رحلتي مع الجمال
منذ أن كنت في الخامسة وأنا لا أحب أبداً النظر إلى المرآة مثل بقية الأطفال . .
كنت أعلم جيداً بغريزتي الطفولية . . أن شكلي لم يكن جذاباً بأية حال . .
لكن علاقتي بالمرآة بدأت تزداد نفوراً أكثر فأكثر حين دخلت المرحلة المتوسطة . .
وذات مرة حين تشاجرت مع موضي ابنة المديرة . . قالت لي بكل احتقار :
"اسكتي . . أيتها القبيحة!"
كنت دائماً الفتاة الأقوى شخصية والأكثر دخولاً في المشاجرات.. وكان لساني مسموماً كما تقول أمي.. لكني يومها صدمت بالحقيقة التي صفعتني بها موضي.. وسكت لوهلة والدموع تغرق عيني.. ثم انهلت عليها ضرباً حتى لا يلاحظ أحد دموعي..
نظرت إلي المشرفة الاجتماعية بحدة.. كنت أعلم أنها تكرهني تماماً كما أكرهها.. لكني شعرت بالظلم يومها.. لأني كنت أعلم أنها لن تسمع كلامي.. ولن تفهمه أبداً..
كنت أعلم أنها تنفر مني بسبب شكلي.. لكني أبديت الجمود التام..
كانت تنظر لي بكل احتقار.. ثم صرخت في وجهي: (ألن تتأدبي يا بنت..؟ ألم يؤدبك أهلك ويربوك؟)
سكتُّ وأنا أنظر إلى الأرض..
التفتت نحو إحدى الإداريات بقربها ثم قالت هامسة بصوت خفيض جداً: (استغفر الله.. سوء خُلق وخلق!) .. لكني سمعتها.. ونزلت كلمتها كالسهم القاتل في قلبي.. لكني سكتُّ أيضاً..
انتهى اليوم بضربي بشدة بالمسطرة على يدي.. ثم قرار بفصلي لمدة أسبوع..
وحين عدت إلى البيت.. دخلت إلى غرفتي بهدوء.. وأقفلت الباب..
ثم نظرت جيداً إلى المرآة..
وجه أصفر، نحيف وطويل.. عينان جاحظتان.. أنف مقوس طويل.. فك بارز وأسنان متداخلة.. شعر خشن باهت ومنفوش بعد شجار اليوم..
والجسم.. هزيل ونحيف جداً بالنسبة لحجم الرأس الكبير..
مررت يدي على شعري.. ثم وجهي.. تلمست صدري الذي تبرز عظامه..
لم أجد علامة واحدة للجمال أو الأنوثة..
شعرت بعطف كبير على نفسي.. ولأول مرة أخذت أبكي بحرقة..
كنت أعلم أني لست على أي قدر من الجمال.. لكني لم أكن مستعدة لتحمل المزيد من الإهانات في حياتي بسبب ذلك..
ترى.. أهو ذنبي حتى أظلم بهذا الشكل.. أهو ذنبي حتى ينفر مني البعض فقط بسبب شكلي..
هذا ما جعلني أحقد على العالم أجمع.. حتى أمي التي لم أسلم من تعليقاتها يوماً..
(شين وقوي عين!) هذا ما تقوله أمي دائماً حين أصر على شيء.. موضي لم تكن لتستطيع إهانتي بأي شكل.. إلا بسبب شكلي.. إنها نقطة ضعفي التي يمسكني منها الآخرون دائماً..
مرت مرحلة المتوسطة مليئة بالمشاحنات والحقد على الجميع حتى أصبحت منبوذة.. كنت كالقطة المتوحشة المستعدة لمهاجمة كل من يحاول مسها بأذى أو حتى يقترب منها.. كنت أحاول إخفاء الطفلة الحزينة في داخلي بالظهور بمظهر القوية الجامدة التي لا تهتم ولا تأبه بما يقوله الآخرون عنها..
وحين وصلت للمرحلة الثانوية.. بدأت أشعر أني تعبت من ارتداء القناع.. وأني لم أعد قادرة على التمثيل أكثر من ذلك.. كان دور القوية صعباً ومتعباً ومؤلماً جداً.. ولم أكن قادرة على تقمصه بعد ذلك..
ولسببٍ ما لا أعرفه.. بدأت أشعر بالانكسار.. والهدوء.. ثم الانعزال..
كنت أجلس في آخر الصف.. بالكاد أعرف أحداً من زميلات الفصل.. وبالكاد تعرفني إحداهن..
متجنبة أن أسبب أي أذى لأحد.. أو أن أتعرض أنا بدوري لأذى من أي شخص..
في تلك الفترة.. بدأت أهتم بالقراءة.. لأقضي بها الوقت الطويل الذي أمضيه وحدي.. سواء في البيت أو المدرسة.. وبهذا أجد بعض السلوى عن انعزالي عن الناس..
ولعدم وجود من يوجهني لما أقرأ.. وجدت نفسي أغرق في قراءة دواوين الشعر.. وبالذات شعر الغزل.. أصبحت أفكر طوال الوقت بهذه الأبيات وبالرومانسية الحالمة التي تسبح فيها.. حتى لم أعد أفكر بشيء سواها.. غرقت في تخيلات حالمة جميلة حول قصص الحب.. واقتنعت أنه الهدف الوحيد للحياة في هذا العالم.
وكنت كلما غرقت في هذا التفكير أكثر، كلما شعرت بالأسى والحزن أكثر فأكثر على نفسي، وشعرت أني إنسانة ناقصة غير قادرة على تبادل الحب كغيري، وبالتالي غير قادرة على تحقيق هدف الحياة..
جلب لي هذا التفكير إهمال كل ما حولي حتى تردى مستواي الدراسي.. وانقطعت علاقتي بشكل أكبر مع أسرتي.. أصبحت دائمة السرحان وحين كنت أجلس وحدي كنت أبكي دون سبب..
حتى صحتي بدأت تتأثر أيضاً فكثرت أمراضي وساءت تغذيتي فازداد وجهي نحولاً وشحوباً.. مما زاد اكتئابي أكثر فأكثر..
وذات مرة.. أصرت أمي أن أذهب معها إلى حفل زواج.. كنت أرفض المبدأ تماماً.. وهي تعلم أني لم أحضر أي حفل زواج منذ كنت في الصف السادس لأني لست بحاجة لمزيد من نظرات الاستغراب أو همسات الشفقة..
لكنها – ولأول مرة- أصرت بشدة وأقسمت عليّ.. ربما لأنها كانت تريد أن تخرجني من حالة الانطواء والحزن التي كانت تثير شفقة كل أسرتي عليّ..
شعرت أني في مأزق.. لكني أجبرت نفسي على ارتداء فستان قديم بدا واسعاً عليّ.. حاولت وضع بعض المكياج لكني لم أعرف كيف.. وحين جربت وضع ظل أزرق بدوت كمهرج مضحك.. غسلت وجهي ومعه دموعي.. ثم ذهبت للحفل كما أنا.. وبقيت صامتة طوال الوقت أجاهد دموعي حين أرى البعض يتهامس وينظر إليّ..
في أحد الأيام.. طلبتني أبله هدى،مدرسة التاريخ، هذه الإنسانة أحبها لا أعرف لماذا.. تبدو كشخص يفهم ماذا تعني المشاعر.. واستغربت حين علمت أنها تريدني أن أشاركهم في أنشطة المصلى.. أنا؟.. المصلى؟
كانت تريد مني أن أساعدها في إعداد النشرات وترتيب المكتبة وتجهيز اللوح وغيرها.. لوهلة.. فرحت..
ثم فكرت.. ربما كانت مشفقة.. فقد رأتني أكثر من مرة أجلس لوحدي في الفسحة.. لكن.. حسناً.. لا بأس.. لأجرب..
وبدأت التجربة.. وهناك.. اكتشفت أشياء كثيرة.. اكتشفت أن هناك أشياء كثيرة في الحياة أهم من الحب المادي البسيط الذي نجمع في بوتقته كل معاني الحياة.. هناك الحب الأعظم.. حب الحليم الرحيم.. الله.. الذي خلقني ووهبني النعم الكثيرة.. وهبني العقل والسمع والبصر وسخر لي السماء والأرض وكل شيء..
الله الذي اختارني من بين الملايين لأكون مسلمة.. جعلني أسير.. وأتكلم وأسمع وأفهم.. منحني آلاف الآلاف من النعم العظيمة.. واختارني للابتلاء حتى يمحو ذنبي.. نعم.. حين خلقني بجمال بسيط كان يريد ابتلائي فهل أصبر أم سأكون من الكافرين بنعمه..
يا الله.. يا مولاي وسيدي.. أحمدك.. كم أحبك يا الله.. منحتني هذه الحياة.. فيئست منها وكأني أتذمر من هذه الهبة العظيمة.. أمضيت وقتي في الحزن والتذمر ولم أفكر في التوجه إليك سبحانك..
وبدأت أذوق طعم السعادة التي لم أذقها في حياتي.. وشعرت بالرضا عن نفسي.. بل بدأت أحبها وأحترمها.. وشيئاً فشيئاً بدأت ثقتي بنفسي تزداد حتى استطعت أن ألقي كلمة على الطالبات في المصلى عدة مرات.. كنت أشعر أنهن لا ينظرن إلى أسناني أو عينيَّ الجاحظتين بقدر ما ينظرن إلى الكلمات التي تخرج من قلبي..
أصبح جدولي مليئاً بالأنشطة.. وأصبحت أواظب على حفظ أجزاء من القرآن مع جماعة المصلى.. أصبح لدي صديقات يضحكن ويمزحن معي دون أن أشعر بأي نقص عنهن.. لأن ما يجمع بيننا لم يكن علاقة دنيوية بسيطة تعتمد على المادة والمظهر والشكل.. العلاقة بيننا كانت أسمى من ذلك.. كانت علاقة أرواح.. علاقة حب في الله.. حبٌ لأجل الروح التي حلقت وسمت في فضاء الحمد والشكر لله..
أصبحت أنظر لكل شيء بحب وجمال، حتى انعكس ذلك على حديثي وملابسي واهتمامي بنفسي التي أصبحت أحبها..
وذات مرة طلبت مني والدتي مرافقتها لحفل زواج.. كدت أرفض في البداية لكني براً بها وحباً لها أجبتها.. يومها.. اخترت فستاناً بلون السماء يظهر من أطرافه الدانتيل الأبيض.. وارتديت طقماً لؤلؤياً ناعماً.. سرحت شعري القصير بعناية.. فقد أصبحت أحبه وأعتني به برفق.. حولت خشونته لتموج جميل مع استخدام كريم للشعر.. ثم وضعت شريطاً حريرياً أبيض تتدلى أطرافه على كتفي.. وضعت شيئاً من كريم الأساس تحت عيني الجاحظتين.. ولأول مرة أشعر بجمالها وأنتبه لطول رموشي السوداء..
أمسكت بأحمر الشفاه وأنا مترددة.. كان فاتحاً وخفيفاً.. وبلون الورد.. وضعت شيئاً منه بخفة.. ثم وضعت تحت أذني زيتاً عطرياً برائحة الفل..
وشعرت بنفسي لأول مرة.. كفتاة.. نظرت جيداً في المرآة.. يا إلهي.. لا أصدق.. إنها أنا!
كان وجهي قد تغير وأصبح أكثر إشراقاً وعيني أكثر لمعاناً..
ماذا حصل يا ترى.. كنت أعلم أنه لم يكن الفستان.. ولا المكياج.. ولا رائحة الفل..
لقد كانت السعادة التي حين تنبع من روح الإنسان.. فإنها تنعكس جمالاً على وجهه ومن عينيه..
وفي الحفل.. كنت أسير مع أمي بثقة وسعادة.. واستطعت لأول مرة أن أشاهد الآخرين بمنظار الحب لا منظار الحقد والكره.. فلم أر أي نظرة شفقة أو سخرية.. فهذا كله لم يكن سوى في مخيلتي المريضة..
لقد عرفت أخيراً كيف تكون الفتاة جميلة حين تريد..
حين تعرف.. أين يكمن الجمال..
منقول ولاتنسوني من دعائكم غالياتي
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
ضي الاريج
•
جزاك الله خير ووفقك الله
ضي الاريج ام الجود بربل فلاور شكرا لكم حبيباتي اسعدني مروركم :26:
ميرال قديم بس مفيد << وشكرا لتعليقك الرائع :26:
ميرال قديم بس مفيد << وشكرا لتعليقك الرائع :26:
الصفحة الأخيرة