{الأميرة والفهد}
كان والدي من كبار التجار في بغداد، اشتهر بالصدق والأمانة في كل البلاد. وعندما مات ترك لي ثروة وافرة تضمن لي حياة ميسرة.
ولكنني منذ صغري، كنت أحب السفر والتنقل في بلاد الله الواسعة، لألتقي بالناس من مختلف الألوان والأجناس فأتعلم وأكتسب المعرفة والتجارب، وأنتصر على الأخطار والمتاعب.
لم تمض سنوات على وفاة والدي حتى أكملت استعداداتي لأعيش حياة كلها رحلات، أحمل بضاعتي وأرافق التجار، وأركب البحار، وأخوض المخاطر والأهوال. وفي كل مرة كنت أعود متعبا، منهوك القوى، ناويا ترك حياة الأسفار والمغامرات، لأعيش هانئاً، مرتاحاً، قرير العين، بما توفر لي من الأموال.
لكن لا تمضي بضعة أشهر حتى يعاودني الحنين إلى السفر ومواجهة الأخطار، فأعد عدتي وأهيئ نفسي إلى سفرة جديدة، ألاقي فيها من الشدائد والأهوال أكثر مما لاقيت في سفرات سابقة.
اتفقت ذات يوم وجماعة من التجار على القيام برحلة نبيع فيها ما حمله إلينا تجار الهند والصين من بضائع، فأعددنا عدتنا، وركبنا مركبا من ميناء البصرة، فسار بنا في البحر أياما وليالي. وكانت الريح موافقة لسير المركب فلم نشعر بالملل أو التعب بل كنا نمر بجزيرة بعد جزيرة، وننتقل من بحر إلى بحر ومن بر إلى بر. وكنا في كل بلد ننزل فيه نبيع ونشتري ونلتقي بأهله، ونتعرف بعاداتهم وأحوال معيشتهم.
وفي يوم من الأيام، وكنا سائرين في عرض البحر، وصلنا إلى جزيرة بديعة، حافلة بالمناظر الطبيعية، فرساً بنا ربان المركب على شاطئها ونزلنا كي نستريح من عناء السفر ونقضي بعض حوائجنا، فأشعلنا النار لغسل الثياب وطهو الطعام، ثم جلسنا حلقات نتحادث ونتسامر، ونحن في أنعم بال.. وإذا بصوت الربان يرتفع في هلع ويدعونا إلى النجاة بأنفسنا والإسراع إلى المركب لأن ما ظنناه جزيرة ما هو إلا سلحفاة بحرية هائلة تراكمت عليها الرمال، ونبتت عليها الأشجار، فلما أشعلنا فوقها النار أحست بالحرارة فأخذت تتحرك، ولا بد أن تغوص في الأعماق بعد قليل.
كان الربان يقول هذا وهو يجري بأقصى سرعته نحو السفينة حتى أدركها مع عدد من التجار، فسحبوا المرساة، وأقلعوا مبتعدين عن الجزيرة، غير مبالين بمن لم يستطيعوا اللحاق بالسفينة. وكنت لسوء حظي، في عداد الذين لم يستطيعوا اللحاق بها، فبقيت مع بعض الرفاق ننتظر هلاكنا المحتوم.
صادفتني، لحسن حظي، قطعة خشب كبيرة فتعلقت بها، ورحت أجذف برجلي، وأتلفت حولي عساي أجد أحدا من رفاقي، ولكني لم أستطع العثور على أحد.
بقيت على هذه الحال يوما وليلة، والأمواج تتقاذفني، حتى أشرفت على الهلاك. ولكن ريحا قوية هبت ودفعتني نحو جزيرة عالية، فيها أشجار مائلة على البحر، فتعلقت بأحد الأغصان وتسلقت الصخور حتى وصلت آمنا، فارتميت على الأرض منهوك القوى، ورحت في نوم عميق دام ساعات وساعات.
عندما استيقظت من نومي، تجولت في الجزيرة، فوجدتها طيبة الهواء، عذبة الماء، فيها فاكهة كثيرة، وطيور متنوعة الأشكال والألوان، فحمدت الله على السلامة، وتابعت سيري، وإذا بي أسمع صوت حيوان يشبه الزئير، فتقدمت صوب الصوت بحذر فوجدت فهداً أصفر اللون قد أصابته سهام والدماء تنزف من جراحه، والشرر يتطاير من عينيه، فتناولت حجراً كبيراً وضربته به، وقضيت عليه.
تابعت سيري، وإذا بي أرى على بعد قليل فتاة رائعة الجمال، قد سقطت عن حصانها فأغمي عليها، وحصانها بجوارها يصهل في اضطراب.
تقدمت منها ورحت أحاول إسعافها، فإذا بعدد من الفرسان يحيطون بنا ويحملون الفتاة ويأخذوني معهم شاكرين لي ما قمت به نحو أميرتهم، حتى وصلنا إلى مخيم كبير مجهز بوسائل الراحة، فأنزلوني في خيمة خاصة وقدموا لي ما أحتاجه من طعام وشراب.
أخبرني رجال الحرس أن هذه الجزيرة، تابعة للملك "مهرجان"، وهذه الفتاة هي ابنته "جمان" ، وقد جاءت مع زوجها الأمير " بسطام" في رحلة للصيد في هذا العام، فرأت هذا الفهد وأعجبت بجمال جلده فحاولت اصطياده ورمته بالسهام فارتد إليها محاولا افتراسها، ولكن عناية الله أحاطت بها في اللحظة الأخيرة ونجتها من الهلاك.
تماثلت الأميرة للشفاء فاستقبلتني هي وزوجها بالتكريم والترحاب وسألاني عن اسمي وبلدي، وسبب مجيئي إلى هذه الجزيرة المهجورة، فرويت لهم قصتي، وما قاسيت من متاعب وأهوال، فتعجبا غاية العجب، وطلبا إلي أن أرافقهما في عودتهما إلى بلدهما ليتعرف إلي الملك "مهرجان"
مثلت بين يدي الملك، وقبلت يديه احتراماً، ورويت له قصتي، وقدمت له جلد الفهد الذي حاول افتراس ابنته؟ فكان ما ذكرته مفاجأة لطيفة سر لها الملك وأمر بتعييني أمينا لشؤون البحر، وتحصيل الضرائب عن بضائع كل سفينة تصل إلى ميناء المملكة. سررت بهذه الوظيفة جدا لأنها تتيح لي التعرف بالسفن القاصدة بلادي. وقد تتاح لي العودة على إحداها إلى وطني الحبيب. وكثيرا ما كنت أسأل المسافرين والتجار عن بلدي بغداد فلا أجد بينهم من يعرفها.
وكم كانت دهشتي شديدة ذات يوم عندما لمحت ربان السفينة التي كنت مسافرا عليها، وقد تقدم مني لدفع الضريبة عن بضائعه فعرفته فورا، ولكنه لم يعرفني لأن هيئتي وملابسي تغيرت كثيرا خلال تلك المدة الحافلة بالأحداث.
سألت الربان: هل بقي في مركبك شيء من البضائع؟
فأجاب: نعم يا سيدي، معي بضاعة في مستودع المركب، ولكن صاحبها غرق في البحر عند إحدى الجزر، فصارت بضاعته أمانة لدي، فقررت بيعها، وتسليم ثمنها إلى أهله في بغداد.
فسألته: وما اسم ذلك الرجل الذي غرق في البحر.
فأجاب: اسمه السندباد البحري.
عندئذ لم أتمالك نفسي من الفرح والسرور، فوقفت واحتضنت الربان وقبلته وأنا أقول له: أنظر إلي جيدا ألست أنا السندباد!؟
لم يصدق الرجل عينيه، ولكنه لم يكد يتأملني حتى صاح يقول: نعم أنت هو السندباد، فالحمد لله على السلامة، ثم نادى رفاقه التجار فأقبلوا علي يقبلونني وهم في دهشة وابتهاج.
شعرت بالفخر والاعتزاز وأنا أتسلم بضاعتي من هذا الربان الأمين، والرفاق الأوفياء. ثم اخترت من بينها مجموعة من الهدايا الثمينة وقدمتها للملك والأميرة والأمير، وأخبرتهم بما حصل، واستأذنتهم بالعودة إلى بلدي فأذنوا لي آسفين لفراقي.
ركبت السفينة، وعدت إلى بغداد، فلقيت الأهل والأصدقاء والأحباب، وأخبرتهم بقصتي العجيبة، فقاموا يهنئونني بالسلامة، ويحمدون الله على نجاتي من المهالك، ويتحدثون بإعجاب عن بطولة السندباد ووفاء ربان السفينة وأمانته.:13::13::13::13::13:
{تمت}
ذات التميز @that_altmyz
عضوة جديدة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
كهرمانه منمشه
•
مشكوره على القصه :26:
الصفحة الأخيرة