
سنتحدث تفصيلاً عن قيام الليل مِن لَدُن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وبيَّنا أنَّ قيام الليل مِن أعظم المناقب التي كان عليها الصَّالحون قبلنا .
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في رواياتٍ عِدَّة صحيحة كيفية قيامه لليل . لمَّا أَرشَدَ قال: "صلاةُ الليلِ مَثنى مَثنى" يتحرَّر مِن هذا ما يلي:
- هناك أن يصلِّي الرَّجل ركعتين ، ركعتين ، ركعتين ، فإذا خَشِيَ الصُّبح وأراد أن يُوتِر ، أَوتَرَ بواحدةٍ تُوتِرُ له ما قد سَلَف . هذه صورة من صور قيام الليل .

- الصورة الثانية: أن يُوتِر الإنسان بِتِسع ، كيف يوتر الإنسان بتسع؟ ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي ثمانيَ ركعات متتابعات لا يجلس في واحدة منهن إلا في الثامنة , في الثامنة ماذا يصنع؟ يجلس ، فيقول التَّشهُّد ويثني على الله ، ثم يقوم ، فإذا قام قبل أن يُسلِّم ، قام إلى ماذا؟ قام إلى الركعة التاسعة ، فيُصلِّي الركعة التاسعة ، ثم يجلس فيتشهد ويصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يُثني على ربِّه كثيرًا ويدعو ، ثم يُسلِّم سلاماً يُسمِع أهلَه . هذه صورة: يأتي بثمانِ ركعاتٍ متتابعات ، ثم يُوتِر بالتاسعة بعد أن يجلس في الثامنة .

- الصورة الثالثة: نفس ما صنعه في الثَّمان والتِّسع يصنعه في السِّت والسَّبع ؛ بمعنى أنه يصلي ستَّ ركعات متتابعة ، ثم يجلس في السادسة ، ثم يقوم قبل أن يُسلِّم ، فيأتي بالسابعة ، ثم يجلس ويُسلِّم .

- الحالة الرابعة: أن يفعل ذلك أربع وخمس ، نفس الطريقة الأولى .
ورد عنه صلى الله عليه وسلم كذلك أنه لمَّا كَبُر ، وحمََل اللحم ، ثَقُلَ قليلاً بَدَنُه -عليه الصلاة والسلام- ، كان أولاً يصلي الثَّمان والتسع ، فلمَّا ثَقُل وحمل اللحم ، كما تقول عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- صار يصلِّي سِت ويُوتِر بالسابعة .

ثم نُقِل عنه نقلاً صحيحًا أنه كان يصلي ركعتين وهو جالس بعد الوِتر ، وهذه سُنة اختلف الناس في فَهمِها أو في قَبولها ، والأظهر – والعلم عند الله- أنها سنةٌ ثابتةٌ صحيحةٌ كما عند مسلم في الصحيح ، لا يمكن دَفعُها ؛ لكن هذه السُّنة لا تُعارِض قوله صلى الله عليه وسلم : "اجعلوا آخِرَ صلاتِكُم وِترًا" ؛ لأن الذي قال: "اجعلوا آخِرَ صلاتِكُم وِترًا" –عليه الصلاة والسلام- هو الذي صنع هاتين الرَّكعتين ، وقد نُقِلَ نقلاً لا بأس به سَنَدًا أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الأولى بالزلزلة: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا) ويقرأ في الركعة الثانية بـ(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) هذا حالَ صلاتِه ، وهو جالسٌ لصلاة ركعتين بعد وِتره صلوات الله وسلامه عليه.

نُقِلَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ بـ(سَبِّح) و(الْكَافِرُونَ) و(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) عند ختم صلاته ، يعني عندما يُصلِّي مَثنى مَثـنى ، يأتي بركعتين في الأخير يقرأ في الأولى بـ(سَبِّح) وفي الثانية بـ(الكافرون) بسورة (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ، ثم يأتي بركعةٍ واحدةٍ مُنفَصِلةٍ يقرأ فيها بـ(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) .

علَّم النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي أن يقول في قُنُوتِه في وِترِه: "اللهم اهدِني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتوَلَّني فيمن تَوَلَّيت ، واصرِف عني شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك" إلى هنا تقريبًا انتهى ما علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم الحسنَ أن يقوله في قُنوته ، الإطالة التي يصنعها الأئمة الآن لا بأس بها إذا كانت إطالة قليلة ؛ لكنه لا ينبغي أن تكون الإطالة زائدةً عن الحدِّ، أو تُورِث في الناس السآمة والملل ، أو أن تكون دعاءً مَكرُورًا ، أو ما أشبه ذلك ؛ إنما كان صلى الله عليه وسلم يتوخَّى جوامع الكلم في دعائه وفي حديثه للناس . المقصود: هذا بعض ما نُقِل إلينا من قيام الليل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .

كانت عائشة تقول: "يصلي أربعًا ، لا تَسَلْ عن حُسنِهنَّ وطُولِهِنَّ " (أربعًا) هذا إجمال ، فسَّرَه قوله صلى الله عليه وسلم : "صلاةُ الليل مَثنى مَثنى" فلعلَّ أمَّ المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها تقصد أنه كان يصلي ركعتين ، ثم يُتبِعُها بركعتين ، ثم يستريح ؛ فهذا معنى قولها: "صلَّى أربعًا ، لا تَسَلْ عن حُسنِهنَّ وطُولِهنَّ" .

ذات مرَّة قام صلى الله عليه وسلم يصلي فقرأ بالبقرة ، ثم قرأ بالنساء ، ثم قرأ بآل عمران ؛ وهذا فيه دلالة ظاهرة واضحة على أنه صلى الله عليه وسلم كان يُطيل القيام جدًّا ؛ لكن الناس مأمورون جُملةً بقيام الليل ، وكلٌّ بحسب طاقته وبَدَنِه وصِحَّتِه ؛ لكن من المهم جدًّا أن يكون لك أيها المؤمن ، وأن تكون لكِ أيتها المؤمنة حَظٌّ مِن قيام الليل بين يدي ربكِ جلَّ وعلا .
والله الموفق