najah78

najah78 @najah78

عضوة فعالة

كلمات جعلتني أذرف عزيز الدموع

ملتقى الأحبة المغتربات

عودة بعد غياب


عند هدأة السحر الغائب في ليالي تموز , و تحت أنوار القمر التائهة بين أغصان النارنج و الليمون, و في فضاء بيته المعتق بذكريات الماضي الجميل , كانت تتنفس الأرجاءُ رائحة الياسمين تعبق بها سماء الدار و زواياها , و على صفحة البحرة الدافقة بماء بردى كان البدر يتلألأ كقنديل في جوف الظلام , فيعكس النورَ على وجهه المحفور بريشة السنين , ملقيا على محياه بهاءً فوق بهاء التقوى و الصلاح , مما يزيده تلألؤا و ضياء ,وكأنك بين قمرين منوَّرَين , أحدُهما في سماء الدار و الآخرُ في جوفها .

و تمتد يده المرتعشة تستقي الماءَ تطفئُ به لظى الآثام و المعاصي فتمحوها , كما يستقي الظمآن شربةَ الماء يَبُلُّ بها حرقة صدره و فؤاده فيروِّيها .

و أتم وضوءَه لينفتل إلى زاويته المحببة في فسحة الدار تحت شجرة الكباد ,حيث اعتادت رفيقة دربه أن تنتظره سَحَرَ كل ليلة و قد أعدَّت المكان ليضمهم في صلاة ما فتروا عنها منذ اقترنا.

و وقف في صلاته تلاصقه زوجته, و قد أحنى مَرُّ السنين و مُرُّها قاماتٍ منهما و أمال أعناقا , و انطلق لسانه يرتل في أناة و هدوء كلام ربه , فانساب صوتُه الرَّخيُ المتهدجُ في جَنَبَات الدار لينبه أسماع ابنهما الغافل في حياته و السادر في ملذاته .

كان شابا في ميعة الشباب و عنفوانه , ما عرف يوما في البيت صاحبا إلا أباه و أمه , و قد أحاطاه بكل عناية و رعاية , فقد كان هبة السماء لهما بعد طول انتظار و لهفة, أحباه حبا اختصر لهما الحياة كلها , فإذا ضحك ضحكت لهما الدنيا, و إن حزن عبست في وجوههما الحياة .

و كان لهما بسمةَ الأيام مهما تكدرت , و مسرةَ الليالي كلما اكفهرت , لا يعرفان سمرا إلا معه , و لا يحبان متعة مع غيره .

عرفا أنه غرس صغير و نبت ضعيف فوهباه عنايتَهم , و رأوه صفحةً بيضاءَ مفتوحةً , فخطَّا فيها ما رضياه من خلق و دين .

وكان الحديث إليه متعة , و اللعب معه متعة , و تعليمه متعة , و تعنيفه متعة , فكان متعةَ الحياة و بسمة الأيام , و صار الغرسةَ التي يزرعانها ليستظلا بها من لأواء الدنيا في قابل الأيام و من هول الموقف في آخر الزمان.

و لازماه كظله لا يفارقانه أبدا , و لا يغيب عن أنظارهما لحظة , و لما خطى إلى السنة السادسة من عمره كان أولُ فراقٍ و أقسى غياب , و فارقهما أولَ مرة في حياته , فارقهما إلى مدرسته , فما أسلماه إلى مُدَرِّسَتِه يومَها إلا بعد لأي و مشقة , وكانت -بعد ذلك - قلوبهما تظلله في جيئته و ذهابه , فلا يسلما يديه إلا لباب مدرسته , و كم ساءهما طول انتظاره تحت لفح الشمس عند بابها, فكانت سحابةُ النهار قاتمةً لا يبعث فيها الحياة إلا همساتُه و ضحكاتُه تملأ الدار و تضج في جنباتها عند عودته عصرا من مدرسته.

و ظهرت ثمرة عنايةِ أهله فيه واهتمامِهم به , فكان مقدماً بين أصحابه في مدرسته في كل مراحلها , أحبه أساتذته و ألفه رفاقه , فطلبوا وده و تنافسوا على نيل ثقته و محبته .

وأحبَّ رفاقه و أحبوه , و رأى فيهم منفذه للحرية و سبيله للخلاص , فهو على حبه لأبيه و أمه لكنه بدأ يعرف معنى العيش خارج عشهما , و أخذ يحرص على الانعتاق من إسارهما.

و في المرحلة الثانوية كان أصدقاؤه - الذين جهلهم أهلُه و ما باح لهم بخبرهم يوما- هم خاصتَه و مستودعَ سره , يقضي معهم بياض النهار و هزيعا من الليل , يفضي إليهم بدخائله , و يشركهم في مغامراته , فقد كانوا شبابا اشتعلت بين جوانحهم جَذْوَةُ الشهوة تتقد كلما مسها همس صبية أو طيف فتاة تخطِر أمامهم في غنج و دلال .

و مشت أولى خطواته في طريق المتعة , لا يحجزه عنها صاحبٌ ناصح و لا يمنعه منها رفيقٌ صالح , فقد استخلص من الأصدقاء أفجرَهم , و أصفى الود لأسوئهم, يميل نحوهم بقلبه , و يصغي إليهم بسمعه , و يحاكي حالهم ببصره.

و كم كان يعود إلى بيته في الأسحار بعد لياليه الحمراء ليجد أبويه تحت شجرة الكباد , فيرمق مشهد الحب بعين دافئة بوقود الذكرى , ويتنسم عبق الطهر يظلل المكان بهالة قدسية , فلا يكاد يصل إلى غرفته إلا وقد تَلَوَّعَ قلبُه بجمر الذكرى , يوم كان عنوانَ البراءة و النقاء , ومثالَ الطاعة و الولاء .

و يطرق أنينُ الابن في لوعته قلبَ الأبوين في صَلاتهما , فتضطرب الأفئدة و ترتعش الأطراف , و تلهج الألسنة و تلتهب الدعوات .

وكلما غاب الابن عن أبويه وتمادى في جفائه , ازداد حرصهما على القرب منه و التلطف إليه , و ما تركا سبيلا إلى نصحه إلا سلكاه , بالبسمة يقابلان بها عبوس وجهه , و بالكلمة الطيبة يطفئان بها سعير غضبه , و باللهفة يبذلانها عند اشتداد حاجته .

و ما يأس الأبوان يوماً من رحمةٍ تظلل ابنَهما من حَرِّ حياته اللاهبة بالمعاصي , و تقيه من وقدة غفلاته المستعرة بالشهوات , فكانا كل يوم على موعد مع ربهما يبثانه الشكوى مريرةً متأوهةً , و يطرحان بين يديه الغُصة خانقةً متحسرةً .

و في ذات ليلة , ومع نسيم السحر يلامس صفحة خده , كانت آهات الأبوين تصافح جذوة قلبه, فسال ماء عينيه سخيا لاهبا , تجود به الروح ندما على غفلتها , و تسكبه النفس اعتذارا أمام رحمة بارئها .

و تراءت له من خلال سجاف الزمن ذكرياتُ الماضي الجميل , و لاحت له من بعيد صورتُه الطاهرة بين أبوين صالحين يسكبان في قلبه ما شاء من محبة و رحمة , ويسقيانه ما طاب له من حنو و صفاء , وفي لحظة صارخة بالألم نهض من فراشه الآثم يفارقه بنظرات الوداع الأخير , و شمَّر عن ساعديه أمام البحرة الدافقة يطهر القلب ما استطاع من أوزاره ومعاصيه , و وقف لأول مرة بحذاء أبيه و أمه يؤمِّن على دعائهما كما اعتاد في خاليات الليالي ,و يبكي في أحضانهما كما كان يبكي في سالف الأيام .

و تحت شجرة الكباد ,و في ظلال قمر الأسحار , و مع نسيم الفجر ينساب عليلا يلف صحن الدار بنفحة السماء , احتضن الأبوان فَلْذَةَ كبدهما كما كانا يفعلان في أيام الزمن الجميل , و اشتما ريحه كما يَشَمَّان عطر الحبق و الياسمين , و طال العناق , و خفق الجنان , و هدأ اللسان , و ثار الدمع , وتأوه الوجدان , وكانت أحلى ليلة من ليالي العمر , و ألذَّ طاعةٍ نَعِمَا بسكنها منذ اقترنا.

و عاد العصفور إلى عشه , و اهتدى النبض إلى فؤاده , و امتزجت نبضات القلوب المتعانقة , و عرش الورد على العيون الدامعة , و كان الوعد و كان العهد .

- أنت نفحة روحي و أمل حياتي ولست ظلي و خيالي .

-وأنتما بسمة عمري و فرحة قلبي و لستما لعبة من ألعابي و متاعي .

-أنت ابني و صديقي و أخي و حبيبي و لست عبدي و لا أسيرا في مملكة حياتي .

- و أنتما مأوى فؤادي و حضن مسرتي و لكما مني كلَّ حبي و طاعتي و ولائي .

و من بعيد تراءت شجرة الكباد -بمن أظلتهم -كقمر يتلألأ في أرض عمها الظلام , و كنجمة في دجى الليل يخيم على مجتمع منقسم مقطع الأوصال ,

فمتى يا ترى تتلألأ كل أشجار الكباد . ....................

**********************
29
2K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

الزوجة الحنون
مشكوووووووووره
هنوده الحبوبه
نجوووووح يسلموووو هالإيدين إلاهي ،، رائعة بمعنى الكلمة
ريحانة التميمي
كلمات تنبض بالرقة مفعمة بالمشاعر اشكرك
najah78
najah78
العفو أشكر مروركن
سماالكون
سماالكون
جزاك الله خيرا
كلمات درر