بساط سليمان (عليه السلام)
كان داود من أنبياء الله تعالى، وكان بيده السلطة الزمنية، كما أن بيده السلطة الدينية، وكان يقضي بين الناس بالحق، فقد قال الله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق).
مرّت أزمنةٌ على ذلك، لكن داود كان تعلّم أنه لابد وأن يموت فعليه أن يخلّف أحداً مكانه ليقوم مقامه في هداية الضالّ، وتعليم الجاهل، وإرشاد الغافل، وإقامة الأحكام، ليبقى الدين قائماً.
وكيف يمكن أن يذهب عن أمته بدون أن يُعين خليفةً له من بعده.
وذات مرّة أوحى الله تعالى إليه بان يخلّف على الأمّة ابنه (سليمان)، وكان سليمان (عليه السلام) في ذلك الوقت غلاماً حدث السنّ، لكنه كان أهلاً للخلافة لمكانته الدينية وفضله وتقواه، وذكائه، وفطنته، ومعرفته الحق من الباطل، والحلال من الحرام.
وقد اختار الله (سليمان) خليفة لداود، حيث علم سبحانه أن (سليمان) أهلاً لذلك، ولم يكن لداود أن يختار لنفسه خليفةً بدون إذن الله تعالى، فإن الخلافة للأنبياء، كالنبوّة لا تكون إلا بتعيين الله تعالى.
وطبيعي أن يفرح (داود) لهذا الوحي الإلهي، الموجب لامتداد النبوة والقدرة في بيته.. لكنه من الطبيعي أيضا أن يخاف إنكار أصحابه وشيوخ بني إسرائيل لخلافة ولده، وهل يرضى الشيوخ أن ينضووا تحت لواء غلام؟ وإن كان له من الفضل والنبل الشي الكثير، إضافة إلى أن الحسد دارٌ قلّما يسلم منه إنسان عادي.
* * *
وأخيراً.. أخبر (داود) بني إسرائيل بأمر الله تعالى، وأنه سبحانه جعل خليفته فيهم (سليمان).
وهنا قامت القيامة على بني إسرائيل، فضجّوا من ذلك، واستنكروا خلافة (سليمان) قائلين: وهل يستخلف (داود) علينا حدثاً، وفينا من هو أكبر منه؟ ولمّا أكثروا من اللغط والغلط والإنكار والشجب لخلافة سليمان (عليه السلام) أرسل داود (عليه السلام) إلى أسباط بني إسرائيل وشيوخهم ليكلّمهم ويناقش الموضوع وجهاً لوجه.
وقد أراد (داود) أن يدعم أمر خلافة سليمان بحجة وبرهان، لا يتمكّن أحد من إنكار تلك الحجة، ولا من مقابلة ذلك البرهان، ولذا جعل الحجة (معجزة) كما هو شأن الأنبياء، حتى يأتوا بالمعجزات إن رأوا عناد المخالف.
* * *
قال داود لشيوخ بني إسرائيل: قد بلغتني مقالتكم، وكراهتكم لتنصيب ولدي خليفةً عليكم من بعدي.. إن هذا من أمر الله، لا من أمري، فالله هو الذي يعيّن خلفاء الأنبياء، وإن أنكرتم قولي، فإليكم هذه الحجة:
أدّوني ـ يا معاشر شيوخ بني إسرائيل ـ عصيّكم، فأي عصا أثمرت وهي عودٌ يابسة، فصاحب تلك العصا هو الخليفة من بعدي، ووليّ أمر الناس.
يا لها من حجة! وهل تخضر العودة اليابسة؟ أم هل تأتي بثمرٍ؟ أليس ذلك كافياً لصدق (داود) (عليه السلام)؟ فإن إثمار العصي لا يكون إلا بأمر الله تعالى، فمن أثمرت عصاه فهو الخليفة.
اتفق الجميع على ذلك، وجاء شيوخ بني إسرائيل بعصيّهم، وقالوا لداود، رضينا بهذه الحجة.. فقال لهم (داود): ليكتب كل واحد منكم اسمه على عصاه، فكتبوا، وجاء (سليمان) أيضاً بعصاه وكتب عليها اسمه.
ثم.. أمر (داود) أن يجعلوا تلك العصي في غرفة، فجعلوها كما أمر وأغلقوا الباب، وتبنّى حراسة الغرفة رؤوس أسباط بني إسرائيل وكبراؤهم ـ حذراً من التزوير ـ ، وبقيت العصي في الغرفة ليلة كاملة فلمّا أصبحوا صلى (داود) بهم صلاة الصبح ـ على حسب عادته كل يوم ـ ثم أقبل في حشد كبير ففتح باب الغرفة، وأخرج العصي، وإذا بإحداها مثمرة.
وهنا اشرأبت الأعناق، وامتدّت الأعين، ليروا لمن هذه العصا؟ وكل يرجوا أن تكون عصاه.. وإذا بهم يقرأون الاسم المكتوب على العصا، فيلمع اسم سليمان (عليه السلام) فهذه عصا سليمان التي أورقت وأثمرت.
سلّم شيوخ بني إسرائيل الأمر لنبي الله (سليمان) وعلموا أنه من عند الله تعالى. فلا يحق لهم بعد هذه الحجة المناقشة، وأصبح معروفاً أن (سليمان) هو الخليفة الشرعي لداود (عليه السلام).
لكن داود (عليه السلام) أراد أن يظهر للناس فضل ولده (سليمان) وأن الله سبحانه لم يمنحه هذه العطية اعتباطاً، ولذا أخذ (داود) يسأل (سليمان) أسئلة تدل أجوبتها على مقدار ذكاء ولده، وعقله وحصافته.
وكان الاختبار والتداول في محضر بني إسرائيل ورؤوس الأسباط.
فقال داود لسليمان: يا بني ما أبرد الأشياء؟
قال (سليمان): عفو الله عن الناس، وعفو الناس بعضهم عن بعض.
قال (داود): يا بني ما أحلى الأشياء؟
قال (سليمان): المحبة، وهي روح الله في عباده.
فافترّ (داود) ضاحكاً، ثم قال مؤكداً: يا بني إسرائيل هذا ولدي (سليمان) خليفتي فيكم.
إن أسئلة (داود) كانت ذات وجهين، لكن ذكاء (سليمان) وفطنته أرشداه إلى وجه السؤال الحقيقي ولذا أجاب على طبق السؤال: إن برودة العفو على قلب الإنسان، أحسن من برودة الثلج، وحلاوة المحبة في روح المرء أكثر من حلاوة السكر.
ولعل في سؤالي (داود) إلماعاً إلى وجوب تفشي (العفو) و(المحبة) بين الناس لتستقيم أمورهم، وتقوى الصلات والروابط بينهم.
* * *
تزوّج (سليمان) بفتاة شريفة، وعاش في كنف والد زوجته مدة من الزمن.. وفي ذات يوم قالت الزوجة لسليمان: بأبي أنت وأمي ما أكمل خصالك، وأطيب ريحك، ولا أعلم خصلةً فيك أكرهها إلا أنّك في مؤنة أبي.
وكان لسليمان وجهة نظر في بقائه تحت رعاية أبي زوجته، كما أن الزوجة ثقلت عليها نفقة أبيها.
ثم قالت الزوجة لسليمان: فلو دخلت السوق فتعرضت لرزق الله رجوت أن لا يخيبك. وكان قصدها أن يحصل زوجها على رزق الله مباشرة، دون إعالة (داود) أو إعالة أبيها.
مضى سليمان، ذات يوم إلى ساحل البحر، فرأى صيّاداً يصيد السمك، فقال له: هل تحب أن أساعدك في مهمتك بأجرة تدفعها لي؟
رحّب الصيّاد بسليمان ـ وهو لا يعرفه ـ فأخذ سليمان يعاونه حتى إذا فرغ الصياد، قدّم لسليمان (عليه السلام) ـ سمكتين ـ أجرة لعمله.
فشكر سليمان الله تعالى، وأخذ السمكتين، ولما شقّ بطن إحداهما، وجد في جوفها خاتماً! ففرح بالخاتم، فرحاً كثيراً، لقد ساقه الله سبحانه إليه، ليجعل في ذلك الخاتم سر عظمة ملك سليمان، وتسخير كل شيء له.
* * *
إن الله سبحانه تفضّل على (داود) و(سليمان) فأعطاهما النبوة، والخلافة في الأرض، والسيطرة والسلطة (ولقد آتينا داود وسليمان علماً) فهما عرفا هذا الفضل لله تعالى وشكراه في مقابل هذه النعمة العظيمة فـ(قالا الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من عباده المؤمنين). وقد أعلم (سليمان) الناس بما منحه الله تعالى، زيادةً في الشكر (فإن الله إذا أنعم على عبدٍ بنعمةٍ أحب أن يرى أثرها فيه)(1).
(وورث سليمان داود) ورثه في إرثه الشخصي، كما ورثه في علمه وحكمته وسلطته (وقال يا أيها الناس عُلّمنا منطق الطير) فكان سليمان (عليه السلام) يعرف كلام الطيور، فإذا تكلّم ببغاء أو عصفور أو حمام أو هدهد أو غيرها من سائر الطيور، لآخر من بني جنسه، سمع سليمان كلامها وعرف معنى الكلام.
إنه (عليه السلام) لم يكن يعرف منطق الطير فقط، بل كان يعرف منطق سائر الحيوانات.. كما أن الله سبحانه سخّر لسليمان الريح، فكانت تحمله، كما تحمل الطائرة أحدنا.. وكان سليمان قد سخّر له (الجن) فكان الجن يعملون بأمره، إلى غيرها من النعم الكثيرة التي منحها الله سبحانه لسليمان تفضّلاً، ولذا قال سليمان لقومه ـ حيث كان يذكر فضل الله عليه ـ : (وأُوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين).
* * *
وقد كان لسليمان جلالة عظيمة، فقد دعا الله سبحانه قائلاً: (رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي) فاستجاب الله دعاءه وأعطاه الملك العظيم وكان من ذلك الملك العظيم (بساط سليمان).
وكان سليمان مع ذلك في منتهى التواضع والزهد، فكان يلبس لباس الشعر تزهداً في زخارف الدنيا.
وكان إذا أقبل الليل يشد يده في عنقه ـ تواضعاً لله تعالى ـ ويقف في محراب عبادته مصلّياً باكياً خاشعاً، حتى الصباح.
وكان إذا دخل مجلساً فيه أغنياء وفقراء تصفّح الوجوه، فيجوز عن الأشراف والأغنياء، حتى يصل إلى الفقراء فيقعد معهم، ويقول: (مسكين مع المساكين). وكان يعمل بيده سفائف الخوص، ثم يبيعها ويأكل من ثمنها. وإنما طلب الملك ليقوى به على الكفار وينشر في الأرض التوحيد، ويأخذ للمظلوم من الظالم.
أما بساط سليمان فهو شيء عجيب، لا تبلغه أكبر الطائرات والصواريخ المكتشفة في زماننا هذا. فكان يجلس أحياناً على بساطه، وعن يمينه ثلاثمائة ألف كرسي عليها الإنس، وعن يساره ثلاثمائة ألف كرسي عليها الجن، وكانت تأتي الطيور فتصفّ بأجنحتها على ذلك البساط الممتد حتى لا يؤذيها حر الشمس، ثم يرتفع هذا البساط المهيب في أجواء السماء.
* * *
ولسليمان (عليه السلام) قصص شيقة مع الحيوانات:
فذات مرة تحيّرت (القبرة) أين تبيض، فسألها ذكرها: أين تريدين أن تبيضي؟ فقالت الأنثى: لا أدري.. أنحيه عن الطريق ـ وكان ذلك لخوفها أن يصيب المارّة البيض في الطريق فيفسدوه ـ .
فقال الذكر: إني أخاف أن يمر بك مارٌ في الطريق.. وبعد لأي وجد الذكر والأنثى مكاناً مناسباً للبيض فباضت الأنثى وحضنت البيض حتى قرب الفقس.
فبينما هما كذلك طلع سليمان (عليه السلام) في جنوده والطير يظله فاضطربت الأنثى خوفاً من أن ينزل سليمان بجنوده فيدوسوا بيضها، فقالت للذكر: هذا سليمان قد طلع علينا بجنوده، ولا آمن أن يحطّمنا ويحطّم بيضنا؟
أجاب الذكر: إن سليمان لرجل رحيم لا يفعل ذلك.
ثم قرّر أن يقدّم كل واحد من الذكر والأنثى هديّة إلى (سليمان) استعطافاً له، وجلباً لانتباهه إلى مكانهما. فأخذ الذكر تمرةً في منقاره، وأخذت الأنثى جرادة في رجلها، وجاءا بالهديّة إلى سليمان.. فلمّا رآهما سليمان ـ وهو على عرشه ـ بسط لهما يديه فوقع الذكر في كفّه اليمنى، ووقعت الأنثى في كفة اليسرى فقدّما له الهدية، وأمر جنده أن يتجنّبوا محل بيضهما، ودعا لهما بالبركة ومسح سليمان تعطفاً على رأسيهما. ومن أثر يد سليمان أحدث الله (القنزعة) مثل التاج على رأس القبّرة.
جاءت سليمان يوم العرض قبّرةٌ تهدي إليه جراداً كان في فيها
فاستقبلته وقالت وهي ضاحــكةٌ إن الهدايا على مقــدار مهديها
* * *
وذات مرة حدثت قصة جميلة بين سليمان ونملة:
فقد أتى جمع (لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون) يجلس أوّلهم لآخرهم، حتى يجتمع الكل فيركبوا البساط، ويسيروا في الهواء أينما شاءوا.
وكان من شأن (البساط) أنه يسير في الفضاء صباحاً مقدار ثلاثين يوماً إذا أراد أن يسير فيها السائر العادي، وكذلك كان البساط يقطع مثل هذه المسافة، في المساء.
فسار البساط، وعليه سليمان وجنوده، والطير صافّات فوقهم (حتى إذا أتوا على وادِ النمل) وكان محلاً كثير النمل، من مدينة (الطائف) أو مدينة (الشام).
هناك نظرت نملة إلى بساط سليمان، فخافت إن نزل، أن يحطم النمل، سليمان وجنوده، ولذا قالت محذّرة سائر النمل: (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) في أجواف الأرض (لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) فإن الإنسان لا يشعر بوجود النملة تحت رجله.
وشاء الله تعالى أن يسمع سليمان كلام النملة (فتبسم) سليمان (ضاحكاً من قولها) كيف تتحفظ على بني نوعها، وتجنبهم الأخطار.
ثم توجه سليمان إلى ربه في ضراعة، قائلاً: (رب أوزعني) أي وفقني (أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليه وعلى والديَّ) ووفقني (أن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني) يا رب (برحمتك في عبادك الصالحين).
* * *
ومرّة أخرى سمع سليمان (عليه السلام) حواراً بين (عصفورٍ) و(عصفورةٍ) فقد كانت الأنثى تمنع نفسها عن معاشرة الذكر، فقال الذكر ـ مبيّنا قوّته لأنثاه ـ : لو شئت أخذت قبّة سليمان فألقيتها في البحر.
فعجب سليمان من كلام العصفور، وتبسم ضاحكاً.
ثم إن سليمان طلب العصفورين، وقال للعصفور: هل تطيق أن تفعل ما قلته للعصفورة، من إلقاء قبتي في البحر؟
قال العصفور: لا يا نبي الله، ولكن المرء قد يزين نفسه عند زوجته، والمحب لا يلام على ما يقول.
ثم توجه سليمان إلى العصفورة، قائلاً:
لم تفرّين من زوجك، وهو يحبك؟
قالت العصفورة: يا نبي الله، إن زوجي لا يحبني، وإنما هو يدّعي ذلك، والدليل على أنه لا يحبني، أنه يحب غيري.
هنا جاشت في نفس سليمان الخواطر الإلهية، فكيف يمكن أن يدّعي محبة الله، من يحب غير الله،؟ إن عصفورة صغيرة تعرف أن محبتين لا يجتمعان في قلب واحد، فكيف يقول الإنسان إني أحب الله، وهو يحب الدنيا؟ وهل يمكن أن تجتمع في قلب الإنسان محبتان: محبة الله ومحبة الدنيا؟
ولذا تأثر سليمان بكلام العصفورة، وبكى بكاءً شديداً، وأخذ يدعو الله سبحانه أن يملأ قلبه من محبته، ويفرغ قلبه من محبة ما سواه.
* * *
وفي يوم من الأيام كان سليمان (عليه السلام) جالساً، مع أصحابه، فصاحت الطيور، ففسر كلامها لأصحابه، حتى يعلموا أن كل طير يقول قولاً، وليست صيحات الطيور أصواتاً فارغة.
صاح (ورشان) فقال سليمان: يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب.
وصاحت (فاختة) فقال سليمان: تقول: ليت الخلق لم يخلقوا.
وصاح (طاووس) فقال سليمان: يقول: كما تدين تدان.
وصاح (هدهد) فقال سليمان: يقول: من لا يَرحم لا يُرحم.
وصاح (صرد) فقال سليمان: يقول: استغفروا الله يا مذنبين.
وصاح (طوطن) فقال سليمان: يقول: كل حي ميّت، وكلّ جديد بال.
وصاح (خطّاف) فقال سليمان: يقول: قدّموا ضراً تجدوه.
وهدلت (حمامةٌ) فقال سليمان: تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سماواته وأرضه.
وصاح (قمري) فقال سليمان: يقول: سبحان ربي الأعلى.
ثم.. إن سليمان (عليه السلام)، نشر لأصحابه كلام بعض الطيور الأخرى التي لم تكن حاضرة فقال (عليه السلام):
الغراب، يدعو على العشّارين.
والحدا، يقول: كل شيء هالك إلا وجهه.
والقطا، يقول: من سكت سلم.
والطائر الأخضر، يقول: ويلٌ لمن الدنيا همّه.
والباز، يقول: سبحان ربي وبحمده.
والدراج، يقول: الرحمان على العرش استوى.
وهذا الكلام الشيّق من سليمان فتح على أصحابه أبواب المعرفة، كما كان هذا الكلام فاتحة خير للبشر، حيث عرفوا أن الحيوانات تتكلم، وأخذوا يبحثون للتوصل إلى معرفة كلام الحيوانات(2).
* * *
وذات مرة كان سليمان (عليه السلام) جالساً على شاطئ بحر، فبصر بنملةٍ تحمل حبّة قمحٍ تذهب بها نحو البحر، فجعل سليمان ينظر إليها، حتى بلغت الماء، فإذا بضفدعة قد أخرجت رأسها من الماء وفتحت فاها، فدخلت النملة في فمها، وغاصت الضفدعة في البحر.
فدهش سليمان لهذا الحادث وأخذ يفكر متعجباً!
فلم يمر زمان حتى رأى سليمان الضفدعة تخرج من الماء، ثم فتحت فاها، وخرجت النملة من فمها، وليست معها حبّة الحنطة.
هنالك، دعا سليمان النملة، ليستفسرها عن الخبر؟
أجابت النملة: يا رسول الله، إن في قعر هذا البحر الذي تراه صخرة مجوّفة، وفي جوفها دودة عمياء قد خلقها الله هنالك، وهي لا تقدر على رزقها، وقد وكلني الله برزقها، فأنا أحمل رزقها، وهذه الضفدعة مأمورة أن تحملني إليها، فإذا وصلنا إلى الدودة، وضعت الضفدعة فمها على ثقب الصخرة، فأدخلها ـ وأنا آمنة من البلل ـ فألقم الدودة رزقها، ثم أخرج إلى فم الضفدعة لتردني إلى الجرف.
قال سليمان ـ وهو متعجب من فضل الله سبحانه في حكمته ـ : وهل سمعت أيتها النملة، من الدودة تسبيحة؟
قالت النملة: نعم.
إنها تقول: (يا من لا تنساني في جوف هذه الصخرة تحت هذه اللجة، برزقك، لا تنس عبادك المؤمنين برحتمك).
وقد كان في هذه القصة الطريفة تصديق لقول الله تعالى في القرآن الحكيم: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها).
وكذلك في هذه القصة تصديق لقول الله سبحانه: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).
كما أن فيها عبرة للإنسان وذكرى له: إنه لا ينبغي للحريص أن يعصي الله تعالى لتحصيل رزقه، كما يكون بعض الناس هكذا يرابون، ويغشون، ويسرقون، ويحتكرون، ويأكلون أموال الناس ظلماً، ويمنعون حقوق الله عدواناً.. كل ذلك ظنّاً منهم أن تلك الأعمال هي التي توفر لهم المعيشة، وهي التي تهيئ لهم الرزق.
ولذا قال القرآن الحكيم، تنديداً بهم: (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين). إن من لا ينسى دودة عمياء في جوف صخرة صمّاء، تحت مياه ظلماء، كيف ينسى الإنسان؟ وهل يمكن أن يحتاج الإنسان، لرزقه، إلى عمل الحرام؟ كلا! فمن خلق الإنسان يعطي ويرزق.
* * *
لقد كان (لسليمان الريح عاصفة) فكانت تعصف لتحمل بساط سليمان إلى حيث يشاء، فكانت الريح (تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها) أي جعلنا فيها البركة بإرسال الأنبياء، وبكثرة الثمار والأشجار والأنهار، وعذوبة الهواء ـ وهي أرض الشام، كما في بعض التفاسير ـ .
(وكنّا بكل شيء عالمين) ومن علمنا وحكمتنا أعطينا سليمان هذا البساط ليعرف الناس بعض قدرة الله تعالى، وليروا آثار ملكه.
(و) سخّرنا له (من الشياطين) والجِنة(3) (من يغوصون له) في أعماق البحار ليخرجوا الدّر واللؤلؤ والمرجان وسائر الأحجار الكريمة الموجودة في أعماق البحار.
والشيطان والجنّ هنا بمعنى واحد: فإنه جسمٌ لطيف لا تراه العين المجرّدة، يسمّى شيطاناً لشيطنته وسرعة تقلّبه في الأمور، كما يسمّى (جنّاً) لستره عن الأبصار(4).
(ويعملون عملاً دون ذلك) أي اسهل من الغوص في أعماق البحار البعيدة (وكنّا لهم) أي للشياطين (حافظين) لئلا يهربوا من سليمان أو يفسدوا عليه.. (و) قد كانوا يعملون له ما يشاء من (محاريب) للعبادة (وتماثيل) أي بمثال الأشجار وما أشبه (وجفان) جمع جفنة، وهي الآنية الكبيرة (كالجواب) أي كانت كل جفنة كالحوض الكبير، فإن (جواب) جمع جابية، وهي الحوض الكبير (وقدور راسيات) ثابتات في الأرض، القدور لأجل طبخ الطعام للجيش والناس، والجفان لأجل الإطعام (وأسلنا له عين القطر) أي أذبنا لسليمان عين النحاس، فكان كالماء المذاب، يصنعون به ما يشاءون.
وربما كان الجن يهربون من سليمان أو يريدون الإفساد، فـ(من يزغ) وينحرف (منهم) أي من أولئك الجن المسخرين لسليمان (عليه السلام) (عن أمرنا) فقد كان سبحانه أمر الجن بإطاعة سليمان (نذقه من عذاب السعير) فقد ورد أن الله سبحانه وكّل بالجن العاملين لسليمان، ملكاً بيده سوطٌ من نار، فمن زاغ منهم عن طاعة سليمان، ضربه ضربةٌ تحرقه.
وبعد ما أنعم الله تعالى، لسليمان بهذه النعم العظيمة، وكذلك أنعم على أقربائــه، بنعمة سليمان، ونعمة داود، قال لهم: (اعملوا آل داود شكراً).
قال الإمام الصادق (عليه السلام): (كانوا ثمانين رجلاً، وسبعين امرأة، ما اغب المحراب رجلٌ واحدٌ منهم يصلّي فيه)(5) فلم يكونوا يتركون المحراب والصلاة فيه، بل كانوا دائمي العبادة والطاعة.
وعمل الشكر؛ أعمّ من الشكر باللّسان، وإظهار الطاعة بالجوارح، والعقيدة الراسخة في القلب، بالنسبة إلى الله تعالى ولطفه، جميل صنعه.
* * *
قد عرفت في هذه القصّة الشيّقة كيف كان سليمان (عليه السلام) نبيّا عظيماً، وملكاً، وزاهداً.
ولعل من أسرار جمع الله لسليمان بين النبوة والملك، تعليم الملوك، وهداية المهتدين: أن لا منافاة بين الدنيا والدين، فرجل الدين يتمكّن أن يدير البلاد، ورجل الملك يتمكن أن يرشد الناس.
وقد كان يوسف الصديق (عليه السلام)، أيضاً نبّياً وملكاً، وكان نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّاً ويدير أمن البلاد ويصلح شأن الدنيا.
أمّا معجزات سليمان، وما أوتي من القوة والقدرة، وتسخير الجن وما أشبه ذلك.. فكلّها هيّنة بالنسبة إلى قدرة الله تعالى، إنه سبحانه الخالق القادر الذي بيده كل مفتاح، وهو على كل شيء قدير، وقد شاءت حكمته أن يجعل مقاليد بعض أجزاء الكون في يد نبيه سليمان (عليه السلام) ليكون آية لنبوّته، كما كانت ناقة صالح، وعصا موسى، وإحياء عيسى للموتى، ونار إبراهيم عليهم السلام، آيات دالّة على صدق نبوة هؤلاء الأنبياء.

milagro
•

milagro
•
مريم الطاهرة (عليها السلام)
كانتا اختين طاهرتين عفيفتين، إحداهما (حنّة) والأخرى (حنانة) وقد سعدهما الحظ.
فتزوّج بإحداهما وهي (حنانة) النبي العظيم زكريّا (عليه السلام).
وتزوّج بالأخرى، وهي (حنّة) الرجل الصالح السعيد (عمران).
لكن من غريب الأمر أن الأسرتين لم يتحفا بأولاد، مدة مديدة من الزمان.
لقد كان زواج حنّة بعمران مباركاً إلى أبعد حد، وكان يسود الأسرة الرفاه والإلفة والسرور.. لكن هذه النقطة، وهي عدم إنجابها الولد، كانت تلقي في نفسيهما الحزن والأسى.
وخصوصاً في نفس الفتاة الحنون، إنها كانت تحب أن ترى إلى جنبها طفلاً يؤنس وحشتها، ويلقي في نفسها البهجة، وتناغيه في أوقات الوحدة.
لكن الأقدار ما كانت تسمح بذلك، وكلّما تقدّم بها السّن، ازدادت كآبة وحسرة، وذات مرّة، رأت طائراً يزق فرخه، فانبعثت في نفسها موجةٌ من الألم المشوب بالأمل، فهل يمكن أن تزرق ولداً تزقه، كما يزق هذا الطائر فرخه؟
وكلّما رأت أمّا إلى جنبها طفل، تذكّرت أملها وألمها.
وهكذا مرّت الأيام عابسة لا ترى فيها بصيصاً من النور، وكانت قلقة لما تعانيه من العقم.
* * *
موجةٌ من السرور غمرت بيت (عمران) حين أخبر زوجته (حنّة) أن الله أوحى إليه أنه يهبهما ولداً.
لقد تهلّلت أسارير وجه (حنّة) وانقلب العبوس في وجهها سروراً، وأخذت تبسم بعد طول كلوح(1).
يا لها من فرحة! إنها ترزق الولد الذي كانت تتمناه منذ لحظة اقترانها بـ(عمران).
ولم تمض الأيّام واللّيالي، إلا وتحس بأن الجنين يتحرّك في بطنها، فيا للفرحة ويا للسرور! لقد تحقّقت الأماني، وتبسّمت الأيّام، وهاهو الجنين الموعود يتحرّك، دليلاً على رشده ونموّه.
إنها تحسب للجنين ألف حساب وحساب، شأن الأمّهات اللاتي يرجين مستقبل أولادهن.
لكن المرأة الصالحة (حنّة) شكرت لله عطيته، وعرفت لله سبحانه فضله وكرمه، بهبتها هذا الجنين، فأرادت أن تقابل العطيّة بالشكر، فنذرت أن يكون الولد (محرّراً)(2) لخدمة بيت المقدس.
(إذ قالت امرأة عمران ربّ إني نذرت لك ما في بطني محرّراً) عتيقاً لا تشغله أمور الدنيا، بل يكون خالصاً لخدمتك وخدمة بيتك، وخدمة العباد (فتقبّل) يا رب هذا النذير (مني إنك أنت السميع العليم).
وهكذا أخذت (حنّة) تعد الأشهر والأسابيع والأيّام، لمقدم هذا الضيف الجديد، الذي غمر حياتهم بهجة وفرحاً، بعد طول يأس وأسى.
* * *
لم تمض الأيام، إلا و(حنّة) تحس بألم الطلق، فيا له من ألم مفرح، فها هي الساعات الأخيرة، التي تمنح فيها ما كانت تترّقبه بفارغ الصبر.
وإذا.. بالمولود قدّم إلى هذه الحياة، وفتح عينيه للنور.
لكن.. مرّة ثانية غمرت (حنّة) الأمّ، موجةٌ من الحزن، وإن لم يكن الحزن في هذه المرّة، مثل الحزن الذي كان يراودها، وهي حائل.
إنه الحزن بكون الولد (أنثى) فيا لخيبة الأمل، ويا لانهدام الرجاء، فقد كانت ترجو أن يكون المولود (محرّراً) لكن الأنثى لا تصلح للتحرّر، إن المحرّر ولد يناسب دور العبادة، أمّا الأنثى فكيف تعاشر الرّجال؟
ثم إن المحرر يلازم المسجد طول حياته، وإن خرج في ساعات، لم يلبث إلا أن يرجع أمّا الأنثى فلا تقدر على المكث في المسجد في أيام عادتها، ولا مأوى لها لتقضي تلك الأيام هناك.
إنه لا مفرّ من قضاء الله، إنها أنثى، وقد تمّ الأمر، وليس بيد الأم شيء، فسمّتها (مريم) بمعنى (العابدة) ليكون الاسم قريباً مما كانت تقصده من الخدمة للبيت الذي هو للعبادة.
(فلمّا وضعتها قالت) (حنّة) يائسة حزينة، شاكية خيبتها إلى الله سبحانه: (ربِّ إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى) فلا يأتي من الأنثى خدمة المسجد كما كان يأتي من الذكر، (وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك) يا رب (و) أعيذ (ذرّيتها من الشيطان الرجيم) فتلطف عليها وعلى ذرّيتها بحفظك وحراستك، ورعايتك وكلاءتك.
* * *
إن (حنّة) لم تكن تعلم الدور الذي قُدّر لمريم عليها السلام من عالم الغيب، ولم تكن تعلم أنها صديقةٌ طاهرة، لا ترى الدّم، ولم تكن تعلم أنها أفضل من ألف ولد وولد.. فلها الحق في أن تحزن حين تعرف أنها أنثى.
ولو كانت تعرف (حنّة) كل ذلك، لغمرتها موجةٌ من السرور عوض الحزن، والفرح، عوض اللوعة.
ومن ناحية أخرى.. لو كانت تعلم (حنّة) الأم الحنون ما قدّر لبنتها الطاهرة (مريم) من الأتعاب والمصائب، لذرفت الدموع الساخنة، ولعصرت فؤادها الأحزان والأشجان.
إن (مريم) الطاهرة، لابد وان تلاقي مصاعب (الولادة) لوليد بدون أب! وهل يقبل منها أحد ذلك؟ إن مثل هذه الفاجعة لتدكُّ الجبال الرواسي، فكيف بقلب فتاة طاهرة بريئة؟
إن (مريم) الطاهرة، لابد وان تلاقي لوم اليهود وقذفهم، وافتراءهم(3)، بما تكاد السماوات يتفطّرن منه، وتنشقّ الأرض، وتخرّ الجبال هدّاً.
إن (مريم) الطاهرة، لابد وان تلاقي ـ بعد هذا وذاك ـ مصاعب نبوّة ولدها المسيح (عليه السلام)، وكيد اليهود له، وغربتها وغربة ولدها، في الفيافي والجبال، حيث تلفحهما الشمس بحرارتها، وحيث لا يجدان ملجأ ولا مأكلاً ولا ملبساً، إلا عشب الأرض وكهوف الجبال والأسمال البالية.
إن (حنة) الأم الرؤوف لا تعرف ذلك المستقبل الإلهي المشرق، ولا ذلك المستقبل الاجتماعي الأليم، لبنتها الصغيرة (مريم) وإنما تعرف أنها (أنثى) وأنها خابت في ظنونها ورجائها.
* * *
وأخيراً.. استقرّ رأي (حنة) على أن تهدي بنتها (مريم) إلى بيت المقدس، كما نذرت والعبّاد هم يعرفون تكليفها، ما يصنعون بها؟
ولقد كان الأشد على (حنّة) أنها كانت تقاسي كلّ هذه الآلام والحيرة، وحدها، فقد فقدت زوجها (عمران) قبل ولادة (مريم) مما زاد في حزن الأمّ وألمها.. لقد مات الزوج الشاب الصالح قبل أن يرى الوليد الذي طالما تمنّاه، يا لها من مصيبة على قلب (حنّة)! ويا لها من دمعة في مآقيها! ويا لها من غصّة في حلقها!
فلقد فقدت الزوج والكفيل، وبقيت تقاسي آلام الحياة وحدها، ثم خاب ظنّها بالجنين الذي عقدت ـ بعد فقد الزوج ـ آمالها عليه، لعلّه يكون ولداً، تعيش الأم في ظله بدلاً من أبيه!
وما فائدة الحزن واللوعة؟ فالمقدّر كائن.
لفّت (حنّة) بنتها الوليدة في القماط، وتقدّمت إلى بيت المقدس، حيث العبّاد. ثم سلّمتها إلى جماعة من الناسكين الذين كانوا لربهم يرهبون، وقصّت لهم قصّتها..
تهافت الناسكون على أخذ البنت، بكل شوق وسرور، عندما علموا أنها بنت زميلهم الفقيد (عمران) وابنة أخت زوجة سيّدهم ونبيهم زكريا (عليه السلام).
وحيث أن الرضيع تحتاج إلى عناية ورعاية، حتى تكبر وتنمو وتنشأ، وقع بينهم الخلاف فيمن يكفلها؟ فكان كل واحد يرشّح نفسه لكفالتها، وكان (زكريّا) من جملة المرشّحين نفسه لذلك، ويحتج بأنه أحق لأن (مريم) تمت إليه بصلة، وأن في داره خالة مريم (حنانة).
* * *
لم يقبل الأحبار أن تسلّم البنت إلى (زكريّا) زوج خالها، بالرغم من صحة احتجاج زكريّا. وأخيراً قرّروا جميعاً الاقتراع، بأن يلقوا أقلامهم التي يكتبون بها التوراة، في الماء، فالقلم الذي يطفوا فوق الماء يتولّى صاحبه تربية (مريم).
وقد كانت الأقلام من الحديد، ولذا كان طفوّها على الماء شيئاً خارقاً(4).
(وما كنت لديهم) يا رسول الله (إذ يلقون أقلامهم) في الماء (أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) في أمر كفالة بنت زميلهم؟
ولعلّ الأحبار إنما اختصموا في هذا الأمر، لما وصل إلى علمهم، من جلالة مريم، ومستقبل أمر عيسى (عليه السلام)، فإن الأنبياء السابقين كانوا يبشرون بالأنبياء اللاحقين، كما أن الأنبياء اللاحقين كانوا يصدّقون بالأنبياء السابقين.
ولعل مناسبة الاقتراع بالأقلام بمناسبة الإرهاص بنبوّة المسيح (عليه السلام) المناسب لكتاب الإنجيل، المكتوب بأقلامهم.
وكيف كان.. فقد رسبت أقلام الأحبار في الماء، وبقي قلم زكريا طافياً فوق الماء فوافق الجميع على أن تكون مريم في كفالة زكريا.
وماذا كان يعمل زكريّا أيّام رضاع البنت؟ هل أخذ لها مرضعاً؟ أو جعلها في بيت المقدس وكان يأتي باللبن إليها؟ ثم ماذا كان يصنع بسائر شؤونها؟ كل ذلك مما لا نعلمه.
نعم.. (تقبّلها ربها بقبول حسن) فإنها وإن كانت أنثى، لكن ربها قبلها محرّرة في بيت المقدس (وأنبتها نباتاً حسناً) فكانت تنمو نمواً سريعاً، بكل نظافة ونضارة مما كان يبشّر بمستقبل زاهر.
* * *
وضع زكريا (عليه السلام) مريم الطاهرة في غرفة رفيعة منعزلة عن محل الأحبار، لا يمكن الوصول إليه إلا بسلم عال.
وأخذ يواظب على رعايتها والعناية بها، فكان يأتي إليها في كل حين، ليتفقّدها، ويقوم بخدماتها.
وهكذا استمرّ زكريّا في خدمة البنت الطــاهرة، حتى نشأت وكبرت، وذات يوم دخل عليها، وإذا به يرى بعض الفواكه والأطعمة الطيبة عندها.. دهش لذلك. يا ترى من الذي جاء إلى غرفتها، وأهدى إليها هذه الهدية الحسنة؟ أليست الغرفة مغلقة؟ أليست هي التي لا ترضى أن يدخل عليها أحد؟
وهكذا وجد الرزق عندها مرّات ومرّات.. والأعجب أن الفواكه التي كان يجدها عند (مريم) تثير الدهشة، ففواكه الشتاء يجدها عندها في أيام الصيف، وفواكه الصيف، يجدها عندها في أيام الشتاء؟
(كلّما دخل عليها زكريّا المحراب) أي في محراب عبادتها، وفي الغرفة الخاصّة بها (وجد عندها رزقاً) وذات مرّة سأل زكريا (مريم) عن مصدر هذا الرزق (قال يا مريم أنى لك هذا)؟ فمن أين يأتيك هذا الطعام وهذه الفواكه؟
(قالت) مريم: (هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) هناك عظم تقدير زكريّا لمريم وعلم أنها مائدة سماوية، اختص الله بها مريم كرامةً لها وإجلالاً لقدرها.
وكم كانت غبطة زكريّا عظيمة حين رأى مثل هذه الكرامة لفتاة تمتّ إليه بصلة!
* * *
أخذت الأيام تمضي مسرعة، والفتاة مشتغلة بتبتلها وعبادتها، خالصةً لوجه الله تعالى، لا تعرف أسرة تعوقها عن العمل لله، ولا منيت بعمل دنيوي، يحول بينها وبين الاستمرار في الطاعة والعبادة.
وذات مرة دهشت أشد الدهشة، مما وقف له شعرها، ووجب(5) له قلبها، إذ سمعت صوتاً من جهة الأعلى، ولم تر الشخص الذي كان يتكلّم بكلام عجيب، قائلاً:
(يا مريم إن الله اصطفاك) اختارك لأن تكوني مورد لطفه وعنايته (وطهّرك) عن الذنوب والأرجاس(6)، وعن الدماء التي تراها النساء (واصطفاك على نساء العالمين) فأنت سيدة نساء زمانك ـ بكل عوالمه ـ .
أمّا سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، فهي (فاطمة الزهراء) بنت محمد (صلى الله عليهما وعلى آلهما).
ثم أردف القائل الغيبي كلامه: (يا مريم اقنتي) واخضعي (لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) الأحبار الذين يركعون في بيت المقدس، فأنت من جملتهم وفي جماعتهم.
تهلّلت أسارير (مريم) لهذا النداء الغيبي، وعرفت أن النداء كان من الملائكة، وأنها موضع لطف الله وحسن رعايته، فاستبشرت وفرحت، وأخذت تجد في العبادة، شكراً لهذه العطية السنيّة، وقياماً بالواجب تجاه هذه النعمة الجليلة.
وهكذا مضت عجلة الزمان، لا تلوي على شيء.
فها نحن أمام فتاة عفيفة طائعة لربها في غرفة منعزلة في بيت المقدس، يعاهدها زوج خالتها، منقطعة عن الأب والأم، فقد مات أبوها قبل أن ترى النور، والأمّ سلّمتها بيد الزهاد (محرّرة) لا شأن لها بها، لتنظر ما خبّأ لها المستقبل.
* * *
لقد أثارت المكرمة التي رآها (زكريا) في (مريم) كامن رغبته، التي طالما تمنّاها، في أن يرزق الولد، أليست زوجته (حنانة) وأم مريم (حنة) أُختين؟ ألم تكونا تنتظران الولد منذ مدّة؟ فها هو لطف الله سبحانه يشمل (حنة) فيهبها البنت الطاهرة (مريم) فما المانع من أن يتفضّل الله سبحانه على زكريا بولد من خالة مريم؟
إن أيّام زكريّا قد انقضت، وإن نذير الموت قد لاح في مفرقه، وإن المرأة (حنانة) زوجة زكريّا، اشتهرت بين الناس أنها عقيمة، ولا أدلّ على صدق قول الناس من أنها لبثت هذا الزمان الطويل، بدون ولد.
لكن الله قادر على كل شيء، فهو يستطيع أن يخلق الإنسان من التراب.. وقدرته على إعطاء الولد من أبوين أولى ـ وإن كانت قدرة الله بالنسبة إلى كل شيء على حد سواء ـ .
(هنالك) في هذا الوقت، بقلب ملؤه الرجاء (دعا زكريّا ربه قال ربِّ هب لي من لدنك ذرّيةً طيّبةً) فيها طيب العقيدة والأخلاق والبركة (إنك) يا رب (سميع الدعاء).
وقد أشفع زكريا دعاءه هذا بالضراعة والاستكانة، فقال: (ربّ إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً) فعظمي واهن ضعيف من الكبر ورأسي مبيض كأنه شعلة من الشيب (ولم أكن بدعائك ربي شقيّاً) فلا أحرم الإجابة فيما دعوتك (وإني خفت الموالي) أقاربي (من ورائي) من بعدي، فإنهم لا يليقون بمقام الخلافة لي والسهر على الدين ومصالح الأمة (وكانت امرأتي عاقراً) لا تلد.
وقد استجاب الله دعاء زكريّا، وتفضّل بإعلامه ذلك، فقال عزّ شأنه: (يا زكريّا إنا نبشّرك بغلام اسمه يحيى) فقد عيّنّا اسمه، تفضّلاً منا عليه وعليك، و(لم نجعل له من قبل سميّاً) فكان يحيى ابن خالة مريم.
* * *
دارت عجلة الأيّام على (مريم) وهي تعبد الله في محرابها، داخل بيت المقدس ولم يكن لها عشيق، ولا زوج، ولا خدن(7)، ولا خطيب.
أما حديث يوسف النجار، فحديث مفتعلٌ(8) اخترعه مردة أهل الكتاب.
كما أنها لم يكن لها أولاد آخرون، يقوم المسيح (عليه السلام) بكفالتهم، من مهنة النجارة.
إنها مريم الصديقة العذراء التي لم تر رجلاً، ولم يكن لها ولد إلا عيسى المسيح (عليه السلام).
وفيما كانت تعبد (مريم) ربّها تبدّلت الأحوال فجأة، فقد أرادت الاغتسال، فانتحت ناحية المشرق، بحيث صار أهلها في طرف المغرب، ولعلّها جاءت إلى طرف المشرق من بيت المقدس، لكونه في جهة الشمس فيناسب الاغتسال (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً) انتبذت، أي تنحّت في مكان في طرف المشرق من مسكنها. (فاتخذت من دونهم حجاباً) يسترها عن أعينهم (فأرسلنا إليها روحنا) أي روحاً من طرفنا ـ والإضافة للتشريف ـ وكان ذلك الروح جبرائيل (عليه السلام). (فتمثّل) ذلك الروح (لها) أي لمريم (بشراً سويّاً) أي شاباً مكتملاً غير ناقص.
لكن مريم الطاهرة، اضطربت حين رأت هذا الفتى في مثل هذه الحالة، أشد الاضطراب، فإن البنت الباكر العفيفة، إذا اتفق لها مثل هذا الحادث ترتعد وتخاف على شرفها، أليس مثل هذا الشخص، الذي يفاجئها يريد عفافها. وماذا تصنع مريم وهي فريدة لا تملك سلاحاً ولا دفاعاً؟
ولذا لم تملك مريم عليها السلام إلا الوعظ والنصيحة، والاستعاذة بالله سبحانه من شره (قالت إني أعوذ بالرحمن منك) أيها الفتى (إن كنت تقيّاً) تخاف الله سبحانه.
* * *
لكن الفتى أجاب مريم بما زاد مخاوفها (قال) جبرائيل (عليه السلام): (إنما أنا رسول ربك) مرسل من قبله، ولست بشراً، كما ظننت، فقد جئتك (لأهب لك غلاماً زكيّاً) ولداً مباركاً.
يا للهول! هل تصدّق مريم بأن هذا جبرائيل؟ ثم لنفرض أنه جبرائيل، فكيف يهب لها غلاماً بدون زوج؟ ولنفرض أنه وهبه بأمر الله، فماذا تقول مريم للناس؟ هل يصدّقها الناس ويعترفون بالواقع أم يفترون عليها بما لا يليق بساحتها؟
كل ذلك مر بخاطر مريم ـ كما هو الطبيعي، في أقل من لمحة بصر ـ لكن هول الموقف، لم يعقد لسانها، بل أخذت تحاج وتكلم جبرائيل: (قالت أنّى) وكيف (يكون لي ولد و) الحال أنه (لم يمسسني بشرٌ) فلم يقترب مني رجل اقتراب الزوج من زوجته، (ولم أكُ بغياً) زانية؟ فإن الولد ـ في العادة ـ يكون إما من الزواج أو السفاح، ولم يحصل لي أحد الأمرين، فكيف يكون لي ولد؟
(قال) جبرائيل في جواب سؤال مريم: (كذلك) أي كذا الذي ذكرت لك (قال ربك) يا مريم: (هو عليّ هيّن) إعطاء الولد بدون نكاح أو سفاح على الله أمرٌ سهل يسيرٌ. فإن قدرته سبحانه عامّةٌ على كل شيء.
ثم بيّن جبرائيل أن إعطاء الولد لك بدون أب ليس أمراً اعتباطياً بل (ولنجعله آيةً للناس) حجةً لله على البشر، حجة من حيث القدرة وحجة من حيث النبوة (ورحمةً منّا) فإن المسيح (عليه السلام) كان رحمةً من الله على البشر، يرشدهم إلى الحق وإلى سبيل السعادة والسلام.
ثم أردف جبرائيل قائلاً: (وكان) إعطاء الولد لك (أمراً مقضياً) لا بد وأن يكون، فليس محل احتجاج، وطلب، لرفع هذا الشيء المقدر، وذلك ليقطع على مريم سبيل المحاورة والمحاجّة حول الولد، فلا تترقّب صرفه بالدعاء وما أشبه.
* * *
نفخ جبرائيل (عليه السلام) في جيب مريم عليها السلام، فاكتمل عيسى في بطنها في الساعة (فحملته) أي حملت بعيسى (فانتبذت) أي ابتعدت وتنحّت (به) أي بحملها (مكاناً قصيّاً) أي بعيداً عن أهلها، وذلك لئلاً يروها على حالة الحمل فيلوموها، وتكون مورد سؤالهم.
وقد ورد أن مدّة حملها كانت تسع ساعات.. وأنها جاءت إلى كربلاء المقدسة بقدرة الله تعالى، وليس مثل هذه الأمور بعيداً عن قدرة الله تعالى.
(فأجاءها المخاض) أي ألجأها الطّلق ووجع الولادة (إلى جذع النخلة) لتستند إليها والجذع ساق النخلة.. وكم كانت الأحزان والهموم تتراكم على قلب المخدّرة(9) الطاهرة مريم، إذ ترى نفسها في وضع غريب، ليست له سابقةٌ في تاريخ الفتيات الصالحات؟
فقد أخذت منها الدهشة كل مأخذ، كيف حملت؟ وكيف تفرّدت في صحراء قاحلة للوضع؟ وكيف يلقاها الناس؟ وما هذا الولد؟ وأي أمرٍ مقدّر هذا؟
ومن الطبيعي أن تنهمر عينا الصديقة الطاهرة بالدموع، (قالت) بكل لوعة وأسى: (يا ليتني متُّ قبل هذا) الذي أراه مما وقعت فيه (وكنت نسياً منسياً).
وفي هذه الأثناء، جاءت بعيسى المسيح، ولداً جميلاً، كامل الخلقة، يطفح وجهه المنير بالبشر والسرور، كفلقة القمر ليلة البدر.
وبمجرّد أن سقط عيسى على الأرض، ورأت مريم وجهه المبارك، جعل الله في قلبها محبته المتزايدة، وكأنّ يد الرحمة لمست قلب الأم، فأعادت إليه الطمأنينة والارتياح..
إنه ليس بولد عادي كسائر الأولاد، بل هو نبي عظيم ادّخره الله سبحانه لأداء رسالة مهمة.
* * *
وهنا لتسلية قلب الأم، وإقناعها أن الأمر من الأمور المرتبطة بالسماء، أنطق الله الولد (فناداها) أي كلّم المسيح، أمّه (من تحتها) أي الأسفل، من الأرض، قائلاً: (ألاّ تحزني) يا والدتي، من هذا الحادث (قد جعل ربك تحتك سريّاً) أي جدولاً سارياً من الماء، فقد ضرب المسيح برجله على الأرض ـ كعمّه الأعلى إسماعيل (عليه السلام) ـ فانفجرت الأرض ماءً.
(وهزّي) أيتها الأمّ (إليك) أي اجذبي نحو نفسك (بجذع النخلة) الموجودة إلى جنبك، ليقع فيها الاهتزاز، فإن هززته (تساقط عليك رطباً جنيّاً) طريّاً قد جني الساعة.
وكذلك فعلت الأم الوالدة، هزّت الجذع، فأسقط الرطب (فكلي) من الرطب (واشربي) من الماء (وقرّي عيناً) أي طيبي نفساً بهذا الولد.
فأكلت مريم من الرطب، وشربت من الماء، وقرّت عينها بولدها.
ولماذا تخاف وتقلق؟؟
لقد ذهبت عنها وحشة الانفراد، بولدها الجميل، وذهب عنها ألم الطّلق، وارتوت من الماء، وشبعت من الرطب الجنيّ، وفوق ذلك كلّه إنها تعلم إمداد السماء لها، فقد تواترت الخوارق عليها:
رأت الملائكة، وحملت بلحظة بدون رجل، وانطوت تحتها الأرض مسافات شاسعة من فلسطين إلى العراق، ولم يطل حملها أكثر من تسع ساعات، ثم انفجرت عين الماء تحت رجل ولدها، وأخذ الرضيع يتكلّم..
وهل بعد هذا كله من قلق واضطراب؟
* * *
نعم.. بقي شيء، فبماذا تجيب الناس، إذا سألوها عن أمر الوليد؟ إنها حقّاً مشكلة تقلق بال الإنسان، ولو علم أنه على حق.
وقد شاء سبحانه أن يحل المسيح الوليد (عليه السلام) هذه المشكلة، فيتكلّم ثانية ليقول لأمه:
(فإمّا) أي إن (ترينّ) أيتها الأمّ (من البشر أحداً) فسألك عن الولد: من أين أتيت به من غير زوج؟ (فقولي) في الجواب، إشارةً مفادها: (إني نذرت للرحمن صوماً) وكفّاً عن الكلام (فلن أكلّم اليوم إنسياً).
وقد كان ذلك، لأجل أن لا يرهقها الناس بالمجادلة. وإنما تكتفي بكلام المسيح (عليه السلام) جواباً عن أسئلة الناس.. فيكون جواباً وحجة.
وهنا فرحت مريم أشد الفرح، إذ انحلّت كل مشكلتها، وانجلى ما بها من هموم وأحزان.. فقمّطت الوليد، وأخذته قاصدة نحو أهلها (فأتت به) أي بالمسيح (قومها تحمله) على يديها، ولمّا رآها القوم غمرتهم موجة من العجب، فها هي مريم الطاهرة الصديقة، تحمل طفلاً؟ من أين؟ وكيف؟ ولذا تقدّموا إليها و(قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً) أي أمراً عظيماً عجيباً.
(يا أخت هارون) يا أيتها الشبيهة بهارون الرجل الصالح ـ وقد كان هارون رجلاً صالحاً يشبه به كل من عرف بالصلاح ـ من أين لك هذا الولد من غير زوج؟ أمن السفاح وكيف ذلك؟ فإنه (ما كان أبوك) عمران (امرأ سوء) يعمل القبيح (وما كانت أمك) حنّة (بغيّاً) حتى نقول إنك تعلّمت البغاء منهما؟ فمن أين لك هذا الولد؟
* * *
نعم.. بقي شيء، فبماذا تجيب الناس، إذا سألوها عن أمر الوليد؟ إنها حقّاً مشكلة تقلق بال الإنسان، ولو علم أنه على حق.
وقد شاء سبحانه أن يحل المسيح الوليد (عليه السلام) هذه المشكلة، فيتكلّم ثانية ليقول لأمه:
(فإمّا) أي إن (ترينّ) أيتها الأمّ (من البشر أحداً) فسألك عن الولد: من أين أتيت به من غير زوج؟ (فقولي) في الجواب، إشارةً مفادها: (إني نذرت للرحمن صوماً) وكفّاً عن الكلام (فلن أكلّم اليوم إنسياً).
وقد كان ذلك، لأجل أن لا يرهقها الناس بالمجادلة. وإنما تكتفي بكلام المسيح (عليه السلام) جواباً عن أسئلة الناس.. فيكون جواباً وحجة.
وهنا فرحت مريم أشد الفرح، إذ انحلّت كل مشكلتها، وانجلى ما بها من هموم وأحزان.. فقمّطت الوليد، وأخذته قاصدة نحو أهلها (فأتت به) أي بالمسيح (قومها تحمله) على يديها، ولمّا رآها القوم غمرتهم موجة من العجب، فها هي مريم الطاهرة الصديقة، تحمل طفلاً؟ من أين؟ وكيف؟ ولذا تقدّموا إليها و(قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً) أي أمراً عظيماً عجيباً.
(يا أخت هارون) يا أيتها الشبيهة بهارون الرجل الصالح ـ وقد كان هارون رجلاً صالحاً يشبه به كل من عرف بالصلاح ـ من أين لك هذا الولد من غير زوج؟ أمن السفاح وكيف ذلك؟ فإنه (ما كان أبوك) عمران (امرأ سوء) يعمل القبيح (وما كانت أمك) حنّة (بغيّاً) حتى نقول إنك تعلّمت البغاء منهما؟ فمن أين لك هذا الولد؟
* * *
لم تجب مريم على كلام القوم، (فأشارت إليه) إلى عيسى، حسب ما قرّر بين الرضيع والوالدة، إشارة معناها: وجّهوا سؤالكم إلى عيسى؟
(قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّاً)؟ وهل يتمكّن الرضيع الذي من شأنه أن يوضع في المهد من التكلّم والجواب؟
لكنّ الرضيع بادر بالجواب ـ بإذن الله تعالى ـ ليجيب جواباً مقنعاً، مشفوعاً بإعجاز، فـ(قال) موجّهاً كلامه إليهم: (إني عبد الله) وقد فنّد المسيح (عليه السلام) بأول كلامه عندهم مزاعم المسيحيين أنه الله، أو أنه ابن الله (آتاني الكتاب) أعطاني الإنجيل (وجعلني نبيّاً) فقد أوتي عيسى كسائر الأنبياء، النبوّة والكتاب، منذ عالم الذَّر، وإنما الإظهار كان في وقت متأخر.
(وجعلني) الله (مباركاً) ذا بركة ونموّ للخير (أينما كنت) لا كالمثري الذي له الثراء عند دكانه وصندوقه، أو كذي المنصب الذي له مقامه في مكان دون مكان. (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيّاً) مكلّفاً.
(و) جعلني (برّاً) أي بارّاً رؤوفاً (بوالدتي) الطاهرة مريم (عليها السلام) (ولم يجعلني جبّاراً) يؤذي الناس ويجبرهم كالطغاة (شقيّاً).
(والسلام عليّ) السلامة من العاهات الجسمية، والأوضار الروحية (يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً).
وحيث سمع الناس هذا الكلام البديع من عيسى، أخذتهم الدهشة، وعلموا أن الأمر خارق، وإنما أراد الله بمريم الصديقة الخير والسعادة، حيث أتحفها بهذا المولود العظيم، وانقطع المجادلون عن الكلام بعد هذه المعجزة الباهرة.
كانتا اختين طاهرتين عفيفتين، إحداهما (حنّة) والأخرى (حنانة) وقد سعدهما الحظ.
فتزوّج بإحداهما وهي (حنانة) النبي العظيم زكريّا (عليه السلام).
وتزوّج بالأخرى، وهي (حنّة) الرجل الصالح السعيد (عمران).
لكن من غريب الأمر أن الأسرتين لم يتحفا بأولاد، مدة مديدة من الزمان.
لقد كان زواج حنّة بعمران مباركاً إلى أبعد حد، وكان يسود الأسرة الرفاه والإلفة والسرور.. لكن هذه النقطة، وهي عدم إنجابها الولد، كانت تلقي في نفسيهما الحزن والأسى.
وخصوصاً في نفس الفتاة الحنون، إنها كانت تحب أن ترى إلى جنبها طفلاً يؤنس وحشتها، ويلقي في نفسها البهجة، وتناغيه في أوقات الوحدة.
لكن الأقدار ما كانت تسمح بذلك، وكلّما تقدّم بها السّن، ازدادت كآبة وحسرة، وذات مرّة، رأت طائراً يزق فرخه، فانبعثت في نفسها موجةٌ من الألم المشوب بالأمل، فهل يمكن أن تزرق ولداً تزقه، كما يزق هذا الطائر فرخه؟
وكلّما رأت أمّا إلى جنبها طفل، تذكّرت أملها وألمها.
وهكذا مرّت الأيام عابسة لا ترى فيها بصيصاً من النور، وكانت قلقة لما تعانيه من العقم.
* * *
موجةٌ من السرور غمرت بيت (عمران) حين أخبر زوجته (حنّة) أن الله أوحى إليه أنه يهبهما ولداً.
لقد تهلّلت أسارير وجه (حنّة) وانقلب العبوس في وجهها سروراً، وأخذت تبسم بعد طول كلوح(1).
يا لها من فرحة! إنها ترزق الولد الذي كانت تتمناه منذ لحظة اقترانها بـ(عمران).
ولم تمض الأيّام واللّيالي، إلا وتحس بأن الجنين يتحرّك في بطنها، فيا للفرحة ويا للسرور! لقد تحقّقت الأماني، وتبسّمت الأيّام، وهاهو الجنين الموعود يتحرّك، دليلاً على رشده ونموّه.
إنها تحسب للجنين ألف حساب وحساب، شأن الأمّهات اللاتي يرجين مستقبل أولادهن.
لكن المرأة الصالحة (حنّة) شكرت لله عطيته، وعرفت لله سبحانه فضله وكرمه، بهبتها هذا الجنين، فأرادت أن تقابل العطيّة بالشكر، فنذرت أن يكون الولد (محرّراً)(2) لخدمة بيت المقدس.
(إذ قالت امرأة عمران ربّ إني نذرت لك ما في بطني محرّراً) عتيقاً لا تشغله أمور الدنيا، بل يكون خالصاً لخدمتك وخدمة بيتك، وخدمة العباد (فتقبّل) يا رب هذا النذير (مني إنك أنت السميع العليم).
وهكذا أخذت (حنّة) تعد الأشهر والأسابيع والأيّام، لمقدم هذا الضيف الجديد، الذي غمر حياتهم بهجة وفرحاً، بعد طول يأس وأسى.
* * *
لم تمض الأيام، إلا و(حنّة) تحس بألم الطلق، فيا له من ألم مفرح، فها هي الساعات الأخيرة، التي تمنح فيها ما كانت تترّقبه بفارغ الصبر.
وإذا.. بالمولود قدّم إلى هذه الحياة، وفتح عينيه للنور.
لكن.. مرّة ثانية غمرت (حنّة) الأمّ، موجةٌ من الحزن، وإن لم يكن الحزن في هذه المرّة، مثل الحزن الذي كان يراودها، وهي حائل.
إنه الحزن بكون الولد (أنثى) فيا لخيبة الأمل، ويا لانهدام الرجاء، فقد كانت ترجو أن يكون المولود (محرّراً) لكن الأنثى لا تصلح للتحرّر، إن المحرّر ولد يناسب دور العبادة، أمّا الأنثى فكيف تعاشر الرّجال؟
ثم إن المحرر يلازم المسجد طول حياته، وإن خرج في ساعات، لم يلبث إلا أن يرجع أمّا الأنثى فلا تقدر على المكث في المسجد في أيام عادتها، ولا مأوى لها لتقضي تلك الأيام هناك.
إنه لا مفرّ من قضاء الله، إنها أنثى، وقد تمّ الأمر، وليس بيد الأم شيء، فسمّتها (مريم) بمعنى (العابدة) ليكون الاسم قريباً مما كانت تقصده من الخدمة للبيت الذي هو للعبادة.
(فلمّا وضعتها قالت) (حنّة) يائسة حزينة، شاكية خيبتها إلى الله سبحانه: (ربِّ إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى) فلا يأتي من الأنثى خدمة المسجد كما كان يأتي من الذكر، (وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك) يا رب (و) أعيذ (ذرّيتها من الشيطان الرجيم) فتلطف عليها وعلى ذرّيتها بحفظك وحراستك، ورعايتك وكلاءتك.
* * *
إن (حنّة) لم تكن تعلم الدور الذي قُدّر لمريم عليها السلام من عالم الغيب، ولم تكن تعلم أنها صديقةٌ طاهرة، لا ترى الدّم، ولم تكن تعلم أنها أفضل من ألف ولد وولد.. فلها الحق في أن تحزن حين تعرف أنها أنثى.
ولو كانت تعرف (حنّة) كل ذلك، لغمرتها موجةٌ من السرور عوض الحزن، والفرح، عوض اللوعة.
ومن ناحية أخرى.. لو كانت تعلم (حنّة) الأم الحنون ما قدّر لبنتها الطاهرة (مريم) من الأتعاب والمصائب، لذرفت الدموع الساخنة، ولعصرت فؤادها الأحزان والأشجان.
إن (مريم) الطاهرة، لابد وان تلاقي مصاعب (الولادة) لوليد بدون أب! وهل يقبل منها أحد ذلك؟ إن مثل هذه الفاجعة لتدكُّ الجبال الرواسي، فكيف بقلب فتاة طاهرة بريئة؟
إن (مريم) الطاهرة، لابد وان تلاقي لوم اليهود وقذفهم، وافتراءهم(3)، بما تكاد السماوات يتفطّرن منه، وتنشقّ الأرض، وتخرّ الجبال هدّاً.
إن (مريم) الطاهرة، لابد وان تلاقي ـ بعد هذا وذاك ـ مصاعب نبوّة ولدها المسيح (عليه السلام)، وكيد اليهود له، وغربتها وغربة ولدها، في الفيافي والجبال، حيث تلفحهما الشمس بحرارتها، وحيث لا يجدان ملجأ ولا مأكلاً ولا ملبساً، إلا عشب الأرض وكهوف الجبال والأسمال البالية.
إن (حنة) الأم الرؤوف لا تعرف ذلك المستقبل الإلهي المشرق، ولا ذلك المستقبل الاجتماعي الأليم، لبنتها الصغيرة (مريم) وإنما تعرف أنها (أنثى) وأنها خابت في ظنونها ورجائها.
* * *
وأخيراً.. استقرّ رأي (حنة) على أن تهدي بنتها (مريم) إلى بيت المقدس، كما نذرت والعبّاد هم يعرفون تكليفها، ما يصنعون بها؟
ولقد كان الأشد على (حنّة) أنها كانت تقاسي كلّ هذه الآلام والحيرة، وحدها، فقد فقدت زوجها (عمران) قبل ولادة (مريم) مما زاد في حزن الأمّ وألمها.. لقد مات الزوج الشاب الصالح قبل أن يرى الوليد الذي طالما تمنّاه، يا لها من مصيبة على قلب (حنّة)! ويا لها من دمعة في مآقيها! ويا لها من غصّة في حلقها!
فلقد فقدت الزوج والكفيل، وبقيت تقاسي آلام الحياة وحدها، ثم خاب ظنّها بالجنين الذي عقدت ـ بعد فقد الزوج ـ آمالها عليه، لعلّه يكون ولداً، تعيش الأم في ظله بدلاً من أبيه!
وما فائدة الحزن واللوعة؟ فالمقدّر كائن.
لفّت (حنّة) بنتها الوليدة في القماط، وتقدّمت إلى بيت المقدس، حيث العبّاد. ثم سلّمتها إلى جماعة من الناسكين الذين كانوا لربهم يرهبون، وقصّت لهم قصّتها..
تهافت الناسكون على أخذ البنت، بكل شوق وسرور، عندما علموا أنها بنت زميلهم الفقيد (عمران) وابنة أخت زوجة سيّدهم ونبيهم زكريا (عليه السلام).
وحيث أن الرضيع تحتاج إلى عناية ورعاية، حتى تكبر وتنمو وتنشأ، وقع بينهم الخلاف فيمن يكفلها؟ فكان كل واحد يرشّح نفسه لكفالتها، وكان (زكريّا) من جملة المرشّحين نفسه لذلك، ويحتج بأنه أحق لأن (مريم) تمت إليه بصلة، وأن في داره خالة مريم (حنانة).
* * *
لم يقبل الأحبار أن تسلّم البنت إلى (زكريّا) زوج خالها، بالرغم من صحة احتجاج زكريّا. وأخيراً قرّروا جميعاً الاقتراع، بأن يلقوا أقلامهم التي يكتبون بها التوراة، في الماء، فالقلم الذي يطفوا فوق الماء يتولّى صاحبه تربية (مريم).
وقد كانت الأقلام من الحديد، ولذا كان طفوّها على الماء شيئاً خارقاً(4).
(وما كنت لديهم) يا رسول الله (إذ يلقون أقلامهم) في الماء (أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) في أمر كفالة بنت زميلهم؟
ولعلّ الأحبار إنما اختصموا في هذا الأمر، لما وصل إلى علمهم، من جلالة مريم، ومستقبل أمر عيسى (عليه السلام)، فإن الأنبياء السابقين كانوا يبشرون بالأنبياء اللاحقين، كما أن الأنبياء اللاحقين كانوا يصدّقون بالأنبياء السابقين.
ولعل مناسبة الاقتراع بالأقلام بمناسبة الإرهاص بنبوّة المسيح (عليه السلام) المناسب لكتاب الإنجيل، المكتوب بأقلامهم.
وكيف كان.. فقد رسبت أقلام الأحبار في الماء، وبقي قلم زكريا طافياً فوق الماء فوافق الجميع على أن تكون مريم في كفالة زكريا.
وماذا كان يعمل زكريّا أيّام رضاع البنت؟ هل أخذ لها مرضعاً؟ أو جعلها في بيت المقدس وكان يأتي باللبن إليها؟ ثم ماذا كان يصنع بسائر شؤونها؟ كل ذلك مما لا نعلمه.
نعم.. (تقبّلها ربها بقبول حسن) فإنها وإن كانت أنثى، لكن ربها قبلها محرّرة في بيت المقدس (وأنبتها نباتاً حسناً) فكانت تنمو نمواً سريعاً، بكل نظافة ونضارة مما كان يبشّر بمستقبل زاهر.
* * *
وضع زكريا (عليه السلام) مريم الطاهرة في غرفة رفيعة منعزلة عن محل الأحبار، لا يمكن الوصول إليه إلا بسلم عال.
وأخذ يواظب على رعايتها والعناية بها، فكان يأتي إليها في كل حين، ليتفقّدها، ويقوم بخدماتها.
وهكذا استمرّ زكريّا في خدمة البنت الطــاهرة، حتى نشأت وكبرت، وذات يوم دخل عليها، وإذا به يرى بعض الفواكه والأطعمة الطيبة عندها.. دهش لذلك. يا ترى من الذي جاء إلى غرفتها، وأهدى إليها هذه الهدية الحسنة؟ أليست الغرفة مغلقة؟ أليست هي التي لا ترضى أن يدخل عليها أحد؟
وهكذا وجد الرزق عندها مرّات ومرّات.. والأعجب أن الفواكه التي كان يجدها عند (مريم) تثير الدهشة، ففواكه الشتاء يجدها عندها في أيام الصيف، وفواكه الصيف، يجدها عندها في أيام الشتاء؟
(كلّما دخل عليها زكريّا المحراب) أي في محراب عبادتها، وفي الغرفة الخاصّة بها (وجد عندها رزقاً) وذات مرّة سأل زكريا (مريم) عن مصدر هذا الرزق (قال يا مريم أنى لك هذا)؟ فمن أين يأتيك هذا الطعام وهذه الفواكه؟
(قالت) مريم: (هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) هناك عظم تقدير زكريّا لمريم وعلم أنها مائدة سماوية، اختص الله بها مريم كرامةً لها وإجلالاً لقدرها.
وكم كانت غبطة زكريّا عظيمة حين رأى مثل هذه الكرامة لفتاة تمتّ إليه بصلة!
* * *
أخذت الأيام تمضي مسرعة، والفتاة مشتغلة بتبتلها وعبادتها، خالصةً لوجه الله تعالى، لا تعرف أسرة تعوقها عن العمل لله، ولا منيت بعمل دنيوي، يحول بينها وبين الاستمرار في الطاعة والعبادة.
وذات مرة دهشت أشد الدهشة، مما وقف له شعرها، ووجب(5) له قلبها، إذ سمعت صوتاً من جهة الأعلى، ولم تر الشخص الذي كان يتكلّم بكلام عجيب، قائلاً:
(يا مريم إن الله اصطفاك) اختارك لأن تكوني مورد لطفه وعنايته (وطهّرك) عن الذنوب والأرجاس(6)، وعن الدماء التي تراها النساء (واصطفاك على نساء العالمين) فأنت سيدة نساء زمانك ـ بكل عوالمه ـ .
أمّا سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، فهي (فاطمة الزهراء) بنت محمد (صلى الله عليهما وعلى آلهما).
ثم أردف القائل الغيبي كلامه: (يا مريم اقنتي) واخضعي (لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) الأحبار الذين يركعون في بيت المقدس، فأنت من جملتهم وفي جماعتهم.
تهلّلت أسارير (مريم) لهذا النداء الغيبي، وعرفت أن النداء كان من الملائكة، وأنها موضع لطف الله وحسن رعايته، فاستبشرت وفرحت، وأخذت تجد في العبادة، شكراً لهذه العطية السنيّة، وقياماً بالواجب تجاه هذه النعمة الجليلة.
وهكذا مضت عجلة الزمان، لا تلوي على شيء.
فها نحن أمام فتاة عفيفة طائعة لربها في غرفة منعزلة في بيت المقدس، يعاهدها زوج خالتها، منقطعة عن الأب والأم، فقد مات أبوها قبل أن ترى النور، والأمّ سلّمتها بيد الزهاد (محرّرة) لا شأن لها بها، لتنظر ما خبّأ لها المستقبل.
* * *
لقد أثارت المكرمة التي رآها (زكريا) في (مريم) كامن رغبته، التي طالما تمنّاها، في أن يرزق الولد، أليست زوجته (حنانة) وأم مريم (حنة) أُختين؟ ألم تكونا تنتظران الولد منذ مدّة؟ فها هو لطف الله سبحانه يشمل (حنة) فيهبها البنت الطاهرة (مريم) فما المانع من أن يتفضّل الله سبحانه على زكريا بولد من خالة مريم؟
إن أيّام زكريّا قد انقضت، وإن نذير الموت قد لاح في مفرقه، وإن المرأة (حنانة) زوجة زكريّا، اشتهرت بين الناس أنها عقيمة، ولا أدلّ على صدق قول الناس من أنها لبثت هذا الزمان الطويل، بدون ولد.
لكن الله قادر على كل شيء، فهو يستطيع أن يخلق الإنسان من التراب.. وقدرته على إعطاء الولد من أبوين أولى ـ وإن كانت قدرة الله بالنسبة إلى كل شيء على حد سواء ـ .
(هنالك) في هذا الوقت، بقلب ملؤه الرجاء (دعا زكريّا ربه قال ربِّ هب لي من لدنك ذرّيةً طيّبةً) فيها طيب العقيدة والأخلاق والبركة (إنك) يا رب (سميع الدعاء).
وقد أشفع زكريا دعاءه هذا بالضراعة والاستكانة، فقال: (ربّ إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً) فعظمي واهن ضعيف من الكبر ورأسي مبيض كأنه شعلة من الشيب (ولم أكن بدعائك ربي شقيّاً) فلا أحرم الإجابة فيما دعوتك (وإني خفت الموالي) أقاربي (من ورائي) من بعدي، فإنهم لا يليقون بمقام الخلافة لي والسهر على الدين ومصالح الأمة (وكانت امرأتي عاقراً) لا تلد.
وقد استجاب الله دعاء زكريّا، وتفضّل بإعلامه ذلك، فقال عزّ شأنه: (يا زكريّا إنا نبشّرك بغلام اسمه يحيى) فقد عيّنّا اسمه، تفضّلاً منا عليه وعليك، و(لم نجعل له من قبل سميّاً) فكان يحيى ابن خالة مريم.
* * *
دارت عجلة الأيّام على (مريم) وهي تعبد الله في محرابها، داخل بيت المقدس ولم يكن لها عشيق، ولا زوج، ولا خدن(7)، ولا خطيب.
أما حديث يوسف النجار، فحديث مفتعلٌ(8) اخترعه مردة أهل الكتاب.
كما أنها لم يكن لها أولاد آخرون، يقوم المسيح (عليه السلام) بكفالتهم، من مهنة النجارة.
إنها مريم الصديقة العذراء التي لم تر رجلاً، ولم يكن لها ولد إلا عيسى المسيح (عليه السلام).
وفيما كانت تعبد (مريم) ربّها تبدّلت الأحوال فجأة، فقد أرادت الاغتسال، فانتحت ناحية المشرق، بحيث صار أهلها في طرف المغرب، ولعلّها جاءت إلى طرف المشرق من بيت المقدس، لكونه في جهة الشمس فيناسب الاغتسال (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً) انتبذت، أي تنحّت في مكان في طرف المشرق من مسكنها. (فاتخذت من دونهم حجاباً) يسترها عن أعينهم (فأرسلنا إليها روحنا) أي روحاً من طرفنا ـ والإضافة للتشريف ـ وكان ذلك الروح جبرائيل (عليه السلام). (فتمثّل) ذلك الروح (لها) أي لمريم (بشراً سويّاً) أي شاباً مكتملاً غير ناقص.
لكن مريم الطاهرة، اضطربت حين رأت هذا الفتى في مثل هذه الحالة، أشد الاضطراب، فإن البنت الباكر العفيفة، إذا اتفق لها مثل هذا الحادث ترتعد وتخاف على شرفها، أليس مثل هذا الشخص، الذي يفاجئها يريد عفافها. وماذا تصنع مريم وهي فريدة لا تملك سلاحاً ولا دفاعاً؟
ولذا لم تملك مريم عليها السلام إلا الوعظ والنصيحة، والاستعاذة بالله سبحانه من شره (قالت إني أعوذ بالرحمن منك) أيها الفتى (إن كنت تقيّاً) تخاف الله سبحانه.
* * *
لكن الفتى أجاب مريم بما زاد مخاوفها (قال) جبرائيل (عليه السلام): (إنما أنا رسول ربك) مرسل من قبله، ولست بشراً، كما ظننت، فقد جئتك (لأهب لك غلاماً زكيّاً) ولداً مباركاً.
يا للهول! هل تصدّق مريم بأن هذا جبرائيل؟ ثم لنفرض أنه جبرائيل، فكيف يهب لها غلاماً بدون زوج؟ ولنفرض أنه وهبه بأمر الله، فماذا تقول مريم للناس؟ هل يصدّقها الناس ويعترفون بالواقع أم يفترون عليها بما لا يليق بساحتها؟
كل ذلك مر بخاطر مريم ـ كما هو الطبيعي، في أقل من لمحة بصر ـ لكن هول الموقف، لم يعقد لسانها، بل أخذت تحاج وتكلم جبرائيل: (قالت أنّى) وكيف (يكون لي ولد و) الحال أنه (لم يمسسني بشرٌ) فلم يقترب مني رجل اقتراب الزوج من زوجته، (ولم أكُ بغياً) زانية؟ فإن الولد ـ في العادة ـ يكون إما من الزواج أو السفاح، ولم يحصل لي أحد الأمرين، فكيف يكون لي ولد؟
(قال) جبرائيل في جواب سؤال مريم: (كذلك) أي كذا الذي ذكرت لك (قال ربك) يا مريم: (هو عليّ هيّن) إعطاء الولد بدون نكاح أو سفاح على الله أمرٌ سهل يسيرٌ. فإن قدرته سبحانه عامّةٌ على كل شيء.
ثم بيّن جبرائيل أن إعطاء الولد لك بدون أب ليس أمراً اعتباطياً بل (ولنجعله آيةً للناس) حجةً لله على البشر، حجة من حيث القدرة وحجة من حيث النبوة (ورحمةً منّا) فإن المسيح (عليه السلام) كان رحمةً من الله على البشر، يرشدهم إلى الحق وإلى سبيل السعادة والسلام.
ثم أردف جبرائيل قائلاً: (وكان) إعطاء الولد لك (أمراً مقضياً) لا بد وأن يكون، فليس محل احتجاج، وطلب، لرفع هذا الشيء المقدر، وذلك ليقطع على مريم سبيل المحاورة والمحاجّة حول الولد، فلا تترقّب صرفه بالدعاء وما أشبه.
* * *
نفخ جبرائيل (عليه السلام) في جيب مريم عليها السلام، فاكتمل عيسى في بطنها في الساعة (فحملته) أي حملت بعيسى (فانتبذت) أي ابتعدت وتنحّت (به) أي بحملها (مكاناً قصيّاً) أي بعيداً عن أهلها، وذلك لئلاً يروها على حالة الحمل فيلوموها، وتكون مورد سؤالهم.
وقد ورد أن مدّة حملها كانت تسع ساعات.. وأنها جاءت إلى كربلاء المقدسة بقدرة الله تعالى، وليس مثل هذه الأمور بعيداً عن قدرة الله تعالى.
(فأجاءها المخاض) أي ألجأها الطّلق ووجع الولادة (إلى جذع النخلة) لتستند إليها والجذع ساق النخلة.. وكم كانت الأحزان والهموم تتراكم على قلب المخدّرة(9) الطاهرة مريم، إذ ترى نفسها في وضع غريب، ليست له سابقةٌ في تاريخ الفتيات الصالحات؟
فقد أخذت منها الدهشة كل مأخذ، كيف حملت؟ وكيف تفرّدت في صحراء قاحلة للوضع؟ وكيف يلقاها الناس؟ وما هذا الولد؟ وأي أمرٍ مقدّر هذا؟
ومن الطبيعي أن تنهمر عينا الصديقة الطاهرة بالدموع، (قالت) بكل لوعة وأسى: (يا ليتني متُّ قبل هذا) الذي أراه مما وقعت فيه (وكنت نسياً منسياً).
وفي هذه الأثناء، جاءت بعيسى المسيح، ولداً جميلاً، كامل الخلقة، يطفح وجهه المنير بالبشر والسرور، كفلقة القمر ليلة البدر.
وبمجرّد أن سقط عيسى على الأرض، ورأت مريم وجهه المبارك، جعل الله في قلبها محبته المتزايدة، وكأنّ يد الرحمة لمست قلب الأم، فأعادت إليه الطمأنينة والارتياح..
إنه ليس بولد عادي كسائر الأولاد، بل هو نبي عظيم ادّخره الله سبحانه لأداء رسالة مهمة.
* * *
وهنا لتسلية قلب الأم، وإقناعها أن الأمر من الأمور المرتبطة بالسماء، أنطق الله الولد (فناداها) أي كلّم المسيح، أمّه (من تحتها) أي الأسفل، من الأرض، قائلاً: (ألاّ تحزني) يا والدتي، من هذا الحادث (قد جعل ربك تحتك سريّاً) أي جدولاً سارياً من الماء، فقد ضرب المسيح برجله على الأرض ـ كعمّه الأعلى إسماعيل (عليه السلام) ـ فانفجرت الأرض ماءً.
(وهزّي) أيتها الأمّ (إليك) أي اجذبي نحو نفسك (بجذع النخلة) الموجودة إلى جنبك، ليقع فيها الاهتزاز، فإن هززته (تساقط عليك رطباً جنيّاً) طريّاً قد جني الساعة.
وكذلك فعلت الأم الوالدة، هزّت الجذع، فأسقط الرطب (فكلي) من الرطب (واشربي) من الماء (وقرّي عيناً) أي طيبي نفساً بهذا الولد.
فأكلت مريم من الرطب، وشربت من الماء، وقرّت عينها بولدها.
ولماذا تخاف وتقلق؟؟
لقد ذهبت عنها وحشة الانفراد، بولدها الجميل، وذهب عنها ألم الطّلق، وارتوت من الماء، وشبعت من الرطب الجنيّ، وفوق ذلك كلّه إنها تعلم إمداد السماء لها، فقد تواترت الخوارق عليها:
رأت الملائكة، وحملت بلحظة بدون رجل، وانطوت تحتها الأرض مسافات شاسعة من فلسطين إلى العراق، ولم يطل حملها أكثر من تسع ساعات، ثم انفجرت عين الماء تحت رجل ولدها، وأخذ الرضيع يتكلّم..
وهل بعد هذا كله من قلق واضطراب؟
* * *
نعم.. بقي شيء، فبماذا تجيب الناس، إذا سألوها عن أمر الوليد؟ إنها حقّاً مشكلة تقلق بال الإنسان، ولو علم أنه على حق.
وقد شاء سبحانه أن يحل المسيح الوليد (عليه السلام) هذه المشكلة، فيتكلّم ثانية ليقول لأمه:
(فإمّا) أي إن (ترينّ) أيتها الأمّ (من البشر أحداً) فسألك عن الولد: من أين أتيت به من غير زوج؟ (فقولي) في الجواب، إشارةً مفادها: (إني نذرت للرحمن صوماً) وكفّاً عن الكلام (فلن أكلّم اليوم إنسياً).
وقد كان ذلك، لأجل أن لا يرهقها الناس بالمجادلة. وإنما تكتفي بكلام المسيح (عليه السلام) جواباً عن أسئلة الناس.. فيكون جواباً وحجة.
وهنا فرحت مريم أشد الفرح، إذ انحلّت كل مشكلتها، وانجلى ما بها من هموم وأحزان.. فقمّطت الوليد، وأخذته قاصدة نحو أهلها (فأتت به) أي بالمسيح (قومها تحمله) على يديها، ولمّا رآها القوم غمرتهم موجة من العجب، فها هي مريم الطاهرة الصديقة، تحمل طفلاً؟ من أين؟ وكيف؟ ولذا تقدّموا إليها و(قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً) أي أمراً عظيماً عجيباً.
(يا أخت هارون) يا أيتها الشبيهة بهارون الرجل الصالح ـ وقد كان هارون رجلاً صالحاً يشبه به كل من عرف بالصلاح ـ من أين لك هذا الولد من غير زوج؟ أمن السفاح وكيف ذلك؟ فإنه (ما كان أبوك) عمران (امرأ سوء) يعمل القبيح (وما كانت أمك) حنّة (بغيّاً) حتى نقول إنك تعلّمت البغاء منهما؟ فمن أين لك هذا الولد؟
* * *
نعم.. بقي شيء، فبماذا تجيب الناس، إذا سألوها عن أمر الوليد؟ إنها حقّاً مشكلة تقلق بال الإنسان، ولو علم أنه على حق.
وقد شاء سبحانه أن يحل المسيح الوليد (عليه السلام) هذه المشكلة، فيتكلّم ثانية ليقول لأمه:
(فإمّا) أي إن (ترينّ) أيتها الأمّ (من البشر أحداً) فسألك عن الولد: من أين أتيت به من غير زوج؟ (فقولي) في الجواب، إشارةً مفادها: (إني نذرت للرحمن صوماً) وكفّاً عن الكلام (فلن أكلّم اليوم إنسياً).
وقد كان ذلك، لأجل أن لا يرهقها الناس بالمجادلة. وإنما تكتفي بكلام المسيح (عليه السلام) جواباً عن أسئلة الناس.. فيكون جواباً وحجة.
وهنا فرحت مريم أشد الفرح، إذ انحلّت كل مشكلتها، وانجلى ما بها من هموم وأحزان.. فقمّطت الوليد، وأخذته قاصدة نحو أهلها (فأتت به) أي بالمسيح (قومها تحمله) على يديها، ولمّا رآها القوم غمرتهم موجة من العجب، فها هي مريم الطاهرة الصديقة، تحمل طفلاً؟ من أين؟ وكيف؟ ولذا تقدّموا إليها و(قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً) أي أمراً عظيماً عجيباً.
(يا أخت هارون) يا أيتها الشبيهة بهارون الرجل الصالح ـ وقد كان هارون رجلاً صالحاً يشبه به كل من عرف بالصلاح ـ من أين لك هذا الولد من غير زوج؟ أمن السفاح وكيف ذلك؟ فإنه (ما كان أبوك) عمران (امرأ سوء) يعمل القبيح (وما كانت أمك) حنّة (بغيّاً) حتى نقول إنك تعلّمت البغاء منهما؟ فمن أين لك هذا الولد؟
* * *
لم تجب مريم على كلام القوم، (فأشارت إليه) إلى عيسى، حسب ما قرّر بين الرضيع والوالدة، إشارة معناها: وجّهوا سؤالكم إلى عيسى؟
(قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّاً)؟ وهل يتمكّن الرضيع الذي من شأنه أن يوضع في المهد من التكلّم والجواب؟
لكنّ الرضيع بادر بالجواب ـ بإذن الله تعالى ـ ليجيب جواباً مقنعاً، مشفوعاً بإعجاز، فـ(قال) موجّهاً كلامه إليهم: (إني عبد الله) وقد فنّد المسيح (عليه السلام) بأول كلامه عندهم مزاعم المسيحيين أنه الله، أو أنه ابن الله (آتاني الكتاب) أعطاني الإنجيل (وجعلني نبيّاً) فقد أوتي عيسى كسائر الأنبياء، النبوّة والكتاب، منذ عالم الذَّر، وإنما الإظهار كان في وقت متأخر.
(وجعلني) الله (مباركاً) ذا بركة ونموّ للخير (أينما كنت) لا كالمثري الذي له الثراء عند دكانه وصندوقه، أو كذي المنصب الذي له مقامه في مكان دون مكان. (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيّاً) مكلّفاً.
(و) جعلني (برّاً) أي بارّاً رؤوفاً (بوالدتي) الطاهرة مريم (عليها السلام) (ولم يجعلني جبّاراً) يؤذي الناس ويجبرهم كالطغاة (شقيّاً).
(والسلام عليّ) السلامة من العاهات الجسمية، والأوضار الروحية (يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً).
وحيث سمع الناس هذا الكلام البديع من عيسى، أخذتهم الدهشة، وعلموا أن الأمر خارق، وإنما أراد الله بمريم الصديقة الخير والسعادة، حيث أتحفها بهذا المولود العظيم، وانقطع المجادلون عن الكلام بعد هذه المعجزة الباهرة.

milagro
•
عيسى المسيح (عليه السلام)
تمادى اليهود في غيّهم وطغيانهم..
وقد تصدّروا مكان السادة العلماء، والملوك الأمراء، في الأرض، فقد كانت لهم السلطة الدينية، والسلطة الدنيوية. فهم كل شيء.. وغيرهم ليس بشيء.. وقد اشتدّت قبضتهم على الأمم الضعيفة، فأخذوا يعيثون في البلاد فساداً.
والكل منتظرون لقدوم (المسيح) الذي بشّر به الأنبياء.
الضعفاء ينتظرون قدومه ليخلّصهم من براثن الأقوياء.
واليهود ينتظرون قدومه، لزعمهم أنه يزيدهم قوّة، وسلطة على سلطة.
وفي ذات يوم.. رأى الجميع أغرب الحوادث، فقد جاءت (الصديقة الطاهرة مريم) وهي تحمل طفلاً جميلاً على ذراعيها!
من هذا يا مريم؟! هكذا قالوا، بلسان واحد، مستغربين أن تأتي مريم العذراء بطفل؟
أشارت مريم إلى الطفل أن كلّموه، فإنه هو الذي يجيب عن هذا السؤال.
وهنا أخذ (المسيح) الطفل، يتكلّم، قائلاً: (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً وجعلني مباركاً).
إذن.. يا للفرحة، إنه هو الطفل الذي طالما انتظره الأقوياء والضعفاء على حد سواء قد جاء؟
لقد جاء المخلّص، وقد جاء المسيح الموعود. وليس بينهم وبين الخلاص، إلا سنوات، حتى يكبر هذا المولود، ويبلغ مبلغ الرجال، فهو الملك النبي الذي ينقذهم من كل مكروه.
* * *
أخذ المسيح ينمو، لا كنمو الأطفال بل نموّاً مستغرباً، وقد أخذت الألباب الدهشة، لما رأوه في الوليد.
فقد كان عيسى يخبر الأطفال ـ حينما يجتمع بهم ـ بما أكلوا في غذائهم، وما ادّخروه في بيوتهم، وكان ذلك مما يثير عجب الأولاد، والآباء.
وقد كان الكل يعلم أن له مستقبلاً زاهراً، وكان يضاف إلى ذلك، الغرائب التي يشاهدونها حوله.
ففي مرة جاء وفد من عظماء المجوس إلى مريم الطاهرة، مما لفت انتباه الجميع، يا ترى ماذا يريد هؤلاء؟ وكيف تعرّفوا على هذا البيت؟ ومن أين عرفوا هذه المخدّرة الصالحة؟
لما وصلوا إلى دار مريم، سلّموا عليها، وأكبروها، ثم قالوا:
إنا قوم ننظر في النجوم، فلما ولد ابنك طلع بمولده نجمٌ من نجوم الملك ـ مما دل على أنه ولد ملك على الأرض ـ وبعد أن دقّقنا النظر، رأينا أن ملك هذا المولود، ليس من قبل ملك ملوك الأرض.. وإنما ملك نبوة مما لا يزول، ولا يفارقه حتى يرفع إلى السماء ويصير إلى ملك أطول.
ولمّا رأينا ذلك أخذنا نتتبع البلاد، بلداً بلداً، حسب تطلّع النجم المذكور، حتى رأيناه فوق هذا البلد.. وبذلك عرفنا موضع المولود العظيم.
ثم إن عظماء المجوس، بعد ما تبيّنوا صدق تنبؤهم.. ورأوا آثار العظمة في المسيح (عليه السلام) قدموا لمريم الصديقة، هدية غريبة (الذهب، والمرّ، واللبان). ثم قالوا في سبب إهدائهم هذه الهدية:
الذهب: هو سيد المتاع كله، فإهداؤنا له إشارة إلى أن ابنك سيد الناس.
والمرّ: يجبر الجراحات، فهو إشارة إلى أن ابنك يُبرئ الجراحات والأمراض والجنون والعاهات.
واللبان: إذا أُشعل ارتفع دخانه في أجواء الفضاء. فهو إشارة إلى أن ابنك يرفع إلى السماء ولا يرفع إلى السماء غيره. ثم ودّعوا الصديقة مريم، بعد ما أوصوها بابنها خيراً، وذهبوا قافلين..
* * *
بعدما كبر المسيح، أخذ يبشّر الناس بدينه، وأنه المبعوث من قبل الله تعالى لهداية البشر من الضلالة، وإنقاذهم من براثن الجهالة، وتعليمهم ما حرّفته اليهود من أحكام الشريعة.
(إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك) بأن جعلتك نبيّاً عظيماً، (وعلى والدتك) حيث أنعمت عليها بأنواع النعم التي منها، هبتك لها.
(وإذ أيدتك بروح القدس) الروح المقدس الذي يلازمك ويسدّدك، ويريك الغيب، وينزل عليك من الله بالشريعة (تكلّم الناس في المهد) حين كنت طفلاً رضيعاً (وكهلاً) حين كنت كبيراً تكلّمهم بالوحي والشريعة الملهمة بك.
(وإذ علّمتك الكتاب) الكتب السماوية (والحكمة) معرفة الأشياء ومواضعها، فلا تقول ولا تفعل شيئاً إلا بالصواب (و) علّمتك (التوراة) كتاب موسى (عليه السلام) (والإنجيل) الكتاب المنزل عليك.
(وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني) كمجسّمة الطير (فتنفخ فيها) في هيئة الطير، (فتكون طيراً) يطير كسائر الطيور (بإذني).
(وتبرئ الأكمه) الأعمى الذي ولد أعمى (والأبرص) الذي صارت على جسمه بقع بيضاء تخالف لون جسمه (بإذني وإذ تخرج الموتى) من قبورهم أحياء (بإذني).
(وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبيّنات) الأدلة الواضحة (فقال الذين كفروا منهم إن هذا) ما هذا الذي تعمله من الغرائب (إلا سحرٌ مبين).
فقد أبى مردة اليهود، الإيمان بالمسيح (عليه السلام)، وإن رأوا منه الآيات الباهرات، والحجج القاطعات، وذلك حسداً منهم وكبراً.
فكانوا يكذبون المسيح، ويغرون السفهاء به، ويقولون إن الذي يأتي به ليس معجزة، وإنما هو سحر، تعلّمه المسيح من بعض الساحرين، فيأتي به لدعم ادّعائه بأنه نبيّ من عند الله تعالى، وهكذا كانوا يصدّون عن سبيل الله.
* * *
لقد كان الأنبياء يأتون بالمعجزات الخارقة، دلالة على صدق كلامهم، أنّهم من قبل الله تعالى، ولولا المعجزة لادّعى كل شخص أنه نبي مبعوث!
وكانت معجزات الأنبياء حسب اقتضاء زمانهم، مثلاً:
موسى (عليه السلام) بعث في زمان كثر فيه السحر والشعبذة، وكان السحرة يملأون الحبال والعصي بالزئبق فيضعونها في الشمس فتتحرك تلك الحبال والعصي بتحرّك الزئبق داخلها، فيقولون للناس: انظروا كيف صنعنا من الحبال والعصي حيّات وأفاعي متحركة ذات حياة.
ولذا جاء موسى بما يشبه سحرهم، لكنه حقيقة لا خيال، فكان إذا ألقى عصاه من يده، صارت حيّة عظيمة تبتلع حبال السحرة، ثم ترجع عصا كما كانت، من دون أن يزيد في ضخامتها شيء.. ولذا آمن السحرة لما رأوا أنها ليست بسحر.
والمسيح (عليه السلام)، كان في زمان كثر فيه الطب، وحذق الأطباء، إلى حد مدهش، فجاء عيسى بما يعجز عنه الطب، من إبراء الأعمى وشفاء الأبرص، وإحياء الموتى.
وأي طبيب يقدر على هذه الأمور، مهما بلغ من السّمو في الطب؟
ولذا آمن أهل فن الطب والحذّاق منهم بالمسيح، وقالوا: إن ما يفعله خارج عن نطاق الطب، وهو خاص بالله سبحانه، وبمن أرسله.
ونبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث في زمان قويت فيه البلاغة، والفصاحة، حتى إن الأعراب والقبائل، كانوا يعقدون الأسواق، للمباراة في البلاغة والأدب والفصاحة والشعر، كسوق (عكاظ) وغيره.
فجاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن العظيم، الذي هو فوق كلام الناس، وأرفع من مستوى أعظم البلغاء، ثم تحدّاهم، قائلاً: (فأتوا بسورة من مثله).
لكنهم ارتدّوا، وعجزوا، واعترفوا بأنه ليس مثل كلام البشر، وبذلك ثبتت الحجة عليهم وأنه منزلٌ من قبله سبحانه.
* * *
لقد كان المسيح (عليه السلام)، يعيش عيشة بسيطة متواضعة، ويسيح في الأرض، يسافر من قرية إلى قرية، ومن بلد إلى بلد، ليرشد الناس إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
وقد كان أحد أسباب التفاف الناس حوله، هذه البساطة المدهشة في معيشته، فلا زوجة له، ولا دار، ولا أثاث، ولا أموال.
وكان إذا قيل له في ذلك، أجاب بهذا الجواب الذي يقطر عطراً وأرجاً:
خادمي يداي.. ودابّتي رجلاي..
وفراشي الأرض.. ووسادي الحجر..
ودفئي في الشتاء مشارق الشمس..
وسراجي بالليل القمر..
وأدامي الجوع.. وشعاري الخوف..
ولباسي الصوف..
وفاكهتي وريحانتي ما أنبتت الأرض للوحوش والأنعام..
أبيت وليس لي شيء.. وأصبح وليس لي شيء..
وليس على وجه الأرض أحد أغنى مني.
هكذا كان المسيح الطاهر، فلا خادم له يخدمه، وإنما كان يقضي حوائجه بكلتا يديه الكريمتين، بل فوق ذلك، ربّما غسل أرجل تلاميذه، فكانوا ينكرون ذلك منه، فيقول لهم: بحقي عليكم إلا ما خلّيتم، وإنما أفعل ذلك بكم، لتفعلوا مثله بالناس من بعدي.
ولم تكن له دابّة يركبها، في أسفاره المتتالية، وإنما كان ينتقل من هنا إلى هناك ماشياً، وأحياناً حافياً.
كما أنه لم يكن له بساطٌ يفترشه وقت المنام، ولا وساد إلا الحجر، وإذا أصبح في الشتاء القارس توجه إلى نحو المشرق من البيوت، لئلا تحول الأبنية والحيطان دون إشعاع الشمس على جسمه المقروف.
ولا سراج له ليلاً، وغالب أوقاته يطويه جوعاً، وكان خائفاً من الله سبحانه، وإن كانت البسمات الحلوة الهادئة لا تبرح شفاهه.. يلبس الصوف تواضعاً، ويأكل نبات الأرض عوض غذائه.
* * *
كان بنو إسرائيل لكثرة لجاجهم وانحرافهم، أوجبوا شدة بعض الأحكام عليهم حتى إذا جاء عيسى المسيح (عليه السلام)، خففت الأحكام، وأنزلت الشرائع السّمحة، وكان ذلك لطبيعة البشر.. فقد كان البشر في زمن الكليم، مثلهم مثل التلاميذ في المدارس الابتدائية، ثم انتقلوا ـ بصقل الشريعة الموسوية لهم، وبتقديم الحضارة الإنسانية ـ إلى الدور الثانوي، فكان مثلهم مثل التلاميذ في المدارس الثانوية، في زمن ظهور المسيح (عليه السلام) حتى إذا جاء نور رسول الإسلام، كان البشر في دور ثالث، ولذا جاءت الصيغة الأخيرة من الشريعة وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
وقد أُنزلت على عيسى (عليه السلام) في (الإنجيل) المواعظ والأمثال والحدود ـ ليس فيها قصاص ولا أحكام حدود، ولا فرض مواريث ـ ولعل ذلك كان بسبب بقاء شريعة موسى (عليه السلام) التي فيها كل هذه الأشياء.
وأنزل على المسيح تخفيف ما كان نزل على موسى (عليه السلام).. فقال المسيح للقوم: (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم). وقد أمر المسيح اتباعه باتباع (التوراة) وما أنزل على النبيين من قبله.
كما أخبرهم بمجيء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخذ منهم الميثاق بأن يؤمنوا به.
وعندما انتشر خبر شفاء المسيح للمرضى، توجه إليه من أطراف البلاد عددٌ كثيرٌ من المرضى الذين كانوا مصابين بأمراض مزمنة، أو نواقص خلقيّة.. حتى إنه ذكر بعض المصادر أن المسيح (عليه السلام) شفى ـ بإذن الله تعالى ـ في حقبة غير طويلة من الزمن ـ خمسين ألف إنسان وهذا غير بعيد عن طبيعة الناس، الذين يجتمعون بهذه الكمّيات، لشبعة بطن أو ما أشبه فكيف للشفاء من الأسقام، والتكميل لنواقصهم الخلقية، كالعمى، والعرج، والشلل، والبكم، وأشباهها؟
وهكذا أخذ المسيح (عليه السلام)، يغزو العقول والأفكار، بما يريه من المعجزات والكرامات. وما يبديه من الأخلاق والفضائل، وما يخفّفه من الشرائع الموسوية المشدّدة، وما يعيشه من البساطة في المأكل والملبس وسائر الشؤون الشخصية.
* * *
وقد كان المسيح (عليه السلام)، قوي العزيمة، صلب الإرادة في تبليغ الناس وإرشادهم. لا يبالي بما يلاقيه من الأتعاب الجسدية والمضايقات الروحية ـ من جماعة اليهود الحساد.
ولم يقتصر تبليغ المسيح بنفسه الكريمة..
فقد جمع حوله نخبة من الرجال الأطهار، الذين سمّاهم (بالحواريّين) وكان هؤلاء في مرتبة رفيعة من السمو الروحي، والرفعة النفسية، ولم يكفر هؤلاء بالمسيح طرفة عين، كما لم يتبرأوا من تعاليمه النيّرة برهة من الزمن ـ لا كما ينسب أهل الكتاب إليهم: من أنهم ارتدّوا، فإن ذلك تحريفات أهل الكتاب في جملة ما حرّفوا من التاريخ والأحكام ـ .
وقد كان الغالب أن يلازم المسيح (عليه السلام) هؤلاء في حله وترحاله.
كما أن المسيح (عليه السلام)، كان يبعث بهم رسلاً إلى مختلف البلاد، لهداية الناس إلى الدين المسيحي الجديد، وتبشيرهم بالنبي المبعوث.
ففي ذات مرة، بعث المسيح بأحد الحواريّين إلى الروم، وزوّده ـ بأمر الله تعالى ـ بمعجزة إبراء الأكمه والأبرص فذهب ـ كما أمر المسيح ـ وأخذ في تبشير الناس ـ وإذا طالبوه بالمعجزة دليلاً على صدقه، أبرأ الأعمى وشفى الأبرص، وبذلك قوي أمره، والتف حوله الناس.
ولم يمض زمان حتى وصل الخبر المدهش إلى ملك الروم.
طلبه الملك.. وقال له، هل أنت رسول النبي الجديد؟ وهل صحيح أنك تبرئ الأكمه والأبرص؟ أجاب (الحواري) بالإثبات.
فأمر الملك بإحضار غلام منخسف الحدقة، لا عين له ـ إطلاقاً ـ وقال: إن كنت صادقاً، فأبرئ هذا الغلام.
فأخذ (الحواري) بندقتين من الطين، وجعلهما في مكان عيني الغلام، ثم دعا الله سبحانه وتعالى، فإذا هو بصير يرى كل شيء، وله عين صحيحة.
تعجّب الملك وآمن بالمسيح. وأنزل الحواري منزلاً حسناً، وقال له: كن معي، ولا تخرج من مصري، وهكذا علا أمر المسيح في تلك المنطقة.
* * *
وذات مرة أرسل المسيح (عليه السلام)، أحد الحواريّين إلى بعض البلاد، وعلّمه الدعاء الذي يحيي به الموتى ـ بإذن الله تعالى ـ.
دخل الحواري تلك البلاد، وأخذ يبشر بالدين الجديد، ويقول: أنا أعلم من طبيب الملك، إنه يعرف شفاء بعض الأمراض، وأنا أعرف إحياء الموتى ـ الذي لا يقدر عليه إلا الله ورسُله ـ وسمع الملك بالنبأ، واغتاظ، لأنه اعتبر كلام الحواري حول طبيبه تحدياً بالنسبة إليه، ولذا أمر بعض جلاوزته بقتل الحواري.
لكن طبيب الملك كان رجلاً حكيماً ـ وكان في الباطن ـ من رسل المسيح، ولم يظهر ذلك منذ أن تسنّم هذا المنصب ـ فنهى الملك، وقال: الأفضل ـ أيها الملك ـ أن تحضر هذا المدعي، فإن صدق في مقالته، فما أحسن هذا الذي يقول، وإن كذب كانت لك الحجة عليه أمام الناس.
قبل الملك مشورة طبيبه، فأمر بإحضار (الحواري)، وقال له: أنت الذي تزعم أنك تحيي الموتى؟ قال (الحواري): نعم ـ بإذن الله ـ قال الملك: إنه قد مات لي ابن منذ زمن فإن أحييته آمنت بك وإلا ضربت عنقك.
قبل (الحواري) كلام الملك.. فقام الملك يصحبه خلق كثير إلى المقابر، حتى وقف الجميع على قبر (الولد الميت) فأخذ يدعو (الحواري) في الظاهر، ويُؤمّن طبيب الملك على دعائه في الباطن، وإذا بالقبر ينشق، ويقوم الولد من القبر حياً، ويقذف بنفسه في حجر أبيه الملك.
بهت الجميع لهذا الحادث، وفرح الملك أشد الفرح.
ثم توجّه إلى الولد، وقال له: أي بني! من الذي أحياك؟
توجه الولد إلى الجماهير الحاضرة، حتى وقعت عينه على (الحواري)، فقال: يا أبت إن هذا الذي دعا الله بإحيائي، ثم نظر نظرة أخرى إلى الجماهير، حتى وقعت عينه على (الطبيب) وقال يا أبت! إن هذا أيضاً كان يؤمّن على الدعاء.
وقد أحياني الله سبحانه ببركتهما.
هنا، آمن الملك، وآمن معه جمع غفير، وأعظم جماعةٌ أمر المسيح حتى قالوا فيه بالألوهية، لكن جماعة من اليهود الحساد، لم يبرحوا مقالتهم السابقة من الطعن في المسيح ورسله، وقولهم إن هؤلاء سحرة لا أكثر من ذلك.
* * *
وقد وقعت في زمن المسيح (عليه السلام) قصة تشبه القصة السابقة.
فقد أرسل المسيح (عليه السلام) إلى (أنطاكية) نفرين من تلاميذه، ليبشّرا الناس بالدين الجديد وأمرهما أن يبدءا بالضعفاء، ثم الأقوياء، وأن لا يصطدما بالجبابرة في أول الأمر.
جاء الرجلان إلى (أنطاكية) فدخلاها في يوم عيد لهم، فوجدا أن القوم يعبدون الأصنام، فعجّل الرسولان على القوم بالتعنيف واللوم.
وهنا ثارت ثائرة الجبابرة، لما لاقت الأصنام من الإهانة، وتلقّوه هم من التعنيف، وأمروا بالرجلين إلى السجن، بعد ما وشوا بهما إلى الملك.
وعرف (شمعون) وصي المسيح بأمر الرسولين، فجاء إلى أنطاكية، واخذ يجالس الضعفاء، والفقراء حتى التفّ حوله جمع منهم، وأخذوا يعتقدون بالدين الجديد، وانتهى أمر شمعون إلى الملك فسأل عن جلسائه: منذ متى وهذا الرجل في بلادي؟ قالوا منذ شهرين، فأمر بإحضاره، وحين أحضر وسأله الملك عن مسائل، تحبّب إليه شمعون في الكلام، حتى أحبّه ورأى الملك من عقله وذكائه ما أبهره، ولذا طلب منه أن يصاحبه ويلازمه.
قبل شمعون مصاحبة الملك، فقد كان هذا منتهى مقصده، إنه كان يريد أن يؤثر في قلب الملك، وذات مرة رأى الملك في منامه ما أدهشه وأفزعه، وحين استيقظ سأل (شمعون) عن تفسير منامه؟ ففسّره بما سرّ الملك، ومرة أخرى رأى رؤيا وفسّر المنام (شمعون) مما ازداد الملك علاقة به، بسبب تفسيره الحسن.
ولمّا علم شمعون أنه استولى على قلب الملك سأله ذات مرة قائلاً: أيها الملك إني قد سمعت أن في حبسك رجلين عابا عليك دينك، وفنّدا رأيك في عبادة الأصنام؟
أجاب الملك: نعم، وقصّ على شمعون قصة الرجلين.
قال شمعون: أيها الملك، مر بإحضار الرجلين، حتى نرى مقالتهما، ونسمع حجّتهما؟ وافق الملك على ذلك وأمر بإحضار الرجلين.. وجرى بين (شمعون) و(الرسولين) الحوار التالي:
شمعون: ماذا تقولان أيها الرجلان؟
الرسولان: إنا ندعو إلى نبذ عبادة الأصنام، وعبادة (الله) الإله الواحد الذي لا شريك له.
شمعون: هل يسمع هذا الإله دعوتكم إذا دعوتماه، ويجيبكما إذا سألتماه؟
الرسولان: نعم..
شمعون: هل يشفي لكما الرجل (الأبرص) إذا سألتماه ذلك؟
الرسولان: نعم.
أمر شمعون بإحضار (أبرص) وطلب منهما الدعاء لشفائه؟ فدعوا الله تعالى. ومسحاه بأيديهما، فبرئ في الساعة.
قال شمعون: وأنا أقدر على هذا العمل، فجيء بأبرص آخر، ودعا (شمعون) سرّاً ومسحه، فشفي فوراً، وإنما فعل ذلك تمهيداً لما يجلب نظر الملك، وأصحابه، حين يظهر عجزه عمّا يأتي به الرسولان.
شمعون: بقي أمر إن قدرتما عليه آمنت بإلهكما؟
الرسولان: وما هو هذا الأمر؟
شمعون: هل يقدر إلهكما على إحياء الميت؟
الرسولان: نعم.
شمعون ـ مقبلاً على الملك ـ : هل لك ميت يعنيك أمره؟ قال الملك: نعم.. ابني مات قبل مدة..
قال (شمعون): أيها الملك: إن الرجلين ألزما على نفسيهما الحجّة، فإن تمكّنا من إحياء ابنك آمنا بهما، وظهر صدقهما وإلا كان لنا معهما خلاف ذلك.
قبل الملك، ثم توجه الجميع إلى المقبرة.
وأخذ الرسولان يدعوان الله سبحانه، في إحياء ولده، ويؤمن شمعون لدعائهما ـ سرّاً ـ فما كان بأسرع من أن انشق القبر، وقام (الفتى) حيّا صحيحاً.
سرّ الملك بذلك سروراً بالغاً ودهش الجميع من هذا الأمر الغريب الذي لم يعهدوه من ذي قبل، وعلموا صدق (الرسولين).
ثم أقبل الملك على ولده قائلاً: من أحياك يا بني؟
قال الولد: لقد كنت ميّتاً، وإذا بثلاثة أنفار على شفير قبري يدعون الله تعالى لإحيائي، فوهبني الله الحياة، بدعائهم.. وهؤلاء الثلاثة هم (هذان، وهذا) مشيراً إلى الرسولين و(شمعون) فأسلم الملك، وأسلم وزراؤه وأسلم كثير من أهل القرية، لله رب العالمين، وآمنوا بنبوّة عيسى المسيح (عليه السلام).
(واضرب) بيّن (لهم مثلاً أصحاب القرية) أي انطاكية (إذ جاءها المرسلون) من قبل المسيح (عليه السلام) (إذ أرسلنا إليهم) أولاً (اثنين) الرسولين (فكذّبوهما) وسجنوهما، (فعزّزنا بثالث) هو شمعون، جاء ليعزهما وينصرهما (فقالوا إنا إليكم مرسلون).
وجرى الأمر على ما تقدّم..
* * *
وقد اشتهر إحياء المسيح للأموات، وشفاؤه للأمراض، وخرقه للنواميس العادية إعجازاً. ولذا ازدلف إليه الناس من كل مكان، يطلبون الشفاء والإحياء منه.
ففي ذات مرة، اجتمع عليه ما يقارب الخمسين ألفاً من المرضى، فأبرأهم بإذن الله تعالى.
وفي قصّة أخرى: دخل دار دهقان، كان أضاف جمعاً، ومن المصادفات أنه لم يكن عنده ماء للأضياف، وكانت في دار الدهقان جرار مصطفّة، فمشى عيسى (عليه السلام) بين تلك الجرار وأخذ يضع يده على أفواهها، فامتلأت ماء بإذن الله تعالى.
وكان لعيسى (عليه السلام) صديق في أحد البلاد، فإذا مرّ المسيح بذلك البلد نزل عنده، وذات مرّة ورد البلد، ودخل دار الصديق، فلم يجده. فسأل عنه؟ قالت أُمه: إنه قد مات منذ زمان فقال لها عيسى (عليه السلام) وهل تحبين أن أحييه؟ فأجابت، وماذا تنتظر؟ وجاء المسيح في الغد وذهب مع الأم إلى المقابر، ثم دعا الله تعالى، فانتفض الرجل حيّاً بإذنه سبحانه، ثم قال المسيح إنه يعيش عشرين عاماً، ويتزوّج، ويولد له فكان كما قال (عليه السلام).
ومرّ عيسى ـ ذات مرّة ـ في الشارع ـ فإذا بسرير يحمل، وعجوز تبكي خلفه فدعا الله سبحانه لإحياء ولدها، وإذا بالولد يجلس على السرير حياً، مما أثار دهشة الناس ثم نزل على أعناق الناس، ولبس ثيابه، وذهب إلى أهله مع أمه، وتزوّج بعد ذلك، وولد له.
ومر عيسى في بعض سياحاته على قبر سام ابن نوح، فدعا الله سبحانه لإحيائه، فقام سام من القبر ينفض عنه غبار التراب، وقد شاب نصف رأسه.
وهكذا أخذ المسيح (عليه السلام) يزرع البلاد والقرى والأرياف وينشر فيها الأخلاق الحسنة والمواعظ والنصائح، والخوارق التي تبهر الألباب. وكان في الغالب يسافر مع تلاميذه من هنا إلى هناك، يرشد الناس إلى أمور دينهم، ودنياهم، ويهديهم إلى الحق وإلى صراط مستقيم.
لكن اليهود كانوا كلّما رأوا منه فضيلة أو منقبة أو خارقة، ازدادوا حسداً وعتوا، وكانت تلك المعجزات تنقلب في نفوسهم إلى الحقد والغل، كالمطر الطاهر الذي إذا نزل على الجيفة، ازدادت عفونة ونتناً.
* * *
وفي ذات مرة (قال الحواريون) وكان بصحبتهم جمع كثير: (يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء)؟ وكان هذا السؤال من المؤمنين ليرى ضعفاء الإيمان قدرة الله تعالى، بالإضافة إلى أنهم أرادوا (عين اليقين)، أما غيرهم فقد كانوا لا يفرّقون بين استطاعة (الله) واستطاعة الأصنام ويظنّون أنه كما لا يقدر الصنم على مثل هذه الأعمال، كذلك إله المسيح لا يقدر على مثلها.
فـ(قال) لهم عيسى (عليه السلام): (اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) فلا تسألوه سؤال اقتراح وإن كان لا بأس بالسؤال لأجل قوة اليقين ـ كما سأل إبراهيم (عليه السلام) ربّه أن يريه كيف يحيي الموتى ـ.
أجاب الحواريون على كلام عيسى (عليه السلام):
(قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا) بالإيمان، لأن الأكل معاينة وهي فوق العلم (ونعلم) علماً يقينياً (أن قد صدقتنا) في قدرته تعالى على كل شيء، وأنها ليست كقدرة الأصنام ـ فإن الأصنام المعبودة لا تقدر على أقل شيء ـ .
(ونكون عليها) أي على المائدة المنزلة من السماء (من الشاهدين) الذين يشهدون إنها نزلت من السماء بقدرته سبحانه، فإذا سئلنا في المستقبل: هل رأيتم آثار قدرة الله الخارقة؟ نجيب بالإثبات، ويكون ذلك أدعى إلى إيمان الناس.
هنالك دعا المسيح ربه تعالى لإجابة طلب هؤلاء (قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدةً من السماء تكون لنا عيداً) يوم عيد، فإن الناس يتخذون الأيام العظيمة التي تجدّد فيها نعمة عظيمة من الله عيداً، فيعيّدون ذكرى ذلك اليوم كل عام ـ كاتخاذ يوم ميلاد، أو نصر، أو ما أشبه، عيداً يعاد السرور والفرح فيه كل عام.
(لأولنا وآخرنا) يكون ذلك العيد لزماننا، وزمان من يأتي بعدنا، (و) يكون نزول المائدة (آيةً) علامةً دالّة على عظيم قدرتك (منك) يا رب (وارزقنا وأنت خير الرازقين) وهنا أجاب الله دعاء المسيح (عليه السلام).
فـ(قال الله إني منزّلها) أي المائدة (عليكم فمن يكفر بعد) أي بعد نزول المائدة (منكم) فيشك في الألوهية أو نبوّة المسيح (فإني أعذبه عذاباً) شديداً (لا أعذّبه) أي لا أعذّب مثل ذلك العذاب في الشدة (أحداً من العالمين) لأنه كفر بعد المعاينة، وذلك عناد ولجاجة.
* * *
رأى الناس سفرة حمراء، بين غمامتين، تهوي من ناحية السماء إلى الأرض حتى وصلت ووقفت أمامهم، وكان عليها أرغفة، وسبع أسماك. فلما رآها عيسى (عليه السلام) بكى وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمة. فوجدوا منها رائحة طيّبة، لم يجدوا مثل ذلك الطيب قبله. فقام المسيح (عليه السلام) وتوضأ وصلّى، ثم قال للحاضرين وهم جمعٌ غفيرٌ: بسم الله! فأكل الجميع من ذلك الطعام حتى شبعوا. وكان هذا إعجاز آخر.
ومن الطبيعي أن يتذكّر الجميع هنا، ما سمعوه عن أسلافهم، من نزول المائدة ـ المن والسّلوى ـ على أجدادهم، ببركة الكليم موسى (عليه السلام).. فقد أتى هذا النبي بمثل ما أتى به النبي من قبل، كما أن من الطبيعي أن يتذكّر الجميع قصة نزول المائدة على أمه (مريم) حين كان زكريّا (عليه السلام) كلّما دخل عليها وجد عندها رزقاً.. وقد كان من الطبيعي أيضاً أن يشبه نزول المائدة على الأمم السابقة، نزول المائدة على الطهر البتول فاطمة (عليها السلام) ـ في قصة طويلة ـ وينزل (الطير المشوي) على رسول الإسلام فيأكله هو والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
لقد أكل من تلك المائدة المنزلة على المسيح (عليه السلام)، أكثر من ألف وثلاثمائة فقير ومريض وما أشبه من أهل الفاقة والعاهة ـ فقط ـ أمّا غيرهم فكثيرون. ولمّا أتمّوا الأكل، رجع الطعام كما كان، كأن لم يأكل منه أحد. ثم ارتفعت المائدة إلى السماء.
وهكذا كان، تنزل المائدة أربعين صباحاً، عنباً ـ يوماً دون يوم ـ يراها الناس وقت نزولها، ووقت صعودها، ويأكلون منها، ثم ترجع كما كانت بدون نقص.
وقد تكبّر الكبار أن يشتركوا مع الفقراء في الأكل، فقرّروا ـ ذات مرة ـ أن يستأثروا هم وحدهم بها، وان يمنعوا الفقراء منها، كما أنهم جعلوا يكفرون بها، لكن بعد هذا التقرير لم تنزل المائدة، وارتفعت إلى الأبد.. ومسخ جمع كثير منهم ـ جزاءً لكفرانهم وعتوّهم ـ قردةً وخنازير، فأصبحوا يسعون في الطرقات، ويأكلون العذرة والكناسات.. ثم لم يبقوا إلا ثلاثة أيام حتى هلكوا.
تمادى اليهود في غيّهم وطغيانهم..
وقد تصدّروا مكان السادة العلماء، والملوك الأمراء، في الأرض، فقد كانت لهم السلطة الدينية، والسلطة الدنيوية. فهم كل شيء.. وغيرهم ليس بشيء.. وقد اشتدّت قبضتهم على الأمم الضعيفة، فأخذوا يعيثون في البلاد فساداً.
والكل منتظرون لقدوم (المسيح) الذي بشّر به الأنبياء.
الضعفاء ينتظرون قدومه ليخلّصهم من براثن الأقوياء.
واليهود ينتظرون قدومه، لزعمهم أنه يزيدهم قوّة، وسلطة على سلطة.
وفي ذات يوم.. رأى الجميع أغرب الحوادث، فقد جاءت (الصديقة الطاهرة مريم) وهي تحمل طفلاً جميلاً على ذراعيها!
من هذا يا مريم؟! هكذا قالوا، بلسان واحد، مستغربين أن تأتي مريم العذراء بطفل؟
أشارت مريم إلى الطفل أن كلّموه، فإنه هو الذي يجيب عن هذا السؤال.
وهنا أخذ (المسيح) الطفل، يتكلّم، قائلاً: (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً وجعلني مباركاً).
إذن.. يا للفرحة، إنه هو الطفل الذي طالما انتظره الأقوياء والضعفاء على حد سواء قد جاء؟
لقد جاء المخلّص، وقد جاء المسيح الموعود. وليس بينهم وبين الخلاص، إلا سنوات، حتى يكبر هذا المولود، ويبلغ مبلغ الرجال، فهو الملك النبي الذي ينقذهم من كل مكروه.
* * *
أخذ المسيح ينمو، لا كنمو الأطفال بل نموّاً مستغرباً، وقد أخذت الألباب الدهشة، لما رأوه في الوليد.
فقد كان عيسى يخبر الأطفال ـ حينما يجتمع بهم ـ بما أكلوا في غذائهم، وما ادّخروه في بيوتهم، وكان ذلك مما يثير عجب الأولاد، والآباء.
وقد كان الكل يعلم أن له مستقبلاً زاهراً، وكان يضاف إلى ذلك، الغرائب التي يشاهدونها حوله.
ففي مرة جاء وفد من عظماء المجوس إلى مريم الطاهرة، مما لفت انتباه الجميع، يا ترى ماذا يريد هؤلاء؟ وكيف تعرّفوا على هذا البيت؟ ومن أين عرفوا هذه المخدّرة الصالحة؟
لما وصلوا إلى دار مريم، سلّموا عليها، وأكبروها، ثم قالوا:
إنا قوم ننظر في النجوم، فلما ولد ابنك طلع بمولده نجمٌ من نجوم الملك ـ مما دل على أنه ولد ملك على الأرض ـ وبعد أن دقّقنا النظر، رأينا أن ملك هذا المولود، ليس من قبل ملك ملوك الأرض.. وإنما ملك نبوة مما لا يزول، ولا يفارقه حتى يرفع إلى السماء ويصير إلى ملك أطول.
ولمّا رأينا ذلك أخذنا نتتبع البلاد، بلداً بلداً، حسب تطلّع النجم المذكور، حتى رأيناه فوق هذا البلد.. وبذلك عرفنا موضع المولود العظيم.
ثم إن عظماء المجوس، بعد ما تبيّنوا صدق تنبؤهم.. ورأوا آثار العظمة في المسيح (عليه السلام) قدموا لمريم الصديقة، هدية غريبة (الذهب، والمرّ، واللبان). ثم قالوا في سبب إهدائهم هذه الهدية:
الذهب: هو سيد المتاع كله، فإهداؤنا له إشارة إلى أن ابنك سيد الناس.
والمرّ: يجبر الجراحات، فهو إشارة إلى أن ابنك يُبرئ الجراحات والأمراض والجنون والعاهات.
واللبان: إذا أُشعل ارتفع دخانه في أجواء الفضاء. فهو إشارة إلى أن ابنك يرفع إلى السماء ولا يرفع إلى السماء غيره. ثم ودّعوا الصديقة مريم، بعد ما أوصوها بابنها خيراً، وذهبوا قافلين..
* * *
بعدما كبر المسيح، أخذ يبشّر الناس بدينه، وأنه المبعوث من قبل الله تعالى لهداية البشر من الضلالة، وإنقاذهم من براثن الجهالة، وتعليمهم ما حرّفته اليهود من أحكام الشريعة.
(إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك) بأن جعلتك نبيّاً عظيماً، (وعلى والدتك) حيث أنعمت عليها بأنواع النعم التي منها، هبتك لها.
(وإذ أيدتك بروح القدس) الروح المقدس الذي يلازمك ويسدّدك، ويريك الغيب، وينزل عليك من الله بالشريعة (تكلّم الناس في المهد) حين كنت طفلاً رضيعاً (وكهلاً) حين كنت كبيراً تكلّمهم بالوحي والشريعة الملهمة بك.
(وإذ علّمتك الكتاب) الكتب السماوية (والحكمة) معرفة الأشياء ومواضعها، فلا تقول ولا تفعل شيئاً إلا بالصواب (و) علّمتك (التوراة) كتاب موسى (عليه السلام) (والإنجيل) الكتاب المنزل عليك.
(وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني) كمجسّمة الطير (فتنفخ فيها) في هيئة الطير، (فتكون طيراً) يطير كسائر الطيور (بإذني).
(وتبرئ الأكمه) الأعمى الذي ولد أعمى (والأبرص) الذي صارت على جسمه بقع بيضاء تخالف لون جسمه (بإذني وإذ تخرج الموتى) من قبورهم أحياء (بإذني).
(وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبيّنات) الأدلة الواضحة (فقال الذين كفروا منهم إن هذا) ما هذا الذي تعمله من الغرائب (إلا سحرٌ مبين).
فقد أبى مردة اليهود، الإيمان بالمسيح (عليه السلام)، وإن رأوا منه الآيات الباهرات، والحجج القاطعات، وذلك حسداً منهم وكبراً.
فكانوا يكذبون المسيح، ويغرون السفهاء به، ويقولون إن الذي يأتي به ليس معجزة، وإنما هو سحر، تعلّمه المسيح من بعض الساحرين، فيأتي به لدعم ادّعائه بأنه نبيّ من عند الله تعالى، وهكذا كانوا يصدّون عن سبيل الله.
* * *
لقد كان الأنبياء يأتون بالمعجزات الخارقة، دلالة على صدق كلامهم، أنّهم من قبل الله تعالى، ولولا المعجزة لادّعى كل شخص أنه نبي مبعوث!
وكانت معجزات الأنبياء حسب اقتضاء زمانهم، مثلاً:
موسى (عليه السلام) بعث في زمان كثر فيه السحر والشعبذة، وكان السحرة يملأون الحبال والعصي بالزئبق فيضعونها في الشمس فتتحرك تلك الحبال والعصي بتحرّك الزئبق داخلها، فيقولون للناس: انظروا كيف صنعنا من الحبال والعصي حيّات وأفاعي متحركة ذات حياة.
ولذا جاء موسى بما يشبه سحرهم، لكنه حقيقة لا خيال، فكان إذا ألقى عصاه من يده، صارت حيّة عظيمة تبتلع حبال السحرة، ثم ترجع عصا كما كانت، من دون أن يزيد في ضخامتها شيء.. ولذا آمن السحرة لما رأوا أنها ليست بسحر.
والمسيح (عليه السلام)، كان في زمان كثر فيه الطب، وحذق الأطباء، إلى حد مدهش، فجاء عيسى بما يعجز عنه الطب، من إبراء الأعمى وشفاء الأبرص، وإحياء الموتى.
وأي طبيب يقدر على هذه الأمور، مهما بلغ من السّمو في الطب؟
ولذا آمن أهل فن الطب والحذّاق منهم بالمسيح، وقالوا: إن ما يفعله خارج عن نطاق الطب، وهو خاص بالله سبحانه، وبمن أرسله.
ونبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث في زمان قويت فيه البلاغة، والفصاحة، حتى إن الأعراب والقبائل، كانوا يعقدون الأسواق، للمباراة في البلاغة والأدب والفصاحة والشعر، كسوق (عكاظ) وغيره.
فجاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن العظيم، الذي هو فوق كلام الناس، وأرفع من مستوى أعظم البلغاء، ثم تحدّاهم، قائلاً: (فأتوا بسورة من مثله).
لكنهم ارتدّوا، وعجزوا، واعترفوا بأنه ليس مثل كلام البشر، وبذلك ثبتت الحجة عليهم وأنه منزلٌ من قبله سبحانه.
* * *
لقد كان المسيح (عليه السلام)، يعيش عيشة بسيطة متواضعة، ويسيح في الأرض، يسافر من قرية إلى قرية، ومن بلد إلى بلد، ليرشد الناس إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
وقد كان أحد أسباب التفاف الناس حوله، هذه البساطة المدهشة في معيشته، فلا زوجة له، ولا دار، ولا أثاث، ولا أموال.
وكان إذا قيل له في ذلك، أجاب بهذا الجواب الذي يقطر عطراً وأرجاً:
خادمي يداي.. ودابّتي رجلاي..
وفراشي الأرض.. ووسادي الحجر..
ودفئي في الشتاء مشارق الشمس..
وسراجي بالليل القمر..
وأدامي الجوع.. وشعاري الخوف..
ولباسي الصوف..
وفاكهتي وريحانتي ما أنبتت الأرض للوحوش والأنعام..
أبيت وليس لي شيء.. وأصبح وليس لي شيء..
وليس على وجه الأرض أحد أغنى مني.
هكذا كان المسيح الطاهر، فلا خادم له يخدمه، وإنما كان يقضي حوائجه بكلتا يديه الكريمتين، بل فوق ذلك، ربّما غسل أرجل تلاميذه، فكانوا ينكرون ذلك منه، فيقول لهم: بحقي عليكم إلا ما خلّيتم، وإنما أفعل ذلك بكم، لتفعلوا مثله بالناس من بعدي.
ولم تكن له دابّة يركبها، في أسفاره المتتالية، وإنما كان ينتقل من هنا إلى هناك ماشياً، وأحياناً حافياً.
كما أنه لم يكن له بساطٌ يفترشه وقت المنام، ولا وساد إلا الحجر، وإذا أصبح في الشتاء القارس توجه إلى نحو المشرق من البيوت، لئلا تحول الأبنية والحيطان دون إشعاع الشمس على جسمه المقروف.
ولا سراج له ليلاً، وغالب أوقاته يطويه جوعاً، وكان خائفاً من الله سبحانه، وإن كانت البسمات الحلوة الهادئة لا تبرح شفاهه.. يلبس الصوف تواضعاً، ويأكل نبات الأرض عوض غذائه.
* * *
كان بنو إسرائيل لكثرة لجاجهم وانحرافهم، أوجبوا شدة بعض الأحكام عليهم حتى إذا جاء عيسى المسيح (عليه السلام)، خففت الأحكام، وأنزلت الشرائع السّمحة، وكان ذلك لطبيعة البشر.. فقد كان البشر في زمن الكليم، مثلهم مثل التلاميذ في المدارس الابتدائية، ثم انتقلوا ـ بصقل الشريعة الموسوية لهم، وبتقديم الحضارة الإنسانية ـ إلى الدور الثانوي، فكان مثلهم مثل التلاميذ في المدارس الثانوية، في زمن ظهور المسيح (عليه السلام) حتى إذا جاء نور رسول الإسلام، كان البشر في دور ثالث، ولذا جاءت الصيغة الأخيرة من الشريعة وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
وقد أُنزلت على عيسى (عليه السلام) في (الإنجيل) المواعظ والأمثال والحدود ـ ليس فيها قصاص ولا أحكام حدود، ولا فرض مواريث ـ ولعل ذلك كان بسبب بقاء شريعة موسى (عليه السلام) التي فيها كل هذه الأشياء.
وأنزل على المسيح تخفيف ما كان نزل على موسى (عليه السلام).. فقال المسيح للقوم: (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم). وقد أمر المسيح اتباعه باتباع (التوراة) وما أنزل على النبيين من قبله.
كما أخبرهم بمجيء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخذ منهم الميثاق بأن يؤمنوا به.
وعندما انتشر خبر شفاء المسيح للمرضى، توجه إليه من أطراف البلاد عددٌ كثيرٌ من المرضى الذين كانوا مصابين بأمراض مزمنة، أو نواقص خلقيّة.. حتى إنه ذكر بعض المصادر أن المسيح (عليه السلام) شفى ـ بإذن الله تعالى ـ في حقبة غير طويلة من الزمن ـ خمسين ألف إنسان وهذا غير بعيد عن طبيعة الناس، الذين يجتمعون بهذه الكمّيات، لشبعة بطن أو ما أشبه فكيف للشفاء من الأسقام، والتكميل لنواقصهم الخلقية، كالعمى، والعرج، والشلل، والبكم، وأشباهها؟
وهكذا أخذ المسيح (عليه السلام)، يغزو العقول والأفكار، بما يريه من المعجزات والكرامات. وما يبديه من الأخلاق والفضائل، وما يخفّفه من الشرائع الموسوية المشدّدة، وما يعيشه من البساطة في المأكل والملبس وسائر الشؤون الشخصية.
* * *
وقد كان المسيح (عليه السلام)، قوي العزيمة، صلب الإرادة في تبليغ الناس وإرشادهم. لا يبالي بما يلاقيه من الأتعاب الجسدية والمضايقات الروحية ـ من جماعة اليهود الحساد.
ولم يقتصر تبليغ المسيح بنفسه الكريمة..
فقد جمع حوله نخبة من الرجال الأطهار، الذين سمّاهم (بالحواريّين) وكان هؤلاء في مرتبة رفيعة من السمو الروحي، والرفعة النفسية، ولم يكفر هؤلاء بالمسيح طرفة عين، كما لم يتبرأوا من تعاليمه النيّرة برهة من الزمن ـ لا كما ينسب أهل الكتاب إليهم: من أنهم ارتدّوا، فإن ذلك تحريفات أهل الكتاب في جملة ما حرّفوا من التاريخ والأحكام ـ .
وقد كان الغالب أن يلازم المسيح (عليه السلام) هؤلاء في حله وترحاله.
كما أن المسيح (عليه السلام)، كان يبعث بهم رسلاً إلى مختلف البلاد، لهداية الناس إلى الدين المسيحي الجديد، وتبشيرهم بالنبي المبعوث.
ففي ذات مرة، بعث المسيح بأحد الحواريّين إلى الروم، وزوّده ـ بأمر الله تعالى ـ بمعجزة إبراء الأكمه والأبرص فذهب ـ كما أمر المسيح ـ وأخذ في تبشير الناس ـ وإذا طالبوه بالمعجزة دليلاً على صدقه، أبرأ الأعمى وشفى الأبرص، وبذلك قوي أمره، والتف حوله الناس.
ولم يمض زمان حتى وصل الخبر المدهش إلى ملك الروم.
طلبه الملك.. وقال له، هل أنت رسول النبي الجديد؟ وهل صحيح أنك تبرئ الأكمه والأبرص؟ أجاب (الحواري) بالإثبات.
فأمر الملك بإحضار غلام منخسف الحدقة، لا عين له ـ إطلاقاً ـ وقال: إن كنت صادقاً، فأبرئ هذا الغلام.
فأخذ (الحواري) بندقتين من الطين، وجعلهما في مكان عيني الغلام، ثم دعا الله سبحانه وتعالى، فإذا هو بصير يرى كل شيء، وله عين صحيحة.
تعجّب الملك وآمن بالمسيح. وأنزل الحواري منزلاً حسناً، وقال له: كن معي، ولا تخرج من مصري، وهكذا علا أمر المسيح في تلك المنطقة.
* * *
وذات مرة أرسل المسيح (عليه السلام)، أحد الحواريّين إلى بعض البلاد، وعلّمه الدعاء الذي يحيي به الموتى ـ بإذن الله تعالى ـ.
دخل الحواري تلك البلاد، وأخذ يبشر بالدين الجديد، ويقول: أنا أعلم من طبيب الملك، إنه يعرف شفاء بعض الأمراض، وأنا أعرف إحياء الموتى ـ الذي لا يقدر عليه إلا الله ورسُله ـ وسمع الملك بالنبأ، واغتاظ، لأنه اعتبر كلام الحواري حول طبيبه تحدياً بالنسبة إليه، ولذا أمر بعض جلاوزته بقتل الحواري.
لكن طبيب الملك كان رجلاً حكيماً ـ وكان في الباطن ـ من رسل المسيح، ولم يظهر ذلك منذ أن تسنّم هذا المنصب ـ فنهى الملك، وقال: الأفضل ـ أيها الملك ـ أن تحضر هذا المدعي، فإن صدق في مقالته، فما أحسن هذا الذي يقول، وإن كذب كانت لك الحجة عليه أمام الناس.
قبل الملك مشورة طبيبه، فأمر بإحضار (الحواري)، وقال له: أنت الذي تزعم أنك تحيي الموتى؟ قال (الحواري): نعم ـ بإذن الله ـ قال الملك: إنه قد مات لي ابن منذ زمن فإن أحييته آمنت بك وإلا ضربت عنقك.
قبل (الحواري) كلام الملك.. فقام الملك يصحبه خلق كثير إلى المقابر، حتى وقف الجميع على قبر (الولد الميت) فأخذ يدعو (الحواري) في الظاهر، ويُؤمّن طبيب الملك على دعائه في الباطن، وإذا بالقبر ينشق، ويقوم الولد من القبر حياً، ويقذف بنفسه في حجر أبيه الملك.
بهت الجميع لهذا الحادث، وفرح الملك أشد الفرح.
ثم توجّه إلى الولد، وقال له: أي بني! من الذي أحياك؟
توجه الولد إلى الجماهير الحاضرة، حتى وقعت عينه على (الحواري)، فقال: يا أبت إن هذا الذي دعا الله بإحيائي، ثم نظر نظرة أخرى إلى الجماهير، حتى وقعت عينه على (الطبيب) وقال يا أبت! إن هذا أيضاً كان يؤمّن على الدعاء.
وقد أحياني الله سبحانه ببركتهما.
هنا، آمن الملك، وآمن معه جمع غفير، وأعظم جماعةٌ أمر المسيح حتى قالوا فيه بالألوهية، لكن جماعة من اليهود الحساد، لم يبرحوا مقالتهم السابقة من الطعن في المسيح ورسله، وقولهم إن هؤلاء سحرة لا أكثر من ذلك.
* * *
وقد وقعت في زمن المسيح (عليه السلام) قصة تشبه القصة السابقة.
فقد أرسل المسيح (عليه السلام) إلى (أنطاكية) نفرين من تلاميذه، ليبشّرا الناس بالدين الجديد وأمرهما أن يبدءا بالضعفاء، ثم الأقوياء، وأن لا يصطدما بالجبابرة في أول الأمر.
جاء الرجلان إلى (أنطاكية) فدخلاها في يوم عيد لهم، فوجدا أن القوم يعبدون الأصنام، فعجّل الرسولان على القوم بالتعنيف واللوم.
وهنا ثارت ثائرة الجبابرة، لما لاقت الأصنام من الإهانة، وتلقّوه هم من التعنيف، وأمروا بالرجلين إلى السجن، بعد ما وشوا بهما إلى الملك.
وعرف (شمعون) وصي المسيح بأمر الرسولين، فجاء إلى أنطاكية، واخذ يجالس الضعفاء، والفقراء حتى التفّ حوله جمع منهم، وأخذوا يعتقدون بالدين الجديد، وانتهى أمر شمعون إلى الملك فسأل عن جلسائه: منذ متى وهذا الرجل في بلادي؟ قالوا منذ شهرين، فأمر بإحضاره، وحين أحضر وسأله الملك عن مسائل، تحبّب إليه شمعون في الكلام، حتى أحبّه ورأى الملك من عقله وذكائه ما أبهره، ولذا طلب منه أن يصاحبه ويلازمه.
قبل شمعون مصاحبة الملك، فقد كان هذا منتهى مقصده، إنه كان يريد أن يؤثر في قلب الملك، وذات مرة رأى الملك في منامه ما أدهشه وأفزعه، وحين استيقظ سأل (شمعون) عن تفسير منامه؟ ففسّره بما سرّ الملك، ومرة أخرى رأى رؤيا وفسّر المنام (شمعون) مما ازداد الملك علاقة به، بسبب تفسيره الحسن.
ولمّا علم شمعون أنه استولى على قلب الملك سأله ذات مرة قائلاً: أيها الملك إني قد سمعت أن في حبسك رجلين عابا عليك دينك، وفنّدا رأيك في عبادة الأصنام؟
أجاب الملك: نعم، وقصّ على شمعون قصة الرجلين.
قال شمعون: أيها الملك، مر بإحضار الرجلين، حتى نرى مقالتهما، ونسمع حجّتهما؟ وافق الملك على ذلك وأمر بإحضار الرجلين.. وجرى بين (شمعون) و(الرسولين) الحوار التالي:
شمعون: ماذا تقولان أيها الرجلان؟
الرسولان: إنا ندعو إلى نبذ عبادة الأصنام، وعبادة (الله) الإله الواحد الذي لا شريك له.
شمعون: هل يسمع هذا الإله دعوتكم إذا دعوتماه، ويجيبكما إذا سألتماه؟
الرسولان: نعم..
شمعون: هل يشفي لكما الرجل (الأبرص) إذا سألتماه ذلك؟
الرسولان: نعم.
أمر شمعون بإحضار (أبرص) وطلب منهما الدعاء لشفائه؟ فدعوا الله تعالى. ومسحاه بأيديهما، فبرئ في الساعة.
قال شمعون: وأنا أقدر على هذا العمل، فجيء بأبرص آخر، ودعا (شمعون) سرّاً ومسحه، فشفي فوراً، وإنما فعل ذلك تمهيداً لما يجلب نظر الملك، وأصحابه، حين يظهر عجزه عمّا يأتي به الرسولان.
شمعون: بقي أمر إن قدرتما عليه آمنت بإلهكما؟
الرسولان: وما هو هذا الأمر؟
شمعون: هل يقدر إلهكما على إحياء الميت؟
الرسولان: نعم.
شمعون ـ مقبلاً على الملك ـ : هل لك ميت يعنيك أمره؟ قال الملك: نعم.. ابني مات قبل مدة..
قال (شمعون): أيها الملك: إن الرجلين ألزما على نفسيهما الحجّة، فإن تمكّنا من إحياء ابنك آمنا بهما، وظهر صدقهما وإلا كان لنا معهما خلاف ذلك.
قبل الملك، ثم توجه الجميع إلى المقبرة.
وأخذ الرسولان يدعوان الله سبحانه، في إحياء ولده، ويؤمن شمعون لدعائهما ـ سرّاً ـ فما كان بأسرع من أن انشق القبر، وقام (الفتى) حيّا صحيحاً.
سرّ الملك بذلك سروراً بالغاً ودهش الجميع من هذا الأمر الغريب الذي لم يعهدوه من ذي قبل، وعلموا صدق (الرسولين).
ثم أقبل الملك على ولده قائلاً: من أحياك يا بني؟
قال الولد: لقد كنت ميّتاً، وإذا بثلاثة أنفار على شفير قبري يدعون الله تعالى لإحيائي، فوهبني الله الحياة، بدعائهم.. وهؤلاء الثلاثة هم (هذان، وهذا) مشيراً إلى الرسولين و(شمعون) فأسلم الملك، وأسلم وزراؤه وأسلم كثير من أهل القرية، لله رب العالمين، وآمنوا بنبوّة عيسى المسيح (عليه السلام).
(واضرب) بيّن (لهم مثلاً أصحاب القرية) أي انطاكية (إذ جاءها المرسلون) من قبل المسيح (عليه السلام) (إذ أرسلنا إليهم) أولاً (اثنين) الرسولين (فكذّبوهما) وسجنوهما، (فعزّزنا بثالث) هو شمعون، جاء ليعزهما وينصرهما (فقالوا إنا إليكم مرسلون).
وجرى الأمر على ما تقدّم..
* * *
وقد اشتهر إحياء المسيح للأموات، وشفاؤه للأمراض، وخرقه للنواميس العادية إعجازاً. ولذا ازدلف إليه الناس من كل مكان، يطلبون الشفاء والإحياء منه.
ففي ذات مرة، اجتمع عليه ما يقارب الخمسين ألفاً من المرضى، فأبرأهم بإذن الله تعالى.
وفي قصّة أخرى: دخل دار دهقان، كان أضاف جمعاً، ومن المصادفات أنه لم يكن عنده ماء للأضياف، وكانت في دار الدهقان جرار مصطفّة، فمشى عيسى (عليه السلام) بين تلك الجرار وأخذ يضع يده على أفواهها، فامتلأت ماء بإذن الله تعالى.
وكان لعيسى (عليه السلام) صديق في أحد البلاد، فإذا مرّ المسيح بذلك البلد نزل عنده، وذات مرّة ورد البلد، ودخل دار الصديق، فلم يجده. فسأل عنه؟ قالت أُمه: إنه قد مات منذ زمان فقال لها عيسى (عليه السلام) وهل تحبين أن أحييه؟ فأجابت، وماذا تنتظر؟ وجاء المسيح في الغد وذهب مع الأم إلى المقابر، ثم دعا الله تعالى، فانتفض الرجل حيّاً بإذنه سبحانه، ثم قال المسيح إنه يعيش عشرين عاماً، ويتزوّج، ويولد له فكان كما قال (عليه السلام).
ومرّ عيسى ـ ذات مرّة ـ في الشارع ـ فإذا بسرير يحمل، وعجوز تبكي خلفه فدعا الله سبحانه لإحياء ولدها، وإذا بالولد يجلس على السرير حياً، مما أثار دهشة الناس ثم نزل على أعناق الناس، ولبس ثيابه، وذهب إلى أهله مع أمه، وتزوّج بعد ذلك، وولد له.
ومر عيسى في بعض سياحاته على قبر سام ابن نوح، فدعا الله سبحانه لإحيائه، فقام سام من القبر ينفض عنه غبار التراب، وقد شاب نصف رأسه.
وهكذا أخذ المسيح (عليه السلام) يزرع البلاد والقرى والأرياف وينشر فيها الأخلاق الحسنة والمواعظ والنصائح، والخوارق التي تبهر الألباب. وكان في الغالب يسافر مع تلاميذه من هنا إلى هناك، يرشد الناس إلى أمور دينهم، ودنياهم، ويهديهم إلى الحق وإلى صراط مستقيم.
لكن اليهود كانوا كلّما رأوا منه فضيلة أو منقبة أو خارقة، ازدادوا حسداً وعتوا، وكانت تلك المعجزات تنقلب في نفوسهم إلى الحقد والغل، كالمطر الطاهر الذي إذا نزل على الجيفة، ازدادت عفونة ونتناً.
* * *
وفي ذات مرة (قال الحواريون) وكان بصحبتهم جمع كثير: (يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء)؟ وكان هذا السؤال من المؤمنين ليرى ضعفاء الإيمان قدرة الله تعالى، بالإضافة إلى أنهم أرادوا (عين اليقين)، أما غيرهم فقد كانوا لا يفرّقون بين استطاعة (الله) واستطاعة الأصنام ويظنّون أنه كما لا يقدر الصنم على مثل هذه الأعمال، كذلك إله المسيح لا يقدر على مثلها.
فـ(قال) لهم عيسى (عليه السلام): (اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) فلا تسألوه سؤال اقتراح وإن كان لا بأس بالسؤال لأجل قوة اليقين ـ كما سأل إبراهيم (عليه السلام) ربّه أن يريه كيف يحيي الموتى ـ.
أجاب الحواريون على كلام عيسى (عليه السلام):
(قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا) بالإيمان، لأن الأكل معاينة وهي فوق العلم (ونعلم) علماً يقينياً (أن قد صدقتنا) في قدرته تعالى على كل شيء، وأنها ليست كقدرة الأصنام ـ فإن الأصنام المعبودة لا تقدر على أقل شيء ـ .
(ونكون عليها) أي على المائدة المنزلة من السماء (من الشاهدين) الذين يشهدون إنها نزلت من السماء بقدرته سبحانه، فإذا سئلنا في المستقبل: هل رأيتم آثار قدرة الله الخارقة؟ نجيب بالإثبات، ويكون ذلك أدعى إلى إيمان الناس.
هنالك دعا المسيح ربه تعالى لإجابة طلب هؤلاء (قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدةً من السماء تكون لنا عيداً) يوم عيد، فإن الناس يتخذون الأيام العظيمة التي تجدّد فيها نعمة عظيمة من الله عيداً، فيعيّدون ذكرى ذلك اليوم كل عام ـ كاتخاذ يوم ميلاد، أو نصر، أو ما أشبه، عيداً يعاد السرور والفرح فيه كل عام.
(لأولنا وآخرنا) يكون ذلك العيد لزماننا، وزمان من يأتي بعدنا، (و) يكون نزول المائدة (آيةً) علامةً دالّة على عظيم قدرتك (منك) يا رب (وارزقنا وأنت خير الرازقين) وهنا أجاب الله دعاء المسيح (عليه السلام).
فـ(قال الله إني منزّلها) أي المائدة (عليكم فمن يكفر بعد) أي بعد نزول المائدة (منكم) فيشك في الألوهية أو نبوّة المسيح (فإني أعذبه عذاباً) شديداً (لا أعذّبه) أي لا أعذّب مثل ذلك العذاب في الشدة (أحداً من العالمين) لأنه كفر بعد المعاينة، وذلك عناد ولجاجة.
* * *
رأى الناس سفرة حمراء، بين غمامتين، تهوي من ناحية السماء إلى الأرض حتى وصلت ووقفت أمامهم، وكان عليها أرغفة، وسبع أسماك. فلما رآها عيسى (عليه السلام) بكى وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمة. فوجدوا منها رائحة طيّبة، لم يجدوا مثل ذلك الطيب قبله. فقام المسيح (عليه السلام) وتوضأ وصلّى، ثم قال للحاضرين وهم جمعٌ غفيرٌ: بسم الله! فأكل الجميع من ذلك الطعام حتى شبعوا. وكان هذا إعجاز آخر.
ومن الطبيعي أن يتذكّر الجميع هنا، ما سمعوه عن أسلافهم، من نزول المائدة ـ المن والسّلوى ـ على أجدادهم، ببركة الكليم موسى (عليه السلام).. فقد أتى هذا النبي بمثل ما أتى به النبي من قبل، كما أن من الطبيعي أن يتذكّر الجميع قصة نزول المائدة على أمه (مريم) حين كان زكريّا (عليه السلام) كلّما دخل عليها وجد عندها رزقاً.. وقد كان من الطبيعي أيضاً أن يشبه نزول المائدة على الأمم السابقة، نزول المائدة على الطهر البتول فاطمة (عليها السلام) ـ في قصة طويلة ـ وينزل (الطير المشوي) على رسول الإسلام فيأكله هو والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
لقد أكل من تلك المائدة المنزلة على المسيح (عليه السلام)، أكثر من ألف وثلاثمائة فقير ومريض وما أشبه من أهل الفاقة والعاهة ـ فقط ـ أمّا غيرهم فكثيرون. ولمّا أتمّوا الأكل، رجع الطعام كما كان، كأن لم يأكل منه أحد. ثم ارتفعت المائدة إلى السماء.
وهكذا كان، تنزل المائدة أربعين صباحاً، عنباً ـ يوماً دون يوم ـ يراها الناس وقت نزولها، ووقت صعودها، ويأكلون منها، ثم ترجع كما كانت بدون نقص.
وقد تكبّر الكبار أن يشتركوا مع الفقراء في الأكل، فقرّروا ـ ذات مرة ـ أن يستأثروا هم وحدهم بها، وان يمنعوا الفقراء منها، كما أنهم جعلوا يكفرون بها، لكن بعد هذا التقرير لم تنزل المائدة، وارتفعت إلى الأبد.. ومسخ جمع كثير منهم ـ جزاءً لكفرانهم وعتوّهم ـ قردةً وخنازير، فأصبحوا يسعون في الطرقات، ويأكلون العذرة والكناسات.. ثم لم يبقوا إلا ثلاثة أيام حتى هلكوا.

أنبياء أهل القرية
قال تعالى في سورة (يس):
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ
ملخص قصة أنبياء أهل القرية
أرسل الله رسولين لإحدى القرى لكن أهلا كذبوهما، فأرسل الله تعالى رسولا ثالثا يصدقهما. ولا يذكر ويذكر لنا القرآن الكريم قصة رجل آمن بهم ودعى قومه للإيمان بما جاؤوا بهن لكنهم قتلوه، فأدخله الله الجنة.
يحكي الحق تبارك وتعالى قصة أنبياء ثلاثة بغير أن يذكر أسمائهم.. كل ما يذكره السياق أن القوم كذبوا رسولين فأرسل الله ثالثا يعزرهما.. وأنكر الناس أنهم رسل، كذبوهم، فلما أقام الرسل عليهم الحجة، قال قومهم أنهم تشاءموا منهم. وهددوهم بالرجم والقتل والعذاب الأليم. ورفض الأنبياء هذا التهديد، واتهموا قومهم بالإسراف.. إسرافهم في ظلم أنفسهم.
لا يقول لنا السياق ماذا كان من أمر هؤلاء الأنبياء، إنما يذكر ما كان من أمر إنسان آمن بهم. آمن بهم وحده.. ووقف بإيمانه أقلية ضعيفة ضد أغلبية كافرة. إنسان جاء من أقصى المدينة يسعى. جاء وقد تفتح قلبه لدعوة الحق.. لم يكد يعلن إيمانه حتى قتله الكافرون.
قال تعالى:
وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ (21) وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (24) إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ
اختصر السياق القرآني ذكر القتل، وكشف الستار عن لحظة ما بعد الموت. لم يكد الرجل المؤمن يلفظ آخر أنفاسه حتى صدر إليه أمر الله تعالى:
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ
تجاوز السياق أسماء الأنبياء وقصصهم ليبرز قصة رجل آمن.. لم يذكر لنا السياق اسمه. اسمه لا يهم.. المهم ما وقع له.. لقد آمن بأنبياء الله.. قيل له ادخل الجنة. ليكن ما كان من أمر تعذيبه وقتله. ليس هذا في الحساب النهائي شيئا له قيمته. تكمن القيمة في دخوله فور إعلانه أنه آمن. فور قتله.
إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ
قال تعالى في سورة (يس):
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ
ملخص قصة أنبياء أهل القرية
أرسل الله رسولين لإحدى القرى لكن أهلا كذبوهما، فأرسل الله تعالى رسولا ثالثا يصدقهما. ولا يذكر ويذكر لنا القرآن الكريم قصة رجل آمن بهم ودعى قومه للإيمان بما جاؤوا بهن لكنهم قتلوه، فأدخله الله الجنة.
يحكي الحق تبارك وتعالى قصة أنبياء ثلاثة بغير أن يذكر أسمائهم.. كل ما يذكره السياق أن القوم كذبوا رسولين فأرسل الله ثالثا يعزرهما.. وأنكر الناس أنهم رسل، كذبوهم، فلما أقام الرسل عليهم الحجة، قال قومهم أنهم تشاءموا منهم. وهددوهم بالرجم والقتل والعذاب الأليم. ورفض الأنبياء هذا التهديد، واتهموا قومهم بالإسراف.. إسرافهم في ظلم أنفسهم.
لا يقول لنا السياق ماذا كان من أمر هؤلاء الأنبياء، إنما يذكر ما كان من أمر إنسان آمن بهم. آمن بهم وحده.. ووقف بإيمانه أقلية ضعيفة ضد أغلبية كافرة. إنسان جاء من أقصى المدينة يسعى. جاء وقد تفتح قلبه لدعوة الحق.. لم يكد يعلن إيمانه حتى قتله الكافرون.
قال تعالى:
وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ (21) وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (24) إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ
اختصر السياق القرآني ذكر القتل، وكشف الستار عن لحظة ما بعد الموت. لم يكد الرجل المؤمن يلفظ آخر أنفاسه حتى صدر إليه أمر الله تعالى:
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ
تجاوز السياق أسماء الأنبياء وقصصهم ليبرز قصة رجل آمن.. لم يذكر لنا السياق اسمه. اسمه لا يهم.. المهم ما وقع له.. لقد آمن بأنبياء الله.. قيل له ادخل الجنة. ليكن ما كان من أمر تعذيبه وقتله. ليس هذا في الحساب النهائي شيئا له قيمته. تكمن القيمة في دخوله فور إعلانه أنه آمن. فور قتله.
إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ
الصفحة الأخيرة
أقام موسى (عليه السلام) في (طور سيناء) وهو جبل كان يناجي الكليم عليه ربه أربعين يوماً صائماً، قائماً، مناجياً ربه.
وبعد تمام الأربعين، أنزل الله عليه الكتاب المقدس (توراة) وقد قال سبحانه: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور). وكان هذا الكتاب على ألواحٍ من (زبرجد أخضر) من ألواح الجنة. وفيها أحكام الله سبحانه، التي تنظمّ أمور البشر أمور دينهم، وأمور دنياهم.
وقد كان اللازم على كل البشر، أن يتّبعوا هذا الكتاب المقدس في جميع شؤونهم ـ لأن موسى (عليه السلام) كان مبعوثاً لكل البشر ـ .
وهكذا كان هذا الكتاب هو كتاب الله الذي يجب على الأجيال اللاحقة لموسى (عليه السلام) اتباعه والعمل به، حتى إذا جاء دور المسيح عيسى (عليه السلام)، صار البشر مأمورين باتباعه وكان كتاب المسيح (الإنجيل)، وكان الإنجيل نافذ المفعول، حتى جاء دور نبي الإسلام (محمد صلى الله عليه وآله وسلم) فأتى بـ(القرآن الكريم) ناسخاً لما تقدّم من الأحكام، باقياً إلى الأبد، فقال سبحانه: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).
لكن اليهود، حرّفوا هذا الكتاب (التوراة) كما قال سبحانه: (يحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظّاً مما ذُكّروا به) ولذا ليس (التوراة) الآن هو الصحيح عندهم. والنسخة الأصليّة من (التوراة) التي نزلت من الجنّة، أودعها موسى (عليه السلام) في (بطن الجبل) لمّا حضرته الوفاة ـ وكانت نسخٌ منها بأيدي اليهود. ثمّ حرّفوها ـ فلمّا بعث نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، أظهر الله تلك النسخة الأصلية له، فكانت عنده، ثم أودعها علياً (عليه السلام)، وكذلك انتقلت من كل إمام إلى إمام آخر، وهي موجودة الآن بيد الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام).
* * *
لمّا أخذ موسى (عليه السلام) ألواح التوراة، في جبل سيناء، جاء بها إلى بني إسرائيل في (التيه) فلمّا رآهم عبدوا العجل، غضب أشد الغضب، حتى إنه (ألقى الألواح) من يده تضجراً مما فعله اليهود، وإن كان علم بذلك من قبل ـ بوحي الله تعالى ـ لكن الرؤية أثارت موسى (عليه السلام) أكثر من الخبر. (ولمّا سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون).
ثم انظر إلى عجيب الأمر:
كان بنو إسرائيل هم الذين ألحّوا على موسى (عليه السلام)، بسؤال الله تعالى إنزال كتاب إليهم فيه نظام دينهم ودنياهم، فإنهم ملّوا من عدم النظام الذي كان يسود حياتهم ومن جرّاء الفوضى وعدم وجود منهج لديهم، لكن لمّا جاءهم موسى بالكتاب، بعد تلك المشاكل، لم يقبلوا ذلك الكتاب.
وقد أمرهم موسى (عليه السلام) أن يسجدوا لله شاكرين، دلالة على قبولهم التوراة، لكنهم كرهوا ذلك فلم يسجدوا، فرفع الله قسماً من الجبل، حتى أظلّهم، وقيل لهم: إن لم تسجدوا دلالةً على قبول (التوراة) سقط الجبل عليكم بما فيه هلاككم، فاضطروا إلى السجود، لكن هل خفّف الخوف عنادهم؟ كلا!
إنهم سجدوا بشقّ وجوههم، لا بالجبهة، ينظرون إلى الجبل، هل يذهب إلى مكانه، حتى يرفعوا رؤوسهم، أو يبقى، حتى يبقوا في حالة سجود؟ (وإذ نتقنا الجبل) رفعناه فوق رؤوسهم (كأنه ظلّة) كالسقوف التي تظلّل الإنسان (وظنّوا أنه واقعٌ بهم) فإن قطعة الجبل المعلقة فوق الرؤوس، تلقي في النفس خوف الوقوع فقلنا لهم (خذوا ما آتيناكم) من التوراة (بقوة) في العمل به والالتزام بأوامره (واذكروا ما فيه لعلّكم تتقون). إنهم وعدوا أخذ الكتاب بقوّة، وسجدوا، حتى رجع الجبل إلى مكانه.. لكنهم هل وفوا بما وعدوا؟ كلا!
بل: (ثم تولّيتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين) وهكذا (حملوا التوراة ثم لم يحملوها) أخذوها ظاهراً، ولم يعملوا بأحكامها، فكان مثلهم: (كمثل الحمار يحمل أسفاراً) كتباً من العلم، إنها على ظهر الحمار، لكن الحمار لا يستفيد منها أبداً.
* * *
لقد كان ابتلاء موسى (عليه السلام) باليهود، ابتلاءً عظيماً، فإنهم في نفس الوقت الذي كانوا يعترفون له بالنبوة، ويرون منه الآيات، لا يصدّقون كلامه، لا خفاءً فحسب، بل كانوا يجهرون بذلك جهراً.
ومن ذلك أنّ موسى (عليه السلام) حين أخبرهم بأن الله سبحانه، يناجيه ويتكلّم معه، أنكر جماعة منهم، وقالوا: إنا لا نصدّق قولك وكيف يمكن أن يتكلّم الله معك؟ ولن نؤمن إلا إذا سمعنا نحن كلام الله، فاذهب بنا إلى الطور، حتى نسمع نحن كما تسمع أنت.
وأجازه الله سبحانه في ذلك.. وقد كان الطالبون لهذا الأمر سبعين ألفاً، فاختار موسى منهم سبعة آلاف، ثم اختار منهم سبعمائة، ثم اختار منهم سبعين (واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا) أي الوقت المحدود لسماعهم كلام الله تعالى.
فخرج بهم إلى طور سيناء، فأقامهم في سفح الجبل، وصعد موسى إلى الطور، وسأل الله سبحانه أن يكلّمه ويسمع القوم كلامه، فاستجاب الله تعالى دعاءه، وكلّم موسى، بحيث سمع السبعون كلام الله تعالى.
ولم يكن لكلامه اتجاه خاص ـ كما يكلّم أحدنا صاحبه ـ بل جاء كلامه من فوق ومن تحت، ومن اليمين واليسار، ومن الخلف والأمام، فإنه تعالى لا يتكلّم باللسان، ولا له جهةٌ خاصّةٌ وإنما يلقي الكلام في الفضاء، ولذا يحيط الكلام بالسامع.
ولمّا سمعوا كلامه سبحانه، قالوا: لا نصدّق أن هذا كلام الله، فيجب أن نرى الله عياناً حتى نؤمن بك، وأنّك كليم الله ونبيّه.. وحيث تمّت عليهم الحجة ولم يبق إلا العناد، أرسل الله صاعقة أرجفتهم وأهلكتهم جميعاً.
لكن موسى (عليه السلام)، خاف أن يقول بنو إسرائيل: إنك لم تكن تقدر على إسماعهم كلام الله، ولذا قتلتهم ومن هذه الجهة طلب من الله سبحانه أن يحييهم. فاستجاب الله سبحانه دعاءه وأحيا السبعين، فرجعوا مع موسى (عليه السلام)، وأخبروا بني إسرائيل بالقصة كلّها (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) حين نزول الصاعقة (فلمّا أخذتهم الرجفة) الّتي أحدثتها الصاعقة (قال) موسى: يا (رب) كيف تهلكهم الآن؟ فإن بني إسرائيل يتهمونني بقتلهم، و(لو شئت) إهلاكهم بسبب عنادهم، لكنت (أهلكتهم من قبل وإياي) فإني لا مانع لي من أن تهلكني إذا اقتضت مشيئتك ذلك.
فاستجاب الله دعاء موسى في إحيائكم يا معاشر اليهود (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلّكم تشكرون) نعمي وآلائي.
ولم يكن كلام موسى (عليه السلام) حول إهلاك الله اليهود اعتراضاً، وإنما ضراعةً ودعاءً. كما أنه سبحانه لم يبد له في إحيائهم ـ بعد أن لم يعلم، تعالى عن ذلك ـ وإنما عاقبهم حسب عصيانهم، ثم أحياهم حسب المصلحة، واستجابة لدعاء نبيه العظيم موسى (عليه السلام)، وليزيد حجّةً على حجة.
ومما يلفت النظر في هذه القصة:
أن موسى (عليه السلام) مع أنه نبي عظيم من أولي العزم وأصوب نظراً من سائر الناس، وأحسن معرفة بالناس.. لم يكن اختياره للسبعين، اختياراً للمؤمن الصامد في إيمانه، ولذا كفروا بالله، وطلبوا المستحيل، بالإضافة إلى كفرهم بموسى (عليه السلام).. فهل بعد هذا يمكن أن يناط اختيار الواسطة بين الله وخلقه إلى الناس؟؟
* * *
قد يستغرب الإنسان إذا رأى العناد من جماعة من الجهلة، لكن المظنون أن يتبخّر كل استغراب في جنب الاستغراب الذي يحصل للإنسان حين يلاحظ أحوال اليهود!
أسمعت كيف طلبوا سماع كلام الله، وإلا رجعوا عن إيمانهم؟ فقبل موسى (عليه السلام) كلامهم، وسمعوا كلام الله.
ثم.. أسمعت: كيف عاندوا، وقالوا: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً)؟ فأخذتهم الصاعقة، لتمرّدهم وعصيانهم، واحترقوا.
ثم.. أسمعت: كيف طلب موسى (عليه السلام) أن يحييهم الله تعالى، فاستجاب الله له؟
فاسمع الغريب العجيب الآن!:
إن (السبعين نفراً) الذين بعثوا بعد الموت، بدعاء الكليم (عليه السلام)، لم ينفكّوا عن عنادهم وتماديهم في الغيّ، فإنهم لمّا أحياهم الله تعالى، قالوا لموسى (عليه السلام): إنك لو سألت الله أن تنظر إليه لأجابك، وكنت تخبرنا كيف هو؟ فنعرفه حق معرفته.
فأجابهم موسى (عليه السلام): بأن الله سبحانه لا يمكن أن يراه أحد ـ فإنه ليس بجسم وما أشبه الجسم، حتى يقبل الرؤية ـ .
لكن بني إسرائيل أصرّوا على كلامهم، ووقفوا إيمانهم على سؤال موسى (عليه السلام) ربّه. فاضطرّ النبي العظيم لتلبية طلبهم حرصاً على إيمانهم، ولمصلحة أن يسمع الجواب: بالنفي.. فيعرف بنو إسرائيل عدم الإمكان، من كلام الله تعالى. ولذا قال موسى (عليه السلام): (ربِّ أرني أنظر إليك).
ويا لهول المطلب، حين سأل موسى (عليه السلام) هذا السؤال؟ فقد أحاط بموسى (عليه السلام) نارٌ من جوانبه، وظهرت له أفواج الملائكة، تهبط من أبواب السماء، عــلى أيديهم العمد في رأسها النور، يمرّون به، قائلين: يا بن عمران سألت عظيما!!
ولعل ذلك كلّه كان، حتى يحكي موسى (عليه السلام) لبني إسرائيل، فيعرفوا الغلطة الكبيرة التي ارتكبوها.. أو كانوا يرون هذه الأحداث حين صارت.
* * *
وكيف كان الأمر. فقد أجاب الله تعالى عن سؤال موسى (عليه السلام)، بقوله: (لن تراني) لا في الدنيا ولا في الآخرة (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) لكن استقرار الجبل حين إرادة الله سبحانه زواله عن مقرّه، مستحيل، فرؤيته تعالى مستحيل.. ثم إن الله تعالى (تجلّى للجبل) بأن أظهر عليه أثر قدرته وإرادته بتحطيم الجبل (فلمّا تجلّى ربه للجبل جعله) أي جعل الجبل (دكاً) محطّماً (وخرّ) أي سقط (موسى صعقاً) قد أخذتــه الغشوة، من هول ما رأى عند اندكاك الجبل (فلمّا أفاق) موسى من غشوته (قال سبحانك) اللهم (تبت إليك) أي أني راجع إليك في وصفك وأمرك، لا اطلب منك ما لا يكون، وإنما كان سؤال لأجل هؤلاء السبعين ـ كما تعلم ـ (وأنا أوّل المؤمنين) بك وبصفاتك، بأنّك لا ترى أبداً.
فـ(قال) الله سبحانه: (يا موسى إني اصطفيتك) واخترتك (على الناس برسالاتي) حيث جعلتك رسولاً (وبكلامي) حيث تكلّمت معك (فخذ ما آتيتك) من الأحكام والألواح (وكن من الشاكرين) لنعمائي.
(وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظةً وتفصيلاً لكل شيء) فإن الصفة العامّة لكتب السماء أن تشتمل على الخطوط العريضة، والقواعد العامّة، وللحياة السعيدة، لا بصورة الإجمال والاحتمال، بل بصورة التفصيل.. ولذا ورد في وصف القرآن (رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) ـ على تفسير (الكتاب المبين) بالقرآن ـ .
(فخذها بقوّة) بالعمل بكل صمود واستمرار (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) بالإتيان بالأحسن من مصاديق كلّ أمرٍ ـ مثلاً: الصلاة مع حضور القلب أحسن أنواع الصلاة، فإذا أمرنا بالصلاة.. أتينا بالقسم الأحسن منها: أي مع حضور القلب.. أمّا الذين يخالفون الأوامر ولا يأخذون بأحكام التوراة، فجزاؤهم غداً العقاب والنكال، و(سأريكم دار الفاسقين) الخارجين عن إطاعتي.
* * *
لقد كان ابتلاء موسى (عليه السلام) ببني إسرائيل عظيماً، حتى إن أقرباءه ما كانوا يطيعون أمره ولا ينفّذون أوامر الله سبحانه التي يأتي بها موسى بن عمران. فقد كان (قارون) من أقرباء موسى (عليه السلام)، وكان له صوتٌ حسن، فيقرأ التوراة، قراءة حسنة، وكان يعرف (الكيمياء) وبذلك زادت أمواله زيادةً مدهشة، وكان موسى (عليه السلام) يحبّه لقرابته ودينه وجودة قراءته لكتاب الله.
لكن الشيطان لم يزل يغويه ويزيّن له، حتى أوقعه في الكبر والطغيان، كما قال سبحان: (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).
وفي حين كان بنو إسرائيل في التيه، أمرهم موسى (عليه السلام) بالضراعة إلى الله تعالى، لعلّه سبحانه يستجيب دعاءهم، فينقذهم من البلاء الذي وقعوا فيه بعصيانهم، فقبلت بنو إسرائيل كلام موسى، وأخذوا في الضراعة والابتهال، لكنّ قارون لم يحضر.. وأمره موسى بذلك فأبى.
وفي بعض الآثار: إن موسى أمره بإعطاء الزكاة عن أمواله، فأبى ولم يقبل.
وزاد الأمر إعضالاً، أنّه أخذ يتكبّر على بني إسرائيل بماله وجماله وصورته فكان يخرج عليهم في زينة بين خدمٍ وغلمان، استطالةً وتكبراً. ولم تنفع فيه موعظة موسى (عليه السلام).
بل سبّب ذلك حقداً على الكليم، وراح يبغي له الغوائل، حتى ورد في بعض الآثار: أنه حرّض امرأة مومس بالمال على أن تقف على رأس موسى (عليه السلام)، حين يكون مشتغلاً بوعظ بني إسرائيل فتنسب إلى موسى أنه أراد الزنا بها، وجعل لها من المال مائة ألف درهم إن فعلت ذلك.. لكنّ المرأة كانت أنظف قلباً من قارون، فحين كان موسى (عليه السلام) بين بني إسرائيل جاءت حتى وقفت على رؤوسهم، ثمّ قالت:
يا موسى! إنّ قارون أعطاني مائة ألف درهم، على أن أقول بين بني إسرائيل ـ على رؤوس الأشهاد ـ إنك دعوتني إلى نفسك.. ثم أردفت كلامها قائلة: إنك يا موسى أجل من ذلك، معاذ الله أن تكون دعوتني، فلقد أكرمك الله عن ذلك.
وكيف كان الأمر، فقد اشتد غضب موسى (عليه السلام)، على قارون، ودعا الله أن يستجيب دعاءه في تعذيب قارون. فدخل على قارون في داره، حيث مقرّه، ومحلّ خزائنه وكنوزه، فلمّا رآه قارون عرف آثار الغضب على وجهه، وكيف لا يغضب على من تجبّر واستكبر، وبدل نعمة الله كفراً، وقطع رحمه، فقد أمر قارون ـ استهزاءً بموسى (عليه السلام) ـ بعض خدمه بأن يصب على رأس موسى طبقاً من رماد!!
قال (قارون) لمّا رأى غضب موسى وكان يعرف أنّه (عليه السلام) قادر على الانتقام منه:
أسألك يا موسى بالرحم التي بيني وبينك إلا كففت عنّي؟ لكن الأمر كان قد انتهى، وكان الطلب في غير أوانه (فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنّا).
قال موسى للأرض: خذيه وكنوزه، فأخذته الأرض إلى ركبتَيه. وأخذ قارون يضرع، وموسى (عليه السلام) يكرّر للأرض الأمر بأخذه. حتى انخسفت الأرض به وبداره وبما عنده من كنوز وأموال.
فلم يبق منه باقية، وانتهى كل شيء، فقد التحق هذا الطاغي الجديد، بالطاغي القديم (فرعون) وزادت في التاريخ عبرة وعظة جديدة لمن يطغى ويتكبّر، كيف يكون مصيره؟
وهنا تبين للذين كانوا يتمنون أن يكون لهم أموال مثل أموال قارون، أن الأفضل عدم مثل هذا المال الموجب للطغيان والخسران.
* * *
(إن قارون كان من قوم موسى) والمؤمنين به (فبغى) قارون (عليهم) أي على موسى (و) قد (آتيناه) أعطيناه (من الكنوز) والخزائن (ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) فجماعةٌ كبيرةٌ ـ حتى قيل أنّهم كانوا بين عشرة وخمسة عشر ـ ما كانوا يتمكنون من حمل مفاتيح خزائنه بيسر، فقد كانت المفاتيح ثقيلة، فكم كانت الأموال الموجودة في الكنوز؟؟
(إذ قال له) أي لقارون (قومه) المؤمنون (لا تفرح) بهذه الأموال، فإن المال مظنّة الإهلاك إذ قلّما صار الإنسان ذا مال، ووفى حق الله فيه (إن الله لا يجب الفرحين) بالأمور الدنيوية التي لا ترتبط بالله سبحانه، فإنه سبحانه يحب الإنسان الذي يحب الله تعالى.
ثم قال بنو إسرائيل لقارون: (وابتغ) أي اطلب (فيما آتاك الله) من الأموال (الدار الآخرة) بالإنفاق من مالك في سبيل الله (ولا تنس نصيبك من الدنيا) فلست مأموراً بإعطاء كل ما لك لله، بل أعط قسماً لآخرتك، وأبق قسماً لدنياك، فإنه ليس من الله من ترك آخرته لدنياه، ولا من ترك دنياه لآخرته (ولا تبغ الفساد في الأرض) لا تطلب العناد، بمنع الحقوق والتكبّر وما أشبه (إن الله لا يحب المفسدين).
لم يرق كلام الناصحين لقارون، وهل يقبل المتكبّر المتعالي النصح؟
فأجاب القوم قائلاً: إنه ليس لأحد حق في هذه الأموال التي تحت يديّ (قال إنما أوتيته على علم عندي) فأنا بعلمي حصّلت هذه الأموال، لا بمشورة الآخرين، حتى يكون لهم حقٌ في مالي (أو لم يعلم أنّ الله قد أهلك من قبله من القرون) والأجيال (من هو أشد منه) أي من قارون (قوّة وأكثر جمعاً ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون)؟ فإن المجرم في كل جيل يهلك بدون أن يحاكم في هذه الدنيا، وإنما محاكمته يوم القيامة.. ألم يعلم قارون هلاك المتكبرين من قبله، فكيف يأمن من الله تعالى؟
إنه لم يكف عن كبريائه، بل (خرج على قومه في زينته) وأبهته وفخفخته، استطالة عليهم، وتكبّراً وعناداً، فلمّا نظر إلى كوكبته القوم (قال الذين يريدون الحياة الدنيا) بدون التفات إلى الآخرة: (يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظّ عظيم)؟ لكن عقلاء القوم، ردّوا الذين تمنّوا هذا التمنّي، قائلين: (ويلكم ثواب الله خيرٌ) من هذه الأموال (لمن آمن) بالله ورسله وما جاءوا به (وعمل صالحاً) بإطاعة أوامر الله والانتهاء عن نواهيه (ولا يلقّاها) أي لا يدرك ذلك الثواب (إلا الصابرون) الذين صبروا على طاعته سبحانه، ورضوا بقضائه.
فلننظر عاقبة (قارون) وما جرّته إليه أمواله، وكبرياؤه (فخسفنا به وبداره الأرض) إذ ساخت الأرض بقارون وداره، التي فيها خزائنه (فما كان له من فئة) جماعة (ينصرونه من دون الله) فهل يتمكن أحد أن ينصر من أراد الله عقابه؟ (وما كان من المنتصرين) هذه حالة قارون المتكبر، وخزائنه التي منع حقها.. فما كان موقف أولئك الذين تمنّوا مكانه، من هذه الحادثة؟
(وأصبح الذين تمنّوا مكانه) أي مكان قارون، بأن يكون لهم مثل ما لقارون (بالأمس يقولون وي) عجباً (كأنّ الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر) أي يوسّع ويضيّق سب حكمته البالغة، وإنما لم يوسّع علينا علماً منه بأن التوسعة مصيرها مصير قارون وأمواله (لولا أن مَنّ الله علينا) بعدم إعطائنا مثل مال قارون (لخسف بنا وي) عجباً (كأنه لا يفلح الكافرون) بأمر الله سبحانه. وإلى هنا تنتهي قصّة (قارون) وتبقى عبرة للأثرياء والمتكبّرين إلى يوم القيامة.
* * *
وقعت في زمان موسى (عليه السلام) قصّة طريفةٌ، في بني إسرائيل، وذلك أن رجلاً قتل ابن عمّ له. لتنازع وقع بينهما على امرأة، ثم جاء القاتل بالمقتول إلى موسى (عليه السلام) قائلاً: إنه ابن عمّي مقتولاً، فاطلب قاتله؟
فأوحى الله تعالى إلى موسى يأمرهم أن يذبحوا بقرةً، ويضربوا المقتول ببعض تلك البقرة، فعلوا ذلك فأحيا الله المقتول، فأخبر بأن قاتله هو ابن عمّه، الذي جاء به مكراً وخداعاً، فقتله موسى (عليه السلام)، قصاصاً، فقد كان رجل من خيار بني إسرائيل وعلمائهم، خطب امرأة، فرغبوا فيه، وخطبها في نفس الوقت ابن عمّ لذلك الرجل، وكان فاسقاً، فرغبوا عنه، وأخيراً زوّجت المرأة للخير، فحسده ابن عمّه وحقد عليه، فاختفى في طريقه، ولمّا أن مرّ الخير، قتله الفاسق غيلةً.. ثم حمله إلى موسى (عليه السلام)، قائلاً: هذا ابن عمّي قد قتل ـ وأراد بذلك أخذ ديته أيضاً ـ .
فاجتمع بنو إسرائيل عند موسى لفصل القصّة.. وصادف هذا الحادث، أمر ولد بارٌ بأبيه، كانت له سلعةٌ، وأراد بيعها، وكان في غرفة مقفلة، والمفتاح تحت راس أبيه النائم، لكن الولد كره أو يوقظ الأب لأجل ربح السلعة وردّ المشتري.. فلمّا استيقظ الأب، وعرف ما عمله الولد، أعطاه بقرة كانت له جزاء لبرّه وحسن أدبه.
لقد شكر الله للولد برّه بأبيه، فأوحى إلى موسى (عليه السلام)، بشراء بقرةٍ لها علامات مخصوصة، وكانت تلك العلامات منحصرة في بقرة الولد، فلمّا أرادوا شرائها لم يبعها إلا بملء جلدها ذهباً ـ ولعلّ ذلك كان بإيعاز من موسى (عليه السلام) ـ (إذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) ليتبين القاتل (قالوا أتتخذنا هزواً) فأي ربط بين ذبح البقرة، وظهور القاتل؟ (قال) موسى (عليه السلام): (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) بأن آمركم بشيء عبثاً؟ (قالوا): إذن فـ(ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي)؟ أي كيف يجب أن تكون البقرة؟فقد أخذوا يشدّدون على أنفسهم، فشدّد الله عليهم ولو أنهم حين أمروا بذبح البقرة، أخذوا أية بقرة وذبحوها، كان كافياً في الامتثال، ولم يحتاجوا إلى دفع مبلغ باهظ.
(قال) موسى (عليه السلام): (إنه) سبحانه (يقول إنها بقرةً لا فارضٌ) كبيــرة السن (ولا بكرٌ) صغيرة السن (عوانٌ) وسط (بين ذلك) الكبر والصغر (فافعلوا ما تؤمرون) من ذبح البقرة (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها)؟ فقد عرفنا سنّها (قال) موسى (عليه السلام): (إنه) تعالى (يقول إنها بقرة صفراءٌ فاقع) حسن الصفرة (لونها تسرّ الناظرين) إلى البقر.
(قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي)؟ فقد عرفنا عمرها، ولونها، وبقي أن نعرف عملها، هل تكون عاملة أم لا؟ (إن البقر تشابه علينا) فلا ندري الوصف المطلوب منّا في البقرة (وإنا إن شاء الله لمهتدون) في إطاعة أوامر الله تعالى.
(قال) موسى (عليه السلام): (إنه) عز اسمه (يقول إنها بقرة لا ذلول) أي لم تذلّ بالعمل (تثير الأرض) بأن لا تكون تكرب الأرض لغرض الزرع (ولا تسقي الحرث) بأن لا تكون عاملة (مسلّمة) قد سلمت من العيوب (لا شية فيها) أي لا يكون فيها لون مخالفٌ للونها.
(قالوا الآن) وبعد ذكر هذه الأوصاف (جئت) يا موسى (بالحق) الواضح. (فذبحوها وما كادوا يفعلون) أي كانوا بعيدين عن ذبح مثل هذه البقرة، لغلاء ثمنها، فقد أرادوا عدم شرائها، وراجعوا موسى في ذلك، فقال لهم: لابد أن تفعلوا، فاشتروها وذبحوها.. ولعلّ غلاء الثمن كان تعليماً لهم بأن الواجب إطاعة أوامر الله تعالى، مهما كلّف الأمر.
(وإذ قتلتم) يا بني إسرائيل (نفساً فادّارأتم فيها) أي تدافــعتم، فقال كل واحد منكم: أنا لم أقتله (والله مخرج ما كنتم تكتمون) من عرفانكم بالقاتل (فقلنا اضربوه) أي المقتول (ببعضها) أي ببعض أجزاء البقرة.. فضربوا ـ كما أمروا ـ فأحياه الله، وأخبر أن ابن عمه قتله، فاقتص منه (كذلك يحيي الله الموتى) فكما قدر سبحانه على إحياء هذا المقتول، يقدر على إحياء البشر يوم القيامة (ويريكم آياته لعلّكم تعقلون).
وفي هذه القصة عبر وعظات لمن أراد الاعتبار.
* * *
وفي أحوال موسى (عليه السلام) قصة طريفة، وقعت بينه وبين نبي الله الخضر (عليه السلام):
فقد أمر الله موسى أن يتبع الخضر، وكانت الغاية من هذا الاتباع، موعظة موسى بسبب الخضر، ولا عجب في ذلك، فقد كان رسول الإسلام (عليه وعلى آله الصلاة والسلام) يقول لجبرئيل (عليه السلام): عظني.. فلا يمكن أن يقال: كيف يمكن أن يكون المتعلّم ـ وهو موسى (عليه السلام) أفضل من المعلم ـ وهو الخضر (عليه السلام)؟
لقد تبع موسى الخضر، واشترط عليه الخضر أن لا يسأله عمّا يفعله، إن أراد دوام الصحبة، وقبل موسى الشرط، فخرجا يمشيان، حتى وصلا إلى سفينة، فركباها، وأخذ الخضر يثقب السفينة، فاعترض عليه موسى لماذا يخرق السفينة؟.. ثم لمّا نزلا من السفينة لقيا ولداً يمشي، فقتله الخضر فأثار هذا العمل موسى (عليه السلام) فاعترض عليه، لم قتل ولداً بريئاً؟ ثم دخلا قريةً وهما محتاجان إلى الطعام، فلم يطعمهما أهل القرية، ثم رأيا جداراً مائلاً.. فأخذ الخضر يرمّمه ويصلحه، فاعترض عليه موسى (عليه السلام): لماذا رمّم الجدار بدون أخذ الأجرة، ليستفيدا منها في شراء الطعام؟
وهنا فارق الخضر موسى، لأن شرط الصحبة انتهى، باعتراضات موسى (عليه السلام)، وأخبره عن مبرّرات عمله:
فخرق السفينة كان لمصلحة أصحابها، إذ لو وصلت السفينة سالمةً إلى الجرف كان الملك الموجود في ساحل البحر، يأخذ السفينة الصالحة، أمّا المخروقة فلم يكن يرغب فيها.
وقتل الولد إنّما كان درءاً لفساد كبير، لأنه علم أنّه إن بقي الولد فسد وأفسد والديه، فكان قتله قبل الإفساد خيراً للولد ولوالديه، فالله يعوّض عن الولد، بولد آخر صالح.
وترميم الجدار إنما كان لحفظ كنزٍ تحته لأيتام فلو ترك الجدار حتى سقط، لم يعرف الأيتام ـ إذا كبروا ـ محل الكنز، ويضيع مالهم المدّخر لهم.
وهذه القصة الطريفة، إنما كانت بعد أن قال موسى (عليه السلام) لوصيه (يوشع): إن الله أمرني أن أتبع رجلاً عنــد مجمع البحرين، فتزوّد يوشع بسمك مملّح، فلمّا بلغا المكان، أراد يوشع غسل السمك بالماء، فأحيا الله السمكة. وانسابت في الماء ـ وكان هذا علامة وصولهما إلى موضع الخضر (عليه السلام) ففحصا في ذلك الموضع، حتى لقيا الخضر.. ثم اتبعه موسى (عليه السلام) وحدث ما حدث.
* * *
(وإذ قال موسى لفتاه) أي الشاب الذي كان يلازمه، وهو وصيه يوشع (لا أبرح) لا أزال أسير حتى أصل إلى المقصد (حتى أبلغ مجمع البحرين) محل التقاء البحر الأبيض والبحر الأحمر أو غيره (أو أمضي حقباً) أي أحقاباً وأزمنةً طويلة، إن لم أظفر بمقصدي عند مجمع البحرين..
وهكذا سارا (فلمّا بلغا مجمع بينهما) أي مجمع البحرين (نسيا حوتهما) أي السمكة، فإنها عاشت بعد موتها وطفرت في الماء، ونسي يوشع القصة، فلم ينقلها لموسى (عليه السلام) (فاتخذ) الحوت (سبيله في البحر سرباً) أي مسلكاً يذهب فيه.
(فلما جاوزا) موسى ويوشع، مجمع البحرين (قال) موسى (لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً) وتعباً، فلنأكل السمكة، لنتقوى في مواصلة السير.. وهنا تذكّر يوشع قصة الحوت فـ(قال) لموسى: (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة)؟ هل تذكر وقت نزولنا عند الصخرة في مجمع البحرين (فإني نسيت الحوت) حتى غاب في الماء (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) أي كان الشيطان السبب في نسياني له (واتخذ) الحوت (سبيله في البحر عجباً) أي اتخاذاً عجباً فإنه استعاد حياته وانساب في الماء.
(قال) موسى لمّا سمع هذا الخبر: (ذلك) المكان الذي ظهرت فيه هذه الآية، (ما كنّا نبغ) أي نطلب ونقصد الوصول إليه (فارتدّا) رجعا أي موسى ويوشع (على آثارهما) أي الآثار التي كانــت لهما في الأرض يريد الرجوع في نفس الطريق (قصصاً) من قصّ بمعنى اتبع الأثر.
(فوجدا) هناك عند انسياب السمكة (عبداً من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا) أي فضلاً ـ فإن الفضل رحمة من عنده سبحانه ـ (وعلّمناه من لدنّا علماً) علماً لدنياً بدون حاجة إلى التعليم وكان ذلك العبد خضرٌ (عليه السلام) ـ (قال له موسى هل أتبعك) يا خضر! (على أن تعلمني مما علّمت رشداً) أي من العلوم الرشيدة، التي لها رشد ونموّ.
(قال) الخضر: (إنك) يا موسى (لن تستطيع معي صبراً وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً)؟ فإنك لا تقدر أن ترى أعمالاً لا تعرف وجه الجواز فيها (قال) موسى (عليه السلام): (ستجدني) يا خضر! (إن شاء الله صابراً) لما تعمل (ولا أعصي لك أمراً) فلا أخالفك فيما تأمرني به من الصبر.. وقد علّق موسى (عليه السلام) صبره بمشيئة الله تعالى، لكن الله لم يشأ، إذ لم يلق في نفسه العزيمة القوية على الصبر.
(قال) الخضر (عليه السلام): (فإن اتبعتني) يا موسى! (فلا تسألني عن شيء) تراه (حتى أحدث لك منه ذكراً) في المستقبل بأن أبين سبب أعمالي لك.
وعلى هذا القرار، أخذا يسيران (فانطلقا) موسى والخضر (عليهما السلام) (حتى إذا ركبا في السفينة خرقها) أي ثقب الخضر السفينة.
(قال) موسى (عليه السلام): (أخرقتها لتغرق أهلها)؟ لكن الخضر كان إذا خرق موضعاً، جعل في مكانه ثوباً أو ما أشبه، ليقف أمام الماء (لقد جئت) يا خضر! (شيئاً إمراً) أي منكراً غير مألوفٍ.
(قال) الخضر: (ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً)؟ عرف موسى أنه تعجّل في الأمر، ممّا لا ينبغي له ذلك، فاعتذر، وقال: (لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني) أي لا تكلّفني (من أمري عسراً) بأن تكلّفني ما فيه المشقّة علي. قبل الخضر كلام موسى (عليه السلام) واعتذاره (فانطلقا حتى إذا لقيا) موسى والخضر (غلاماً فقتله) الخضر.
(قال) موسى (عليه السلام) معترضاً عــلى هذه القتلة بدون سبب ظاهر: (أقتلت) يا خضر! (نفساً زكيّة) طاهرة عن الآثام (بغير نفس) أي بدون أن يكون قتل الغلام نفساً حتى يستحق القصاص؟ (لقد جئت) يا خضر (شيئاً نكراً) أي منكراً غير معتاد.
(قال) الخضر: (ألم أقل لك) يا موسى (إنّك لن تستطيع معي صبراً)؟
لكن موسى اعتذر ثانياً (قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني) واترك صحبتي (قد بلغت) يا خضر (من لدنّي عذراً) أي قد أعذرت فيما بيني وبينك.
(فانطلقا) موسى والخضر يمشيان (حتى إذا أتيا أهل قريةٍ) قيل: هي قريةُ ناصرة (استطعما أهلها) طلبا منهم الطعام (فأبوا) أي أهل القرية (أن يضيّفوهما) يقبلوهما ضيفين، (فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضّ) أي يسقط، وكان مائلاً للانهدام، (فأقامه) الخضر ورمّمه.
(قال) موسى (عليه السلام): (لو شئت) يا خضر أن تعمل هذا العمل (لاتّخذت عليه أجراً) حتى ننتفع بأجره.
(قال) الخضر (عليه السلام): يا موسى! (هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً) ولماذا فعلت الأشياء التي فعلتها..
(أما السفينة) التي خرقتها (فكانت لمساكين يعملون في البحر) يتعيّشون بهذه السفينة، (فأردت أن أعيبها) بقلع بعض ألواحها ليتخلّى عنها الملك الغاصب فيها، وتبقى لأصحابها (وكان وراءهم ملكٌ يأخذ كل سفينة) صالحة (غصباً).
(وأما الغلام) الذي قتلته، بلا ذنب ظاهرٍ (فكان أبواه مؤمنين فخشينا) إن بقي في الحياة (أن يرهقهما) أي يسبب لأبويه (طغياناً كبيراً) وقد كان الخضر (عليه السلام) علم بذلك، (فأردنا) بقتل الغلام (أن يبدلهما) أي يعوض للأبوين (ربّهما خيراً منه) أي من هذا الغلام (زكاةً) أي طهارةً (وأقرب رحماً) أي أرحــم بالأبوين، وكان هذا إخبار من الخضر (عليه السلام) بإرادة الله تعالى.
(وأمّا الجدار) الذي أقمته (فكان لغلامين يتيمين في المدينة) أي في المدينة التي استطعما أهلها فأبوا أن يضيّفوهما (وكان تحته كنزٌ لهما وكان أبوهما صالحاً) فدفن هذا الكنز للغلامين (فأراد ربك أن يبلغا) أي الغلامان (أشدهما) أي قوتهما بأن يكبرا ويبلغا، (ويستخرجا كنزهما) فلو سقط الجدار حرما من الكنز، لذهاب الأثر بسقوط الجدار (رحمةً من ربك) بهما (وما فعلته) أي الأمور الثلاثة (عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً).
ثم فارق الخضر موسى (عليهما السلام)، وذهب كلّ واحدٍ منهما في طريقه الخاص به.
* * *
لقد لقي موسى (عليه السلام) من بني إسرائيل كل عنت وإرهاق، طول حياته، وقد كانت حياة موسى (عليه السلام) حياة حافلةً بالمتاعب والغرائب، من قبل الولادة إلى حين الممات، وقد خلّف عليه الصلاة والسلام بعده أمّةً عجيبةً غريبةً، هم اليــهود، وهؤلاء وإن كذبوا في نسبتهــم إلى هذا النبي العظيم، فإن موسى منهم براء، إلا أنّهم ـ على كل حال محسوبون عليه ـ .
وأخيراً مات موسى (عليه السلام) في (التيه) ودفن هناك.. كما أن أخاه هارون (عليه السلام) مات في التيه أيضاً، ودفن فيه.
وفي قصّة هذا النبي العظيم أعظم عبرةٍ لمن أراد الاعتبار. وهذه القصّة، منذ زمان موسى إلى هذا اليوم، من أضخم القصص العالميّة، وفيها ألوان من الحركة والحياة، والمناقضات والأضداد.
وقد اختصرنا القصة ـ في هذا الكتاب ـ ليقرأها من لا يتمكّن من الرجوع إلى الكتب المفصّلة، ومع ذلك اضطررنا إلى تخصيص قصص أخرى عن موسى (عليه السلام)، وهي:
(موسى عليه السلام)، (الكليم عليه السلام وفرعون)، (موسى عليه السلام في البحر،) (بنو إسرائيل في التيه) و(الكليم عليه السلام وبنو إسرائيل).
ونسأل الله سبحانه أن يتقبّلها بقبول حسن، وينفعنا وسائر المؤمنين بها ويوفقنا لإتمام (القصص الحق) في كتب أخرى، وهو الموفق المستعان.