كل ما تريد عن الغناء والأناشيد

ملتقى الإيمان

بعض الأدلة على تحريم الغناء بآلات الطرب :
الدليل الأول : عن أبي عامر - أو أبي مالك - الأشعري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف . ولينزلنَّ أقوام إلى جنب علم ، يروح عليهم بسارحة لهم ، يأتيهم لحاجة () ، فيقولون : ارجع إلينا غداً ، فيبيِّتهم الله ، ويضع العلم ، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة . رواه البخاري في صحيحه () معلقاً بصيغة الجزم محتجاً به () .
ووجه الدلالة منه : أن المعازف هي : آلات اللهو كلها لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك ، ولو كانت حلالا لما ذمهم على استحلالها ، ولما قرن استحلالها بمحرم .
الدليل الثاني : عن أنس بن مالك رضي الله عنهقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة ، مزمار عند نعمة ، ورنة عند مصيبة . رواه البزار () .
الدليل الثالث : عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله حرم عليَّ – أو حرم – الخمر ، والميسر ، والكوبة ، وكل مسكر حرام ، قال سفيان : قلت لعلي بن بذيمة : (ما الكوبة ؟) قال : (الطبل) () .
وقد روى الخلال في كتابه (الأمر بالمعروف) عن الإمام أحمد (رحمه الله) أنه قال : وأكره الطبل ، وهي الكوبة ، نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الدليل الرابع : أقوال الصحابة :
- فقد قال ابن عباس في قوله تعالى (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليُضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذابٌ مهين) نزلت في الغناء وأشباهه () .
- وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما سئل عن هذه الآية : هو الغناء والذي لا إله إلا هو ، يرددها ثلاث مرات () .
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/240 ، 241) :
( إذا عرف هذا فأهل الغناء ومستمعوه لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن وإن لم ينالوا جميعه ، فإن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا وإذا يتلى عليه القرآن ولى مستكبرا كأن لم يسمعه كأن في أذنيه وقرا وهو الثقل والصمم وإذا علم منه شيئا استهزأ به فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرا ، وإن وقع بعضه للمغنين ومستمعيهم فلهم حصة ونصيب من هذا الذم يوضحه أنك لا تجد أحدا عني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علما وعملا ، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن عدل عن هذا إلى ذاك ، وثقل عليه سماع القرآن ، وربما حمله الحال على أن يسكت القاريء ويستطيل قراءته ، ويستزيد المغني ويستقصر نوبته ، وأقل ما في هذا أن يناله نصيب وافر من هذا الذم إن لم يحظ به جميعه ، والكلام في هذا مع من قلبه بعض حياة يحس بها ، فأما من مات قلبه وعظمت فتنته فقد سد على نفسه طريق النصيحة (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) المائدة (41) .
2- شبهات المبيحين للغناء (مطلقاً) وجوابها :
1- عن عائشة –رضي الله عنها- قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلموعندي جاريتان (وفي رواية : قينتان) (من جواري الأنصار، أيام منى ، تدففان وتضربان) تغنيان بغناء الأنصار يوم بعاث (وليسا بمغنيتين) فاضطجع على الفراش وحول وجهه ودخل أبو بكر (والنبي متغشٍ بثوبه) فانتهرني (وفي رواية : فانتهرهما) وقال : مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فأقبل عليه رسول الله عليه السلام (فكشف عن وجهه) فقال : دعهما (يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا) فلما غفل غمزتهما فخرجتا . متفق عليه .
والجواب :
أنه لا دلالة فيه على جواز الغناء مطلقاً ، فإنه وقع من جاريتين صغيرتين وبالدف فقط ، قال ابن الجوزي في التلبيس 1/239 : والظاهر من هاتين الجاريتين صغر السن ، لأن عائشة كانت صغيرة السن ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرِّب إليها الجواري فيلعبن معها أ.هـ ، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بكر قوله : (مزمارة الشيطان عند رسول الله) وإنما بين أنه مستثنى لأنه يوم عيد .
2- عن نافع مولى ابن عمر ، أن ابن عمر رضي الله عنه سمع صوت زمارة راع ، فوضع إصبعيه في أذنيه ، وعدل راحلته عن الطريق ، وهو يقول : يا نافع أتسمع ؟ فأقول : نعم ، فيمضي حتى قلت : لا ، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق ، وقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع صوت زمارة راعٍ فصنع مثل هذا . رواه أحمد (4535) .
فقالوا : هاهو ابن عمر يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع زمارة راعٍ فوضع إصبعيه في أذنيه ، ولم يأمر ابن عمر بذلك ، ولم ينكر على الراعي .
والجواب :
أن هناك فرقاً بين السماع والاستماع ، فالسماع لا إثم فيه ، ولذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر بسد أذنيه ، وإنما عدل عن الطريق طلباً للأفضل والأكمل () . وأما تقرير الراعي فلا يدل على إباحته لأنها قضية عين ، فلعله سمعه بلا رؤية ، أو بعيداً منه على رأس جبل ، أو مكان لا يمكن الوصول إليه ، أو لعل الراعي لم يكن مكلفاً ، فلم يتعين الإنكار عليه () .
3- عن عَبْدُ اللَّهِ بنُ بريدةَ قَالَ : سَمِعْتُ بُريدةَ يقولُ:
"خرجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيهِ ، فَلمَّا انصرفَ جاءتْ جاريةٌ سوداءُ فقَالَتْ : يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كنتُ قدْ نذرتُ إنْ ردَّكَ اللَّهُ سالِماً أنْ اضرِبَ بينَ يديكَ بالدُّفِّ وأتغنَّى. فقَالَ لها رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : إنْ كنتِ نذرتِ فاضربي وإلاَّ فلا ، فَجَعَلتْ تضربُ فدخلَ أَبُو بكرٍ وهيَ تضربُ ، ثُمَّ دخلَ عَليٌّ وهي تضربُ ، ثُمَّ دخلَ عُثْمَانُ وهي تضربُ ، ثُمَّ دخلَ عُمَرُ قال : فجعلت دفها خلفها ، فقَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إنَّ الشَّيْطَانَ ليخافُ منكَ يا عُمَرُ ، إنِّي كنتُ جالساً وهي تضربُ ، فَدَخَل أَبُو بكرٍ وهي تضربُ ، ثُمَّ دخلَ عَليٌّ وهي تضربُ ، ثُمَّ دخلَ عُثْمَانُ وهي تضربُ ، فَلمَّا دخلْتَ أنتَ يا عُمَرُ ألقتْ الدُّفَّ". رواه أحمد والترمذي وقال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيْبٌ من حَدِيثِ بُريدَةَ. وفي البابِ عَن عُمَر وعَائِشَةَ.

فقالوا : قد غنت الجاريتان وضربتا بالدف بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم .
والجواب :
أن الضرب بالدف يجوز للنساء في العرس () ، والعيد ، والختان ، وقدوم الغائب ، واختلف في قياس غيرها عليها . وقد ترجم لهذا الحديث في منتقى الأخبار بقوله (باب ضرب النساء بالدف لقدوم الغائب وما في معناه) ، وأما كيف أنه وافقها على الوفاء بنذرها مع أنه ليس بنذر طاعة فقال الخطابي في معالم السنن 4/382 : (ضرب الدف ليس مما يُعد في باب الطاعات التي يتعلق بها النذور ، وأحسن حاله أن يكون من باب المباح ، غير أنه لما اتصل بإظهار الفرح بسلامة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة من بعض غزواته ، وكانت فيه مساءة الكفار ، وإرغام المنافقين صار فعله كبعض القُرب التي من نوافل الطاعات ، ولهذا أُبيح ضرب الدف) .
3- حكمة تحريم الغناء :

إنما حرم الغناء سداً لذريعة الفساد ولضرره على القلب ، قال ابن مسعود رضي الله عنه: الغناء ينبت النفاق في القلب . رواه البيهقي (10/223) :

قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/248 ، 249 ، 250) : (فإن قيل : فما وجه إنباته للنفاق في القلب من بين سائر المعاصي ، قيل : هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها ، ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها ، وأنهم هم أطباء القلوب دون المنحرفين عن طريقتهم الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها ، فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل ...ثم قال : فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق ونباته فيه كنبات الزرع بالماء ، فمن خواصه : أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه ، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدا لما بينهما من التضاد فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي ، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان ، والغناء يأمر بضد ذلك كله ، ويحسنه ، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي ، فيثير كامنها ويزعج قاطنها ، ويحركها إلى كل قبيح ، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح ، فهو والخمر رضيعا لبان وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان ، فإنه صنو الخمر ورضيعه ونائبه وحليفه وخدينه وصديقه ، عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذي لا يفسخ ، وأحكم بينهما شريعة الوفاء التي لا تنسخ ، وهو جاسوس القلب ، وسارق المروءة ، وسوس العقل ، يتغلغل في مكامن القلوب ، ويطلع على سرائر الأفئدة ، ويدب إلى محل التخيل فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة ، فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار الإسلام وحلاوة القرآن ، فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله ، وقل حياؤه ، وذهبت مروءته ، وفارقه بهاؤه ، وتخلى عنه وقاره ، وفرح به شيطانه ، وشكا إلى الله تعالى إيمانه ، وثقل عليه قرآنه وقال : يا رب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد ، فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه ، وأبدى من سره ما كان يكتمه ، وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام ، والكذب ، والزهزهة والفرقعة بالأصابع فيميل برأسه ويهز منكبيه ويضرب الأرض برجليه ويدق على أم رأسه بيديه ويثب وثبات الدعباب ويدور دوران الحمار حول الدولاب ويصفق بيديه تصفيق النسوان ويخور من الوجد ولا كخوار الثيران وتارة يتأوه تأوه الحزين وتارة يزعق زعقات المجانين ... وقال بعض العارفين : السماع يورث النفاق في قوم ، والعناد في قوم ، والكذب في قوم ، والفجور في قوم ، والرعونة في قوم ، وأكثر ما يورث : عشق الصور واستحسان الفواحش ، وإدمانه يثقل القرآن على القلب ، ويكرهه إلى سماعه بالخاصية ، وإن لم يكن هذا نفاقا فما للنفاق حقيقة ، وسر المسألة أنه قرآن الشيطان كما سيأتي ، فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدا ، وأيضا فإن أساس النفاق أن يخالف الظاهر الباطن وصاحب الغناء بين أمرين إما أن يتهتك فيكون فاجرا ، أو يظهر النسك فيكون منافقا ، فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة وقلبه يغلي بالشهوات ومحبة ما يكرهه الله ورسوله ، من أصوات المعازف وآلات اللهو وما يدعو إليه الغناء ويهيجه فقلبه بذلك معمور وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر وهذا محض النفاق ، وأيضا فإن الإيمان (قول وعمل) قول بالحق وعمل بالطاعة ، وهذا ينبت على الذكر وتلاوة القرآن ، والنفاق (قول الباطل وعمل البغي) وهذا ينبت على الغناء ، وأيضا فمن علامات النفاق قلة ذكر الله والكسل عند القيام إلى الصلاة ونقر الصلاة ، وقل أن تجد مفتونا بالغناء إلا وهذا وصفه ، وأيضا فإن النفاق مؤسس على الكذب والغناء من أكذب الشعر فإنه يحسن القبيح ويزينه ويأمر به ويقبح الحسن ويزهد فيه وذلك عين النفاق ، وأيضا فإن النفاق غش ومكر وخداع والغناء مؤسس على ذلك ، وأيضا فإن المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث يظن أنه يصلحه والمغني يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات ، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات ، قال الضحاك : الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب ، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده :ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن ، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم : أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب ، كما ينبت العشب على الماء) . وإذا شعر مستمع الغناء بطربٍ شديد فقد يتلبس به الجن في تلك الحال ، وأما ما يشعر به من نشوةٍ فإنها نشوةٌ مؤقتة سرعان ما تزول فيعقبها همٌ وحزَن يحاول إزالته بالاستماع مرةً أخرى ويكرر ذلك فيكون كمن يعالج الداء بالداء ، وهذا بخلاف من يستمع لكلام الله ويقرؤه فإنه يشعر براحةٍ وطمأنينة ، يقول الله تعالى : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) الزمر (23).
- النشيد والغناء بدون آلة : النشيد إما أن يكون كالحداء وهو معلوم عند العرب فهذا مباح ، وإما أن يصاحبه محرم كالمعازف فهذا حرام ، أو يتخذ عبادة وقربة فهذا بدعة .

أما الحداء فجائز ، قال ابن عبد البر : لا خلاف في إباحة الحُداء واستماعه ، ومن أوهم كلامه نقل خلافٍ فيه فهو شاذ أو مؤول على حالةٍ يخشى منها شيء غير لائق أ.هـ . وقال ابن قدامة : (وأما الحداء فلا بأس به في فعله واستماعه ، وكذلك نشيد الأعراب ، وسائر أنواع ال****د ما لم يخرج إلى حد الغناء) () .
4- أدلة جواز الحداء :
1- عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وُعك أبو بكر وبلال رضي الله عنهما ، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امريء مصبَّح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلعت عنه تغنى فقال :
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة * بوادٍ وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنَّة * وهل يبدون لي شامة وطفيل
اللهم اخز عتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من مكة . رواه أحمد (24576) بسند صحيح ، وهو في الصحيحين وغيرهما دون قوله (تغنى) ، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (2584)
2- قال السائب بن يزيد : بينا نحن مع عبد الرحمن بن عوف في طريق الحج ، ونحن نؤم مكة اعتزل عبد الرحمن t الطريق ، ثم قال لرباح بن المغترف : غنِّنا يا أبا حسان ، وكان يُحسن النَّصْب ، فبينا رباح يغنيهم أدركهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته ، فقال : ما هذا ؟ فقال عبد الرحمن : ما بأس بهذا ، نلهو به ونقصِّر عنا ، فقال عمر رضي الله عنه : فإن كنت آخذاً ، فعليك بشعر ضرار بن الخطاب ، وضرار رجل من بني محارب بن فهر . أخرجه البيهقي (10/224) بإسناد جيد ، وقال : (و(النصْب) ضرب من أغاني الأعراب ، وهو يشبه الحداء ، قاله أبو عبيد الهروي) . وفي القاموس : (نصب العرب : ضرب من مغانيها أرق من الحداء) .
3- وعن وهب بن كيسان قال : قال عبد الله بن الزبير –وكان متكئاً- : (تغنى بلال !) قال : فقال له رجل : (تغنى ؟!) ، فاستوى جالساً ، ثم قال : (وأي رجل من المهاجرين لم أسمعه يتغنى النصب ؟) () . قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس ص 237 – 241 : (وقد تكلم الناس في الغناء فأطالوا فمنهم من حرمه ومنهم من أباحه من غير كراهة ، ومنهم من كرهه مع الإباحة . وفصل الخطاب أن نقول : ينبغي أن ينظر في ماهية الشيء ، ثم يطلق عليه التحريم أو الكراهة أو غير ذلك ، والغناء يطلق على أشياء : منها غناء الحجيج في الطرقات ، فإن أقواماً من الأعاجم يقدمون للحج فينشدون في الطرقات أشعاراً يصفون فيها الكعبة وزمزم والمقام ... فسماع تلك الأشعار مباح ، وليس ****دهم إياها مما يطرب ، ويخرج عن الاعتدال . وفي معنى هؤلاء : الغزاة ، فإنهم ينشدون أشعاراً يحرضون بها على الغزو . وفي معنى هذا ****د المبارزين للقتال للأشعار تفاخراً عند النزال. وفي معنى أشعار الحداة في طريق مكة كقول قائلهم :
بشَّرها دليلها وقالا غداً ترين الطلح والجبالا
وهذا يحرك الإبل والآدمي ، إلا أن ذلك التحريك لا يوجب الطرب المخرج عن حد الاعتدال . وقد كان لرسول الله e حادٍ يقال له : (أنجشة) ، فتُعْنق الإبل () فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا أنجشة ! رويدك سوقاً بالقوارير) () ، وفي حديث سلمة بن الأكوع قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع : ألا تسمعنا من هنيَّاتك ؟ قال : وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدو بالقوم يقول :

اللهم لولا أنت ما اهتدينا **** ولا تصدقنا ولا صلينا

فاغفر فداء لـك ما اقتفينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من هذا السائق ؟ قالوا : عامر بن الأكوع ، فقال : يرحمه الله () .
وقد روينا عن الشافعي رحمه الله أنه قال ( أما استماع الحداء ونشيد الأعراب فلا بأس به ) انتهى ملخصاً . وقال الإمام الشاطبي (1/368) : (ومن ذلك أشعار يُنْشِدها المتزهدون بتطريب وتلحين تزعج القلوب إلى ذكر الآخرة ، ويسمونها (الزهديات) كقول بعضهم :
يا غادياً في غفلةٍِ ورائحـا إلى متى تستحسن القبائحا
وكم إلى كم لا تخاف موقفا يستنطق الله به الجوارحا
يا عجباً منك وأنت تبصر كيف تجنَّبت الطريق الواضحا
فهذا مباح ، وإلى مثله أشار أحمد في الإباحة .
ثم روى ابن الجوزي (ص240) بسنده عن أبي حامد الخُلْقاني أنه قال : قلت لأحمد بن حنبل : يا أبا عبد الله هذه القصائد الرِّقاق التي في ذكر الجنّة والنّار أيُّ شيءٍ تقول فيها ؟ فقال : مثل : أي شيءٍ ؟ قلت : يقولون :
إذا ما قـال لي ربي أما استحييت تعصيني
وتُخفي الذنب من خَلقي وبالعصيان تأتيني ؟!
فقال : أَعد عليّ ، فأعدت عليه ، فقام ودخل بيته ، وردّ الباب ، فسمعت نحيبَه من داخل البيت وهو يقول : (فذكر البيتين) . ثم ذكر الإمام الشاطبي قصة أخرى فيها شعر من هذا القبيل ، ثم قال : (1/370) : (وهذا وما أشبهه كان فعل القوم ، وهم مع ذلك لم يقتصروا في التنشيط للنفوس ، ولا الوعظ على مجرد الشعر ، بل وعظوا أنفسهم بكل موعظة ، ولا كانوا يستحضرون لذكر الأشعار المغنين ، إذ لم يكن ذلك من طلباتهم ، ولا كان عندهم من الغناء المستعمل في أزماننا شيء ، وإنما دخل في الإسلام بعدهم حين خالط العجم المسلمين )
5- شروط جواز الأناشيد :
إذا كانت مثل الحداء الذي كانت تعرفه العرب بحيث تكون بتطريب وترجيع يسيرين فلا بأس بها ، ويعرف ذلك بأن تتوفر فيها الشروط التالية :
1- عدم التشبه بالفساق في حركاتهم : فعن علقمة مولاة عائشة ، أن بنات أخي عائشة رضي الله عنها خفضن ، فألمن ذلك ، فقيل لعائشة : يا أم المؤمنين ألا ندعو لهن من يلهيهن ؟ قالت : بلى ، قالت : فأرسل إلى فلان المغني فأتاهم ، فمرت به عائشة رضي الله عنها في البيت فرأته يتغنى ويحرك رأسه طربا ، وكان ذا شعرٍ كثير ، فقالت عائشة رضي الله عنها : أف شيطان أخرجوه أخرجوه ، فأخرجوه . رواه البيهقي في السنن الكبرى (10/223 ، 224) ، والبخاري مختصراً في الأدب المفرد (1247) بسند حسن .
2- ألا تشتمل على محرم :
كأن تصحبها معازف ، أو دف لما فيه من التشبه بالنساء ، أو أن تحتوي كلماتها على محظور .
3 - ألا تكون بألحان تشبه ألحان وغناء الفساق : قال الشاطبي (رحمه الله) في الاعتصام (1/368) بعد أن أشار إلى حديث أنجشة وهو في صدد الرد على بعض الصوفيين : (وهذا حسن ، لكن العرب لم يكن لها من تحسين النغمات ما يجري مجرى ما الناس عليه اليوم ، بل كانوا ينشدون الشعر مطلقاً ، ومن غير أن يتعلموا هذه الترجيعات التي حدثت بعدهم ، بل كانوا يرققون الصوت ويُمَطِّطونه على وجه يليق بأمية العرب الذين لم يعرفوا صنائع الموسيقى ، فلم يكن فيه إلذاذ ولا إطراب يلهي ، وإنما كان لهم شيء من النشاط ، كما كان عبد الله بن رواحة يحدو بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كان الأنصار يقولون عند حفر الخندق :
نحن الذين بايعوا محمـداً على الجهاد ما حيينا أبدا
فيجيبهم صلى الله عليه وسلم بقوله :
اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
ثم قال الشاطبي : (فأما الأشعار التي ينشدها المغنون المتهيؤن للغناء ، يصفون فيها المستحسنات والخمر وغير ذلك مما يحرّك الطباع ويخرجها عن الاعتدال ، ويثير كامنها من حبِّ اللهو ، وهو الغناء المعروف في هذا الزمان ... وقد أخرجوا لهذه الأغاني ألحاناً مختلفة ، كلّها تُخرج سامعها عن حيّز الاعتدال ، وتثير حب الهوى ، ولهم شيء يسمونه (البسيط) يزعج القلوب عن مهل ، ثمّ يأتون بالنشيد بعده ، فيجعجع القلوب ، وقد أضافوا إلى ذلك ضرب القضيب والإيقاع به على وفق ال****د ، والدفّ بالجلاجل ، والشبابة النائبة عن الزمر) . وقال ابن الجوزي كما سبق : فسماع تلك الأشعار مباح ، وليس ****هم إياها مما يطرب ، ويخرج عن الاعتدال) .
4- عدم الإكثار منها أو اتخاذها مهنة وإنما تكون أحياناً للترويح عن النفس أو للتنشيط:
وقد ترجم البيهقي لبعض الأحاديث والآثار الواردة بقوله (باب الرجل لا ينسب نفسه إلى الغناء ، ولا يؤتى لذلك ، ولا يأتي عليه ، وإنما يعرف بأنه يطرب في الحال فيترنم فيها) . وقال النووي رحمه الله عند شرحه لحديث عائشة : (وقولها : ليستا بمغنيتين ، معناه : ليس الغناء عادة لهما ولا هما معروفتان به)
5- ألا تتخذ ديناً وقربة فتنشد في المساجد قبل الأذان مثلاً أو في المناسبات الدينية ، بنية التقرب بها أو باستماعها : لأنها تكون حينئذٍ بدعة ، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : (تركت بالعراق شيئاً يقال له التغبير أحدثتْه الزنادقة ، يصدّون الناس عن القرآن) . والتغبير : شعر يزهد في الدنيا ، يغني به مغنٍّ ، فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخدة على توقيع غنائه ، كما قاله ابن القيم وغيره . وسئل عنه الإمام أحمد ؟ فقال : (بدعة) ، وفي رواية : (فكرهه ، ونهى عن استماعه) وقال : (إذا رأيت إنساناً منهم في طريق فخذ في طريق أخرى) . وقال ابن تيمية رحمه الله 11/565 : (وقد عُرف بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي e لم يشرع لصالحي أمته وعبّادهم وزهّادهم أن يجتمعوا على استماع الأبيات الملحنة ، مع ضرب بالكفّ ، أو ضرب بالقضيب ، أو الدفّ ، كما لم يُبح لأحد أن يخرج عن متابعته واتباع ما جاء من الكتاب والحكمة ، لا في باطن الأمر ، ولا في ظاهره ، ولا لعامي ولا لخاصيٍّ) . وقال القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله : (وهذه الطائفة مخالفة لجماعة المسلمين ، لأنهم جعلوا الغناء ديناً وطاعة ، ورأت إعلانه في المساجد والجوامع ، وسائر البقاع الشريفة والمشاهد الكريمة) . وقال الطرطوشي رحمه الله : (مذهب الصوفية هذا بطالة وضلالة ، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله e ، وأما الرقص والتواجد ، فأول من أحدثه أصحاب السامريّ لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خُوار ، فأتوا يرقصون حوله ، ويتواجدون ، وهو – أي : الرقص – دين الكفار وعبّاد العجل ، وإنما كان مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار ، فينبغي للسلطان ونوّابه أن يمنعوهم من الحضور في المساجد وغيرها ، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ، ولا يُعينهم على باطلهم ، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم من أئمة المسلمين) . وقال القرطبي : (وأما ما ابتدعه الصوفية في ذلك ، فمن قبيل ما لا يُختلف في تحريمه ، لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممّن ينسب للخير ، حتى لقد ظهرت في كثير منهم فعلات المجانين والصبيان ، حتى رقصوا بحركات متطابقة ، وتقطيعات متلاحقة ، وانتهى التواقح بقوم إلى أن جعلوها من باب القُرَب وصالح الأعمال ، وأن ذلك يُثْمر سَنيَّ الأحوال ، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة ، وقول أهل المخرقة ، والله تعالى المستعان) وأما تسمية الأناشيد بالإسلامية فلا يجعلها بدعة إذا لم يكن المراد بها العبادة ، وإنما أريد بقولنا : إسلامية أي أنها : مباحة ، لتمييزها عن الأغاني المحرمة)

() (أي طالب حاجة)

() صحيح البخاري مع فتح الباري 10/53 .

() فهو صحيح ، وانظر كلام ابن تيمية في الاستقامة (1/294) .
وقد جازف ابن حزم –رحمه الله- فضعف الحديث بحجة أنه معلق ، والمعلق من أنواع المنقطع .
والرد عليه من وجوه :
أحدها : أنه وإن كانت صورته صورة التعليق لكن هذا ليس منها ، لأن البخاري قد لقي هشام بن عمار وسمع منه ، فإذا قال : قال هشام فهو بمنزلة قوله عن ، وانظر كلام ابن الصلاح في مقدمة علوم الحديث ص42 .
الثاني : أنه لو لم يسمع منه فهو لم يستجز الجزم به عنه إلا وقد صح عنه أنه حدث به ، وهذا كثيرا ما يكون لكثرة من رواه عنه عن ذلك الشيخ وشهرته ، فالبخاري أبعد خلق الله من التدليس .
الثالث : أنه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجا به ، فلولا صحته عنده لما فعل ذلك
الرابع : أنه علقه بصيغة الجزم دون صيغة التمريض ، فإنه إذا توقف في الحديث أو لم يكن على شرطه يقول : ويروى عن رسول الله ويذكر عنه ونحو ذلك ، فإذا قال : قال رسول الله فقد جزم ، وقطع بإضافته إليه .
الخامس : على فرض أنه منقطع عند البخاري فقد وصله آخرون بأسانيد صحيحة ، فقد وصله ابن حبان في صحيحه (6719) والطبراني في معجمه الكبير (3417) وغيرهم ، ثم إنه لم ينفرد به هو وشيخه (صدقة بن خالد) فقد توبعا . وانظر : إغاثة اللهفان 1/ 260 ، وتحريم آلات الطرب ص39 .

() في مسنده (كما في كشف الأستار 795) وقال : لا نعلمه عن أنس إلا بهذا الإسناد . وقال المنذري وتبعه الهيثمي : رجاله ثقات ، لكن شبيب بن بشر مختلف فيه أ.هـ ولكن شبيب بن بشر لم ينفرد به فقد توبع ،تابعه عيسى بن طهمان عن أنس رواه ابن السماك في (الأول من حديثه –مخطوط- وانظر : تحريم آلات الطرب للألباني رحمه الله ص 52) . وله أيضاً شاهد عن عبد الرحمن بن عوف رواه الحاكم (4/40) والبيهقي (4/69) ، ورواه الترمذي عن جابر مختصراً (رقم 1005) وقال : (حديث حسن) ، وأقره الزيلعي في نصب الراية (4/84) وابن القيم في الإغاثة (1/254) .

() رواه أبو داود (3696) وأحمد في المسند (2476) ، والطبراني في الكبير (12598 ، 12599) ، ورواه أيضاً عن ابن عباس من طريقٍ آخر بدون الزيادة : أحمد (2665) والطبراني (12601) والبيهقي (10/213 – 221) وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند في الموضعين (4/158 ، 218).

() أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1265) وابن أبي شيبة 06/310) وابن جرير في التفسير (21/40) والبيهقي في السنن (10/221 ، 223) من طرق عنه .

() رواه ابن أبي شيبة وابن جرير والحاكم (2/411) وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وصححه ابن القيم

() الفتاوى 11/567 .

() عون المعبود 4/435 .

() ومما يدل على جواز الضرب بالدف في النكاح للنساء ، حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت : جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل حين بني علي ، فجلس على فراشي كمجلسك مني ، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف الحديث رواه البخاري (4852) ، وعن محمد بن حاطب الجمحي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت . رواه الترمذي (1088) وقال : حديث حسن ، ورواه أيضاً : النسائي (3369) وابن ماجة (1896) وأحمد (15489 ، 18305) وزادوا : في النكاح . وهناك أحاديث أخرى ، وانظر الإرواء ، الحديث رقم (1995) .

() المغني 12/47 بتصرف يسير .

() رواه عبد الرزاق مختصراً (19741) ، والبيهقي (10/230) والسياق له ، وإسناده صحيح على شرط الشيخين .

() أي : تسرع .

() أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أنس .

() متفق عليه .
1
296

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

شيماء علاء الدين
بارك الله فيك وهدانا الله من ذلك الشئ امين نحن وشباب المؤمنين