كيف تواجهين عالم من الأسئلة الحرجة جداً!
فجأة، ودون سابق إنذار يدخل الطفل صاحب الأربع سنوات إلى غرفة الجلوس، ويكون الجالس فيها الأم الحامل التي تنتظر مولوداً جديداً بعد أسابيع قليلة ومعها عدد من الأقارب الذين يتحدثون عن المولود الجديد. ويضع الطفل يديه في وسطه وكأنه سيوجّه اتهاماً إلى الأم ويسألها بصوت مرتفع:
ـ مَن قال لك أن تنجبي طفلاً غيري؟ ثم لماذا لم تقولي لي كيف ينجب الرجال والنساء الأطفال؟ قولي لي كيف تنجبين الأطفال ولماذا تخبئينهم داخل بطنك؟
ولابد للابن أو البنت عند طرح هذا السؤال ((الناضج)) أن يجدانا نتقبل هذا السؤال بشكل ناضج، ودون أن تمرّ الوجوه بالخجل. إن من واجب الأم في هذه الحالة أن تتحدث إلى الطفل وكأنه شخص مهم جداً وأن تقول له: إنني أريد أن أجيب عن سؤالك الهام في وقت آخر عندما نكون بمفردنا ودون حضور أحد.
وعندما تعاملين الطفل بهذا القدر الهائل من التقدير فهو يتصرف طبقاً للإشارة العاطفية التي خرجت من قبلك وصاحبت لهجتك وأنت تتكلمين معه. ولا تنسي أبداً أن تقولي للطفل الحقيقة المجردة، والتي يمكن تلخيصها في أن الله عندما خلق الكون وضع بذور كلّ الأطفال نصفها في ظهور الرجل ونصفها في بطون المرأة. وكل نصف يسعى إلى لقاء النصف الآخر بعد أن يصبح الرجل قادراً على العمل وتصبح المرأة قادرة على إدارة الحياة، وتنمو البذرة بعد أن تجد نصفها في بطن المرأة إلى أن تلد.
وقد يكون سلوك الأب تجاه الأم مجافياً للشعور العام. إن لنا أن نعرف أن الطفل إنما يأخذ فكرته عن نفسه وعن الجنس الآخر من التعامل اليومي بين الأب والأم. فإن كان الوالد كثير المعارك مع الأم أو كان يفتعل دائماً تحقير رأيها، فإن الابن يعتبر أن ذلك ((الاحتقار)) هو أسلوب التعامل العاطفي مع المرأة. والبنت التي ترى أن أمها كثيرة التعالي على الأب وأنها تسيء معاملته يستقر في سلوكها أن التعامل مع الرجل مفتاحه التعالي وإساءة المعاملة.
وعندما يصرخ الأب قائلاً إنه يتعب كثيراً وأنه لا ينال أي شيء مقابل تعبه وإنه مظلوم، فإن هذا الصراخ ينقلب في ذهن الطفل إلى أن الرجل هو ضحية المرأة، وأنه من الأفضل جداً عدم الزواج حتى يستمتع الإنسان بناتج عمله.
وعندما تصرخ الأم بالقول إن الرجل هو الكائن المستمتع الوحيد بالحياة، وهو المستغل لكل جهد المرأة، وإن المرأة هي التي تتعب وترهق نفسها وتعيش أسيرة للرجل فإن هذا اللون من الصراخ ينقلب في وجدان الفتاة الصغيرة إلى كراهية للرجل وإلى عدم تقدير له، ولذلك نجدها تتهرّب من الزواج عندما تكبر.
والأسرة التي تفضّل الولد على البنت تقع في سلسلة هائلة من الأخطاء. إن الرجل لم يفضّل على المرأة إلا بأن يتحمل المزيد من الكد والكدح والتعب لتوفير وسائل الحياة للمرأة. إنه تفضيل لا يعني عبودية المرأة للرجل ولكن ضرورة السعي الجاد لتكون المرأة سيدة في مجالات يرهق الرجال أنفسهم بدراساتها ولا يستطيعون إتقانها كما قد تتقنها أبسط امرأة غير متعلمة. ومثال ذلك توفير حنان الأم للوليد.
إن الرجل والمرأة مطالبان بإعادة تربية نفسيهما ليكون كل منهما مثالاً قابلاً للتجديد من ابنه أو ابنته. وليس معنى ذلك أنني أطالب الأب أو الأم أن يرهقا نفسيهما بالتمثيل وادعاء الحكمة ولكني أطالبهما بأن يعرفا أن حبهما للطفل يمكن أن يقودهما إلى تغيير في السلوك يتيح للطفل أن ينمو نمواً متوازناً.
وهذا النمو المتوازن نجده في الابن الثاني للأسرة أكثر مما نراه في ابنها البكر. فتربية الابن البكر كالجامعة التي دخلها الأب لينال الدراسات العليا في تربية الأطفال. لقد عانى هذا الطفل تحملاً غير عادي، وهبها الله لكل مخلوق: عانى من الاهتمام المبالغ فيه، ومن تجمع الكبار حوله منذ أن بلغ الشهر السادس ليعاملوه وكأنه أعجوبة الزمان، وعانى من محاولات تعليمه أن يكون إنساناً له أخلاق الملاك. فقد طلب منه والده أو والدته ـ على سبيل المثال ـ في إحدى المرات أن يشارك الأطفال الغرباء في اللعب بألعابه بالرغم من أن خيال الطفل يزدحم بصورة واحدة وهي أن الكبار سوف يساعدون هذا الطفل الغريب لكي يأخذ كل لعبه وكل أشيائه. وعلَّم الطفل الأول أباه وأمه أن العنف في محاولة تعليمه التبرز والتبول لا يأتي بنتيجة وأنه من المهم أن يقولا له إن الإنسان عندما يخرج هذه البقايا فإنه لن يصبح فارغاً بل سيطرد الأشياء الرديئة من بطنه ليفسح المجال للأطعمة المناسبة التي تساعده على أن يكبر. وعلّم الطفلُ الأول كلاً من أبيه وأمه أن يصمتا قليلاً حتى يبدأهم هو بالكلام، ذلك أن الهجوم الدائم على الابن بالكلام يجعله يعدل عن أن يبدأ الآخرين بالكلام أو التحية. علمهم الطفل الأول أيضاً أنه ليس تلك الدمية التي يعرضونها بفخر زائد أمام الغرباء، ذلك أنه قد امتنع عن بعض الأحيان عن الظهور أمام الضيوف.
وعلى ذلك يأتي الطفل الثاني وكل من الأب والأم قد تدرب جيداً على التعامل مع الطفل بتوازن واعتدال. ولكن على الأب والأم أن يتعلما كيفية الحديث عن الضيف القادم إلى الأسرة، وهو الابن الوليد ... إن على الأب والأم أن يخبرا الطفل الأول أنه صاحب الفضل في حبهما للأطفال وأنه لولا حسن معاملته لهما ولباقته ورقته وقدرته على التفاهم لما فكرا في إنجاب طفل جديد. ولابد من إعطاء الطفل الأول قدراً من المشاركة في الإعداد لاستقبال الطفل الثاني، كأن يشترك معهما في اختيار ملابس الطفل الوليد وإعداد مكان استقباله. كما يفضل من الناحية النفسية ألا يشهد الطفل الأول أمه أثناء الوضع، ويستحسن أن تذهب الأم إلى المستشفى للولادة أو أن يذهب الطفل عند أصدقاء للأسرة يحب البقاء معهم لساعات. وعندما يعود الطفل الأول إلى المنزل عليه أن يحس أن مكانته لم تهتز وإن كان هناك طفل جديد في البيت.
ويمكن للأم أن تشرك الابن الكبير في إعداد ملابس الطفل الوليد وأن يراها وهي تعد له الرضعة، وأن يساعدها في ترتيب سرير الوليد. إن ذلك كله يخفف من مخاوف الطفل الأول على مكانته عند الأب والأم.
ويمكن أن يكون ميلاد الطفل الجديد بداية لتعليم الطفل الأكبر كيفية اتخاذ بعض القرارات الصغيرة لنفسه، كأن يختار لعبه، أو أن يتعلم كيف يعقد رباط الحذاء، وأن يتعلم أن الأب والأم صارا أقل سيطرة عليه، وأن يقوم وحده بتربية نبات أو ترتيب مكتبته الصغيرة.
ومن المهم تماماً أن نُعلم الطفل الأول أنه لن يأخذ أحد مكانته، لذلك فعلى الأب عندما يدخل المنزل وهو عائد من العمل أن يسأل عن الطفل الكبير أولاً، ثم يسأل عن الطفل الوليد.
إن الابن الأكبر يحتاج في الشهور الأولى من ميلاد الطفل الثاني إلى مَن يطمئنه على مكانته ومَن يعزز استقلاله في الوقت نفسه. ومن المفيد أن يصحب الأب ابنه الأول في بعض النزهات الخاصة إلى الأماكن التي يجد فيها جماعات من الأطفال. إن أندية الأطفال موجودة في كل البلاد، وغالباً ما نجد فيها مشرفين وقيمين على درجة عالية من الكفاءة.
إن الأنانية وحب الذات ومقاومة الطفل الجديد القادم أمور طبيعية للغاية في أعماق الطفل الأول. إنه يدافع عن مكانته. ولعل الخروج بصحبة الأب مرات متكررة خلال الأسبوع لشراء الأشياء الضرورية للأسرة يعوضه قليلاً عن فقدان عرشه الذي كان يجلس عليه وهو صدر الأم. كما أن خروجه إلى أندية الأطفال أو للحضانة لساعات قليلة في اليوم الواحد يتيح له أن يرى نفسه مجرد فرد واحد ضمن مجموع الأطفال، وذلك عندما يشاركهم في مباريات وألعاب وتقوم بينهم معارك وتنشأ خلافات ويلجأ إلى المشرفة على الحضانة ويعود مرة أخرى إلى المنزل ليجد نفسه أيضاً عضواً في جماعة وليس إمبراطوراً متوجاً يطلب من الجميع الرضوخ له.
إن حاجة الطفل منذ عامه الثالث للخروج من المنزل احتياج أساسي ليزول عنه لونان من الوهم الذي صنعه الكبار: الوهم الأول أنه إمبراطور متوج على عرش كل القلوب، والوهم الثاني أن يرى المجتمع الكبير في نطاق آخر غير نطاق الأسرة.
وحتى في حالة الطفل الوحيد يجب على الأب والأم أن يذهبا إلى الحضانة منذ بلوغه سن الثالثة حتى يعرف أن هناك مجتمعاً من الأطفال. إن الطفل لا يذهب إلى الحضانة حتى يتعلم القراءة أو الكتابة. إنه يذهب ليلعب ولينمو وليتمم تدريبه على عدم الالتصاق الشديد بالأم أو الأب.
قد يقال إن الحضانة مكان ضيق ويمكن أن يصاب الطفل فيه بالزكام أو بالأمراض المعدية: ونحن نقول إن الأطباء يعرفون أكثر منا أن مناعة الطفل قوية إذا ما أخذ كل اللقاحات في مواعيدها وأن الدول صارت تعتني بصحة أطفالها بحيث لا يحتجز الطفل في المنزل إلا بناءً على أمر الطبيب بالراحة.
هكذا تدور حياة الطفل في زماننا الصعب هذا. إن عليه أن يتعلم اقتحام المجتمع والتعاون معه.
منقول للفائده
يانسونه @yansonh
عضوة نشيطة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
NeeNee
•
بارك الله فيكي
الصفحة الأخيرة