فجأة ارتفع صوت المضيف في ارتجاف
نرجو من جميع الركاب عدم التحرك من أماكنهم حفاظاً على سلامة أرواحهم وسلامة الطائرة!
ماذا .. ماذا .. ماذا حدث؟
تساءل الركاب .. نَظَرتِ الوجوه إلى بعضها في هلع .. انتشر الهمس بين المقاعد في في الطائرة انتشار النار في الحشائش اليابسة!!
يعود الصوت مرة أخرى:
لقد غيرت الطائرة اتجاهها لظروف قاسية قاهرة !!
يستمر الصوت...
الطائرة الآن تسير بأوامر خارجة عن إرادة القيادة .. أوامر صارمة .. أحد الرُّكاب احتلها .. هناك مشاورات تجري بين الراكب الخاطف وقائد الطائرة!!
زاغت العيون .. انتحرت الابتسامات على الشفاه الراعشة .. كل الوجوه صارت زرقاء .. صفراء .. الأيدي تشبثت ببعضها بعنف .. امرأة أُغمي عليها حين سمعت الخبر فسط وليدها الذي رفع عقيرته بالصراخ .. وامتدت إليه يد أبيه لتحتضنه في حنان خائف !!
كان الجو لاهباً .. تحوّل جوف الطائرة إلى فرن أو منجم .. أصبح الركاب عمالآً في هذا الفرن أو المنجم بالإكراه!!
ــ ماذا يحدث برب السماء ؟؟
ــ سألني جاري .. في المقعد وهو يمسح وجهه بمنديله, فلم أرد عليه .. كانت الدهشة تعقل لساني في حزم .. ومحاولة مني في إظهار رباطة جأشي !!
انتبهوا...
عاد الصوت مرة ثالثة ...
خاطف الطائرة يطالب بمبلغ نصف مليون دولار لقاء إفراجه عن الطائرة !!
وضع كل راكب يده في جيبه عفوياً كأنه يودّ أن يدفع هذا المبلغ لتسلم الطائرة فينجو بروحه.
ــ أصحيح ما يجري؟
ــ سألني جاري مرة ثانية:
ــ وماذا يجري؟ ..
ــ قلت له:
ــ ماذا يجري. ألا تحس؟ ألا تسمع؟ ألا تخاف ؟؟
ــ قلت لجاري : ليس المهم ما يجري .. وفي أعماقي بركان من الفزع!!
ــ قال : وما المهم إذن ؟؟
ــ قلت: ما سيكون؟
ــ قال: وماذا سيكون؟
سألني وهو يمسك بربطة عنقي فأحسست بالاختناق.
ــ صحت فيه: هدِّئ من روعك ياصديقي .. أتخاف مما سيكون ؟ .. قلت له ذلك وأنا أسحب يده !!
ــ قال: ولم لا أخاف .. ألستُ شاباً .. من حقي أن أعيش .. أن أتذوق حلاوة الشباب .. إنها تنتظرني بالمطار .. ستموت لو لم تصل الطائرة في موعدها !!
ــ قلت : من هي؟
ــ قال: إنسانة رائعة!!
ــ قلت: أتحبها ؟!
ــ قال في استغراب غاضب: ماذا؟ أأحبها؟ ثم ضحك في سخرية!!
ــ قلت له: أنت لم تجب على سؤالي؟
نظر إلىَّ وقال : أنت إنسان غريب .. أيوجد أحد يسأل مثل هذا السؤال؟
ــ قلت له : وهل يكون الإنسان غريباً حين يسأل سؤالاً معقولاً .. أو يطلب شيئاً عادياً؟
ــ قال: أحياناً يحس المحب أنه عاجز عن أن يقول شيئاً .. وهذا في رأيي روعة الحب .. إنه يغدو كالأشياء الغالية لديه .. تختزن أسرارها في رأيي روعة الحب .. إنه يغدو كالأشياءالغالية لديه .. تختزن أسرارها في القلب!!
ــ قلت له : أنت رومانسي .. وتجنح في اعتداد من الخيال!!
ــ قال: نحن بحاجة إلى الخيال لنخفف من وطأة الحياة وقسوة المعيشة .. ومفاجآتها!!
ــ قلت له : ومن الخيال ما قتل يا عزيزي !!
ــ قال : دعنا من الواقعية .. أنا أحب أن أحلم .. الحلم أروع ما في الوجود والحدث الذي أعيشه الآن في الطائرة يحرمني من أي حلم!!
ــ قلت له : أهي أمك التي تنتظرك في المطار؟ ..
كنت أعرف أن هذا السؤال سيثيره من ناحية .. ويطيل الحديث بيني وبينه لنقضي على لحظات الرعب ومسافة الخوف .. أغمض عينيه وتنهد في ألم .. ثم أجاب بصوت حزين:
ــ لقد ماتت أمي .. كما مات أبي .. أصبحت هي أمي وأبي .. هي حبيبتي وأهلي .. بل أصبحت هي وطني . ألا تحب يا عزيزي؟
كان سؤاله مفاجأة لي مما جعل لساني يتعثر في الإجابة ..
وأحسست أن يداً حديدية تعصرني من الداخل .. شيئاً يمزق أعماقي !!
ــ لِمَ لا تجيب ؟ سألني .. لماذا تغير لون وجهك ؟ انت تحب بلا شك .. أهي جميلة كمن أحبها .. أهي تحبك .. حدثني , حدثني .. إن صمتك يفزعني .. حديث الحب يبعث على الإطمئنلن في مواقف الخوف .. يجب أن نحب .. ليس لنا من مكسب غير الحب في هذه الحياة .. كل شئ يموت .. الذين يحبون يعيشون طويلاً .. الذين أحبوا ظلوا في مرحلة الشباب .. ما زالت ذكراهم تعطّر أجواء العشق والحب .. ما زالت آهاتهم تضطرب في أعماق كل من يحب!!
ــ قلت له : كفى .. كفى ..
ــ قال: أنت خائف .. إذن أنت تحب .. أنت تحب .. انت تحب .. الذين يحبون هم الذين يخافون ... الإنسان لا يخاف إلا حين يوجد لديه ما يخاف عليه ... شئ مهم .. الذين يحبون لديهم أروع ما يخافون عليه !!
ثم صمت .. .. لا أدري كم من الوقت استغرق صمته ... وعاد من جديد بأسئلته:
ــ أأنت رجل أعمال؟ سألني فهززت رأسي بالنفي ..
ــ أأنت طالب؟
ــ أجبت أيضاً : لا, بهزة من رأسي.
ــ أسائح؟
ــ لا ..
ــ إذن من أنت .. ومن تكون؟
ــ قلت له : لا أدري .... لاأدري ..... قلتها كمن يريد أن يهرب من شئ لا يريده ..
ــ قال لي أنت إنسان غريب!!
ــ قلت له: كلهم يقولون ذلك!!
ــ قال ومن هم؟
ــ قلت: أصدقائي!!
عدنا مرة ثانية للخوف .. والخطف والصمت .. والهلع مسح جاري جبهته بمنديله مرة أخرى .. كان العرق يتصبب من وجهه من الخوف .. ثم سألني:
ــ أأنت عربي؟
ــ قلت له نعم.
هز جاري رأسه وابتسم في خبث ثم صمت .. ! ابتعد عني قليلاً وهو ينظر إلىّ بعينين مذعورتين !!
ــ قلت له : واماذا تسألني عن جنسيتي؟
ــ قال: لأننا سنعود للخطف والخاطفين.
ــ قلت له: ماذا تقصد؟
ــ قال ألا يمكن أن يكون الخاطف عربياً؟ .
ــ قلت له: لا يمكن أن يكون عربياً!!
ــ قال: وكيف عرفت ذلك ؟
ــ قلت : من كلام مضيف الطائرة .. ألم يقل إن الخاطف يطالب بمبلغ نصف مليون دولار لقاء إفراجه عن الطائرة؟
ــ قال نعم ؟
ــ قلت: وهل حصل أن اختطف عربي طائرة من أجل الدولارات؟
ــ قال: لا أذكر؟
ــ قلت له: بل تأكد من ذلك .. فلا يمكن أن يقوم عربي بعمل كهذا .. العرب لهم قضية أكبر من ملايين الدنيا وأسمى من كل البلايين!!
ــ قال : أليست هناك طريقة أخرى لإيصال صوت قضيتكم؟
ــ قلت له هناك اكثر من طريقة .. وكلامي هذا لا يعني تأييد عمليات الخطف .. والعرب في حالة حرب مع إسرائيل , وهذه الحالة تعطيهم الحق في استعمال كل وسائل الحرب المادية والمعنوية .. مثلما ان لك الحق أن تعيش .. وأن تحب .. وأن تنتظرك حبيبتك بالمطار .. إنها ستموت لو لم تصل الطائرة في موعدها .. ألم تقل ذلك بنفسك؟
أحسست باهتزاز الطائرة وهي تضع عجلاتها على أرض المطار ..
فصحوت من نومي !! .
هذه القصة للكاتب: علوي طه الصافي.
أنستاسيا @anstasya
عضوة جديدة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️