Jasmindaba
Jasmindaba
فى هَدْيه فى علاج الحُمَّى

         ثبت فى ((الصحيحين)): عن نافع، عن ابن عمرَ، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّمَا الحُمَّى  أو شِدَّةُ الحُمَّى  مِنْ فَيحِ جَهنمَ، فَأبْرِدُوُهَا بِالْمَاءِ)).

         وقد أشكل هذا الحديثُ على كثير من جهلة الأطباء، ورأوه منافياً لدواء الحُمَّى وعلاجِها، ونحن نُبيِّنُ بحَوْل الله وقوته وجهَه وفقهه  فنقول:

         خطابُ النبى صلى الله عليه وسلم نوعان: عامٌ لأهل الأرض، وخاصٌ ببعضهم، فالأول: كعامة خطابه، والثانى: كقوله: ((لاَ تَسْتَقْبلُوا القِبلَةَ بغائطٍ ولاَ بَولٍ، ولاَ تَسْتَدْبِروهَا، ولكنْ شرِّقوا، أوْ غَرِّبُوا)). فهذا ليس بخطاب لأهل المشرق والمغرب ولا العراق، ولكن لأهل المدينة وما على سَمْتِها، كالشام وغيرها. وكذلك قوله: ((مَا بينَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ قبلَةٌ)).

         وإذا عُرف هذا، فخطابُه فى هذا الحديث خاصٌ بأهل الحجاز، وما والاهم، إذ كان أكثرُ الحُمَّياتِ التى تَعرض لهم من نوع الحُمَّى اليومية العَرَضية الحادثةِ عن شدة حرارة الشمس، وهذه ينفعُها الماء البارد شُرباً واغتسالاً، فإن الحُمَّى حرارةٌ غريبة تشتعل فى القلب، وتنبثُّ منه بتوسط الروح والدم فى الشرايين والعروق إلى جميع البدن، فتشتعل فيه اشتعالاً يضر بالأفعال الطبيعية.

         وهى تنقسم إلى قسمين:

         عَرَضية: وهى الحادثةُ إما عن الورم، أو الحركة، أو إصابةِ حرارة الشمس، أو القَيْظ الشديد... ونحو ذلك.

         ومرضية: وهى ثلاثةُ أنواع، وهى لا تكون إلا فى مادة أُولى، ثم منها يسخن جميع البدن. فإن كان مبدأ تعلقها بالروح سميت حُمَّى يوم، لأنها فى الغالب تزول فى يوم، ونهايتُها ثلاثة أيام، وإن كان مبدأُ تعلقها بالأخلاط سميت عفنية، وهى أربعة أصناف: صفراوية،  وسوداوية، وبلغمية، ودموية. وإن كان مبدأ تعلقها بالأعضاء الصلبة الأصلية، سميت حُمَّى دِق، وتحت هذه الأنواع أصنافٌ كثيرة.

         وقد ينتفع البدن بالحُمَّى انتفاعاً عظيماً لا يبلغه الدواء، وكثيراً ما يكون حُمَّى يوم وحُمَّى العفن سبباً لإنضاج موادَّ غليظة لم تكن تنضِجُ بدونها، وسبباً لتفتح سُدَدٍ لم يكن تصل إليها الأدوية المفتحة.

         وأما الرَّمدُ الحديثُ والمتقادمُ، فإنها تُبرئ أكثَر أنواعه بُرءًا عجيباً سريعاً، وتنفع من الفالج، واللَّقْوَة، والتشنج الامتلائى، وكثيراً من الأمراض الحادثة عن الفضول الغليظة.

         وقال لى بعض فضلاء الأطباء: إنَّ كثيراً من الأمراض نستبشر فيها بالحُمَّى، كما يستبشر المريض بالعافية، فتكون الحُمَّى فيه أنفَع من شرب الدواء بكثير، فإنها تُنضج من الأخلاط والمواد الفاسدة ما يضُرُّ بالبدن، فإذا أنضجتها صادفها الدواء متهيئةً للخروج بنضاجها، فأخرجها، فكانت سبباً للشفاء.

         وإذا عُرِفَ هذا، فيجوز أن يكون مرادُ الحديثِ من أقسام الحُمَّيات العرضية، فإنها تسكن على المكان بالانغماس فى الماء البارد، وسقى الماء البارد المثلوج، ولا يحتاج صاحبها مع ذلك إلى علاج آخر، فإنها مجردُ كيفية حارة متعلقة بالرَّوح، فيكفى فى زوالها مجردُ وصول كيفية باردة تُسكنها، وتُخمد لهبها من غير حاجة إلى استفراغ مادة، أو انتظار نضج.

         ويجوز أن يُراد به جميعُ أنواع الحُمَّيات، وقد اعترف فاضل الأطباء ((جالينوس)): بأنَّ الماء البارد ينفع فيها، قال فى المقالة العاشرة من كتاب ((حيلة البرء)): ((ولو أنَّ رجلاً شاباً حسنَ اللَّحم، خِصَب البدن فى وقت القَيْظ، وفى وقت منتهى الحُمَّى، وليس فى أحشائه ورم، استحمَّ بماءٍ بارد، أو سبح فيه، لانتفع بذلك)). وقال: ((ونحن نأمر بذلك بلا توقف)).

         وقال الرازىُّ فى كتابه الكبير: (( إذا كانت القوة قوية، والحُمَّى حادة جداً،  والنضجُ بَيِّنٌ ولا وَرَمَ فى الجوف، ولا فَتْقَ، ينفع الماء البارد شرباً، وإن كان العليل خِصَب البدن والزمان حارٌ، وكان معتاداً لاستعمال الماء البارد من خارج، فليؤذَنْ فيه)).

         وقوله: ((الحُمَّى مِن فَيْحِ جهنَم))، هو شدة لهبها، وانتشارُها، ونظيرُه قوله: ((شِدَّةُ الحرِّ مِن فَيْحِ جَهنمَ))، وفيه وجهان.

         أحدهما: أنَّ ذلك أَنموذَجٌ ورقيقةٌ اشتُقَتْ من جهنم ليستدلَّ بها العبادُ عليها، ويعتبروا بها، ثم إنَّ الله سبحانه قدَّر ظهورها بأسبابٍ تقتضيها، كما أنَّ الروحَ والفرح والسرور واللَّذة من نعيم الجنَّة أظهرها الله فى هذه الدار عِبرةً ودلالةً، وقدَّر ظهورَها بأسباب توجبها.

         والثانى: أن يكون المراد التشبيه،  فشَبَّه شدة الحُمَّى ولهبها بفَيْح جهنم  وشبَّه شدة الحر به أيضاً تنبيهاً للنفوس على شدة عذاب النار، وأنَّ هذه الحرارة العظيمة مشبهةٌ بفَيْحها، وهو ما يصيب مَن قَرُب منها من حَرِّها.

         وقوله: ((فَابْرِدُوُها))، رُوى بوجهين: بقطع الهمزة وفتحها، رُباعىّ: من ((أبْرَدَ الشىءَ)): إذا صَيَّرَه بارداً، مثل((أَسْخَنَه)): إذا صيَّره سخناً.

         والثانى: بهمزة الوصل مضمومةً من ((بَرَدَ الشىءَ يَبْرُدُه))، وهو أفصحُ لغةً واستعمالاً، والرباعى لغةٌ رديئة عندهم، قال:

إذا وَجدْتُ لَهِيبَ الْحُبِّ فى  كَبِدِى                  أقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ القَــــوْمِ  أَبْتَرِدُ

هَبْنِى  بَرَدْتُ  بِبَرْدِ  الْمَـاءِ ظَاهِرَهُ                  فَمَنْ لِنَارٍ عَلَى الأحْشَــــاءِ تَتَّقِدُ ؟

         وقوله: ((بالماء))  فيه قولان، أحدهما: أنه كل ماء، وهو الصحيح.

         والثانى: أنه ماء زمزمَ، واحتج أصحابُ هذا القول بما رواه البخارىُّ فى ((صحيحه))، عن أبى جَمْرَةَ نَصْرِ بن عمرانَ الضُّبَعىِّ  قال: كُنْتُ أُجَالِسُ ابن عباسٍ بمكةَ، فأخَذَتْنى الْحُمَّى فقال: أبردها عنك بماءِ زمزمَ، فإنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الحُمَّى من فَيْحِ جَهَنَّم، فأبْردوها بالماء)) أو قال: ((بماءِ زَمْزَمَ)). وراوى هذا قد شك فيه، ولو جَزَم به لكان أمراً لأهل مكةَ بماء زمزمَ، إذ هو متيسر عندهم، ولغيرهم بما عندهم من الماء.

         ثم اختلفَ مَن قال: إنه على عمومه، هل المراد به الصدقة بالماء، أو استعماله ؟ على قولين. والصحيح أنه استعمال، وأظن أنَّ الذى حمل مَن قال: المرادُ الصدقةُ به أنه أشكلَ عليه استعمالُ الماء البارد فى الحُمَّى  ولم يَفهمْ وجهه مع أنَّ لقوله وجهاً حسناً، وهو أنَّ الجزاءَ مِن جنس العمل، فكما أُخْمِد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد، أخمَدَ اللهُ لهيبَ الحُمَّى عنه جزاءً وِفاقاً، ولكن هذا يُؤخد مِن فِقْه الحديث وإشارته، وأما المراد به فاستعماله.

         وقد ذكر أبو نعيم وغيره من حديث أنَسٍ يَرفعه:((إذَا حُمَّ أَحَدُكُم، فَلْيُرَشَّ عليهِ الماءَ البارِدَ ثلاثَ ليالٍ مِنَ السَّحَرِ)).

         وفى ((سنن ابن ماجَه)) عن أبى هُريرةَ يرفعه:((الْحُمَّى كِيرٌ مِن كِيرِ جَهَنَّمَ، فَنَحُّوهَا عَنْكُمْ بالماءِ البَاردِ)).

         وفى ((المسند)) وغيره، من حديث الحسن، عن سَمُرَةَ يرفعُه: ((الْحُمَّى قطعةٌ من النَّارِ، فَأبْرِدُوهَا عَنْكُم بالماءِ البارِد))، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا حُمَّ دَعَا بِقِرْبَة من ماءٍ، فَأَفْرَغَهَا عَلَى رَأْسِه فَاغْتَسَلَ.

         وفى ((السنن)): من حديث أبى هريرةَ قال: ذُكِرَت الْحُمَّى عِنْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَسَبَّهَا رجلٌ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لاَ تَسُبَّهَا فإنها تَنْفِى الذُّنُوبَ، كما تَنْفِى النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ)).

         لما كانت الحُمَّى يتبعها حِمية عن الأغذية الرديئة، وتناول الأغذيةِ والأدويةِ النافعة، وفى ذلك إعانةٌ على تنقية البدن، ونَفْى أخباثِه وفضوله، وتصفيته من مواده الردية، وتفعل فيه كما تفعل النارُ فى الحديد فى نَفْىِ خَبثه، وتصفيةِ جوهره، كانت أشبهَ الأشياء بنار الكير التى تُصَفِّى جوهر الحديد، وهذا القدرُ هو المعلوم عند أطباء الأبدان.

         وأما تصفيتها القلبَ من وسخه ودَرَنه، وإخراجها خبائثَه، فأمرٌ يعلمه أطباءُ القلوب، ويجدونه كما أخبرهم به نبيُّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن مرض القلب إذا صار مأيُوساً من برئه، لم ينفع فيه هذا العلاج.

         فالحُمَّى تنفع البدنَ والقلبَ، وما كان بهذه المَثابة فسَبُّه ظلم وعدوان.

         وذكرتُ مرة وأنا محمومٌ قولَ بعض الشعراء يسبُّها:

زَارَتْ مُكَفِّرَةُ الذُّنُوبِ  وَوَدَّعَتْ                  تبّاً لها مِنْ زَائِــــرٍ وَمُــوَدِّعِ

قَالَتْ وقَدْ عَزَمَتْ عَلَى  تَرْحَالِها                  مَـاذَا تريدُ ؟  فقُلتُ: أن لا تَرْجِعِى

         فقلتُ: تبّاً له إذ سَبَّ ما نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن سَـبِّه. ولو قال:

زَارَتْ مُكَفِّرَةُ الذُّنُـوبِ لِصَبِّها                  : أَهْلاً بها مِنْ زَائِرٍ  وَمُـــوَدِّعِ

قَالَتْ وقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِها                  ماذا تريدُ  ؟ فقلتُ:    أن لا تُقْلِعى

         لكان أولى به، ولأقلعت عنه. فأقلعت عَنِّى سريعاً.

         وقد روى فى أثر لا أعرف حاله:((حُمَّى يَوْمٍ كَفَّارَةُ سَـنَةٍ ))، وفيه قولان؛ أحدهما: أنَّ الحُمَّى تدخل فى كل الأعضاء والمفاصِل، وعدتُها ثلاثمائة وستون مَفْصِلاً، فتكفِّرُ عنه بعدد كل مفصل ذنوبَ يوم.

         والثانى: أنها تؤثر فى البدن تأثيراً لا يزول بالكلية إلى سنة، كما قيل فى قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ لمْ تُقْبَلْ لهُ صَلاةٌ أَربعينَ يوْماً)): إنَّ أثر الخمر يَبقى فى جوف العبد، وعروقه، وأعضائه أربعين يوماً.. والله أعلم.

         قال أبو هريرةَ مَا منْ مَرَضٍ يُصيبنى أَحَبُّ إلىَّ من الحُمَّى، لأنها تدخل فى كلِّ عضوٍ منِّى، وإنَّ الله سبحَانهُ يُعْطى كلَّ عضوٍ حظَّه مِن الأجرِ.

         وقد روى الترمذىُّ فى ((جامعه)) من حديث رافِع بن خَدِيجٍ يرفعُه: ((إذا أَصَابَتْ أَحَدَكُمْ الحُمَّى وَإنَّ الحُمَّى قِطْعةٌ مِنَ النَّارِ  فَلْيُطفئهَا بالمَاءِ البَارِدِ، ويَسْتَقبِلْ نَهْراً جارياً، فَلْيستقبلْ جَرْيَةَ المَاءِ بعدَ الفَجْرِ وقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وليقلْ: بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ، وصَدِّقْ رَسُولَك. وينغمِسُ فيهِ ثلاثَ غَمَسَاتٍ ثلاثةَ أيامٍ، فإنْ بَرِىءَ، وإلا ففِى خمسٍ، فإن لمْ يبرَأْ فى خمس، فسبع، فإن لم يبرأ فى سبع فتسع، فإنها لا تكادُ تُجاوز تسعاً بإذنِ اللهِ)).

         قلت: وهو ينفع فعله فى فصل الصيف فى البلاد الحارة على الشرائط التى تقدَّمت، فإنَّ الماء فى ذلك الوقت أبردُ ما يكون لبُعْدِه عن ملاقاة الشمس، ووفور القُوَى فى ذلك الوقت لما أفادها النوم، والسكون، وبرد الهواء، فتجتمع فيه قوةُ القُوَى، وقوةُ الدواء، وهو الماء البارد على حرارة الحُمَّى العَرَضية، أو الغِبِّ الخالصة، أعنى التى لا ورم معها، ولا شىء من الأعراض الرديئة والمواد الفاسدة، فيُطفئها بإذن الله، لا سيما فى أحد الأيام المذكورة فى الحديث، وهى الأيام التى يقع فيها بُحرَان الأمراضُ الحادةُ كثيراً، سيما فى البلاد المذكورة، لرِّقةِ أخلاط سكانها، وسُرعة انفعالهم عن الدواء النافع.
Jasmindaba
Jasmindaba
فى هَدْيه فى علاج استطلاق البطن

         فى ((الصحيحين)): من حديث أبى المتوكِّل، عن أبى سعيد الخُدْرِىِّ، ((أنَّ رجلاً أتى النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إنَّ أخى يشتكى بطنَه وفى رواية: استطلقَ بطنُهُ  فقال: (( اسْقِهِ عسلاً))، فذهب ثم رجع، فقال: قد سقيتُه، فلم يُغنِ عنه شيئاً وفى لفْظ: فلَم يزِدْه إلا اسْتِطْلاقاً، مرتين أو ثلاثاً  كل ذلك يقولُ له: ((اسْقِه عَسَلاً)). فقال لهُ فى الثالثةِ أو الرابعةِ: ((صَدَقَ  اللهُ، وكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ)).

         وفى ((صحيح مسلم)) فى لفظ له: ((إنَّ أخى عَرِبَ بطنُه))، أى فسد هضمُه، واعتلَّتْ مَعِدَتُه، والاسم:((العَرَب)) بفتح الراء، و ((الذَّرَب)) أيضاً.

         والعسل فيه منافعُ عظيمة، فإنه جلاءٌ للأوساخ التى فى العروق والأمعاء وغيرها، محلِّلٌ للرطوبات أكلاً وطِلاءً، نافعٌ للمشايخ وأصحابِ البلغم، ومَن كان مِزاجه بارداً رطباً، وهو مغّذٍّ ملين للطبيعة، حافِظ لِقُوَى المعاجين ولما استُودِع فيه، مُذْهِبٌ لكيفيات الأدوية الكريهة، منقٍّ للكبد والصدر، مُدِرٍّ للبول، موافقٌ للسعال الكائن عن البلغم، وإذا شُرِبَ حاراً بدُهن الورد، نفع من نهش الهوام، وشرب الأفيون، وإن شُرِبَ وحده ممزوجاً بماء نفع من عضة الكَلْبِ الكَلِبِ، وأكلِ الفُطُرِ القتَّال، وإذا جُعِلَ فيه اللَّحمُ الطرىُّ، حَفِظَ طراوته ثلاثَةَ أشهر، وكذلك إن جُعِل فيه القِثَّاء، والخيارُ، والقرعُ، والباذنجان، ويحفظ كثيراً من الفاكهة ستة أشهر، ويحفظ جثة الموتى، ويُسمى الحافظَ الأمين. وإذ لطخ به البدن المقمل والشَّعر، قتل قَملَه وصِئْبانَه، وطوَّل الشَّعرَ، وحسَّنه، ونعَّمه، وإن اكتُحل به، جلا ظُلمة البصر، وإن استُنَّ به بيَّضَ الأسنان وصقَلها، وحَفِظَ صحتَها، وصحة اللِّثةِ، ويفتح أفواهَ العُروقِ، ويُدِرُّ الطَّمْثَ، ولعقُه على الريق يُذهب البلغم، ويَغسِلَ خَمْلَ المعدة، ويدفعُ الفضلات عنها، ويسخنها تسخيناً معتدلاً، ويفتح سُدَدَها، ويفعل ذلك بالكبد والكُلَى والمثانة، وهو أقلُّ ضرراً لسُدَد الكبد والطحال من كل حلو.

         وهو مع هذا كله مأمونُ الغائلة، قليلُ المضار، مُضِرٌ بالعرض للصفراويين، ودفعها بالخلِّ ونحوه، فيعودُ حينئذ نافعاً له جداً.

         وهو غِذاء مع الأغذية، ودواء مع الأدوية، وشراب مع الأشربة، وحلو مع الحلوى، وطِلاء مع الأطلية، ومُفرِّح مع المفرِّحات، فما خُلِقَ لنا شىءٌ فى معناه أفضلَ منه، ولا مثلَه، ولا قريباً منه، ولم يكن معوّلُ القدماء إلا عليه، وأكثرُ كتب القدماء لا ذِكر فيها للسكر ألبتة، ولا يعرفونه، فإنه حديثُ العهد حدث قريباً، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يشربه بالماء على الرِّيق، وفى ذلك سِرٌ بديع فى حفظ الصحة لا يُدركه إلا الفطن الفاضل، وسنذكر ذلك إن شاء الله عِند ذكر هَدْيه فى حفظ الصحة.

         وفى ((سنن ابن ماجه)) مرفوعاً من حديث أبى هريرة: ((مَنْ لَعِقَ العَسَل ثَلاثَ غدَوَاتٍ كُلَّ شَهْرٍ، لَمْ يُصِبْه عَظِيمٌ مِنَ البَلاءِ))، وفى أثر آخر: ((علَيْكُم بالشِّفَاءَيْنِ: العَسَلِ والقُرآنِ))، فجمع بين الطب البَشَرى والإلهى، وبين طب الأبدان، وطب الأرواح، وبين الدواء الأرضى والدواء السمائى.

         إذا عُرِفَ هذا، فهذا الذى وصف له النبىُّ صلى الله عليه وسلم العَسَل، كان استطلاقُ بطنه عن تُخَمَةٍ أصابته عن امتلاء، فأمره بشُرب العسل لدفع الفُضول المجتمعة فى نواحى المَعِدَةَ والأمعاء، فإن العسلَ فيه جِلاء، ودفع للفضول، وكان قد أصاب المَعِدَةَ أخلاط لَزِجَةٌ، تمنع استقرارَ الغذاء فيها للزوجتها، فإن المَعِدَةَ لها خَمْلٌ كخمل القطيفة، فإذا علقت بها الأخلاطُ اللَّزجة، أفسدتها وأفسدت الغِذاء، فدواؤها بما يجلُوها من تلك الأخلاط، والعسلُ جِلاء، والعسلُ مِن أحسن ما عُولج به هذا الداءُ، لا سيما إن مُزج بالماء الحار.

         وفى تكرار سقيه العسلَ معنى طبى بديع، وهو أن الدواءَ يجب أن يكون له مقدار، وكمية بحسب حال الداء، إن قصر عنه، لم يُزله بالكلية، وإن جاوزه، أوهى القُوى، فأحدث ضرراً آخر، فلما أمره أن يسقيَه العسل، سقاه مقداراً لا يفى بمقاومة الداءِ، ولا يبلُغ الغرضَ، فلما أخبره، علم أنَّ الذى سقاه لا يبلُغ مقدار الحاجة، فلما تكرر تردادُه إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم، أكَّد عليه المعاودة ليصل إلى المقدار المقاوم للداء، فلما تكررت الشرباتُ بحسب مادة الداء، بَرَأ، بإذن الله، واعتبار مقاديرِ الأدوية، وكيفياتها، ومقدار قوة المرض والمريض من أكبر قواعد الطب.

         وفى قوله صلى الله عليه وسلم: ((صدَقَ الله وكذَبَ بطنُ أخيكَ))، إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء، وأن بقاء الداء ليس لِقصور الدواء فى نفسه، ولكنْ لكَذِب البطن، وكثرة المادة الفاسدة فيه، فأمَره بتكرار الدواء لكثرة المادة.

@         وليس طِبُّه  صلى الله عليه وسلم  كطِبِّ الأطباء، فإن طبَّ النبىّ صلى الله عليه وسلم متيقَّنٌ قطعىٌ إلهىٌ، صادرٌ عن الوحى، ومِشْكاةِ النبوة، وكمالِ العقل. وطبُّ غيرِه أكثرُه حَدْسٌ وظنون، وتجارِب، ولا يُنْكَرُ عدمُ انتفاع كثير من المرضى بطبِّ النبوة، فإنه إنما ينتفعُ به مَن تلقَّاه بالقبول، واعتقاد الشفاء به، وكمال التلقى له بالإيمان والإذعان، فهذا القرآنُ الذى هو شفاء لما فى الصدور إن لم يُتلقَّ هذا التلقى لم يحصل به شفاءُ الصُّدور مِن أدوائها، بل لا يزيدُ المنافقين إلا رجساً إلى رجسهم، ومرضاً إلى مرضهم، وأين يقعُ طبُّ الأبدان منه، فطِب النبوةِ لا يُناسب إلا الأبدانَ الطيبة، كما أنَّ شِفاء القرآن لا يُناسب إلا الأرواح الطيبة والقلوب الحية، فإعراضُ الناس عن طِبِّ النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذى هو الشفاء النافع، وليس ذلك لقصور فى الدواء، ولكن لخُبثِ الطبيعة، وفساد المحل، وعدمِ قبوله.. والله الموفق.
Jasmindaba
Jasmindaba
في هديه في الطَّاعون، وعلاجه، والاحتراز منه

         فى ((الصحيحين)) عن عامر بن سعد بن أبى وَقَّاصٍ، عن أبيه، أنه سمعه يَسأَلُ أُسَامَةَ بن زيدٍ: ماذا سمِعْتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الطاعون؟ فقال أُسامةُ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((الطاعُونُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى طائفةٍ من بنى إسرائيلَ، وعَلَى مَن كان قَبْلَكم، فإذا سَمِعْتُم به بأرضٍ، فَلا تَدْخُلوا عليه، وإذا وَقَعَ بأرضٍ وأنْتُم بها، فلا تَخُرُجوا منها فِرَاراً مِنْهُ)).

         وفى ((الصحيحين)) أيضاً: عن حَفْصَةَ بنت سِيرِينَ، قالت: قال أنسُ ابن مالكٍ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطَّاعُونُ شهادةٌ لكلِّ مُسْلِم)).

         الطاعون من حيث اللُّغة: نوعٌ من الوباء، قاله صاحب ((الصحاح))، وهو عند أهل الطب: ورمٌ ردئ قتَّال يخرج معه تلهُّب شديد مؤلم جداً يتجاوز المقدار فى ذلك، ويصير ما حوله فى الأكثر أسود أو أخضر، أو أكمد، ويؤول أمره إلى التقرح سريعاً. وفى الأكثر، يحدث فى ثلاثة مواضع: فى الإِبْط، وخلف الأُذن، والأرنبة، وفى اللحوم الرخوة.

         وفى أثر عن عائشة: أنها قالت للنبىِّ صلى الله عليه وسلم: الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: ((غُدَّةٌ كَغُدَّةِ البَعيرِ يَخْرُجُ فى المَرَاقِّ والإِبْط)).

         قال الأطباء: إذا وقع الخُرَّاجُ فى اللحوم الرخوة، والمغابن، وخلف الأُذن والأرنبة، وكان من جنس فاسد، سُمِّى طاعوناً، وسببُه دم ردئ مائل إلى العُفونة والفساد، مستحيل إلى جوهر سُمِّىٍّ، يفسِدُ العضوَ ويُغيِّر ما يليه، وربما رَشَح دَماً وصديداً، ويؤدِّى إلى القلب كيفية رديئة، فيحدث القىء والخفقان والغَشى، وهذا الاسم وإن كان يَعُمُّ كُلَّ ورم يؤدى إلى القلب كيفية رديئة حتى يصيرَ لذلك قتَّالاً، فإنه يختصُّ به الحادث فى اللَّحم الغُددى، لأنه لرداءته لا يقبلُه من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، وأردؤُه ما حدث فى الإبط وخلفَ الأُذن لقربهما من الأعضاء التى هى أرأس، وأسلمه الأحمر، ثم الأصفر. والذى إلى السواد، فلا يفلت منه أحدٌ.

         ولما كان الطاعون يكثر فى الوباء، وفى البلاد الوبيئة، عُبِّر عنه بالوباء، كما قال الخليل: الوباء: الطاعون. وقيل: هو كل مرض يعم.

         والتحقيقُ أنَّ بين الوباء والطاعون عموماً وخصوصاً، فكلُّ طاعونٍ وباءٌ، وليس كلُّ وباءٍ طاعوناً، وكذلك الأمراضُ العامة أعمُّ من الطاعون، فإنه واحد منها، والطواعينُ خرَّاجات وقروح وأورام رديئة حادثة فى المواضع المتقدم ذكرها.

                  قلت: هذه القروح، والأورام، والجراحات، هى آثار الطاعون، وليست نفسَه، ولكن الأطباء لما لم تُدرك منه إلا الأثر الظاهر، جعلوه نفسَ الطاعون.

         والطاعون يُعَبَّر به عن ثلاثة أُمور:

         أحدها: هذا الأثر الظاهر، وهو الذى ذكره الأطباء.

         والثانى: الموت الحادث عنه، وهو المراد بالحديث الصحيح فى قوله: ((الطاعونُ شَهادةٌ لكلِّ مُسلمٌ)).

         والثالث: السبب الفاعل لهذا الداء، وقد ورد فى الحديث الصحيح: ((أَنهُ بقيةُ رِجز أُرسِلَ عَلى بَنِى إسرائيلَ))، وورد فيه: ((أنهُ وَخْزُ الجنِّ))، وجاء: ((أنهُ دَعوةُ نبىّ)).

         وهذه العلل والأسباب ليس عند الأطباء ما يدفعها، كما ليس عندهم ما يدل عليها، والرُّسُلُ تُخبر بالأمور الغائبة، وهذه الآثار التى أدركوها من أمر الطاعون ليس معهم ما ينفى أن تكون بتوسط الأرواح، فإن تأثيرَ الأرواح فى الطبيعة وأمراضها وهلاكها أمر لا ينكره إلا مَنْ هو أجهلُ الناس بالأرواح وتأثيراتِها، وانفعالِ الأجسام وطبائعها عنها، واللهُ سبحانه قد يجعل لهذه الأرواح تصرفاً فى أجسام بنى آدمَ عند حدوث الوباء، وفسادِ الهواء، كما يجعل لها تصرفاً عند بعضِ المواد الرديئة التى تُحدث للنفوس هيئة رديئة، ولا سيما عند هيجان الدم، والمِرَّةِ السوداء، وعند هَيجان المنَىّ، فإنَّ الأرواح الشيطانية تتمكن مِن فعلها بصاحب هذه العوارض ما لا تتمكَّن من غيره، ما لم يدفعها دافع أقوى من هذه الأسباب من الذِّكر، والدعاء، والابتهال والتضرع، والصَّدَقة، وقراءة القرآن، فإنه يستنزل بذلك من الأرواح المَلَكية ما يقهُر هذه الأرواح الخبيثَة، ويُبطل شرَّها ويدفع تأثيرَها. وقد جرَّبنا نحنُ وغيرُنا هذا مراراً لا يُحصيها إلا الله، ورأينا لاستنزالِ هذه الأرواح الطيبة واستجلابِ قُربها تأثيراً عظيماً فى تقوية الطبيعة، ودفع المواد الرديئة، وهذا يكون قبل استحكامها وتمكنها، ولا يكاد ينخرم، فمَن وفَّقه الله، بادر عند إحساسه بأسباب الشر إلى هذه الأسباب التى تدفعها عنه، وهى له من أنفع الدواء، وإذا أراد الله عَزَّ وجَلَّ إنفاذَ قضائه وقَدَره، أغفل قلبَ العبد عن معرفتها وتصوُّرِها وإرادتها، فلا يشعر بها، ولا يُريدها، ليقضى الله فيه أمراً كان مفعولاً.

         وسنزيد هذا المعنى  إن شاء الله تعالى  إيضاحاً وبياناً عند الكلام على التداوى بالرُّقَى، والعُوَذ النبوية، والأذكار، والدعوات، وفعل الخيرات، ونُبيّن أن نِسبة طب الأطباء إلى هذا الطب النبوى، كنسبة طب الطرْقية والعجائز إلى طبهم، كما اعترف به حُذَّاقهم وأئمتهم، ونبين أن الطبيعة الإنسانية أشد شىء انفعالاً عن الأرواح، وأن قُوَى العُوَذ، والرُّقَى، والدعوات، فوق قُوَى الأدوية، حتى إنها تُبطل قُوَى السموم القاتلة.

         والمقصود: أنَّ فساد الهواء جزء من أجزاء السبب التام، والعِلَّة الفاعلة للطاعون، فإن فساد جوهر الهواء الموجِبُ لحدوث الوباء وفساده، يكون لاستحالة جوهره إلى الرداءة، لغلبة إحدى الكيفيات الرديئة عليه، كالعفونة، والنَّتَن، والسُّمِّيّة فى أى وقت كان من أوقات السنة، وإن كان أكثر حدوثه فى أواخر الصيف، وفى الخريف غالباً لكثرة اجتماع الفضلات المرارية الحادة وغيرها فى فصل الصيف، وعدم تحللها فى آخره، وفى الخريف لبرد الجو، ورَدْغَة الأبخرة والفضلات التى كانت تتحلل فى زمن الصيف، فتنحصر، فتسخن، وتعفن، فتحدث الأمراض العفنة، ولا سيما إذا صادفت البدن مستعداً، قابلاً، رهِلاً، قليل الحركة، كثيرَ المواد، فهذا لا يكاد يُفْلِت مِن العطب.

         وأصحُّ الفصول فيه فصل الربيع؛ قال ((بقراط)): إن فى الخريف أشد ما تكون من الأمراض، وأقتل، وأما الربيعُ، فأصحُّ الأوقات كلها وأقلُّها موتاً، وقد جرت عادةُ الصيادلة، ومجهزى الموتى أنهم يستدينونَ، ويتسلِّفون فى الربيع والصيف على فصل الخريف، فهو ربيعُهم، وهم أشوقُ شىء إليه، وأفرحُ بقدومه.

         وقد روى فى حديث: ((إذا طَلعَ النَّجْمُ ارْتَفَعَت الْعَاهَةُ عن كلِّ بَلَدٍ)). وفُسِّر بطلوع الثُّريا، وفُسِّر بطلوع النبات زمن الربيع، ومنه: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَان}، فإنَّ كمال طلوعه وتمامَه يكون فى فصل الربيع، وهو الفصل الذى ترتفع فيه الآفات.

         وأما الثُّريا، فالأمراض تكثر وقت طلوعها مع الفجر وسقوطها.

         قال التَّمِيمىُّ فى كتاب ((مادة البقاء)): أشدُّ أوقات السنة فساداً، وأعظُمها بلية على الأجساد وقتان، أحدهما: وقتُ سقوط الثُّريا للمغيب عند طلوع الفجر. والثانى: وقت طلوعها من المشرِق قبل طلوع الشمس على العالَم، بمنزلة من منازل القمر، وهو وقت تصرُّمِ فصل الربيع وانقضائه، غير أن الفسادَ الكائن عند طلوعها أقلُّ ضرراً من الفساد الكائن عند سقوطها.

         وقال أبو محمد بن قتيبة: يقال: ما طلعت الثُّريا ولا نأتْ إلا بعَاهة فى النَّاس والإِبْل، وغروبُها أعْوَهُ من طلوعها.

         وفى الحديث قولٌ ثالث  ولعله أولى الأقوال به أنَّ المراد بالنَّجْم: الثُّريا، وبالعاهة: الآفة التى تلحق الزروع والثمار فى فصل الشتاء وصدر فصل الربيع، فحصل الأمن عليها عند طلوع الثُّريا فى الوقت المذكور، ولذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن

 بيع الثمرة وشرائها قبل أن يبدُوَ صلاحُها. والمقصود: الكلام على هَدْيِه صلى الله عليه وسلم عند وقوع الطاعون.
Jasmindaba
Jasmindaba
نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى الأرض التى هو بها أو الخروج منها

         وقد جمع النبىُّ صلى الله عليه وسلم للأُمة فى نهيه عن الدخول إلى الأرض التى هو بها، ونهيهِ عن الخروج منها بعد وقوعه كمالَ التحرز منه، فإنَّ فى الدخول فى الأرض التى هو بها تعرضاً للبلاء، وموافاةً له فى محل سلطانه، وإعانةً للإنسان على نفسه، وهذا مخالف للشرع والعقل، بل تجنُّبُ الدخول إلى أرضه من باب الحِمية التى أرشد الله سبحانه إليها، وهى حِمية عن الأمكنة، والأهوية المؤذية.

         وأما نهيه عن الخروج من بلده، ففيه معنيان:

         أحدُّهما: حمل النفوس على الثقة بالله، والتوكل عليه، والصبرِ على أقضيته، والرِّضَى بها.

         والثانى: ما قاله أئمة الطب: أنه يجب على كل محترز من الوباء أن يُخْرِجَ عن بدنه الرطوبات الفضلية، ويُقلِّل الغذاء، ويميل إلى التدبير المجفف مِن كل وجه إلا الرياضةَ والحمَّام، فإنهما مما يجب أن يُحذرا، لأن البدن لا يخلو غالباً مِن فضل ردىء كامن فيه، فتثيرُه الرياضة والحمَّام، ويخلطانه بالكيموس الجيد. وذلك يجلب عِلَّة عظيمة، بل يجب عند وقوع الطاعون السكون والدَّعة، وتسكين هيجان الأخلاط، ولا يمكن الخروجُ من أرض الوباء والسفر منها إلا بحركة شديدة، وهى مضرة جداً، هذا كلام أفضل الأطباء المتأخرين، فظهر المعنى الطبى من الحديث النبوى، وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحِهما.

         فإن قيل: ففى قول النبىُّ صلى الله عليه وسلم:((لا تخرجوا فِراراً مِنهُ))، ما يُبطل أن يكون أراد هذا المعنى الذى ذكرتموه، وأنه لا يمنع الخروجَ لعارض، ولا يحبس مسافراً عن سفره ؟

         قيل: لم يقل أحدٌ  طبيبٌ ولا غيره  إنَّ الناس يتركون حركاتِهم عند الطواعين، ويصيرون بمنزلة الجماداتِ، وإنما ينبغى فيه التقلُّل من الحركة بحسب الإمكان، والفارُّ منه لا موجب لحركته إلا مجرد الفِرار منه، ودعتُه وسكونُه أنفع لقلبه وبدنه، وأقربُ إلى توكله على الله تعالى، واستسلامه لقضائه. وأما مَن لا يستغنى عن الحركة كالصُـنَّاع، والأُجراء، والمسافرين، والبُرُد، وغيرهم  فلا يقال لهم: اتركوا حركاتِكم جملةً، وإن أُمروا أن يتركوا منها ما لا حاجة لهم إليه، كحركة المسافر فارّاً منه.. والله تعالى أعلم.

         وفى المنع من الدخول إلى الأرض التى قد وقع بها عدةُ حِكَم:

         أحدها: تجنب الأسباب المؤذية، والبُعْد منها.

         الثانى: الأخذُ بالعافية التى هى مادةُ المعاشِ والمعاد.

         الثالث: أن لا يستنشِقُوا الهواءَ الذى قد عَفِنَ وفَسَدَ فيمرضون.

         الرابع: أن لا يُجاوروا المرضى الذين قد مَرِضُوا بذلك، فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم.

         وفى ((سنن أبى داود)) مرفوعاً: ((إنَّ مِن القرفِ التلفَ)).

         قال ابن قتيبة: القرفُ مداناة الوباء، ومداناة المرضى.

         الخامس: حِميةُ النفوس عن الطِّيَرَة والعَدوى، فإنها تتأثر بهما، فإن الطِّيرة على مَن تطيَّرَ بها.

         وبالجملة ففى النهى عن الدخول فى أرضه الأمرُ بالحذر والحِمية، والنهىُ عن التعرض لأسباب التلف. وفى النهى عن الفِرار منه الأمر بالتوكل، والتسليم، والتفويض، فالأولُ: تأديب وتعليم، والثانى: تفويض وتسليم.

وفى ((الصحيح)): أنَّ عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بِسَرْغَ لَقيه أبو عُبيدة بن الجرَّاح وأصحابه، فأخبرُوه أنَّ الوَباءَ قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال لابن عباس: ادعُ لى المهاجرينَ الأوَّلينَ، قال: فدعوتُهم، فاستشارهم، وأخبرهم أنَّ الوباء قد وقع بالشام. فاختلفوا، فقال له بعضُهم: خرجتَ لأَمر، فلا نرى أن تَرْجِعَ عنه. وقال آخرون: معك بقيةُ الناس، وأصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نرى أن تُقْدِمَهُم على هذا الوَبَاء، فقال عمر: ارتفعوا عَنِّى، ثم قال: ادعُ لى الأنصار، فدعوتُهم له، فاستشارهم، فسلكُوا سبيلَ المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عَنِّى، ثم قال: ادْع لى مَنْ هَهُنَا من مشيخةِ قريشٍ من مُهاجرةِ الفتح، فدعوتهم له، فلم يختلف عليه منهم رجلان، قالوا: نرى أن ترجِعَ بالناس ولا تُقْدِمَهُم على هذا الوباء، فَأَذَّنَ عمر فى الناس: إنى مُصبحٌ على ظَهْرٍ، فأَصْبِحُوا عليهِ. فقال أبو عُبيدة بن الجرَّاح: يا أميرَ المؤمنين؛ أفِرَاراً من قَدَرِ الله تعالى ؟ قال: لو غيرُك قالها يا أبا عُبيدة، نعم نَفِرُّ من قَدَرِ الله تعالى إلى قَدَرِ الله تعالى، أرأيتَ لو كانَ لك إبلٌ فهبطتَ وَادِياً له عُدْوَتَان، إحداهما خِصبة، والأُخرى جَدْبة، ألستَ إنْ رعيتَها الخِصبة رعيتَها بَقدَرِ الله تعالى، وإن رعيتها الجدبةَ رعيتَها بقدر الله تعالى ؟. قال: فجاء عبد الرحمن بن عَوْف وكانَ متغيباً فى بعض حاجاتِهِ، فقال: إنَّ عندى فى هذا علماً، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا كان بِأَرْضٍ وأنْتُمْ بها فلا تَخْرُجوا فِرَاراً منه، وإذا سَمِعْتُم به بأرضٍ فلا تَقْدَموا عَلَيْهِ)).
Jasmindaba
Jasmindaba
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى داء الاستسقاء وعلاجه

         فى ((الصحيحين)): من حديث أنس بن مالك، قال:

((قَدِمَ رَهْطٌ من عُرَيْنَةَ وَعُكَل على النَّبىِّ صلى الله عليه وسلم، فاجْتَوَوا المدينة، فشكوا ذلك إلى النَّبىِّ صلى الله عليه وسلم، فقال لو خرجُتم إلى إِبِل الصدقة فشربتم من أبوالها وألبانها، ففعلوا، فلما صحُّوا، عمدوا إلى الرُّعَاةِ فقتلُوهم، واستاقُوا الإبل، وحاربُوا الله ورسوله، فبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى آثارهم، فأُخِذُوا، فَقَطَعَ أيديَهُم، وأرجُلَهُم، وسَمَلَ أعْيُنَهُم، وألقاهم فى الشمس حتى ماتوا)).

         والدليل على أن هذا المرض كان الاستسقاء، ما رواه مسلم فى ((صحيحه)) فى هذا الحديث أنهم قالوا:((إنَّا اجتوينا المدينة، فعظمت بطونُنا، وارتهشت أعضاؤنا)).... وذكر تمام الحديث.

         والجَوَى: داء من أدواء الجوف والاستسقاء: مرض مادى سببه مادة غريبة باردة تتخلَّل الأعضاء فتربو لها إما الأعضاء الظاهرة كلها، وإما المواضع الخالية من النواحى التى فيها تدبير الغِذاء والأخلاط، وأقسامُه ثلاثة: لحمىٌّ وهو أصعبها وزقىٌّ، وطبلىٌّ.

         ولما كانت الأدوية المحتاجُ إليها فى علاجه هى الأدوية الجالبة التى فيها إطلاقٌ معتدل، وإدرارٌ بحسب الحاجة وهذه الأُمور موجودةٌ فى أبوال الإبل وألبانها، أمرهم النبىُّ صلى الله عليه وسلم بشربها، فإنَّ فى لبن اللِّقَاح جلاءً وتلييناً، وإدراراً وتلطيفاً، وتفتيحاً للسدَد، إذ كان أكثرُ رعيِها الشيح، والقيصوم، والبابونج،  والأقحوان، والإِذْخِر، وغير ذلك من الأدوية النافعة للاستسقاء.

         وهذا المرضُ لا يكون إلا مع آفة فى الكبد خاصة، أو مع مشاركة، وأكثرها عن السدَد فيها، ولبن اللِّقاحِ العربية نافعٌ من السدَد، لما فيه من التفتيح، والمنافع المذكورة.

         قال الرازىُّ: لبن اللِّقاح يشفى أوجاعَ الكبد، وفساد المِزاج. وقال الإسرائيلى: لبن اللِّقاح أرقُّ الألبان، وأكثرُها مائيَّة وحِدَّة،    وأقلُّها غِذاء. فلذلك صار أقواها على تلطيف الفضول، وإطلاقِ البطن، وتفتيح السدَد، ويدل على ذلك ملوحتُه اليسيرة التى فيه لإفراط حرارة حيوانية بالطبع، ولذلك صار أخصَّ الألبان بتطرِية الكبد، وتفتيح سُددها، وتحليلِ صلابة الطحال إذا كان حديثاً، والنفع من الاستسقاء خاصة إذا استُعمل لحرارته التى يخرج بها من الضَّرْع مع بول الفصيل، وهو حار كما يخرج من الحيوان، فإن ذلك مما يزيد فى ملوحته، وتقطيعه الفضولَ، وإطلاقهِ البطن  فإن تعذَّر انحدارُه وإطلاقُه البطن، وجب أن يُطلق بدواء مسهل.

         قال صاحب القانون: ولا يُلتفت إلى ما يقال: من أن طبيعة اللَّبن مضادة لِعلاج الاستسقاء. قال: واعلم أنَّ لبن النُّوق دواءٌ نافع لما فيه من الجِلاء برفق، وما فيه من خاصية، وأنَّ هذا اللَّبن شديد المنفعة، فلو أنَّ إنساناً أقام عليه بدل الماء والطعام شُفِىَ به، وقد جُرِّبَ ذلك فى قوم دُفِعوا إلى بلاد العرب، فقادتهم الضرورةُ إلى ذلك، فعُوفوا. وأنفعُ الأبوال: بَوْل الجمل الأعرابى، وهو النجيب.. انتهى.

         وفى القصة: دليلٌ على التداوى والتطبُّب، وعلى طهارة بول مأكول اللَّحم، فإن التداوى بالمحرَّمات غير جائز، ولم يُؤمروا مع قرب عهدهم بالإسلام بغسل أفواههم، وما أصابته ثيابُهم من أبوالها للصلاة، وتأخيرُ البيان لا يجوزُ عن وقت الحاجة.

         وعلى مقاتلة الجانى بمثل ما فعل، فإن هؤلاء قتلوا الراعىَ، وسملُوا عينيه، ثبت ذلك فى ((صحيح مسلم)).

         وعلى قتل الجماعة، وأخذِ أطرافهم بالواحد.

         وعلى أنه إذا اجتمع فى حق الجانى حدٌ وقِصاصٌ استوفيا معاً، فإن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قطع أيديَهم وأرجُلَهم حداً لله على حِرابهم، وقَتَلَهُم لقتلهم الراعى.

         وعلى أن المحارب إذا أخذ المال، وَقَتَل، قُطِعت يده ورجله فى مقام واحد وقُتِل.

         وعلى أنَّ الجنايات إذا تعددت، تغلَّظت عقوباتُها، فإنَّ هؤلاء ارتدُّوا بعد إسلامهم، وقتلوا النفس، ومثَّلُوا بالمقتول، وأخذوا المال، وجاهروا بالمحاربة.

         وعلى أنَّ حكم ردء المحاربين حكم مباشرهم، فإنه من المعلوم أنَّ كُلَّ واحد منهم لم يُباشر القتل بنفسه، ولا سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

         وعلى أن قتل الغِيلةِ يُوجب قتل القاتل حداً، فلا يُسقطه العفو، ولا تُعتبر فيه المكافأة، وهذا مذهبُ أهل المدينة، وأحد الوجهين فى مذهب أحمد، اختاره شيخنا، وأفتى به.