فور وصولي لبيت جدتي سمعت تلك الكلمات الرقيقة والصوت العذب والألحان التي حركت داخلي مشاعر دافئة ساكنة منذ سنوات عمري الأولى عندما كنت أجلس بجوار خالتي الجميلة وهي تحمل الجيتار وتعزف عليه أجمل الأغنيات عن الوطن والحنين إليه والإصرار على العودة إليه.
ما دامت لي من أرضي أشبار
ما دامت لي زيتونة ..
ليمونة ..
بئر .. وشجيرة صبار ..
ما دامت لي ذكرى مكتبة صغرى
صورة جد مرحوم .. وجدار
ما دامت في بلدي كلمات عربية
وأغانٍ شعبية
ما دامت لي عيناي
ما دامت لي شفتاي
ويداي
ما دامت لي .. نفسي
أعلنها في وجه الأعداء
أعلنها .. حربًا شعواء
باسم الأحرار الشرفاء
عمالا .. طلابا .. شعراء ..
أعلنها
ما زالت لي نفسي .. وستبقى لي نفسي
وستبقى كلماتي .. خبزًا وسلاحًا .. في أيدي الثوار
جلست بجوار جدتي وشعرت بأننا نُحلَّق بعيدًا ، وتداعت الذكريات أمامي … طفولتي الأولى وخالتي التي لا تغني إلا للوطن المغتصب، وجدتي التي لا تطهو سوى الأكلات الفلسطينية واللبنانية، وأمي التي لا تتوقف عن العمل والحركة والعطاء من أجل الوطن بمشاركتها في كل الأنشطة الإنسانية والاجتماعية من خلال انضمامها لمنظمة فتح وعملها بإذاعة فلسطين واتحاد المرأة الفلسطينية، وأبي المصري المثقف، المؤمن بالقضية العربية يشد من أزرها يشجعها ولا يقف في طريق نضالها لإيمانه بعدالة قضيتها واحترامه لها كإنسان. وسط هذه العائلة نشأت وتعلمت معنى الانتماء، الانتماء لأسرتي الصغيرة ولبلدي مصر ولوطني الأكبر الوطن العربي، أصبحت أشعر بأني جزء صغير ولكن مهم من كيان كبير أهم …
إن الإنسان يتشكل بتفاصيل حياته التي يعيشها وذكرياته التي يحملها بداخله.
ما زال صوت أغنية أخرى جميلة من أغنيات خالتي تداعب مخيلتي وأنا أتذكر الكثير من الأحداث التي كان لها بالتأكيد ذلك الأثر المباشر على شخصيتي:
أحكي للعالم أحكي له عن بيت كسروا قنديله
عن فأس قتلت زنبقة وحريق أودى بجديلة
أحكي عن شاة لم تحلب عن سطح طيني أعشب
أحكي للعالم أحكي له
* في عام 1973 - كان عمري أربع سنوات – أذكر مشاركتي في جمع التبرعات من الجيران لجرحى حرب أكتوبر وللمجهود الحربي، كما أذكر أن أمي أخذتني لمستشفى؛ لزيارة الجرحى وإهدائهم الحلوى والورود.
* أذكر جيدًا خروجنا ليلاً لنلصق أعلام فلسطين على السيارات والمحال في أواخر السبعينيات عند رفع علم العدو الصهيوني فوق سفارة له بالقاهرة ، وذلك حتى نواجه علمًا واحدًا لإسرائيل على السفارة بأكثر من مليون علم لفلسطين في كل مكان بالقاهرة.
* كما أذكر المواجهات التي جرت لمقاطعة الجناح الإسرائيلي في معرض القاهرة الدولي للكتاب في أوائل الثمانينيات وأعلام فلسطين التي شاركت في توزيعها على رواد المعرض؛ لنواجه ونحاصر الوجود الصهيوني.
* وفي عام 1982 عندما كان عمري ثلاثة عشر عاما أذكر خروجي مع عائلتي وأصدقاء لنا من المصريين والفلسطينيين لمقابلة الفدائيين الفلسطينيين على البواخر في قناة السويس عند الخروج الأول من بيروت بعد حصار طويل وبعد مذبحة صبرا وشاتيلا.
وأصل للجامعة … فإذا بي أشارك في مسيرات ومظاهرات تناصر القضية الفلسطينية وأطفال الحجارة ،وفي تنظيم معارض عن فلسطين ، وفي بحث ميداني حول عمل الأطفال المصريين وحقهم في الحياة الكريمة ، وأقف بين زملائي الطلاب مدافعة عن الشعب العراقي في محنته وأشعر بالحزن والألم لاستمرار القصف الإسرائيلي على الجنوب اللبناني المحتل والخوف على مستقبل الجزائر الجريح بأيدي أبنائه …
وجاء اختياري لشريك حياتي مشروطاً باهتمامه بقضايا وطنه وإيمانه بعدالة القضية الفلسطينية فلم يكن من الممكن أن أتزوج شخصًا ممن يرون أن الفلسطينيين قد باعوا أرضهم مثلاً ؛ فهذا يشكل تناقضًا لا أستطيع التعايش معه.
أطفالي ما زالوا براعم صغيرة تتفتح للحياة ، لكن سيبقى لهم ميراث ثقافي حضاري خاص جدًّا ليحتفظوا به ، فما زلت أحفظ أغنيات خالتي والتطريز الفلسطيني الذي هو رمز للهوية والتحدي للمحتل، حافظت عليه أمي وملأت أنا به منزلي، وصورة للمسجد الأقصى، ووصفات الأكل الفلسطينية واللبنانية كلها ستبقى ما بقيت قلعة صلاح الدين بالقاهرة، وروعة دمشق الشهباء وتاريخ العرب في بغداد ، وتاريخ شعب المليون شهيد في الجزائر … كلها ستبقى.
( سمر دويدار-الحفيدة)
تحية وتقدير لسمر اينما كانت ✨

الموضوع قديم ومغلق لااستطيع فتحه
اعجبني فثبتته
كلمات مليئة بالمشاعر الوطنية الخالصة
وتفوح منها رائحة الذكريات
اقرأوها رجاء
كدليل للقراءة صوتي اعجابا بالموضوع
( فيض وعطر )
اختيار رائع بكل معنى الكلمة.. كلمات تهز شغاف الفؤاد وتضع الروح في كل شئ ميت..
كلمات وذكريات... هي مساحة من عالم انسان ..
انسان لم يبق له سوى:
صورة جد مرحوم .. وجدار !!!!!
سلمت يداك... وسلم ذوقك الراقي وحسك المرهف...
تحياتي لك