! ورياض فقط !


طلب القريب من رياض أن ينفرد بأمه لحديث مهم .. قام رياض بكل عفوية ولم يفكر بشيء!

لم يكن ليفكر أن نقاشا حوله سيدور في المجلس ..

تحدث القريب مع العجوز بكل لطف :

نحن نخاف عليك .. فأنت كبيرة في السن .. ولو حدث لك مكروه لا سمح الله و لم تجدي من يقوم بك أو يوصلك .. بالنا منشغل عليك كثيرا .. افترضي لو حصل لك مكروه ما في ساعة متأخرة من الليل فمن سيقوم بك .. من ؟!

قالت العجوز : يصعب علي أن أغادر المنزل منزل والدنا رحمه الله و أطمع أن يكبر ولدي رياض فيعينني ويعين نفسه بإذن الله ..

كانت تؤمل برياض كل شيء ..

حاول فيها مرات ومرات .. وبعد إلحاح شديد، قالت لقريبها: ماذا أفعل برياض لو انتقلت معكم، فأنا أخاف عليه من الصبيان أن يؤذونه بكلام أو .. أو يجرحون مشاعره ويقتلونه من داخله ..

قال: أمر رياض سهل، أنتي تعالي معنا وأرجعي رياض لدار الأيتام !!!

كان هذا الكلام كالصاعقة على رأس العجوز، صرخت باكيه وانهمرت دموعها وقالت بأعلى صوتها: رياض مثل ابني، وقد أوصى له زوجي بثلث ماله، وأي شخص يؤذيه يوذيني ويؤذي زوجي في قبره ..


خرج القريب حينما أدرك أن رياضاً قد استولى على قلب هذه العجوز ولا فكاك بينهما !


خرج وتبعته العجوز تعيد كلامها وهي تبكي ولها نشيج يدمي القلب و المقل..

رجعت .. جاءها رياض مسرعا على صوت بكاءها وصراخها غير المفهوم منه، رآها تبكي ..

قال لها: ما بك يا ماما ؟

لم تستطع الحديث معه بشيء، انكبت عليه فعانقته وهي تبكي بأعلى صوتها، و بكى رياض معها دون أن يعرف شيئا!


يتبع باذن الله


----------

الحلقة الثامنة



الرياح تجري بما لا تشتهي والدة رياض
هي تريد ، رياض يريد وقريبها يريد .. ولكن الله يفعل ما يريد
بقي الأمر على حاله .. زادت الفجوة بين هذه العجوز وأقاربها بسبب رياض
زاد الأمر توترا أن ثلث مال زوجها لرياض ذلك اليتيم الذي لطالما اعتبروه دخيلا على الأسرة
بدأ الناس يتحدثون من حولها عن رياض وتملكه لقلب العجوز ..
وبدئوا يتحدثون بلا تحفظ عند الصغير والكبير عن رياض ونسبه المجهول
لم تجعل الأم كل ذلك موضع موازنة مع بقاء رياض وسعادته
بل لم تجعل لميزانها إلا كفة واحدة .. فلا مقارنة ..عندها رياض يجري في عروقها لبراءته وطفولته وضعفه والأمل الذي تعقده عليه مستقبلا ..
لكنها تشعر بالضعف والهوان لمستقبل رياض .. ومواجهة الحياة والعقبات لوحدها مع رياض في هذه الدنيا
يا الله .. اجتمع الضعيفان لمصارعة الحياة ..

"أحرجكم حق الضعيفين المرأة واليتيم" .. صدق رسول الله

القلق يساور العجوز الضعيفة .. قامت بحجز سيارة نقل لرياض من جزء من تقاعد والدهم بدلا من قريبها .. لأجل رياض وراحته
بدأت الأمور تستقر ..
تقدم السن برياض دون أن يحدث أي تغير ملموس بحاله، سوى زيادة مشاكساته على أمه كأي صبي في هذا السن
كانت تخشى من تربيته .. وعدم وجود من يمد يد العون إليه
و تكل الأمر إلى الله ونعم بالله ..
كانت تولي رياض اهتماما بالغا بشأن دراسته ليتفوق ..
و رياض كان كذلك، تميز وتفوق ونجاح واحدا تلو الآخر ..
كان محل إعجاب مدرسيه، ولكن مع مرور السنوات ينتقل المدرسون ومدير المدرسة من عملهم إلى مدارس أخرى .. توصية الأب لمدير المدرسة وللمدرسين بدأت بالأفول ..
و لم يعد هناك أب يتابع المدير جديد أو طاقم الإشراف والإدارة .. رحمك الله أيها الشيخ فقد كنت سياجا لرياض بدأ سياجك بالزوال
بلغ رياض نهاية المرحلة الابتدائية .. في منتصف السنة السادسة ..
في كل سنة يعلق اسمه في لوحة الشرف في مدخل المدرسة .. يتوج هذا الاسم اسم ذالك الوالد المرحوم
في منتصف الفصل الدراسي الأول للسنة السادسة .. رياض يترقب اسمه في لوحة الشرف كالمعتاد، وكذلك سائر الطلاب ينتظرون المتفوقين ..
صبيحة الغد ستنزل أسماء المتفوقين للنصف الأول من السنة السادسة ..
حضر الطلاب الصباح الباكر بلهفة ..
رياض حضر وهو يتخيل اسمه في لوحة الشرف .. فهو في تميزه لا ينقص عن بقية الأعوام
التقى رياض بزملائه عند باب المدرسة دخلوا سويا .. لقراءة لوحة الشرف
اسم رياض موجود كالعادة .. يا للروعة !
لكن الروعة غير تامة ..
الاسم "رياض" لكن ليس رياضنا الذي يعرفه الجميع!
الأب والجد واللقب ليس هو كالسابق .. لا يعرف رياض من الاسم إلا رياض فقط !
أصيب رياض بإحباط .. الطلاب التفتوا إلى رياض .. اسمك لكن لست أنت؟!
ربما يكون هناك خطأ ..
الطلاب جميعا : رياض .. رياض .. رياض .. اذهب إلى الإدارة ابلغهم بالخطأ ليصححوا الاسم .. أكيد هو أنت لا يوجد أحد اسمه رياض إلا أنت !
ذهب رياض ومعه زملائه للإدارة تعاطفا مع رياض ..
سعادة المدير : أنا رياض اسمي وضع في لوحة الشرف غلط أرجو تصحيحه !
المدير: يا ابني هذا غير ممكن .. نحن نتأكد من الأسماء ! هذا اسمك الحقيقي !
اسمك السابق تم إلغاءه لأنه غير صحيح ..
رياض بتوتر ووجل: لماذا يا سعادة المدير غير صحيح !
يا ابني هذا اسمك وفق الأوراق الرسمية التي لدينا، وكنا في السابق نضع اسمك لأجل طلب من يقوم بكفالتك، ونحن الآن في نهاية المرحلة الابتدائية فلا بد من تدوين اسمك الحقيقي، لأجل المرحلة المتوسطة في مدرسة غير مدرستنا، وولي أمرك لديه علم بهذا !!
رياض في هذه اللحظة كشفت أمامه حجب ثلاث سنوات وتذكر بسرعة هائلة تلك الورقة التي وجدها بخط أبيه، وهي توافق الاسم الموجود حاليا في المدرسة
جاءته لحظة صمت وجمود رهيب .. المدير يناديه يتحدث معه وهو في دوران ذهني شديد ..
عاصفة شديدة بدأت في عقله الصغير ..
لا يطيقها الكبار فكيف برياض .. لك الله يا رياض .. هكذا قدرك ..
استيقظ رياض من السرحان الذهني على كلام المدير: يا بني لابد تعرف أن هذا اسمك الحقيقي وهو ما سنقيده في شهادتك الابتدائية وستذهب به إلى المتوسطة المجاورة ..
زملاء رياض واقفون يسمعون بذهول وصدمه رهيبة ..
المدير بعدما رأى حال رياض رحمه جدا: ابني رياض .. أين من سجل ملفك عندنا اتصل به ليحضر لنتفاهم معه ؟!
رياض: هو والدي ومات .. منذ سنين عندي أمي فقط !
تحشرج المدير وبدأت عيناه بالغرق .. حاول أن يمسك نفسه وقال بسرعة حتى لا ترى دموعه :
حسنا يا رياض اذهب إلى فصلك وسيكون خير بان الله ..
التفت المدير إلى الخلف مؤذنا للدموع بالنزول .. مسحها بعجل
انصرف رياض بقدمين منهكتين و رأسه مطأطئا للأرض .. ذهول .. شرود .. صدمه .. معه زملاءه بنفس الحال .. يسألون: رياض: ما الأمر ؟! هل صحيح هذا ليس اسمك وهذا ليس بوالدك ؟!
رياض وعيناه تذرفان الدموع: لا . لا . هم كذابين . هذا اسمي وهو والدي . ركض رياض بلا تفكير إلى خارج المدرسة .. وجد الحارس يمنعه من الخروج .. وجده يبكي وينحب بشدة أرجعه إلى المدير أمر المدير الحارس أن يذهب به إلى المنزل .. ليهدأ !
حمل الحارس حقيبة رياض .. ورياض في اختناق وصدمة لا يعرف ما حقيقتها وملابساتها ..
في طريقة إلى المنزل .. نشيج ونحيب .. و بكاء الصغار الذي يقطع نياط القلب ..
رياض يفكر: هو ليس أبي ! وهل ستكون أمي كذلك !
وصل رياض إلى المنزل ..
يطرق الباب بيده الرقيقة المنهكة في حر الشمس ..
الأم .. سمعت طرق الباب .. خافت تلك الضعيفة مما يخبيه لها القدر .. من يكون في هذا الوقت ورياض في المدرسة ..
خرجت إلى الباب .. بقدمين أنهكتها السنين والهموم ..
نادت بصوت فيه آثار رعشة وقلق : من يطرق الباب ؟!
رياض يرد بصوت لم تعهده الأم.. بعبرة واختناق وحروف مقطعة : ما.. ما .. أنا .. ريـ ... ا .. ض

يا رب لطفك ..!


----------

----

الحلقة التاسعة


هكذا قالت الأم يارب لطفك" حينما سمعت صوت رياض المتقطع في مثل هذا الوقت

فتحت الباب، وجدت رياضا غير رياض .. الوجه البريء مسود، والعينان تعبت من سكب الدموع

رياض ما بك .. طمني .. ما بك ؟

رياض عجز عن الكلام، بل عجز عن التعبير والشرح ..

لا يدري من أين يبدأ ..

ماما المدير يقول اسمي غلط! وبابا ليس بابا الحقيقي !

يا ماما وضعوا لي اسم جديد !

وطلب حضو بابا وقلت بابا ميت ..

كل هذا الكلام بحشرجة صدر محزنة تقطع نياط القلب ..

الأم بدأت ضربات القلب لديها بازدياد، وتوترت اعصابها، وفقدت صوابها، جال بها دوار رهيب ..

لقد جاءت اللحظة التي تخشاها من زمان، وتتجاهلها ..

لقد مات الأب دون أن يحضر هذا المشهد العصيب الرهيب واللحظة الحرجة جدا ..

الأم لا تدري ما تقول، حاولت تهدئة الوضع، أن تتهرب من الموضوع .. ولكن التهرب لابد أن يكون وقتي بل وقتي سريع ..

بادرت الأم : رياض استرح لا تقلق ساحضر لك شيء تشربه، انتظرني هنا ..

غادرت بقدمين منهكتين الى غرفتها، وانكبت باكية في سريرها على وجهها، والدموع كالماء المسكوب بلا توقف .. نحيب ونشيج وشكوى إلى الله أن يلطف بها وبرياض وأن يكون ثالثهما في هذه المحنة ..

لم تدر بنفسها، وطال بها الحال، ترقبها رياض وطال انتظارها، جاءها إلى الغرفة وهي على ذات الحال .. ماما !! ما بك !؟

قامت الأم إلى رياض بكل حنان ورحمة: رياض تعال عندي، قرب منها .. فعانقته وانكبت عليه باكية ..


رياض أنا ماما ! بابا ماتا ادع له بالرحمة بس أرجوك لا تفتح أي موضوع آخر ..

رياض : يا ماما المدير كتب اسمي في لوحة الشرف مثل اسمي الذي كتبه بابا في الورقة التي وجدتها في ملفاته التي اعطيتك إياها ..

يا ماما وين بابا الحقيقي أرجووووك !

لم تستطع الأم الجواب واكتفت بالبكاء على صدر رياض ..

هذي هي حيلة العجوز فقط، رياض أصبح رجلا وهذه الحال من الأم زادت عنده اليقين بصدق المدير وأنه دخيل على هذا الأب، لكنه لم يعلم حتى هذه اللحظة حقيقة الكارثة الأخرى : أن الأم كذلك ليست هي الأم الحقيقية ..

فارق رياض صدر أمه إلى مكان الجلوس يمشيء مطاطيء الرأس بخطوات متقاربه .. والفكر مستغلق أن يستوعب شيئا .. فعلا الموقف فوق الطاقة العمرية لرياض

جلست الأم بنفسها، بعد أن خلت في غرفتها، وتأملت أن لابد من إخبار رياض بتفاصيل الأمر وأن هذه اللحظة التي يجب أن يعلم بها أمره وحقيقته ..

تبعت الأم رياضا .. جلست بجواره، لم تستطع الحديث ! بادرها رياض: ماما أين الورقة القدية التي وجدتها مع اوراق بابا !

انعقد لسان الأم عن الحديث مع رياض في حقيقته، ووجدتها فرصة أن تجعل الورقة تتكلم، قامت إلى الورقة فأخرجتها من درجها وعليها آثار دموعها التي دمجت بعض أحرف الوالد .. طالعتها الأم نزلت منها دمعات يسيرة ..

أحضرتها لرياض وأعطتها إياه ..

قرأها بتأمل !

ثم التفت إلى أمه : ماما .. وين بابا الحقيقي ؟!
ماما إنت ماما حقا أو أنت مثل بابا ؟!

الأم اكتفت بالدموع فقط ! وهي تنظر الى براءة رياض لم تستطع أن تتلكم بحرف !

فهم رياض الحقيقة بنسبة كبيرة جدا .. أنه دخيل على هذه الأسرة ..

ولكنه لم يعلم حتى الآن مصير الأبوين الحقيقيين ! من وأين ؟! تلك الاستفهامات التي قلنا أنها مجهولة لرياض الى الأبد !

ذهب رياض إلى غرفته وضع رأسها على وسادته وبدأ بنحيب أشد ما يكون وشهيق وحشرجة تقطع أجزاء القلب ..
بكاء لم تسمعه الأم من قبل ..
وجهه على وسادته وهو يقول: وين ماما وين بابا!
بابا أين أنت ! ماما أين أنت !
ماما أنا رياض بابا أنا رياض !
دخلت عليه العجوز .. ورأته على تلك الحال زاد بكاؤها وحاولت تهدئته، فلم تستطع ..
قالت له: رياض أن مثل ماما أنا ربيتك يا رياض !
منذ كنت صغيرا وأنت على صدري ..

----

ألح رياض على العجوز أن تذهب به إلى المكان الذي اتت به منه ليسأل عن أمه !
لم تجد الأم بدا من ذلك ..

فرياض انقطع عن دراسته اياما لم يستطع الذهاب .. فاشفقت الام عليه ..
ذهبت به إلى دار الأيتام .. والتقت بمديرها الذي كان زوجها المتوفى يتواصل معه .. لم ير رياضا منذ تم رعايته من الزوجين ..
رحب بالعجوز وبرياض .. طلبت الأم من مدير الايتام أن يتحدث لرياض عن والديه وحقيقته ..
بدأ المدير بالحديث المفصل القاتل ..
رياض ابني أنت الآن رجل تعتمد على نفسك .. والداك لا نعلم عنهما شيئا .. سوى أنه تم إحضارك من قبل سيدة وزوجها هنا وأنهم وجدوك في مكان ما !
رياض يطالع الأرض ويبكي بشدة ..
دعا له المدير واوصى العجوز عليه وغادرا ..
رفض رياض الحضور للمدرسة .. خشية التلاميذ .. وملاحظتهم لتغير اسمه ..
قامت العجوز بنقله إلى مدرسة أخرى ..

يالحسن الحظ .. لقد انتقل إلى مدرسة أقرب إلى بيته .. سبقه بالانتقال إليها غسان ..

أكمل رياض دراسته فيها بجوار غسان .. وأموره شبيهة بالهدوء .. مع بكاء متفرق .. وسؤال لحوح بن وقت وآخر كدر على العجوز حياتها .. ولكن حق لك يا رياض أن تسأل عن أم أنجبتك ووالد رمى بك ..!
ولكن ماذنب هذه العجوز المسكينة !


السؤال الذي أشغل رياضا كل يوم : أين أبي وأمي الآن ولماذا تركاني !

انتقل رياض ومعه غسان إلى مرحلة المتوسطة ..

وصلا للمرحلة الثالثة فيها .. والأمر يزيد، والهم يكبر مع رياض .. يوما بعد يوم ..

فجأة .. وبعد أن شارف رياض وغسان البلوغ : بدأ رياض بالبوح لغسان بأحداثه وأيامه .. بين وقت وآخر !

يحكي له أيامه ويتذكر ويحلل مواقفه وأيامه السالفة بتحليل جديد يختلف عن السابق ..

بدأ ينظر لكل موقف منذ طفولته المبكرة بنظرة جديدة .. بدأ يحلل كل أيامه .. تحليل الابن الدخيل لا الابن الحقيقي ..

يشعر بالضعف ..
قتله هذا التفكير والتحليل الجديد من الداخل !

وبدأ غسان يشعر بأهميته في حياة رياض .. إنهما الآن في صفاف الرجال ..

غسان بما يملك من قدرات بسيطة وقف مع رياض وأصبح نديمه ومستودع أسراره .. يبوح له بكل شيء ..

وغسان يحاول بين الفينة والأخرى أن يهديء ويبسط الأمر الصلب في عين رياض ..

ولكن لم يستطع أن يقاوم سؤالا واحدا أشغل رياض: لماذا أبي وأمي تركاني واين هما الآن !


يكتفي غسان بافتراض أنهما ماتا في حادث ..

وصلا لمرحلة الثانوية الأولى ..

بدأ شبابهما يظهر وفتوتهما بالسطوع ..

في بدء تلك الأيام .. جاء رياض إلى غسان في منزله .. وطلب منه مرافقته إلى دار الأيتام ليتتبع أمر والديه .. الذين عجز أن يستخرج من العجوز عنهما أي معلومة سوى اغلاق الموضوع وعدم الرغبة بفتحة ..

اشترت الأم بجزء جمعته من المال لرياض سيارة يخدمها ويقضي حاجته هو بنفسه .. لقد أصبح رجلا وتحقق حلم العجوز برياض ..

ذهب رياض وغسان إلى مدير الدار ..

وقابله مقابلة الرجل الند .. ولكن الانكسار لابد من ظهوره عليه .. هكذا حال الضعيف دوما ..

سأل المدير عن والديه فأجابه المدير بكل وضوح أنه لا يعلم عنهما اي شيء سوى أن ملفه يفيد أنه وجد في أرض فضا واحضرته سيدة ..

طالب رياض من المدير ان يعرف تلك السيدة .. فرحب المدير بالطلب .. وأحضر الملف وأعطاه رياض يقرأه .. وأول معلومة في ملفه عبارة وصلت الى قلبه كالسهم المسموم "الأصل: لقيط مجهول" !

كان يشاركه في تقليب الأوراق غسان بكل شغف ..

استأذن رياض باخذ اسم السيدة وزوجها ورقم هاتفهم .. اذن له المدير بذلك ورأى أنه حق له ..

غادرنا الدار ..

بدأ رياض مرة أخرى بسكب الدموع القاتلة والنحيب المر .. الذي لم يفد غسان بتهدئته شيئا ..
حاول غسان أن يخرج رياضا من جوه الكئيب رحلات هنا وهناك .. بلهو ولعب .. ولكن كل ذلك وقتي لحظة وتزول !



قرر رياض الاتصال برقم من وجده السيد والسيدة ..

اتصل بهما ..

رن هاتف المنزل .. رفع أحد الأولاد الذي بكوا على فراق رياض حينما كان في مهده مغادرا إلى دار الأيتام و"الآن بالطبع لا يذكر شيئا" .. ألووو أنا رياض أريد السيدة فلانة ...

استغرب الابن هذا الطلب وقام بنداء أمه .. ماما ماما الهاتف يريدك شخص اسمه رياض


------
الحلقة العاشرة والأخيرة


حضرت الأم إلى الهاتف .. ردت بصوت شاخ بعدما كان ندياً وشاباً : نعم تفضل ..

رياض بكل براءة: أنا ابنكم رياض أخذت اسمكم من دار الأيتام وقالوا لي: أنكِ وزوجك أوصلتموني للدار!

السيدة بذهول شديد أخذتها لحظة صمت غارقة حشرج صدرها، لم تستطع الحديث مباشرة انتظرت قليلا ثم قالت: كبرت يا رياض ما شاء الله أرجوك تعالى لزيارتنا ليراك زوجي .. أنا قد لا أراك فقد أصبحت رجلا لكني ساحاول .. أخذت السيدة عبره .. ثم وصفت له المنزل

واتصلت بزوجها وأخبرته الخبر .. كان الخبر مفاجيئا وكان الظن أن القصة انتهت حلقاتها بالنسبة لهم ..

ولكن رياض أبى إلا ربط تلك الحلقات ببعض ..

شاب عصامي ولكن الدنيا وقسوتها أقوى منه ..

انطلق رياض ورغب أن يكون وحده في زيارته .. وجد السيد ينتظره في الشارع ..

التقيا عانق السيد رياضا وبكى .. رياض أصبح كالزجاجة رقة لم يتمالك نفسه كذلك ..


أدخله المنزل ..

قام بنداء زوجته لترى رياضا ..

رياض أصبح رجلا ..

لبست حجابها وغطت وجهها فرياض أصبح كبيرا تحاملت بحياء بالدخول عليه ..

سلمت وجلست : ما أحوالك يا رياض .. رياض يجيب بيحاء على أسئلتهم .. أحوالك ؟ كم عمرك ؟ أين تدرس ؟ من رباك ؟
رياض أنا التي سميتك رياضا بنفسي .. بكى رياض .. وبكت السيدة لبكاءه ..

هل ينقصك شيء يا رياض ..

سأل رياض عن قصته وقال بنحيب : أين ماما ؟

سكتت السيدة والتفتت لزوجها وهي تنحب .. تترقب منه أن يجيب ..


سكت .. فأجابت .. أخبرته القصة بتفاصيلها دون غبش !

انقطع السبيل برياض .. وجد الباب مسدودا بينه وبين أمه ووالده ..

زاد بكاؤه .. ونحيبه ..

تذكرت الأم .. وقالت: رياض عندي شيء واحد من أمك سأهديه لك ..

قامت السيدة مسرعة إلى دولاب عتيق عندها وأخرجت الملحفة التي وجدت رياضا ملفوف بها، وأحضرتها لرياض وقالت: رياض هذه الملحفة هي التي وجدتك ملفوفا بها في الأرض التي بجوارنا والتي هي الآن معمورة بعمارة عتيقة ..

أخذ رياض الملحفة ووضعها على أنفه وقام يشمها ويقبلها ويبكي ويقو: ماما وينك .. أين أنت ؟!

استغرق ببكاء شديد ونحيب رهيب لم تستطع السيدة ولا زوجها إسكاته عنه ..

تركوه يهدأ ..

ثم غادر رياض .. وطلبا منه تكرار المجي فهما بمقام والديه .. أخذا عنوانه وغادر ..

خرج رياض واتصل بغسان كعادته .. غسان .. غسان .. غسان أين أنت أريدك ..

تقابلا ..

أخبره الحدث ..

وبقي رياض يقبل الملحفة ويشمها ويبكي .. ويقول: أشم رائحة ماما هنا ..


ذهب رياض إلى بيته عند السيدة العجوز وأخبرها القصة وفعل ما فعل مع غسان ..

وضع رياض الملحفة عند رأسه يشمها ويقبلها كل يوم ويبكي ..

يجد فيها رائحة أمه ..

حاول غسان الصمود برياض حتى يتجاوز مرحلته تلك .. ولكن كانت مرحلة عصيبة من الصعب اجتيازها بسهولة ..

انتهت المرحلة الثانوية لرياض وغسان .. والأمر مستقر ولكن لم ولن ينسى ..

والملحفة بجوار سرير رياض .. يراها كل لحظة ..

كان رياض هميما أكثر من غسان .. كان يحدث غسان بطموحه أن يعوض نقصه بشهادة عالمية توصله إلى القمة ..

دخل رياض الجامعة وتخصص تخصصا دقيقا .. بعث برسالة إلى غسان أبشرك قبلت في كلية كذا ... فرح غسان بهذا الخبر ..

دخلا جامعة واحدة .. وافترقا في التخصص ..

كان غسان يلح على رياض بأهمية الزواج الآن لإيجاد من يكون له سندا وعونا بعد الله ..

كان رياض اذا خاطبه غسان بهذا الامر بكى وقال: من يزوجني ..

أين أمي وأبي يزوجونني ؟! ماذا أقول لمن أخطب بنتهم ؟!

كان رياض في قمة الروعة والخلق .. ولكن هي الدنيا لا بد إن رفعت بجانب إلا وضعت بآخر ..

رياض كالأترجه ريحها طيب وطعمها طيب .. لكن هي الأقدار !

كان غسان يلح عليه أن يتزوج بواحدة من جنسه وحالته ..

في النهاية .. قبل الفكرة .. فهو يرى نفسه كبقية الشباب لا ينقصه شيء ..

اهتم غسان لهذا الأمر .. بحث بكل ما يستطيع عن فتاة رائعة كحالته ليتعاضدا في هذه الحياة ..

استشار غسان من يعرف .. استعان بالسر بالوالدة العجوز .. وجد فتاة صالحة خلقا ودينا لرياض ..


بشرى .. بشرى .. وافق رياض ووافقت الفتاة ..

دخلا القفص الذهبي بحضور مصطنع من لفيف من الأصدقاء .. ومعارف الطرفين .. وليمة سريعة لم يكن أحد يصدقها ..

غسان يقفز هنا وهناك .. في ليلة الفرح تلك .. يخدم الجميع يحاول أن يجعل من نفسه من أسرة رياض .. فيسد بجسده المنهك مقام الأخ والأب والعم والخال والقريب ..



بعد عام واحد رسالة تصل إلى جوال غسان من صديقه رياض :

صديقي العزيز غسان أبشرك رزقت بمولود سميته غسان على اسمك

--

غسان لم يتمالك نفسه بالبكاء لم يستطع الرد على الرسالة حينها من الدموع، بادر بسيارته لشراء هدية للمولود الجديد ..


إهداء

من غسان الكبير إلى غسان الصغير .. هنيئا للدنيا بك .. وهنيئا لك بوالديك




------

رياض في سعادة لا توصف ..

أصبح أبا .. إنشغل بابنه وزوجته ودراسته .. لم ينس تلك العجوز التي ربته .. صاحبة الفضل الأول بعد الله .. أصبح لها كالابن الرحيم ..


ولكن شي لن ينساه رياض يقوله لغسان كل يوم : صديقي الحبيب غسان ماذا أقول لابني حينما يكبر ويسألني عن جدته وجده وأعمامه وأخواله ؟! لا أملك له إلا لحافي الحرير !

قال غسان: حبيبي رياض أنا مات أبي لقد أصبحت مثلك كلنا سواء ..

رياض: غسان لا أريد أبي ولا أمي، أريد اسمهما ولو هما تحت التراب !
----

عفى الله عنكما يا أم وأب رياض .. اشتريتما لذة ساعتكما بتعاسة عمر غيركما

وعند الله تجتمع الخصوم



غسان

دمتم بخير



______________
2
688

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

الشاعرة ريانة
للرفع ..

لا تعليق
الدنياء فانيه
لا حول ولا قوة الا بالله


وعند الله تجتمع الخصوم


ماذنب هذا الابن
الله يثبته ويبدله خير من أبويه